نص السؤال

دعوى اشتمال صحيح البخاري على أحاديث معلة

المصدر: شبهات المشككين في الإسلام

الجواب التفصيلي

دعوى اشتمال صحيح البخاري على أحاديث معلة(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين أن في صحيح البخاري أحاديث معلة، ويستدلون على ذلك بأن هناك من علماء الحديث - كالدارقطني مثلا - من أعل بعض الأحاديث فيه بعلل خفية، وكذلك بما جاء في صحيح البخاري من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

«لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة من غير أمره، فإنه يؤدى إليه شطره»

، وموضع شاهد الباب قوله: "ولا تأذن في بيته إلا بإذنه"، وهم يزعمون أن البخاري ما أورده إلا ليبين علته، وأن الصواب في هذا قد جاء في حديث أبي الزناد؛ حيث ذكر الصوم فقط، وبهذا فالزيادة على الصوم في حديث البخاري ليست محفوظة، والبخاري بذلك يحتج في صحيحه بالأحاديث المعلولة. وهم يهدفون من وراء ذلك إلى زعزعة ثقة الأمة الإسلامية في صحيح البخاري، وإسقاط الاحتجاج به؛ تمهيدا لإسقاط الاحتجاج بالسنة النبوية عموما.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن انتقاد الدارقطني لبعض أحاديث صحيح البخاري مبني على قواعد لبعض المحدثين غير متفق عليها، وقد فند الحافظ ابن حجر - رحمه الله - تلك الانتقادات في مقدمته لشرح صحيح البخاري المسماة(هدي الساري مقدمة فتح الباري)، وبين أن الحق فيها مع البخاري.

2) إن الإمام الحافظ ابن حجر قد تتبع في مقدمته المواضع المنتقدة على البخاري تفصيلا، ولكنه لم يورد ذلك الحديث المستشهد به كدليل على أن صحيح البخاري فيه أحاديث معلة؛ مما يدل على أنه رأى أن هذا الخلاف لا يؤثر على صحة الحديث، فقد رأى البخاري أن الحديث محفوظ بالإسنادين معا، وهو ما قرره الترمذي حين أشار إلى صحة الإسنادين أيضا.

التفصيل:

أولا. انتقاد الدارقطني لبعض أحاديث صحيح البخاري مبني على قواعد لبعض المحدثين غير متفق عليها:

لا شك أن صحيح البخاري قد أجمع على صحة كل ما جاء فيه من أحاديث جل العلماء من السلف والخلف، ومن ثم فإن أي انتقاد له يعد شذوذا ولا يلتفت إليه، قال ابن حجر: "استدرك الدارقطني على البخاري ومسلم أحاديث، وذلك الطعن مبني على قواعد لبعض المحدثين ضعيفة جدا، مخالفة لما عليه الجمهور من أهل الفقه والأصول وغيرهم، فلا تغتر بذلك"([1])، وأجاب عن هذا ابن حجر، فقال: "لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما، ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعل، فإنهم لا يختلفون أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني"، ومع ذلك فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: "دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه"، وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا، وروى الفربري عن البخاري أنه قال: "ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته"، وقال مكي بن عبدالله: سمعت مسلم بن حجاج يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أنه له علة تركته، وقد تقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة"([2]).

ويقول ابن تيمية: والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله، مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحدا أعلم بالعلل منه، ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثا اختلف في إسناده، أو في بعض ألفاظه أن يذكر الاختلاف في ذلك لئلا يغتر بذكره له بأنه إنما ذكره مقرونا بالاختلاف فيه، ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه، يكون قوله فيه راجحا على قول من نازعه"([3]).

"إن هذا الفن وهو فن الحديث المعل من أدق فنون الحديث وأعوصها، بل هو رأس علومه وأشرفها، ولا يتمكن منه إلا أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل، كابن المديني وأحمد والبخاري وغيرهم"([4])، وإن لم يتقن هذا الفن الإمام العظيم البخاري أستاذ الأساتذة في الحديث فمن يتقنه؟!

هذا وقد قسم الحافظ ابن حجر العسقلاني الأحاديث التي انتقدت على البخاري إلى عدة أقسام مبينا أن الحق فيها مع البخاري:

·   القسم الأول منها: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد، فإن أخرج صاحب الصحيح الطريق المزيدة، وعلله الناقد بالطريقة الناقصة فهو تعليل مردود، كما صرح به الدارقطني؛ لأن الراوي إن كان سمعه، فالزيادة لا تضر؛ لأنه قد يكون سمعه بواسطة عن شيخه، ثم لقيه فسمعه منه، وإن كان لم يسمعه في الطريق الناقصة، فهو منقطع، والمنقطع من قسم الضعيف، والضعيف لا يعل الصحيح... وإن أخرج صاحب الصحيح الطريق الناقصة، وعلله الناقد بالطريق المزيدة، تضمن اعتراضه دعوى انقطاع فيما صححه المصنف، فينظر إن كان ذلك الراوي صحابيا أو ثقة غير مدلس قد أدرك من روى عنه إدراكا بينا، أو صرح بالسماع إن كان مدلسا من طريق أخرى، فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض بذلك، وإن لم يوجد، وكان الانقطاع فيه ظاهرا، فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح أنه إنما أخرج مثل ذلك في باب ماله متابع وعاضد، أو ما حفته قرينة في الجملة تقويه، ويكون التصحيح قد وقع من حيث المجموع...

وربما علل بعض النقاد أحاديث ادعى فيها الانقطاع لكونها غير مسموعة، كما في الأحاديث المروية بالمكاتبة والإجازة، وهذا لا يلزم منه الانقطاع عند من يسوغ الرواية بالإجازة، بل في تخريج صاحب الصحيح لمثل ذلك دليل على صحة الرواية بالإجازة عنه.

·   القسم الثاني منها: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد، فالجواب عنه: إن أمكن الجمع بأن يكون الحديث عند ذلك الراوي على الوجهين جميعا، فأخرجهما المصنف ولم يقتصر على أحدهما؛ حيث يكون المختلفون في ذلك متعادلين في الحفظ والعدد... وإن امتنع بأن يكون المختلفون غير متعادلين بل متقاربين في الحفظ والعدد، فيخرج المصنف الطريق الراجحة ويعرض عن الطريق المرجوحة أو يشير إليها... فالتعليل بجميع ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح؛ إذ لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف فينبغي الإعراض أيضا عما هذا سبيله.

·   القسم الثالث منها: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددا أو أضبط ممن لم يذكرها، فهذا لا يؤثر التعليل به، إلا إن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع، أما إن كانت الزيادة لا منافاة فيها، بحيث تكون كالحديث المستقل فلا، اللهم إلا إن وضح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته، فما كان من هذا القسم فهو مؤثر.

