نص السؤال

الطعن في أئمة الحديث ورواته بدعوى بشريتهم

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

الطعن في أئمة الحديث ورواته بدعوى بشريتهم(*)

مضمون الشبهة:

يطعن بعض المغرضين في أئمة الحديث ورواته بحجة أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وأنهم غير معصومين كغيرهم من البشر؛ فكيف نسلم لهم بصحة كل ما رووه لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ويستدلون على ذلك بأن الواحد منهم إذا قال كلاما في مجلس، ثم أراد حكايته في مجلس آخر، فإنه لا يستطيع أن يحكيه على صورته الأولى، بل لابد من التغيير والتبديل في المعاني والألفاظ، وإن قرب العهد بين المجلسين.

رامين من وراء ذلك إلى التشكيك في أئمة الحديث ورواته، بهدف التشكيك في السنة النبوية المطهرة، وإسقاط القول بحجيتها التشريعية.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن بشرية الرواة لا تطعن فيهم، إذ قد وضع علم الجرح والتعديل لبيان معايير النقص والكمال عند رواة الحديث وأئمته، لذلك وجدناهم قد وضعوا شروطا غاية في الدقة لاختيار من ينقلون عنهم، واتخذوا لذلك طرقا عملية منها؛ تحديد سن الراوي عند التحمل والأداء، واستخدام صيغ معينة عند الأداء؛ كحدثنا وأخبرنا، وتحديد طرق معينة لنشر الحديث وتأديته.

2) لقد اهتم الرواة بنقل الروايات نقلا صحيحا بعيدا عن التغيير والتبديل، حتى إن أحدهم كان يرى أن يخر من السماء أحب إليه من أن يزيد في الرواية حرفا أو ينقص منها حرفا؛ لذلك كانوا أحرص الناس على نقل الحديث الشريف وحفظه.

التفصيل:

أولا. معايير النقص والكمال عند رواة الحديث:

رواية الحديث عن طريق البشر ليست بدعا من السلوك، ولاسبة تقدح في سلامة السنة من التحريف في ألفاظها ومعانيها.

وتوصلا إلى هذه الغاية نشأ علم الجرح والتعديل، هذا الذي وقفه علماء الحديث على معرفة أحوال الرواة من التابعين وتابعيهم ومن جاء بعدهم، وصنفوا الرواة أصنافا مختلفة، ووضعوا لقبول الرواية من كل راو شروطا محكمة.

والتعديل يعني: وصف الراوي بالعدالة إذا توافرت فيه شروطها، والتجريح يعني: معرفة الرواة غير العدول الذين لا تقبل رواية الحديث عنهم[1].

ولذلك اشترط العلماء أن يكون الراوي ثقة ضابطا لما يرويه. وهو المسلم العاقل البالغ الذي يكون سالما من أسباب وخوارم المروءة، وأن يكون متيقظا غير مغفل، حافظا إن حدث من حفظه، فاهما إن حدث على المعنى، فإن اختل شرط مما ذكرنا ردت روايته.

وتثبت عدالة الراوي باشتهاره بالخير والثناء الجميل عليه، أو بتعديل الأئمة، أو اثنين منهم له، أو واحد على الصحيح، ولو بروايته عنه في قول[2].

فإذا كان الرواة بشرا غير معصومين، يحتمل خبرهم الصدق وغيره، فقد وجبت العدالة شرطا لقبول أخبارهم، والعدالة هي التي تجعل خبر الراوي يميل إلى جانب الصدق، وإذا كان الراوي عدلا فإنه يكون منزجرا عن الكذب في أمور الدنيا، وذلك دليل على انزجاره عن الكذب في أمور الدين بالطريق الأولى[3].

ولقد كان النقاد يدققون في حكمهم على الرجال، يعرفون لكل محدث ما له وما عليه، قال الشعبي: "والله لو أصبت تسعا وتسعين مرة، وأخطأت مرة، لعدوا علي تلك الواحدة" [4]، وكانت المظاهر لا تغريهم، وكل ما يهمهم أن يخلصوا العمل لله، ويصلوا إلى ما ترتاح إليه ضمائرهم؛ لخدمة الشريعة ودفع ما يشوبها، وبيان الحق من الباطل، قال يحيى بن معين: "إنا لنطعن على أقوام لعلهم حطوا رحالهم في الجنة منذ أكثر من مائتي سنة" [5] قال السخاوي: "أي أناس صالحون، ولكنهم ليسوا من أهل الحديث"[6].

