نص السؤال

دعوى أن أحاديث التفسير كلها موضوعة

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

دعوى أن أحاديث التفسير كلها موضوعة (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغالطين أن السنة مليئة بالأحاديث الموضوعة، خاصة أحاديث التفسير، ويستدلون على ذلك بما نقل عن الإمام أحمد من قوله: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازي"، وأن البخاري انتقى سبعة آلاف حديث فقط من بين ستمائة ألف كانت متداولة في عصره. ويتساءلون: كيف لنا أن نعتمد على السنة وهي ملأى بالأحاديث الموضوعة؟! رامين من وراء ذلك إلى القول بأن السنة موضوعة.

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن أحاديث التفسير كغيرها من الأحاديث تم فحصها وتمييز صحيحها من سقيمها، وقد ثبت كثير منها بطرق صحيحة لا غبار عليها، مما يؤكد تواتر الأحاديث الصحيحة التي تبين القرآن، ومنها أحاديث التفسير.

2) إذا صحت مقولة الإمام أحمد فإنها لا تعني التشكيك في أحاديث التفسير كلها، بدليل ثبوت أحاديث التفسير في أمهات الكتب، وفي مسند الإمام أحمد نفسه.

3) لم يرد الإمام البخاري أن يحصر الصحيح كله في كتابه، إنما أراد أن يجمع أبواب الإسلام لتقريب السنة من الأمة، وألا يجمع إلا ما كان على شرطه الذي اشترطه على نفسه في تصنيف كتابه.

التفصيل:

أولا. إن كثيرا من أحاديث التفسير قد ثبت بطرق صحيحة لا غبار عليها:

لا يخفى على كل من طالع كتب السنة أن كثيرا من أحاديث التفسير قد ثبت بطرق صحيحة لا غبار عليها، وما من كتاب في السنة إلا وقد أفرد فيه مؤلفه بابا خاصا لما ورد في التفسير عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو الصحابة أو التابعين، وقد اشترط علماء التفسير على من يفسر كتاب الله - عز وجل - أن يعتمد فيه على ما نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك([1]).

قال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: "إن مما أنزل الله من القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره ونهيه وندبه وإرشاده"([2]).

وإن مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تجاه القرآن قد اتضحت من خلال قوله سبحانه وتعالى:

(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)

(النحل: ٤٤)

فمهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي بيان القرآن، وتتعدد وسائل بيان الرسول للقرآن وتتنوع، فمنها البيان العملي الذي أشارت إليه

السيدة عائشة بقولها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القرآن»([3])

ومنها البيان النظري الذي يعتمد على شرح المبهم، أو تفصيل المجمل، أو تخصيص العام، أو تقييد المطلق.

وفي هذا المعنى يقول الإمام أحمد: "الأمر بالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك مجمل". ولا يعرف تفسير ما جاء مجملا في مثل هذه القضايا التشريعية إلا بالرجوع إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو وحده صاحب الشأن في بيانها، وليس للعقول مجال لإعمال الرأي فيها؛ لأنها لا تدرك إلا بواسطة الوحي.

وقد أثبت ذلك الإمام السيوطي بقوله: "وقد يقع التبيين بالسنة، مثل: "وأقيموا الصلاة"، "وآتوا الزكاة"، "ولله على الناس حج البيت"، وقد بينت السنة أفعال الصلاة والحج ومقادير نصب الزكوات في أنواعها. وهناك آثار في التفسير لا يصح تجاهلها، ولا يسوغ لأي عالم إنكارها، وقد ذكر الشافعي أنه لا يحل تفسير المتشابه إلا بسنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو خبر عن أحد من أصحابه، أو إجماع العلماء"([4]).

وقال الإمام أحمد بن حنبل: السنة تفسر الكتاب وتبينه([5]).

وقد وضح من كلام الأئمة أنه لا بد من السنة لبيان مجمل الكتاب وتوضيح مشكله، ولا يماري في هذا الحق الدامغ، أو يحاول طمس الواقع الملموس إلا جاهل أو ضال([6]). ولن يصبح

لقوله سبحانه وتعالى:

(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)

(النحل: ٤٤)

فائدة إذا صح الادعاء القائل بأن أحاديث التفسير لم يصح منها شيء.