·   القسم الرابع منها: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواة، وليس في هذا الصحيح من هذا القبيل غير حديثين... كما سيأتي الكلام عليهما وتبيين أن كلا منهما قد توبع.

·        القسم الخامس منها: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله، فمنه ما يؤثر ذلك الوهم قدحا، ومنه ما لا يؤثر.

·   القسم السادس منها: ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح؛ لإمكان الجمع في المختلف من ذلك، أو الترجيح على أن الدارقطني وغيره من أئمة النقد لم يتعرضوا لاستيفاء ذلك من الكتابين كما تعرضوا لذلك في الإسناد، فما لم يتعرضوا له من ذلك حديث جابر في قصة الجمل، وحديثه في وفاء دين أبيه، وحديث رافع بن خديج في المخابرة، وحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وحديث سهل بن سعد في قصة الواهبة نفسها، وحديث أنس في افتتاح القراءة بالحمد لله رب العالمين، وحديث ابن عباس في قصة السائلة عن نذر أمها وأختها وغير ذلك..."([5]).

ثم يقول الحافظ ابن حجر بعد ذكره الأقسام الستة السابقة: "فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح، وقد حررتها وحققتها وقسمتها، وفصلتها، لا يظهر منها ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب بحمد الله إلا النادر"([6]).

ثم شرع رحمه الله في بيان هذه الأحاديث على حسب ورودها في "الصحيح"، ثم قال رحمه الله: "هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد، المطلعون على خفايا الطرق... وليست كلها قادحة بل أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع... كما شرحته مجملا في أول الفصل وأوضحته مبينا أثر كل حديث منها، فإذا تأمل المصنف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنف في نفسه، وجل تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم، وليسا سواء من يدفع بالصدر فلا يأمن دعوى العصبية، ومن يدفع بيد الإنصاف على القواعد المرضية والضوابط المرعية، فلله الحمد الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"([7]).

وبعد أن ظهر أن الخطأ في الصحيح نادر جدا، فليس في المتون إلا أحرف يسيرة الغالب فيها الوهم، وأكثر الأسانيد التي تكلم فيها لا يضر ذلك شيئا من متونها؛ لأن لها أسانيد أخرى صحيحة سالمة من العلل([8]).

قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله: "الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر، أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها، ليس في واحد منها مطعن أو ضعف، وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منها في كتابه، وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها فلا يهولنك إرجاف المرجفين وزعم الزاعمين أن في "الصحيحين" أحاديث غير صحيحة، وتتبع الأحاديث التي تكلموا فيها، وانقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم، واحكم على بينة، والله الهادي إلى سواء السبيل"([9]).

ولايقول عالم كبير في الحديث - مثل أحمد شاكرـ هذا الكلام إلا إذا كان على يقين تام من صحة كل ما في صحيح البخاري ومسلم.

وما الإشكال في ذلك؟ وهذا الطعن الذي وجه إلى الصحيحين لم يكن من قبل الطعن فيها بالضعف وعدم الصحة، وإنما كان من قبل أنها لم تبلغ الدرجة العليا التي اشترطها صاحبا الصحيحين والتزمها كل واحد منهما في كتابه، كما يقول الإمام النووي رحمه الله: "قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه"([10]).

وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيه، ومرد ذلك إلى اختلاف وجهات النظر في التوثيق والتجريح، شأنها شأن المسائل الاجتهادية الأخرى.

ويتبين لنا بعد كل ذلك أن كل من راجع هذه الأحاديث التي انتقدت على البخاري، وطالع النقد الذي وجه إليها، وجد أن هذا النقد لا يمس جوهر الصحيح، وإنما هو نقد شكلي ناشئ عن شدة حذر العلماء ويقظتهم، كاعتراضهم على حديث بأنه مرسل؛ لأن صورته صورة المرسل، أما في الواقع فهو موصول معروف الوصل عند المحدثين، مثل حديث يرويه بعض الرواة مرسلا وهو من رواية أقرانه متصل، إلا أن البخاري يذكر الروايتين معا؛ لدفع ما توهم في الرواية الأولى، وإشعارا بأن هذه العلة غير قادحة.

وعليه، فهذه أمثلة من النقد الذي وجه إلى أحاديث الصحيح، وقد بسط القول فيها ابن حجر في مقدمته، وبين أن الحق فيها مع البخاري. ومما يدلك على أن هذا النقد - سواء للرجال أو للأحاديث - لم يؤثر في قيمة صحيح البخاري العلمية، ولا في إجماع العلماء على تلقيه بالقبول، واتفاق جمهورهم على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى([11]). وبذلك يتبين لنا بطلان ادعائهم أن هناك أحاديث معلة في صحيح البخاري.

ثانيا. الحديث - موضوع الشبهة - محفوظ بالإسنادين معًا, ولا مرية فيه:

إن الإمام الحافظ ابن حجر قد تتبع المواضع المنتقدة على صحيح البخاري تفصيلا، ولكنه لم يورد ذلك الحديث الذي استشهدوا به مع الأحاديث التي تكلم فيها في المقدمة؛ مما يدل على أنه رأى أن هذا الخلاف لا يؤثر على صحة الحديث، مع العلم أنه قد أجاد في مقدمته هذه "هدي الساري مقدمة فتح الباري"؛ حتى كان العلماء يقولون في شأنها: إنها لو كتبت بماء الذهب ما استوفيت حقها؛ ذلك لأن فيها مجموعة من الفصول المهمة التي تتعلق بدارسة الصحيح، وصاحبه، وتراجمه، ومناسباته، وغير ذلك من المباحث المهمة المتعلقة بالصحيح، فضلا عن الرد على الطعون التي وجهت إلى صحيح البخاري، وقد مكث ابن حجر في كتابتها أربع سنوات تقريبا، فهدى بها فعلا كل من يريد أن يدرس صحيح الإمام البخاري، ويعرف مكانته بين كتب السنة؛ حيث أثبت أن منزلة صحيح البخاري إلى جانب دواوين السنة هي منزلة الرأس من الجسد.

والإمام ابن حجر في هدي الساري لم يدافع عن صحيح الإمام البخاري فقط، وإنما دافع عن الصحيحين معا.

فقد بين أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة"([12]).

وقد أوجز ابن حجر أهم شروط الصحة عند البخاري، فقال إنها "الاتصال وإتقان الرجال وعدم العلل"([13]). وقال ابن حجر: إن مالكا لا يرى الانقطاع في الإسناد قادحا؛ فلذلك يخرج المراسيل والمنقطعات والبلاغات في أصل موضوع كتابه، والبخاري يرى أن الانقطاع علة؛ فلا يخرج ما هذا سبيله إلا في غير أصل موضوع كتابه، كالتعليقات والتراجم([14]). وقال أيضا: إن البخاري لم يخرج في الأصول إلا من هو ثقة متصف بالعدالة، فأما من خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق، فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره، مع حصول اسم الصدق لهم([15]).