وعن أبي بكر بن خلاد، قال: "قلت ليحيى بن سعيد القطان: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله تعالى؟ قال: لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لم حدثت عني حديثا ترى أنه كذب؟" [7].

وروي أن عقبة بن نافع قال لبنيه: يا بني لا تقبلوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من ثقة، وروى ابن معين مثله عن صهيب لبنيه.

وقال ابن عون: لا تأخذوا العلم إلا ممن شهد له بالطلب[8].

وقال الإمام الشافعي: "كان ابن سيرين، وإبراهيم النخعي، وطاوس، وغير واحد من التابعين - يذهبون إلى ألا يقبلوا الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي ويحفظ، وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب"[9].

هكذا بين جهابذة هذا العلم - منذ صدر الإسلام إلى عهد التدوين والتصنيف - أحوال الرواة؛ المقبول منهم والمتروك. وتكامل علم الجرح والتعديل، وألفت مصنفات ضخمة في الرواة وأقوال النقاد فيهم، حتى إنه لم يعد يختلط الكذابون والضعفاء بالعدول الثقات، كما ألفت مصنفات ومعاجم خاصة بالضعفاء والمتروكين، وأصبح من السهل جدا على أصحاب الحديث أن يميزوا الخبيث من الطيب في كل عصر، وقد بنى النقاد حكمهم في الرواة على قواعد دقيقة، فقدموا للحضارة الإنسانية أعظم إنتاج في هذا المضمار، يفخر به المسلمون أبد الدهر، وتعتز به الأمة الإسلامية التي شهد لها كبار العلماء بأياديها البيضاء في خدمة السنة المطهرة، قال المستشرق الألماني "شبرنجر" في تصدير كتاب الإصابة لابن حجر: "لم تكن فيما مضى أمة من الأمم السالفة، كما أنه لا توجد الآن أمة من الأمم المعاصرة، أتت في علم أسماء الرجال بمثل ما جاء به المسلمون في هذا العلم العظيم الخطر، الذي يتناول أحوال خمسمائة ألف رجل وشئونهم..."[10].

وقال مرجليوث: "ليفخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم"[11].

وكما يقولون فإن الحق ما شهدت به الأعداء، فضلا عما سقناه من جهود العلماء في هذا المضمار بما لا يجعل مجالا لظهور هذه الشبهة أو شبيهاتها؛ إذ إن البشر يتفاوتون في مسألة الخطأ والصواب، وقد قام العلماء بدور كبير استطاعوا من خلاله أن يميزوا بين من يقبل حديثه ومن يرد، ونصوا على ذلك في قواعد محكمة، دون مجاملة لأحد ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم.

الطرق التي استخدمها العلماء لقبول الرواة:

لقد استخدم العلماء عدة طرق عملية لتنقية الحديث الصحيح وتمييزه عن غيره، وهذه الطرق ضمنت صحة الحديث الذي وصل إلينا عن طريق الرواة الذين أخذ عنهم، ووضعوا شروطا وضوابط للأخذ عن هؤلاء الرواة، منها:

·  السن التي كانوا يخرجون فيها لطلب الحديث:

حدد أهل الحديث سنا إذا بلغها الشاب خرج لطلب الحديث وكتابته، أما إذا لم يبلغها فيمنع من الخروج؛ وذلك من أجل أن يكون هذا الطالب على دراية وإدراك لما يكتب ولما خرج من أجله. فجعلوا من بلغ عشرين عاما الحق في الخروج لطلب الحديث.

جاء في "المحدث الفاصل" للرامهرمزي": أن طلاب الحديث عصر التابعين كانوا في حدود العشرين، وكذلك يذكر عن أهل الكوفة... قيل لموسى بن إسحاق: كيف لم تكتب عن أبي نعيم؟ قال: كان أهل الكوفة لا يخرجون أولادهم في طلب العلم صغارا، حتى يستكملوا عشرين سنة" [12]وهو لم يبلغ سن العشرين؛ لذا لم يكتب عنه.