ومما تجدر الإشارة إليه أن المنقول في التفسير بالمأثور ليست كلها أحاديث للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن منها ما هو خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنها ما هو خبر عن أهل الكتاب، ومنها ما هو قول للصحابي علمه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فهمه من النص، ولا شك أن فهمهم أولى؛ لمعايشتهم الوقائع والأحداث ومعاينتهم أسباب النزول، ونزول القرآن بلغتهم ولسانهم الذي لم يكن قد اختلطت به عجمة بعد، ولقد كان المفسرون على وعي كامل وهم ينقلون كل ذلك؛ فلم ينسبوا رواية من الإسرائيليات أو قول الصحابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - بل نقلوها على حالها منسوبة لأصحابها، ثم إن ذلك كله قد محص وفحص فحصا دقيقا سواء ما كان من السنة أو غيرها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره، ومنه ما لا يمكن ذلك.

وهذا القسم - أي الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه - عامته ما لا فائدة فيه، ولا حاجة بنا إلى معرفته، وذلك كاختلافهم في لون كلب أهل الكهف واسمه، وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، وفي قدر سفينة نوح وخشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ونحو ذلك، فهذه الأمور طريقة العلم بها النقل، فما كان منها منقولا نقلا صحيحا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل، وما ليس كذلك بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه؛

لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم»([7])

وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين. وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثيرا، ولله الحمد، وإن قال الإمام أحمد: "ثلاثة لا أصل لها: التفسير والملاحم والمغازي"؛ وذلك لأن الغالب عليها المراسيل.

أما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان..."، ثم ذكر ابن تيمية الجهتين اللتين هما مثار الخطأ فقال:

"إحداهما: حمل ألفاظ القرآن على معان اعتقدوها، لتأييدها به.

الثانية: التفسير بمجرد دلالة اللغة العربية من غير مراعاة المتكلم بالقرآن وهو الله - عز وجل - والمنزل عليه، والمخاطب به"([8]).

ويحقق الشيخ الزرقاني هذه المسألة ثم يصل إلى نتيجة مفادها قوله: "وكلمة الإنصاف في هذا الموضوع أن التفسير بالمأثور نوعان:

أحدهما: ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله، وهذا لا يليق بأحد رده، ولا يجوز إهماله وإغفاله، ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدي القرآن، بل هو على العكس عامل قوي من أقوى العوامل على الاهتداء بالقرآن.

ثانيهما: ما لم يصح لسبب من الأسباب، وهذا يجب رده ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به، اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه إلى ضلاله وخطئه حتى لا يغتر به أحد، ولا يزال كثير من أيقاظ المفسرين؛ كابن كثير، وابن جرير الطبري، والقرطبي، وغيرهم يتحرون الصحة فيما ينقلون ويزيفون ما هو باطل أو ضعيف ولا يحابون ولا يجبنون"([9]).

ولذلك أوجب علماء الإسلام النظر في سلسلة الرواة، رجلا رجلا لا سيما أن لدينا من كتب الجرح والتعديل ما يفي بهذه الغاية، ولا يكفي الاعتماد على ذكر السند في كتاب كبير كتفسير ابن جرير، فقد يذكر ابن جرير أو غيره أشياء غير صحيحة، ويسوق أسانيدها ثم لا يبين المجروح من رجال السند ولا المعدل فيهم؛ وعذره في ذلك أن أحوال الرجال كانت معروفة لأهل ذلك الزمان، فيستطيعون أن يحكموا في ضوء هذه المعرفة بقبول الخبر أو برده.

ولقد اعتنى المحققون من المحدثين والمفسرين بنقد هذه المرويات في التفسير قديما وحديثا، وبينوا ما يقبل منها وما لا يقبل.

وبذلك يتأكد لنا بطلان الادعاء القائل بأن أحاديث التفسير كلها موضوعة، أو لم يصح منها شيء، فقد ميز العلماء بين صحيحها وسقيمها.

ثانيا. أحاديث التفسير في كتب الحديث:

إن المطلع على تاريخ التأليف في كتب السنة النبوية يجد أن المحدثين اهتموا بجمع الأحاديث الصحيحة والحسنة، وتفننوا في التصنيف فيها، فوجدنا من اهتم بجمع الصحيح البالغ أعلى درجات الصحة خاصة، كالبخاري ومسلم، ومن حاول أن يسير على نهجهما كابن خزيمة وابن حبان والحاكم في استدراكاته عليهما.