وعلى الرغم من تشدد البخاري في شروط صحة الحديث، فإن النقاد من أهل السنة لم يتركوا مروياته من غير نقد وتمحيص؛ بل نقدوا بعض مروياته من حيث موافقتها لمقررات الشريعة، ولكن هذه الروايات التي نقدت قليلة جدا بالنسبة لغيره، حتى ابن حجر الذي يعد من أشد المدافعين عن صحيح البخاري لم يجد غضاضة في تقرير أن فيه بعض الروايات التي تتسم بالمخالفة؛ أي: مخالفتها روايات أخرى أوثق منها، وقد ينشأ عن المخالفة شذوذ، ولكنه يقرر أن تلك الروايات ليس في الصحيح منها إلا نذر يسير([16]).

وعلى الرغم من انتقاد بعض روايات البخاري كما ذكرنا، لكن أحدا لم يقل قط إنه قبل "موضوعات" أو أحاديث غير صحيحة.

ورغم شهادات كبار العلماء والمحدثين للبخاري وكتابه، إلا أن بعض المخالفين قد زعموا أن البخاري يحتج بالأحاديث المعلولة، مستدلين على ذلك بهذا الحديث:

«لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه؛ وما أنفقت من نفقة من غير أمره، فإنه يؤدى إليه شطره»([17])

وموضوع الشاهد للباب قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تأذن في بيته إلا بإذنه"، فزعموا أن البخاري ما أورده إلا ليبين علته، وأن الصواب في هذا - من وجهة نظرهم - قد جاء في حديث أبي الزناد؛ حيث ذكر الصوم فقط، و بهذا فالزيادة على الصوم في حديث البخاري ليست محفوظة، وبذلك انتهوا إلى أن البخاري يحتج في صحيحه بالأحاديث المعلولة غير المحفوظة.

وهذا الحديث رواه البخاري برقم (5195) كما سبق، والطبراني في "الشاميين" والبغوي في "شرح السنة" برقم (1689) من طريق شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا بالحديث كاملا، ورواه النسائي في "السنن الكبرى" برقم (2920)، وأحمد (2/444، 464، 476، 500)، وغيرهما من طريق سفيان الثوري عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا بذكر الصيام فقط.

وأما سفيان بن عيينة فرواه بالإسنادين جميعا، وإن كان متثبتا أكثر من الطريق الثاني، إلا أن البخاري رحمه الله رأى أن الحديث محفوظ بالإسنادين جميعا، فأما رواية شعيب فبالحديث كاملا، وأما رواية السفيانين فبجزء الصيام فقط، وهذا معنى قول البخاري: ورواه أبو الزناد أيضا عن موسى عن أبيه عن أبي هريرة في الصوم، وقد أشار إلى صحة الإسنادين أيضا الترمذي في جامعه الصحيح برقم (782)، وهذا هو الذي فهمه الحافظ ابن حجر أيضا من قول البخاري حيث قال: "يشير إلى أن رواية شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج اشتملت على ثلاثة أحكام، وأن لأبي الزناد في أحد الثلاثة، وهو صيام المرأة إسنادا آخر"([18]).

ومن ثم، فإن الحافظ ابن حجر لم يورد هذا الحديث في الأحاديث التي تكلم فيها على صحيح البخاري في المقدمة، مما يدل على أنه رأى أن هذا الخلاف لا يؤثر على صحة الحديث.   

أما ما ذكره الحافظ ابن حجر من قوله: "قال أبو عوانة في رواية علي بن المديني: حدثنا به سفيان بعد ذلك عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان فراجعته فيه، فثبت على موسى، ورجع عن الأعرج"([19]) فليس معناه أنه لم يكن عنده الحديث من طريق أبي الزناد عن الأعرج؛ فإنه ثابت من طريق شعيب كما سبق، وإنما يعني أنه كان أحفظ لطريق موسى من طريق الأعرج، فرد هذه الطريق سندا أو متنا، والحكم على سفيان بن عيينة بالخطأ في السند والمتن، فيه من الجرأة الكثير على تخطئة الثقات، وقد رواه عنه بزيادة(من غير رمضان) جمع منهم:

الإمام أحمد في "مسنده" برقم (7338)، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف عند الدارمي برقم (1761)، وقتيبة بن سعيد ونصر بن علي عند الترمذي برقم (782)، والبغوي برقم (1765)، وقتيبة عند النسائي في السنن الكبرى برقم (3288)، والحسين بن حريث عند ابن خزيمة برقم (2168)، وزهير بن حرب عند أبي يعلي برقم (6273) وكلهم كالآتي (أحمد بن حنبل، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، وقتيبة بن سعيد، ونصربن علي، والحسين بن حريث، وزهير بن حرب) ستتهم عن سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا بزيادة«من غير رمضان»، والحديث ثابت من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا بزيادة«من غير رمضان»، ومن ثم، فالحكم بالخطأ على سفيان في إثبات هذه اللفظة في الحديث غير مقبول، خاصة وأنها ثابتة من وجه آخر، فقد وردت عند عبد الرزاق برقم (7886)، وأخرجه أبو داود في سننه برقم (2458) عن الحسن بن علي عنه، وهذه الزيادة ثابتة في طريق موسى بن أبي عثمان، وموسى وأبوه، قال في كل منهما الحافظ ابن حجر في "التقريب": مقبول.

وقد أورد له الشيخ شاهدا صحيحا من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو داود برقم (2459) وأحمد (11776)، وسياقه دال على أن النهي في التطوع، وله شاهد أخرجه الطيالسي برقم (1951) من حديث ابن عمر، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات.

قال ابن خزيمة رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: «من غير شهر رمضان» من الجنس الذي نقول: إن الأمر إذا كان لعلة فمتى كانت العلة قائمة والأمر قائما، فالأمر قائم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أباح للمرأة صوم شهر رمضان بغير إذن زوجها؛ إذ صوم رمضان واجب عليها، كان كل صوم صوم واجب مثله جائز لها أن تصومه بغير إذن زوجها"([20])، ويعني رحمه الله بقوله: صوم صوم واجب: صيام ما كان واجبا صومه([21]).

وعليه فإن الحافظ ابن حجر لم يورد ذلك الحديث في الأحاديث التي تكلم فيها في المقدمة، فدل ذلك علي أنه رأى أن هذا الخلاف لا يؤثر على صحة الحديث، فإذا كان الحديث الذي يستدلون به - على زعمهم هذا - حديثا صحيحا، فأين إذن هذه الأحاديث المعلة في صحيح البخاري التي يزعمون وجودها فيه؟!