وليس المراد أن من طلب الحديث قبل هذه السن لا يصح؛ إذ كان أهل البصرة يرسلون أولادهم لطلب الحديث إذا بلغوا عشر سنين؛ وإنما المراد المبالغة في التأكد من إدراكه، فالصحيح أن من كان يقظا ذكيا جاز له طلب الحديث والعناية به، ولو كان دون العشرين، فهذا سفيان بن عيينة طلب الحديث وعمره خمس عشرة سنة. أما أداء الحديث بعد تحمله فلا يقبل إلا ممن كان بالغا[13].

·  الصيغة التي يستعملونها لأداء الحديث:

بلغ حرص هؤلاء الأئمة الأعلام أنهم كانوا أهل دقة في اختيار الصيغة التي يستعملونها لأداء الحديث، ملاحظين الكيفية عند تحملهم للحديث.

قال الخطيب - رحمه الله تعالى: "كان شيخنا أبو بكر البرقاني يقول فيما رواه لنا عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني المعروف بالأبندوني: سمعت، ولا يقول: حدثنا، ولا أخبرنا، فسألته عن ذلك، قال: كان الأبندوني عسرا في الرواية جدا، مع ثقته وصلاحه وزهده، وكنت أمضي مع أبي منصور بن الكرجي إليه، فيدخل أبو منصور عليه، وأجلس أنا بحيث لا يراني الأبندوني ولا يعلم بحضوري، فيقرأ هو الحديث على أبي منصور وأنا أسمع، فلهذا أقول فيما أرويه عنه: [سمعت] ولا أقول: [حدثنا ولا أخبرنا]؛ فإن قصده كان الرواية لأبي منصور وحده".

فهذه الواقعة تدل على أمانة هذا الإمام ودقته في اختيار الصيغة التي تدل على الحالة التي تحمل بها الحديث...

وقال الإمام الحافظ معتمر بن سليمان: [سمعت] أسهل علي من حدثنا وأخبرنا، وحدثني، وأخبرني؛ لأن الرجل قد يسمع ولا يحدث"[14].

فمن أجل ضبط تلقي السنة وضع علماء الحديث طرق أنواع التحمل، وجعلوها ثمانية طرق، مبينين أحكامها بالتفصيل.

 كما أن من تحمل أحاديث عن طريق النظر في كتاب موثوق به، بينوا أمره، وقالوا بحقه: روى أحاديث وجادة، أو رواها من صحيفة، ونحو ذلك من العبارات التي تدل على عدم سماع ما يحدث به.

قال سفيان بن عيينة: "حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة"[15].

وقال عبد الرحمن بن مهدي: "حدثت سفيان أحاديث إسرائيل عن عبد الأعلى عن ابن الحنفية، قال: كانت من كتاب"، قال الرازي: "يعني أنها ليست بسماع"[16].

فمن خلال هذين النصين وغيرهما يتبين لنا أن العلماء قد بينوا وميزوا السماع من غيره، وهذا دليل واضح على أمانتهم واهتمامهم. ومن شدة أمانتهم أن الراوي عندما يسأل عما يحدث به، يخبرهم بأن الذي حدث به أخذه من صحيفة.

قال الحسن بن عبيد الله: "ذكرت لإبراهيم شيئا، فقال - أي إبراهيم -: هذا وجدته في صحيفة"[17].

كما أنهم ميزوا بين السماع والعرض، علما بأن كليهما من الطرق التي يصح بها التحمل.

قال الإمام أبو عبد الله أحمد - رحمه الله: "سمع حجاج الأعور التفسير من ابن جريج. قال حجاج: أحاديث طوال سمعتها منه - أي من ابن جريج - سماعا - والباقي عرضا"[18].

نجد هذا الإمام الثبت قد ميز مروياته عن ابن جريج، علما بأنها كلها صحيحة، ولا يضيره شيء لو لم يميز.

كما أن الراوي إذا حدث بحديث ما، ولم يتحمله بواحد من الطرق المعروفة، فإن الراوي يقول: قال فلان أو عن فلان، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدل على عدم السماع.

قال الإمام أحمد في ابن وهب: "كان بعض حديثه سماعا، وبعضه عرضا، وبعضه مناولة، وكان ما لم يسمعه يقول: قال حيوة، قال فلان"[19].