ووجدنا أيضا من جمع الصحيح والحسن، كما هو عند أصحاب السنن، وقد نجد الضعيف وشيئا من الموضوع فيها، إلى غير ذلك من أنواع التأليف في السنة. ثم إن الحديث عن كثرة الموضوع في السنة ينقضه كثرة المؤلفات التي اعتنت بالصحيح المتعبد به لله - عز وجل - ولو كانت الموضوعات بالكثرة التي يصفونها لوجدنا مؤلفات ظهرت في التاريخ نفسه الذي ظهرت فيه دواوين السنة الصحيحة، تحاول جمع هذه الموضوعات، والواقع أن هذه التآليف تأخر ظهورها إلى أوائل القرن الخامس الهجري بظهور كتاب "موضوعات النقاش" (ت: 414هـ)، وبعد ذلك تواترت الكتب التي تتحدث عن الموضوعات مثل: "الموضوعات" لابن الجوزي، و "ترتيب الموضوعات" للذهبي، و"اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للسيوطي.

ويحسن بنا قبل أن نتكلم عن أحاديث التفسير في كتب الحديث أن نشير إلى عدد من كتب الحديث، ونعرف درجة صحتها من كلام العلماء عنها، وبعد ذلك نتحدث عن أحاديث التفسير فيها.

·       فهذا الإمام مالك، وهو أقدم من ألف كتابا جامعا لحديث رسول الله مقسما على أبواب الفقه، وسماه الموطأ.

وقد أثنى عليه العلماء قديما وحديثا وتلقته الأمة بالقبول؛ فقد قال عنه الإمام الشافعي: "ما على ظهر الأرض كتاب بعد كتاب الله أصح من كتاب مالك".

وقال مغلطاي: "أول من صنف في الصحيح مالك".

وقال الشيخ أحمد شاكر: "والحق أن ما في الموطأ من الأحاديث الموصولة، والمرفوعة إلى رسول الله صحاح كلها، بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين".

أما المرسل والمنقطع والمعضل فيه، فقد قال ابن عبد البر: "وجميع ما في الموطأ من قول مالك (بلغني)، ومن قوله عن الثقة عنده مما لم يسنده أحد وستون حديثا، كلها مسندة من غير طريق مالك إلا أربعة لا تعرف".

وقد وصل ابن الصلاح هذه الأربعة في تأليف مستقل.

·       أما مسند الإمام أحمد فقد بلغ عدد ما جمعه صاحبه فيه ثلاثين ألف حديث أو يزيد.

وأحاديث المسند تدور بين الصحيح والحسن والضعيف، قال السيوطي: "كل ما في مسند الإمام أحمد فهو مقبول، فإن الضعيف الذي فيه يقرب من الحسن".

·   أما صحيح البخاري فقد قال عنه ابن حجر: "عدد أحاديث البخاري بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا".

وقال النسائي: "ما في هذه الكتب كلها كتاب أجود من كتاب محمد بن إسماعيل البخاري". وقال السيوطي: "البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله، وعليه الجمهور".

·       وهذا صحيح مسلم قال عنه ابن الصلاح: "وجملة ما في صحيح مسلم بإسقاط المكرر نحو أربعة آلاف".

وذهب أبو علي النيسابوري وبعض المغاربة إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري - وإن كان هذا مرجوح - وقال: "ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث".

يتضح مما سبق إذن أن هذه الكتب المذكورة وغيرها مثل: صحيح الترمذي، وسنن النسائي، وسنن أبي داود وسنن ابن ماجه - هذه الكتب قد تلقتها الأمة بالقبول، وإن كان فيها شيء ضعيف أو غير صحيح فهو يسير، وقد بينه العلماء([10]).

وإذا جئنا إلى أحاديث التفسير في هذه الكتب نجدها متعددة ومتنوعة، فموطأ الإمام مالك مقسم على أبواب الفقه من عبادات ومعاملات وحدود... إلخ، ومالك يذكر في كل باب الأحاديث والأقوال التي وردت فيه، وهذه الأحاديث ما هي إلا بيان لمجمل القرآن، فنحن لا نعرف كيفية إقامة الصلاة من خلال قوله سبحانه وتعالى:

(وأقيموا الصلاة)

(البقرة: 43)

وإنما نعرف ذلك بعد قراءة أحاديث رسول الله في الصلاة.