 وإن ثمة ملاحظات تجدر الإشارة إليها في سياق تفنيد ما نحن بصدده من ادعاء أن في صحيح البخاري أحاديث معلة، وهاك بيان تلك الملاحظات:

1. إن حركة النقد التي دارت حول ما في صحيحي البخاري ومسلم من أحاديث، أسفرت عن ملاحظات شملت مائتين وعشرة أحاديث من أكثر من أربعة آلاف حديث اتفقا عليها، تفصيلها الآتي:

o      ثمانية وسبعون حديثا في صحيح البخاري.

o      مائة واثنان وثلاثون حديثا في صحيح مسلم.

وهذه الأحاديث التي انتقدت على الصحيحين لم يكن نقدها موضع إجماع عند المحدثين، وليس فيها أحاديث موضوعة، وقد أعلن بعض النقاد من علماء الحديث أن هذا النقد بني على قواعد أو علل ضعيفة غير قادحة في سلامة الحديث، كما أن الأحاديث التي انتقدت على صحيح البخاري ليس لها مساس بأصل الكتاب؛ بل هي من الأحاديث التي ذكرها البخاري على سبيل الاستئناس([22])، ومهما كان من شيء فإن نقد علماء الحديث لبعض ما في صحيحي البخاري ومسلم ليس فيه لمنكري السنة حجة، بل هو حجة عليهم؛ إذ لم ينظر المحدثون إلى هذين الإمامين الجليلين نظرة تقديس ترفعهما إلى درجة العصمة من الخطأ والسهو، وإنما كملوا بنقدهم لبعض ما في الصحيحين الإتقان الذي يبث في النفوس الاطمئنان إلى سلامة السنة - المعتمدة لدى الأمة - من التزوير والخلل، وهذا ما يريد منكرو السنة هدمه بشغبهم وصياحهم الآن.

2. إن بعض هذه الأحاديث التي انتقدت على البخاري ومسلم كان مرجع النقد فيها إلى عدم التزامها بشروطهما التي التزماها في الرواية، وهذا لايعني أن هذه الأحاديث ضعيفة أو مكذوبة، فلم يقل بذلك أحد من علماء الحديث الخبراء بأصول الرواية متنا وسندا، بل قال بعض هؤلاء النقاد: إن ما أخذ على الإمامين معتمد عند الحفاظ، ووارد من جهات أخرى.

3. إننا نحيل هؤلاء ليعرفوا لأنفسهم قدرها في مجال الحديث وعلومه، إلى الفصل الضافي الذي عقده ابن حجر العسقلاني، في دراسة عشرة أحاديث ومائة من الأحاديث التي انتقدت على البخاري، وشاركه مسلم في تخريج اثنين وثلاثين حديثا منها، ناقشها ودرسها حديثا حديثا مستعملا في دراسته إياها قواعد نقد الحديث التي لا يعرف منكرو السنة عنها شيئا.

إننا ندعوهم إلى الاطلاع على هذا الفصل ليبين لهم أنهم محرومون تماما من أدوات السير في هذا الطريق، وإلا فعليهم أن يقدموا للأمة نقدا علميا دقيقا لما يرونه موضعا للغربلة عند الإمامين البخاري ومسلم، أما هذا الغثاء الذي دأبوا على نشره فهو بضاعة المهزومين.

وعليه، فإن صحيحي البخاري ومسلم قد كتب الله لهما الذيوع، وقد تلقتهما الأمة بالرضا والقبول، وأجمعت على اعتمادهما بعد كتاب الله في العمل للدنيا والآخرة، والأمة لا تجتمع على ضلالة([23]).

الخلاصة:

·إن انتقاد الدارقطني لبعض أحاديث البخاري مبني على قواعد ضعيفة تخالف ما عليه جمهور أهل الصناعة الحديثية.

·إن جملة ما انتقدته الأئمة والنقاد على الصحيح لا يظهر منه ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب.

·ليس في متون الصحيح إلا أحرف يسيرة الغالب فيها الوهم، وأكثر الأسانيد التي تكلم فيها لا يضر ذلك شيئا من متونها؛ لأن لها أسانيد أخرى صحيحة سالمة من العلل.

·لم يورد الإمام ابن حجر العسقلاني الحديث الذي احتج به المخالفون في مقدمته، على الرغم من احتوائها جميع المطاعن التي تعرض لها صحيح البخاري، مما يؤكد أنه رأى أن الخلاف في هذا الحديث لا يؤثر على صحته.

·إن الحديث - موضوع الشبهة - محفوظ بالإسنادين معا، وهو ما رآه البخاري، وقرره الترمذي حين أشار إلى صحة الإسنادين أيضا.

·بين الإمام ابن حجر أن الإمام البخاري لا يخرج من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عنده، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليه يكون قوله معارضا لتصحيحه، ولا ريب في تقديم البخاري على غيره، فيندفع الاعتراض.

·كان الإمام البخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله، مع فقهه فيه، كما شهد له بذلك أقرانه، ومن جاء بعدهم من العلماء المحققين.

 

المراجع

  1.  (*) تحرير علوم الحديث، عبد الله يوسف الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، ط3، 1428هـ2007م. إتحاف النفوس المطمئنة بالذب عن السنة، أبو عبد الله أحمد إبراهيم، مكتبة ابن العباس، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م.
  2. [1]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 364.1. 
  3. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 364، 365.
  4. .2 مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (1/ 256)
  5. .[4]. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط3، 1399هـ/ 1979م، ص54 بتصرف
  6. .[5]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 365، 366.
  7. [6]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 366.
  8. [7]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 402.
  9. [8]. الإمام البخاري وصحيحه الجامع، أحمد فريد، دار العقيدة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص 157، 158.
  10. [9]. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط3، 1399هـ/ 1979م، ص 29.
  11. [10]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 133).
  12. [11]. انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص 400.
  13. [12]. انظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 365.
  14. [13]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 13.
  15. [14]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 12 بتصرف.
  16. [15]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 403 بتصرف.
  17. [16]. كيف ولماذا التشكيك في السنة، د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص 64.
  18. [17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، (9/ 206)، رقم (5195).
  19. [18]. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (9/ 208).
  20. [19]. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (9/ 208، 209).
  21. [20]. صحيح ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1390هـ/ 1970م، (3/ 319).
  22. [21]. إتحاف النفوس المطمئنة بالذب عن السنة، أبو عبد الله أحمد إبراهيم، مكتبة ابن العباس، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص 153، 156 بتصرف.
  23. [22]. انظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 364.
  24. [23]. الشبهات الثلاثون، د. عبد العظيم المطعنى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص 74،: 76 بتصرف.