وهكذا كان يفعل الإمام البخاري في معلقاته التي لم يأخذها بواحد من طرق التحمل، يقول: قال فلان، ويذكر عن فلان، ونحو ذلك؛ لأنه أخذها من كتاب.

وهذا أمر جائز لا يضير المحدث، ما دام أنه يستعمل صيغة لا تدل على السماع.

قال الإمام الذهبي - تعليقا على كلام الإمام أحمد: كان ابن إسحاق يشتهي الحديث، فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه - قال: "هذا الفعل سائغ، فهذا (الصحيح) للبخاري فيه تعليق كثير"[20].

وكذلك بلاغات الإمام مالك في الموطأ؛ فإنه أخذها من كتاب.

قال الإمام أحمد: "كان مالك بن أنس يتلهف على بكير بن الأشج، وكان غاب عن المدينة، ويقولون: إن مرسلات مالك التي يقول: بلغني عن فلان، أخذها من كتب بكير، يقولون عن ابنه" [21]. وإذا قال الراوي: قال فلان، فله ثلاث حالات:

1. أن يكون القائل غير مدلس فهذا حكمه الاتصال، إلا إن كان هناك دليل على أن تلك الأحاديث أخذها من كتاب، كمعلقات البخاري وبلاغات مالك.

2.   أن يكون القائل معروفا بالتدليس، فهذا حكمه الرد.

3.   أن يكون حاله مجهولا فهل يحمل على الاتصال أم لا؟[22].

كما أن الراوي لا يقول: سمعت أو حدثنا، وهو لم يحدث أو يسمع؛ لأن من فعل ذلك، وهو لم يحدث ولم يسمع يكون كذابا، وإنما يستعمل صيغة لا تدل على السماع، وإذا وجدنا راويا قد قال: حدثنا وهو لم يحدث، فهذا ليس منه، وإنما جاء من الرواة بعده.

قال محمد بن جابر المحاربي: "قال رجل لأبي أسامة الكوفي المتوفى سنة إحدى ومائتين، قل: حدثنا، فقال: فقدتك؛ أي: أفقدك بالموت، والله إن الحق ليثقل علي، فكيف أكذب لك؟!"[23].

وقد كان جماعة من المحدثين لا يسمعون من المحدث، إلا إذا كان يقول: حدثنا أو سمعت.

قال سفيان بن عيينة: "كان عبد الكريم أول من جالسته قبل عمرو بن دينار، فكان كثيرا من حديثه لا يقول فيه: ]سمعت[، يقول: ]قال فلان[ ففررت منه، وذهبت إلى عمرو بن دينار، فكان يقول: سمعت وحدثنا"[24].

وقال الإمام شعبة بن الحجاج: "كل حديث ليس فيه ]سمعت[، فهو خل وبقل"[25]. لكن قد وجد من بعض الرواة الضعفاء المتروكين أنه يستعير كتابا، ثم يحدث به عن شيخه الذي استعار منه الكتاب، كما فعل مطرف بن مازن الصنعاني، قال هشام بن يوسف الصنعاني عنه: "استعار كتبي على أن ينتسخها ويسمعها مني، فنسخها ورواها عن شيوخي؛ ابن جريج وغيره، انظروا في كتبه فإنها توافق كتبي"[26].

فنلاحظ أن العلماء قد بينوا أمر مطرف، وهكذا يبينون كل من سلك سبيله وفعل مثله[27].

· نشرهم للحديث:

كان أولئك الأئمة لا يحدثون بالحديث كل أحد، بل كانوا يحدثون من كان حافظا لكتاب الله تعالى.

وممن كان يذهب هذا المذهب سليمان بن مهران المعروف بالأعمش، قال حفص بن غياث الكوفي: "أتيت الأعمش، فقلت: حدثني! قال: أتحفظ القرآن؟ قلت: لا! قال: اذهب فاحفظ القرآن، ثم هلم أحدثك، قال: فذهبت، فحفظت القرآن، ثم جئته، فاستقرأني، فقرأته، فحدثني".

وعن عبيد بن جناد، قال: "عرضت لابن المبارك، فقلت: أمل علي، فقال: أقرأت القرآن؟ قلت: نعم، قال: اقرأ، فقرأت عشرا..."[28].