ومسند الإمام أحمد نفسه مليء بالأحاديث التي تفسر آيات من القرآن، ومن ذلك ما رواه

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت: (إذا جاء نصر الله والفتح)(النصر:1)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعيت إلي نفسي، بأنه مقبوض في تلك السنة»([11]).

ومن يتصفح صحيح البخاري يجد كتابا كاملا بعنوان "التفسير"، ويجد العديد من الأبواب التي تتصدرها آيات قرآنية وتحتها حديث أو أكثر في شرح هذه الآيات.

وكذلك نجد في صحيح مسلم كتابا اسمه "التفسير"، ونجد كثيرا من الأحاديث مرتبطة بالآيات القرآنية.

وكذلك الأمر في كتب السنة الأخرى؛ إذ نجدها ملأى بالأحاديث المتعلقة بالقرآن شرحا، أو تقييدا، أو تخصيصا، أو إضافة، أو غير ذلك.

وبذلك يتأكد بطلان الزعم القائل بعدم صحة أحاديث التفسير.

أما الاحتجاج بعبارة الإمام أحمد: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير، والملاحم، والمغازي" على عدم صحة كل أحاديث التفسير فهو خطأ شنيع؛ فالراجح أن هذه العبارة موضوعة عليه؛ لأن الإمام أحمد قد ذكر في مسنده أحاديث كثيرة في التفسير، فكيف يعقل أن يخرج هذه الأحاديث في مسنده، ثم يحكم بأنه لم يصح منها شيء، كما أن مقتضى العبارة يحكم على أخبار العرب ومغازي المسلمين بالكذب، وهذا ما لم يقله أحد.

وإذا سلمنا بصحة نسبة العبارة إلى الإمام أحمد، فإنها لا تفيد أن كل أحاديث التفسير موضوعة؛ لأنه لم يقل: لم يصح في التفسير شيء، ولكن قال: "ثلاثة لا أصل لها"، والظاهر نفي كتب خاصة بهذه العلوم الثلاثة، بدليل ما جاء في الرواية الثانية مصرحا: "ثلاثة كتب".

وهذا المعنى هو ما فهمه الخطيب البغدادي إذ يقول: إن هذا محمول على كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة، فأشهرها كتابان: للكلبي ومقاتل بن سليمان، وقد قال الإمام أحمد في تفسير الكلبي: من أوله إلى آخره كذب لا يحل النظر فيه([12]).

كما أن نفي الصحة لا يستلزم الوضع أو الضعف، وقد عرف من الإمام أحمد خاصة نفي الصحة عن أحاديث مقبولة، وقال العلماء في ذلك: إن هذا اصطلاح خاص به.

قال اللكنوي: "كثيرا ما يقولون: لا يصح، ولا يثبت، ويظن من لا علم له أنه موضوع، وهومبني على جهله بمصطلحاتهم وعدم وقوفه على مصرحاتهم؛ فقد قال علي القاري في تذكرة الموضوعات: لا يلزم من عدم الثبوت وجود الوضع"([13])، وقال ابن حجر: "لا يلزم من نفي الثبوت ثبوت الضعف؛ لاحتمال أن يراد بالثبوت الصحة فلا ينتفي الحسن"([14]).

ويحتمل أن يكون المراد من عبارة الإمام أحمد أن ما صح في التفسير قليل، بالنسبة لما لم يصح، وقد حملها على هذا المعنى كثير من أهل العلم([15]).

 مما سبق يتبين عدم صحة الادعاء القائل بكثرة الأحاديث الموضوعة في التفسير، ونحن لا ننكر وجود بعض الأحاديث الضعيفة، بل الموضوعة، في هذا الباب ولكنها ضئيلة جدا إذا ما قورنت بالأحاديث الصحيحة والمقبولة.

ومما يدحض هذه الشبهة أن مسند الإمام أحمد نفسه مليء بالأحاديث التي ترتبط بتفسير القرآن وبيانه، فكيف يقال بعد ذلك: إن أحاديث التفسير لم يصح منها شيء؟!