الجواب التفصيلي

دعوى اشتمال صحيح البخاري على أحاديث معلة(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين أن في صحيح البخاري أحاديث معلة، ويستدلون على ذلك بأن هناك من علماء الحديث - كالدارقطني مثلا - من أعل بعض الأحاديث فيه بعلل خفية، وكذلك بما جاء في صحيح البخاري من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

«لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه، وما أنفقت من نفقة من غير أمره، فإنه يؤدى إليه شطره»

، وموضع شاهد الباب قوله: "ولا تأذن في بيته إلا بإذنه"، وهم يزعمون أن البخاري ما أورده إلا ليبين علته، وأن الصواب في هذا قد جاء في حديث أبي الزناد؛ حيث ذكر الصوم فقط، وبهذا فالزيادة على الصوم في حديث البخاري ليست محفوظة، والبخاري بذلك يحتج في صحيحه بالأحاديث المعلولة. وهم يهدفون من وراء ذلك إلى زعزعة ثقة الأمة الإسلامية في صحيح البخاري، وإسقاط الاحتجاج به؛ تمهيدا لإسقاط الاحتجاج بالسنة النبوية عموما.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن انتقاد الدارقطني لبعض أحاديث صحيح البخاري مبني على قواعد لبعض المحدثين غير متفق عليها، وقد فند الحافظ ابن حجر - رحمه الله - تلك الانتقادات في مقدمته لشرح صحيح البخاري المسماة(هدي الساري مقدمة فتح الباري)، وبين أن الحق فيها مع البخاري.

2) إن الإمام الحافظ ابن حجر قد تتبع في مقدمته المواضع المنتقدة على البخاري تفصيلا، ولكنه لم يورد ذلك الحديث المستشهد به كدليل على أن صحيح البخاري فيه أحاديث معلة؛ مما يدل على أنه رأى أن هذا الخلاف لا يؤثر على صحة الحديث، فقد رأى البخاري أن الحديث محفوظ بالإسنادين معا، وهو ما قرره الترمذي حين أشار إلى صحة الإسنادين أيضا.

التفصيل:

أولا. انتقاد الدارقطني لبعض أحاديث صحيح البخاري مبني على قواعد لبعض المحدثين غير متفق عليها:

لا شك أن صحيح البخاري قد أجمع على صحة كل ما جاء فيه من أحاديث جل العلماء من السلف والخلف، ومن ثم فإن أي انتقاد له يعد شذوذا ولا يلتفت إليه، قال ابن حجر: "استدرك الدارقطني على البخاري ومسلم أحاديث، وذلك الطعن مبني على قواعد لبعض المحدثين ضعيفة جدا، مخالفة لما عليه الجمهور من أهل الفقه والأصول وغيرهم، فلا تغتر بذلك"([1])، وأجاب عن هذا ابن حجر، فقال: "لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما، ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعل، فإنهم لا يختلفون أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني"، ومع ذلك فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: "دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه"، وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا، وروى الفربري عن البخاري أنه قال: "ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته"، وقال مكي بن عبدالله: سمعت مسلم بن حجاج يقول: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي، فكل ما أشار أنه له علة تركته، وقد تقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة"([2]).

ويقول ابن تيمية: والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله، مع فقهه فيه، وقد ذكر الترمذي أنه لم ير أحدا أعلم بالعلل منه، ولهذا كان من عادة البخاري إذا روى حديثا اختلف في إسناده، أو في بعض ألفاظه أن يذكر الاختلاف في ذلك لئلا يغتر بذكره له بأنه إنما ذكره مقرونا بالاختلاف فيه، ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه، يكون قوله فيه راجحا على قول من نازعه"([3]).

"إن هذا الفن وهو فن الحديث المعل من أدق فنون الحديث وأعوصها، بل هو رأس علومه وأشرفها، ولا يتمكن منه إلا أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل، كابن المديني وأحمد والبخاري وغيرهم"([4])، وإن لم يتقن هذا الفن الإمام العظيم البخاري أستاذ الأساتذة في الحديث فمن يتقنه؟!

هذا وقد قسم الحافظ ابن حجر العسقلاني الأحاديث التي انتقدت على البخاري إلى عدة أقسام مبينا أن الحق فيها مع البخاري:

·   القسم الأول منها: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد، فإن أخرج صاحب الصحيح الطريق المزيدة، وعلله الناقد بالطريقة الناقصة فهو تعليل مردود، كما صرح به الدارقطني؛ لأن الراوي إن كان سمعه، فالزيادة لا تضر؛ لأنه قد يكون سمعه بواسطة عن شيخه، ثم لقيه فسمعه منه، وإن كان لم يسمعه في الطريق الناقصة، فهو منقطع، والمنقطع من قسم الضعيف، والضعيف لا يعل الصحيح... وإن أخرج صاحب الصحيح الطريق الناقصة، وعلله الناقد بالطريق المزيدة، تضمن اعتراضه دعوى انقطاع فيما صححه المصنف، فينظر إن كان ذلك الراوي صحابيا أو ثقة غير مدلس قد أدرك من روى عنه إدراكا بينا، أو صرح بالسماع إن كان مدلسا من طريق أخرى، فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض بذلك، وإن لم يوجد، وكان الانقطاع فيه ظاهرا، فمحصل الجواب عن صاحب الصحيح أنه إنما أخرج مثل ذلك في باب ماله متابع وعاضد، أو ما حفته قرينة في الجملة تقويه، ويكون التصحيح قد وقع من حيث المجموع...

وربما علل بعض النقاد أحاديث ادعى فيها الانقطاع لكونها غير مسموعة، كما في الأحاديث المروية بالمكاتبة والإجازة، وهذا لا يلزم منه الانقطاع عند من يسوغ الرواية بالإجازة، بل في تخريج صاحب الصحيح لمثل ذلك دليل على صحة الرواية بالإجازة عنه.

·   القسم الثاني منها: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد، فالجواب عنه: إن أمكن الجمع بأن يكون الحديث عند ذلك الراوي على الوجهين جميعا، فأخرجهما المصنف ولم يقتصر على أحدهما؛ حيث يكون المختلفون في ذلك متعادلين في الحفظ والعدد... وإن امتنع بأن يكون المختلفون غير متعادلين بل متقاربين في الحفظ والعدد، فيخرج المصنف الطريق الراجحة ويعرض عن الطريق المرجوحة أو يشير إليها... فالتعليل بجميع ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح؛ إذ لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف فينبغي الإعراض أيضا عما هذا سبيله.

·   القسم الثالث منها: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددا أو أضبط ممن لم يذكرها، فهذا لا يؤثر التعليل به، إلا إن كانت الزيادة منافية بحيث يتعذر الجمع، أما إن كانت الزيادة لا منافاة فيها، بحيث تكون كالحديث المستقل فلا، اللهم إلا إن وضح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته، فما كان من هذا القسم فهو مؤثر.

·   القسم الرابع منها: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواة، وليس في هذا الصحيح من هذا القبيل غير حديثين... كما سيأتي الكلام عليهما وتبيين أن كلا منهما قد توبع.

·        القسم الخامس منها: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله، فمنه ما يؤثر ذلك الوهم قدحا، ومنه ما لا يؤثر.