وقد عقد القاضي عياض بابا خاصا في الأمور التي ينبغي لطالب الحديث أن يتحلى بها قبل سماع الحديث.

قال عثمان بن سعيد الدارمي السمار: "كنا عند سعيد بن أبي مريم بمصر، فأتاه رجل فسأله كتابا ينظر فيه، أو سأله أن يحدثه بأحاديث، فامتنع عليه، وسأله رجل آخر في ذلك فأجابه، فقال له الأول: سألتك فلم تجبني، وسألك هذا فأجبته، وليس هذا حق العلم! أو نحوه من الكلام، قال: فقال ابن أبي مريم: إن كنت تعرف الشيباني من السيباني، وأبا جمرة من أبي حمزة، وكلاهما عن ابن عباس، حدثناك وخصصناك كما خصصنا هذا"[29].

والأمثلة على هذا كثيرة، فهذا دليل واضح على أنهم كانوا في الغالب لا يحدثون إلا من كان فطنا حافظا لكتاب الله ملتزما شرعه تعالى.

ولا يخفى على أحد، أن العلم إذا أعطي للزاهد فيه، فإنه سرعان ما ينساه، وحينئذ سيكون ضرره أكثر من نفعه.

قال أبو قلابة: لا تحدث بالحديث من لا يعرفه، يضره، ولا ينفعه.

لذا نجد غير واحد من المحدثين يحذر من أن يعطى هذا الحديث لغير أهله.

قال الإمام ابن شهاب الزهري الفقيه الحافظ: إن للحديث آفة ونكدا وهجنة، فآفته نسيانه، ونكده الكذب، وهجنته نشره عند غير أهله. والمراد بقوله: (هجنته) أي: تقبيحه.

وقال الأعمش: آفة الحديث النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله، وقال أيضا: انظروا إلى هذه الدنانير، لا تلقوها على الكنايس يعني الحديث[30].

ومن شدة حرصهم وعنايتهم بالسنة النبوية أنهم كانوا يطلبون إعادة الحديث من المحدث لكي يحفظه.

قال الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -: "لقيت ابن شهاب يوما في موضع الجنائز، وهو على بغلة له، فسألته عن حديث فيه طول، فحدثني به، قال: فأخذت بلجام بغلته، فلم أحفظه، قلت: يا أبا بكر، أعده علي، فأبى، فقلت: أما كنت تحب أن يعاد عليك الحديث، فأعاده علي فحفظته"[31].

ومن هذا الأثر يتبين أن الإمام مالكا - رحمه الله - يصر على الإمام الحافظ الزهري؛ ليحدثه الحديث ثانية؛ لكي يتمكن من حفظه، مما يدل على حرص هؤلاء الأئمة على حفظ السنة وأدائها من غير زيادة أو نقصان، فمن المعروف أن الأحاديث الطوال لا يستطيع الراوي أن يحفظها من أول مرة؛ لذلك كان المحدث يجد صعوبة ومشقة في حفظها.

جاء في كتاب "العلل ومعرفة الرجال" للإمام أحمد: "قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي: قال رجل لسليمان بن المغيرة: كيف سمعت هذه الأحاديث الطوال من حميد؟ قال: كنت أخوض فيها الرداغ [32].

ثم قال الإمام أحمد: "هذه الأحاديث الطوال إنما كان سليمان بن المغيرة يحفظها، ولم تكن عنده في كتاب"[33].

وكان بعض المحدثين إذا كان الحديث طويلا، ولم يمكنه أن يحفظه في مجلس واحد، قسمه إلى مجلسين، ليتمكن من حفظه[34].

· طريقتهم في التحديث:

من الأساليب التي كانوا يتبعونها للحفاظ على السنة النبوية أنهم كانوا إذا حدثوا أحدا حدثوا بالعدد القليل؛ من أجل أن يكون التلميذ أقدر على حفظ الحديث بحروفه؛ لأن العدد القليل، كما هو معروف، يسهل على الإنسان حفظه، كما أن المحدث عندما يحدث بالقليل يكون التلميذ في شوق إلى المزيد.

 قال أبو بكر بن عياش: "كان الأعمش إذا حدث بثلاثة أحاديث قال: قد جاءكم السيل. قال أبو بكر: وأنا اليوم مثل الأعمش".

وكان يسير على هذا المنهج الإمام الثقة أبو قلابة، والإمام الحجة أبو الوليد هشام بن عبد الملك الباهلي.

قال خالد الحذاء: "كنا نأتي أبا قلابة، فإذا حدثنا بثلاثة أحاديث قال: قد أكثرت".

وقال الحسن بن المثنى: "كان أبو الوليد يحدثنا بثلاثة أحاديث إذا صرنا إليه، لا يزيدنا على ثلاثة"[35].

وقد وصلت الأمانة عندهم منزلة لا يصل إليها إلا من كان مثلهم في التقى والورع؛ إذ كان أحدهم إذا شك في حديث ما من مجموعة أحاديث مكتوبة في صحيفته، ولم يتبين له الحديث الذي شك فيه، فإنه في هذه الحالة يترك جميع ما رواه عن ذلك الشيخ في تلك الصحيفة.

وقد سلك هذا المنهج غير واحد من المحدثين، منهم:

الإمام عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد البصري كما نقل الخطيب عنه في الكفاية قال: "قال رحمه الله - أي: عبد الرحمن بن مهدي: وجدت في كتبي بخط يدي عن شعبة ما لم أعرفه فطرحته.

وقال أيضا: "خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم والحديث"، أي لا بد من الجزم فيهما.

وقال الإمام يحيى بن معين: "من لم يكن سمحا في الحديث كان كذابا، قيل له: وكيف يكون سمحا؟ قال: إذا شك في حديث ما تركه".

وكان الإمام مالك ممن يتبع هذا المنهج؛ فقد قال الإمام الشافعي: "كان مالك إذا شك في شيء من الحديث تركه كله".

قال الإمام المتقن أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج الواسطي: "وجدت منذ ثلاثة أيام في كتاب عندي عن منصور عن مجاهد قال: "لم يحتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم، قال: ما أدري كيف كتبته، ولا أذكر أني سمعته".

وهذا الإمام الحافظ علي بن الحسن الشقيقي المروزي، يترك أحاديث كتاب الصلاة كلها من أجل حديث واحد.

قال الحسين بن حريث المروزي: "سألت علي بن الحسن الشقيقي، هل سمعت كتاب الصلاة من أبي حمزة؟ قال: الكتاب كله، إلا أنه نهق الحمار يوما، فخفي علي حديث أو بعض حديث، ثم نسيت أي حديث كان من الكتاب، فتركت الكتاب كله"[36].

بل وصل الأمر لدى بعضهم أنه كان إذا شك في كلمة من الحديث ترك الحديث كله، والبعض الآخر كان يقول: كذا أو كذا، إشارة إلى تردده.

فهذه الدقة وهذه الأمانة لا نجدها عند أحد إلا عند علماء هذه الأمة، وخاصة محدثيها.

فأي أمانة بلغها هؤلاء الأئمة الذين فاقوا ما يتصوره العقل البشري، فرحمة الله عليهم ورضي عنهم، وجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء[37].

· كتابتهم للحديث وعنايتهم بالصحف:

فهم إلى جانب الحفظ والعناية الفائقة بما تحملوه، كان أكثرهم يكتب الحديث في صحف؛ لكي تكون تلك الصحيفة المرجع الذي يرجع إليها المحدث، إن شك في حرف أو اختلف في لفظ مع الرواة الآخرين.

فهذا وكيع بن الجراح يخالف عبد الرحمن بن مهدي، وكلاهما إمام حافظ حجة، لكن العلماء قدموا ابن مهدي على وكيع إن اختلف معه؛ لأن ابن مهدي أقرب عهدا بالكتاب.

قال وكيع عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه قال: "سمعت مسلمة بن مخلد قال: ولدت مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ومات وأنا ابن عشرة".

وقال ابن مهدي عن موسى بن علي عن أبيه عن مسلمة أنه قال: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وأنا ابن أربع سنين، ومات وأنا ابن أربع عشرة"[38].

فقدمت رواية ابن مهدي على رواية وكيع للسبب المتقدم.

قال الإمام أحمد: "إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن، فعبد الرحمن أثبت؛ لأنه أقرب عهدا بالكتاب"[39].