·   القسم السادس منها: ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح؛ لإمكان الجمع في المختلف من ذلك، أو الترجيح على أن الدارقطني وغيره من أئمة النقد لم يتعرضوا لاستيفاء ذلك من الكتابين كما تعرضوا لذلك في الإسناد، فما لم يتعرضوا له من ذلك حديث جابر في قصة الجمل، وحديثه في وفاء دين أبيه، وحديث رافع بن خديج في المخابرة، وحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، وحديث سهل بن سعد في قصة الواهبة نفسها، وحديث أنس في افتتاح القراءة بالحمد لله رب العالمين، وحديث ابن عباس في قصة السائلة عن نذر أمها وأختها وغير ذلك..."([5]).

ثم يقول الحافظ ابن حجر بعد ذكره الأقسام الستة السابقة: "فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح، وقد حررتها وحققتها وقسمتها، وفصلتها، لا يظهر منها ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب بحمد الله إلا النادر"([6]).

ثم شرع رحمه الله في بيان هذه الأحاديث على حسب ورودها في "الصحيح"، ثم قال رحمه الله: "هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد، المطلعون على خفايا الطرق... وليست كلها قادحة بل أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع... كما شرحته مجملا في أول الفصل وأوضحته مبينا أثر كل حديث منها، فإذا تأمل المصنف ما حررته من ذلك عظم مقدار هذا المصنف في نفسه، وجل تصنيفه في عينه، وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم، وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم، وليسا سواء من يدفع بالصدر فلا يأمن دعوى العصبية، ومن يدفع بيد الإنصاف على القواعد المرضية والضوابط المرعية، فلله الحمد الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"([7]).

وبعد أن ظهر أن الخطأ في الصحيح نادر جدا، فليس في المتون إلا أحرف يسيرة الغالب فيها الوهم، وأكثر الأسانيد التي تكلم فيها لا يضر ذلك شيئا من متونها؛ لأن لها أسانيد أخرى صحيحة سالمة من العلل([8]).

قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله: "الحق الذي لا مرية فيه عند أهل العلم بالحديث من المحققين، وممن اهتدى بهديهم وتبعهم على بصيرة من الأمر، أن أحاديث الصحيحين صحيحة كلها، ليس في واحد منها مطعن أو ضعف، وإنما انتقد الدارقطني وغيره من الحفاظ بعض الأحاديث على معنى أن ما انتقدوه لم يبلغ في الصحة الدرجة العليا التي التزمها كل واحد منها في كتابه، وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيها فلا يهولنك إرجاف المرجفين وزعم الزاعمين أن في "الصحيحين" أحاديث غير صحيحة، وتتبع الأحاديث التي تكلموا فيها، وانقدها على القواعد الدقيقة التي سار عليها أئمة أهل العلم، واحكم على بينة، والله الهادي إلى سواء السبيل"([9]).

ولايقول عالم كبير في الحديث - مثل أحمد شاكرـ هذا الكلام إلا إذا كان على يقين تام من صحة كل ما في صحيح البخاري ومسلم.

وما الإشكال في ذلك؟ وهذا الطعن الذي وجه إلى الصحيحين لم يكن من قبل الطعن فيها بالضعف وعدم الصحة، وإنما كان من قبل أنها لم تبلغ الدرجة العليا التي اشترطها صاحبا الصحيحين والتزمها كل واحد منهما في كتابه، كما يقول الإمام النووي رحمه الله: "قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه"([10]).

وأما صحة الحديث في نفسه فلم يخالف أحد فيه، ومرد ذلك إلى اختلاف وجهات النظر في التوثيق والتجريح، شأنها شأن المسائل الاجتهادية الأخرى.

ويتبين لنا بعد كل ذلك أن كل من راجع هذه الأحاديث التي انتقدت على البخاري، وطالع النقد الذي وجه إليها، وجد أن هذا النقد لا يمس جوهر الصحيح، وإنما هو نقد شكلي ناشئ عن شدة حذر العلماء ويقظتهم، كاعتراضهم على حديث بأنه مرسل؛ لأن صورته صورة المرسل، أما في الواقع فهو موصول معروف الوصل عند المحدثين، مثل حديث يرويه بعض الرواة مرسلا وهو من رواية أقرانه متصل، إلا أن البخاري يذكر الروايتين معا؛ لدفع ما توهم في الرواية الأولى، وإشعارا بأن هذه العلة غير قادحة.

وعليه، فهذه أمثلة من النقد الذي وجه إلى أحاديث الصحيح، وقد بسط القول فيها ابن حجر في مقدمته، وبين أن الحق فيها مع البخاري. ومما يدلك على أن هذا النقد - سواء للرجال أو للأحاديث - لم يؤثر في قيمة صحيح البخاري العلمية، ولا في إجماع العلماء على تلقيه بالقبول، واتفاق جمهورهم على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى([11]). وبذلك يتبين لنا بطلان ادعائهم أن هناك أحاديث معلة في صحيح البخاري.

ثانيا. الحديث - موضوع الشبهة - محفوظ بالإسنادين معًا, ولا مرية فيه:

إن الإمام الحافظ ابن حجر قد تتبع المواضع المنتقدة على صحيح البخاري تفصيلا، ولكنه لم يورد ذلك الحديث الذي استشهدوا به مع الأحاديث التي تكلم فيها في المقدمة؛ مما يدل على أنه رأى أن هذا الخلاف لا يؤثر على صحة الحديث، مع العلم أنه قد أجاد في مقدمته هذه "هدي الساري مقدمة فتح الباري"؛ حتى كان العلماء يقولون في شأنها: إنها لو كتبت بماء الذهب ما استوفيت حقها؛ ذلك لأن فيها مجموعة من الفصول المهمة التي تتعلق بدارسة الصحيح، وصاحبه، وتراجمه، ومناسباته، وغير ذلك من المباحث المهمة المتعلقة بالصحيح، فضلا عن الرد على الطعون التي وجهت إلى صحيح البخاري، وقد مكث ابن حجر في كتابتها أربع سنوات تقريبا، فهدى بها فعلا كل من يريد أن يدرس صحيح الإمام البخاري، ويعرف مكانته بين كتب السنة؛ حيث أثبت أن منزلة صحيح البخاري إلى جانب دواوين السنة هي منزلة الرأس من الجسد.

والإمام ابن حجر في هدي الساري لم يدافع عن صحيح الإمام البخاري فقط، وإنما دافع عن الصحيحين معا.

فقد بين أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما، ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما، فيندفع الاعتراض من حيث الجملة"([12]).

وقد أوجز ابن حجر أهم شروط الصحة عند البخاري، فقال إنها "الاتصال وإتقان الرجال وعدم العلل"([13]). وقال ابن حجر: إن مالكا لا يرى الانقطاع في الإسناد قادحا؛ فلذلك يخرج المراسيل والمنقطعات والبلاغات في أصل موضوع كتابه، والبخاري يرى أن الانقطاع علة؛ فلا يخرج ما هذا سبيله إلا في غير أصل موضوع كتابه، كالتعليقات والتراجم([14]). وقال أيضا: إن البخاري لم يخرج في الأصول إلا من هو ثقة متصف بالعدالة، فأما من خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق، فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره، مع حصول اسم الصدق لهم([15]).

وعلى الرغم من تشدد البخاري في شروط صحة الحديث، فإن النقاد من أهل السنة لم يتركوا مروياته من غير نقد وتمحيص؛ بل نقدوا بعض مروياته من حيث موافقتها لمقررات الشريعة، ولكن هذه الروايات التي نقدت قليلة جدا بالنسبة لغيره، حتى ابن حجر الذي يعد من أشد المدافعين عن صحيح البخاري لم يجد غضاضة في تقرير أن فيه بعض الروايات التي تتسم بالمخالفة؛ أي: مخالفتها روايات أخرى أوثق منها، وقد ينشأ عن المخالفة شذوذ، ولكنه يقرر أن تلك الروايات ليس في الصحيح منها إلا نذر يسير([16]).

وعلى الرغم من انتقاد بعض روايات البخاري كما ذكرنا، لكن أحدا لم يقل قط إنه قبل "موضوعات" أو أحاديث غير صحيحة.

ورغم شهادات كبار العلماء والمحدثين للبخاري وكتابه، إلا أن بعض المخالفين قد زعموا أن البخاري يحتج بالأحاديث المعلولة، مستدلين على ذلك بهذا الحديث:

«لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه؛ وما أنفقت من نفقة من غير أمره، فإنه يؤدى إليه شطره»([17])

وموضوع الشاهد للباب قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تأذن في بيته إلا بإذنه"، فزعموا أن البخاري ما أورده إلا ليبين علته، وأن الصواب في هذا - من وجهة نظرهم - قد جاء في حديث أبي الزناد؛ حيث ذكر الصوم فقط، و بهذا فالزيادة على الصوم في حديث البخاري ليست محفوظة، وبذلك انتهوا إلى أن البخاري يحتج في صحيحه بالأحاديث المعلولة غير المحفوظة.

وهذا الحديث رواه البخاري برقم (5195) كما سبق، والطبراني في "الشاميين" والبغوي في "شرح السنة" برقم (1689) من طريق شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا بالحديث كاملا، ورواه النسائي في "السنن الكبرى" برقم (2920)، وأحمد (2/444، 464، 476، 500)، وغيرهما من طريق سفيان الثوري عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا بذكر الصيام فقط.

وأما سفيان بن عيينة فرواه بالإسنادين جميعا، وإن كان متثبتا أكثر من الطريق الثاني، إلا أن البخاري رحمه الله رأى أن الحديث محفوظ بالإسنادين جميعا، فأما رواية شعيب فبالحديث كاملا، وأما رواية السفيانين فبجزء الصيام فقط، وهذا معنى قول البخاري: ورواه أبو الزناد أيضا عن موسى عن أبيه عن أبي هريرة في الصوم، وقد أشار إلى صحة الإسنادين أيضا الترمذي في جامعه الصحيح برقم (782)، وهذا هو الذي فهمه الحافظ ابن حجر أيضا من قول البخاري حيث قال: "يشير إلى أن رواية شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج اشتملت على ثلاثة أحكام، وأن لأبي الزناد في أحد الثلاثة، وهو صيام المرأة إسنادا آخر"([18]).

ومن ثم، فإن الحافظ ابن حجر لم يورد هذا الحديث في الأحاديث التي تكلم فيها على صحيح البخاري في المقدمة، مما يدل على أنه رأى أن هذا الخلاف لا يؤثر على صحة الحديث.   

أما ما ذكره الحافظ ابن حجر من قوله: "قال أبو عوانة في رواية علي بن المديني: حدثنا به سفيان بعد ذلك عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان فراجعته فيه، فثبت على موسى، ورجع عن الأعرج"([19]) فليس معناه أنه لم يكن عنده الحديث من طريق أبي الزناد عن الأعرج؛ فإنه ثابت من طريق شعيب كما سبق، وإنما يعني أنه كان أحفظ لطريق موسى من طريق الأعرج، فرد هذه الطريق سندا أو متنا، والحكم على سفيان بن عيينة بالخطأ في السند والمتن، فيه من الجرأة الكثير على تخطئة الثقات، وقد رواه عنه بزيادة(من غير رمضان) جمع منهم:

الإمام أحمد في "مسنده" برقم (7338)، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف عند الدارمي برقم (1761)، وقتيبة بن سعيد ونصر بن علي عند الترمذي برقم (782)، والبغوي برقم (1765)، وقتيبة عند النسائي في السنن الكبرى برقم (3288)، والحسين بن حريث عند ابن خزيمة برقم (2168)، وزهير بن حرب عند أبي يعلي برقم (6273) وكلهم كالآتي (أحمد بن حنبل، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، وقتيبة بن سعيد، ونصربن علي، والحسين بن حريث، وزهير بن حرب) ستتهم عن سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا بزيادة«من غير رمضان»، والحديث ثابت من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا بزيادة«من غير رمضان»، ومن ثم، فالحكم بالخطأ على سفيان في إثبات هذه اللفظة في الحديث غير مقبول، خاصة وأنها ثابتة من وجه آخر، فقد وردت عند عبد الرزاق برقم (7886)، وأخرجه أبو داود في سننه برقم (2458) عن الحسن بن علي عنه، وهذه الزيادة ثابتة في طريق موسى بن أبي عثمان، وموسى وأبوه، قال في كل منهما الحافظ ابن حجر في "التقريب": مقبول.

وقد أورد له الشيخ شاهدا صحيحا من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو داود برقم (2459) وأحمد (11776)، وسياقه دال على أن النهي في التطوع، وله شاهد أخرجه الطيالسي برقم (1951) من حديث ابن عمر، وفي إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف، لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات.

قال ابن خزيمة رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: «من غير شهر رمضان» من الجنس الذي نقول: إن الأمر إذا كان لعلة فمتى كانت العلة قائمة والأمر قائما، فالأمر قائم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أباح للمرأة صوم شهر رمضان بغير إذن زوجها؛ إذ صوم رمضان واجب عليها، كان كل صوم صوم واجب مثله جائز لها أن تصومه بغير إذن زوجها"([20])، ويعني رحمه الله بقوله: صوم صوم واجب: صيام ما كان واجبا صومه([21]).

وعليه فإن الحافظ ابن حجر لم يورد ذلك الحديث في الأحاديث التي تكلم فيها في المقدمة، فدل ذلك علي أنه رأى أن هذا الخلاف لا يؤثر على صحة الحديث، فإذا كان الحديث الذي يستدلون به - على زعمهم هذا - حديثا صحيحا، فأين إذن هذه الأحاديث المعلة في صحيح البخاري التي يزعمون وجودها فيه؟!