وهذا الإمام يحيى بن معين يبحث عن حديث من رواية إسحاق الأزرق في كتب إسحاق فلم يجده، فمن أجل ذلك أنكره.

قال ابن أبي حاتم: "قلت لأبي: فما بال يحيى نظر في كتاب إسحاق فلم يجده، قال: كيف! نظر في كتابه كله؟ إنما نظر في بعض، وربما كان في موضع آخر"[40].

فيلاحظ من هذه الحادثة وغيرها أن الكتاب كان حكما بين المحدثين في الحديث الذي اختلفوا فيه.

قال الإمام عبد الله بن المبارك: "إذا اختلف الناس في حديث شعبة فكتاب غندر حكم فيما بينهم"[41].

لذلك إذا كان الكتاب صحيحا، فهم يوصون به ويكونون حريصين على الكتابة منه.

قال الإمام الأوزاعي: "عليكم بكتب الوليد بن مزيد فإنها صحيحة"[42].

قال علي بن المديني: "سألت عبد الرحمن بن مهدي عن يونس الأيلي قال: كان ابن المبارك يقول: كتابه صحيح. قال عبد الرحمن - أي ابن مهدي: وأنا أقول: كتابه صحيح"[43].

وهناك نصوص كثيرة تبين أن الكتاب هو الحكم بين المحدثين إذا اختلفوا.

روى الخطيب بسنده عن ابن جريج قال: "أخبرني أبو جعفر محمد بن علي أن إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات حمل إلى قبره على منسج الفرس".

قال الإمام أحمد: "كان يحيى وعبد الرحمن أنكراه عليه - أي على حجاج - فأخرج إلينا كتابه الأصل، قرطاس. فقال: ها أخبرني محمد بن علي".

قال الخطيب - معلقا: وكان إخراج حجاج أصل كتابه حجة له على يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وزالت العهدة عنه فيما أنكراه عليه، وكذلك يلزم كل من روى من حفظه ما خولف فيه وأنكر عليه، أن يغفل إذا كان قادرا على الأصل، أو يمسك عن الرواية إذا تعذر ذلك عليه[44].

فكتابتهم للحديث في صحف، وحفظهم لهذه السنة دليل واضح منهم على العناية بالسنة واهتمامهم بها، وأدائها كما سمعوها.

وقد كانوا على قسمين في كتابة الحديث، فمنهم من يحفظ أولا ثم يكتب ما حفظه في صحيفة؛ لكي يرجع إليها عند الشك. ومنهم من كان يكتب أولا ثم يحفظه، وبعد ما يحفظه، إما أن يمحو ما كتب، وإما أن يتركه لكي تكون وثيقة لمروياته، والشواهد على ذلك كثيرة، وسنكتفي ببعض الأمثلة.

قال طاوس: "كنت أنا وسعيد بن جبير عند ابن عباس يحدثنا، ويكتب سعيد بن جبير".

وقال منصور بن المعتمر الكوفي: "قلت لإبراهيم النخعي: سالم بن أبي الجعد أتم حديثا منك! قال: إن سالما كان يكتب"[45].

والمراد من قوله: "أتم" أي يروي الحديث كاملا تاما بخلاف إبراهيم، فقد يرويه أحيانا ناقصا؛ لأنه يروي من حفظه، فربما ينسى الحرف والكلمة.

وكانوا يصفون من يحدث من كتاب بأنه صاحب كتاب[46].

ومن الأدلة الواضحة على دقتهم أنهم كانوا لا يكتفون بالكتابة بل لا بد من المقابلة.

قال هشام بن عروة: "قال لي أبي: أكتبت؟ قلت: نعم! قال: قابلت؟ قلت: لا! قال: لم تكتب شيئا"[47].

وهكذا كان غير واحد من المحدثين يتبع هذا المنهج.

ومن حدث بما كتب عن الشيخ ولم يعارضه ويقابله بالأصل، جاز له أن يروي، لكن بشرط أن يبين أنه لم يعارض، كما أفتى بذلك أبو بكر الإسماعيلي.

قال الحافظ الخطيب: "وهذا مذهب أبي بكر البرقاني، فإنه روى لنا أحاديث كثيرة، وقال فيها: أي أخبرنا فلان ولم أعارض بالأصل"[48].