 وإن ثمة ملاحظات تجدر الإشارة إليها في سياق تفنيد ما نحن بصدده من ادعاء أن في صحيح البخاري أحاديث معلة، وهاك بيان تلك الملاحظات:

1. إن حركة النقد التي دارت حول ما في صحيحي البخاري ومسلم من أحاديث، أسفرت عن ملاحظات شملت مائتين وعشرة أحاديث من أكثر من أربعة آلاف حديث اتفقا عليها، تفصيلها الآتي:

o      ثمانية وسبعون حديثا في صحيح البخاري.

o      مائة واثنان وثلاثون حديثا في صحيح مسلم.

وهذه الأحاديث التي انتقدت على الصحيحين لم يكن نقدها موضع إجماع عند المحدثين، وليس فيها أحاديث موضوعة، وقد أعلن بعض النقاد من علماء الحديث أن هذا النقد بني على قواعد أو علل ضعيفة غير قادحة في سلامة الحديث، كما أن الأحاديث التي انتقدت على صحيح البخاري ليس لها مساس بأصل الكتاب؛ بل هي من الأحاديث التي ذكرها البخاري على سبيل الاستئناس([22])، ومهما كان من شيء فإن نقد علماء الحديث لبعض ما في صحيحي البخاري ومسلم ليس فيه لمنكري السنة حجة، بل هو حجة عليهم؛ إذ لم ينظر المحدثون إلى هذين الإمامين الجليلين نظرة تقديس ترفعهما إلى درجة العصمة من الخطأ والسهو، وإنما كملوا بنقدهم لبعض ما في الصحيحين الإتقان الذي يبث في النفوس الاطمئنان إلى سلامة السنة - المعتمدة لدى الأمة - من التزوير والخلل، وهذا ما يريد منكرو السنة هدمه بشغبهم وصياحهم الآن.

2. إن بعض هذه الأحاديث التي انتقدت على البخاري ومسلم كان مرجع النقد فيها إلى عدم التزامها بشروطهما التي التزماها في الرواية، وهذا لايعني أن هذه الأحاديث ضعيفة أو مكذوبة، فلم يقل بذلك أحد من علماء الحديث الخبراء بأصول الرواية متنا وسندا، بل قال بعض هؤلاء النقاد: إن ما أخذ على الإمامين معتمد عند الحفاظ، ووارد من جهات أخرى.

3. إننا نحيل هؤلاء ليعرفوا لأنفسهم قدرها في مجال الحديث وعلومه، إلى الفصل الضافي الذي عقده ابن حجر العسقلاني، في دراسة عشرة أحاديث ومائة من الأحاديث التي انتقدت على البخاري، وشاركه مسلم في تخريج اثنين وثلاثين حديثا منها، ناقشها ودرسها حديثا حديثا مستعملا في دراسته إياها قواعد نقد الحديث التي لا يعرف منكرو السنة عنها شيئا.

إننا ندعوهم إلى الاطلاع على هذا الفصل ليبين لهم أنهم محرومون تماما من أدوات السير في هذا الطريق، وإلا فعليهم أن يقدموا للأمة نقدا علميا دقيقا لما يرونه موضعا للغربلة عند الإمامين البخاري ومسلم، أما هذا الغثاء الذي دأبوا على نشره فهو بضاعة المهزومين.

وعليه، فإن صحيحي البخاري ومسلم قد كتب الله لهما الذيوع، وقد تلقتهما الأمة بالرضا والقبول، وأجمعت على اعتمادهما بعد كتاب الله في العمل للدنيا والآخرة، والأمة لا تجتمع على ضلالة([23]).

الخلاصة:

·إن انتقاد الدارقطني لبعض أحاديث البخاري مبني على قواعد ضعيفة تخالف ما عليه جمهور أهل الصناعة الحديثية.

·إن جملة ما انتقدته الأئمة والنقاد على الصحيح لا يظهر منه ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب.

·ليس في متون الصحيح إلا أحرف يسيرة الغالب فيها الوهم، وأكثر الأسانيد التي تكلم فيها لا يضر ذلك شيئا من متونها؛ لأن لها أسانيد أخرى صحيحة سالمة من العلل.

·لم يورد الإمام ابن حجر العسقلاني الحديث الذي احتج به المخالفون في مقدمته، على الرغم من احتوائها جميع المطاعن التي تعرض لها صحيح البخاري، مما يؤكد أنه رأى أن الخلاف في هذا الحديث لا يؤثر على صحته.

·إن الحديث - موضوع الشبهة - محفوظ بالإسنادين معا، وهو ما رآه البخاري، وقرره الترمذي حين أشار إلى صحة الإسنادين أيضا.

·بين الإمام ابن حجر أن الإمام البخاري لا يخرج من الحديث إلا ما لا علة له، أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عنده، فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليه يكون قوله معارضا لتصحيحه، ولا ريب في تقديم البخاري على غيره، فيندفع الاعتراض.

·كان الإمام البخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله، مع فقهه فيه، كما شهد له بذلك أقرانه، ومن جاء بعدهم من العلماء المحققين.

 

المراجع

  1.  (*) تحرير علوم الحديث، عبد الله يوسف الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، ط3، 1428هـ2007م. إتحاف النفوس المطمئنة بالذب عن السنة، أبو عبد الله أحمد إبراهيم، مكتبة ابن العباس، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م.
  2. [1]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 364.1. 
  3. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 364، 365.
  4. .2 مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (1/ 256)
  5. .[4]. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط3، 1399هـ/ 1979م، ص54 بتصرف
  6. .[5]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 365، 366.
  7. [6]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 366.
  8. [7]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 402.
  9. [8]. الإمام البخاري وصحيحه الجامع، أحمد فريد، دار العقيدة، القاهرة، ط1، 1426هـ/ 2006م، ص 157، 158.
  10. [9]. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد محمد شاكر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط3، 1399هـ/ 1979م، ص 29.
  11. [10]. شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (1/ 133).
  12. [11]. انظر: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص 400.
  13. [12]. انظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 365.
  14. [13]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 13.
  15. [14]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 12 بتصرف.
  16. [15]. هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 403 بتصرف.
  17. [16]. كيف ولماذا التشكيك في السنة، د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص 64.
  18. [17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: النكاح، باب: لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، (9/ 206)، رقم (5195).
  19. [18]. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (9/ 208).
  20. [19]. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (9/ 208، 209).
  21. [20]. صحيح ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1390هـ/ 1970م، (3/ 319).
  22. [21]. إتحاف النفوس المطمئنة بالذب عن السنة، أبو عبد الله أحمد إبراهيم، مكتبة ابن العباس، مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص 153، 156 بتصرف.
  23. [22]. انظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص 364.
  24. [23]. الشبهات الثلاثون، د. عبد العظيم المطعنى، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م، ص 74،: 76 بتصرف.