فهذه الدقة المتناهية، وهذا التحري العجيب لا نظير له، كل ذلك من أجل المحافظة على السنة النبوية.

كما أنهم كانوا يهتمون بضبط الكلمة وتنقيطها؛ حتى لا يقع فيها تصحيف، وذكروا أن الراوي الذي يعتني بالتشكيل والتنقيط دليل على دقته وصحة كتابه؛ وقد حث غير واحد من أهل الحديث على التنقيط والضبط.

روى الخطيب عن أبي زرعة - يعني الدمشقي - قال: "سمعت عفان يقول: سمعت حماد بن سلمة يقول لأصحاب الحديث: ويحكم! غيروا، يعني قيدوا واضبطوا، ورأيت عفان يحض أصحاب الحديث على الضبط والتغيير؛ ليصححوا ما أخذوا عنه من الحديث"[49].

حتى إن العلماء جعلوا الكتاب الذي فيه تغيير وإلحاق وإصلاح علامة الصحة.

وقد كان أصحاب الحديث على قسمين:

الأول: من يشكل جميع الكلام.

والثاني: من يشكل الذي يحتاج إلى شكل.

قال الرامهرمزي: "قال أصحابنا: أما النقط فلا بد منه؛ لأنك لا تضبط الأسامي المشكلة إلا به،... وقالوا: إنما يشكل ما يشكل، ولا حاجة إلى الشكل مع عدم الإشكال. وقال آخرون: الأولى أن يشكل الجميع،... وكان عفان وحيان من أهل الشكل والتقييد"[50].

ومن أجل أهمية الضبط نرى المحدثين إذا شك أحدهم في كلمة، يسأل عنها أهل العربية.

قال عبد الله بن المبارك: "إذا سمعتم مني الحديث، فاعرضوه على أصحاب العربية، ثم أحكموه".

وسأل الإمام أحمد رجل، فقال: "يا أبا عبد الله، الرجل يكتب الحرف من الحديث، لا يدري أي شيء هو، إلا أنه قد كتبه صحيحا، يريه إنسانا فيخبره؟... قال: لا بأس به".

لذلك قال غير واحد من المحدثين: إن المحدث إذا شك في حرف سأل أهل النحو، ومن ذلك قول الأصمعي: "كنت في مجلس شعبة، فقال - أي شعبة: فيسمعون جرش طير الجنة، فقلت: "جرس"، فنظر إلي فقال: خذوها عنه؛ فإنه أعلم بهذا منا[51].

فيلاحظ من هذه الحادثة أن شعبة أخطأ في حرف، فصحح له الخطأ إمام أهل اللغة في زمانه، بأن الكلمة هي "جرس" بالسين المهملة، وليست بالشين المعجمة، وسرعان ما يرجع شعبة إلى قوله.

قال الحافظ الخطيب - بعد أن ذكر حديث جابر مرفوعا - "إذا أرفت الحدود فلا شفعة"، قال: قال لي الطبري: سمعت أبا محمد البارقي يقول: ذكر لنا الداركي هذا الحديث في تدريسه في كتاب الشفعة، فقال: "إذا أزفت الحدود"، فسألت عثمان بن جني النحوي عن هذه الكلمة، فلم يعرفها، ولا وقف على صحتها، فسألت المعافى بن زكريا عن هذا الحديث، وذكرت له طرقه، فلم أستتم المسألة حتى قال: "إذا أرفت الحدود" والأرف: المعالم، يريد: إذا بينت الحدود وعينت المعالم وميزت، فلا شفعة[52].

فهذه الواقعة تدل على مدى اهتمام المحدثين بدراية الحديث، وتحديد المطلوب، وتدل أيضا على أمانة أهل اللغة؛ إذ لم يتكلم فيها إمام أهل اللغة في زمانه ابن جني - رحمه الله تعالى.

قال أبو حاتم سهل بن محمد: "كان عفان بن مسلم يجيء إلى الأخفش وإلى أصحاب النحو، يعرض عليهم الحديث يعربه، فقال له الأخفش: عليك هذا - يعنيني - وكان بعد ذلك يجيء إلي، حتى عرض علي حديثا كبيرا"[53][54].