ثالثا. لم يرد الإمام البخاري أن يحصر الصحيح في كتابه، إنما أراد أن يجمع أبواب الإسلام:

روي عن الإمام البخاري أنه قال: "ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحاح لملال الطول"([16]). إن البخاري لم يرد أن يجمع الصحيح كله في كتابه، وإنما أراد أن يجمع أبواب الإسلام، ويضع تحت كل باب من الأحاديث ما يكفيه، على أن تكون هذه الأحاديث صحيحة، فغطى أبواب الإسلام من عقيدة، وشريعة، وآداب، وفضائل، وتفسير، وأشراط الساعة، غطى كل ذلك بأحاديث صحيحه، وكان حريصا على ألا يطول الكتاب، فإنه لم يكن يضعه لجمع الأحاديث الصحيحة، وإنما وضعه لتقريب السنة من الأمة([17]).

قال الإمام النووي في مقدمة صحيح مسلم: "ألزم الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني رحمه الله وغيره البخاري ومسلما إخراج أحاديث تركا إخراجها مع أن أسانيدها قد أخرجا لرواتها في صحيحيهما بها... وصنف الدارقطني وأبو ذر الهروي في هذا النوع الذي ألزموهما، وهذا الإلزام ليس بلازم في الحقيقة، فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح، بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعباه، وإنما قصدا جمع جمل من الصحيحين كما يقصد المصنف في الفقه جمع جملة من مسائله، لا أنه يحصر جميع مسائله"([18]).

فالواضح أن الإمامين البخاري ومسلما تركا إخراج أحاديث كثيرة في صحيحيهما إيثارا لترك الإطالة أو رأيا أن غيرها مما ذكراه يسد مسدها.

ويؤيد هذا ما ذكره إبراهيم بن معقل النسفي عن البخاري إذ قال: سمعت البخاري يقول: "ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح، وتركت من الصحيح حتى لا يطول"([19]).

 فالبخاري لم يلتزم أن يخرج كل ما صح من الحديث، ويشهد لصحة ذلك قوله: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح"([20])، وقال أيضا: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا، وما تركت من الصحيح أكثر"([21]).

وعليه فإن القول بأن البخاري دون أربعة آلاف حديث، من ستمائة ألف خوفا من الوضع والتقول، قول في غاية البطلان.

الخلاصة:

·   أحاديث التفسير هي المبينة للقرآن، وهي محفوظة بحفظ الله للقرآن؛ لأن الله تعهد بحفظ القرآن: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر:9)، وحفظ المبين يقتضي حفظ المبين، وهذا يدحض الزعم القائل بعدم صحة أحاديث التفسير كلها؛ لأنه إذا صح هذا الزعم فلن يصبح لقوله سبحانه وتعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل: ٤٤) معنى ولا فائدة.

·   كتب السنة مليئة بالأحاديث الصحيحة التي تفسر القرآن أو آيات منه، ومن ذلك صحيحا البخاري ومسلم، وهما أصح كتابين بعد كتاب الله، فقد عقد كل منهما كتابا في جامعه بعنوان "التفسير"، وتحته الأحاديث التي تتعلق بتفسير القرآن وبيانه، وكذلك نجد كتب السنة الأخرى مليئة بالأحاديث التي تفسر آيات من القرآن.

·   أما مقولة الإمام أحمد: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي"، فالراجح أنها موضوعة عليه؛ وذلك لكثرة الأحاديث المفسرة للقرآن في مسنده، وإذا صح أنه قالها فهو لا يقصد بها أن كل أحاديث التفسير لا تصح؛ إذ كيف يعقل أن يعتمد عليها في كتابه إذا كان يعتقد عدم صحتها؟!

·   لقد حرص الإمام البخاري على ألا يطول جامعه، فإنه لم يضعه لحصر الأحاديث الصحيحة، وإنما وضعه لتقريب السنة من الأمة، ولقد كان البخاري يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ولكنه لم يدونها جميعا في كتابه، وقد صرح بذلك كثيرا.

 

المراجع

  1. (*) حجية السنة ورد الشبهات التي أثيرت حولها، الجامعة الدولية بأمريكا اللاتينية، د.ت. دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار الاعتصام، القاهرة, 1420هـ/ 1999م. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م.
  2. [1]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص226 بتصرف.
  3. [2]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (1/ 74).
  4. [3]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده, مسند باقي الأنصار, حديث عائشة رضي الله عنها, رقم (24545). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
  5. [4]. التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، الإسنوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1400هـ، ص502.
  6. [5]. جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، مكتبة التوعية، القاهرة، 1428هـ/ 2007م، (2/ 1194).
  7. [6]. منزلة السنة من الكتاب وأثرها في الفروع الفقهية، محمد سعيد منصور، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1413هـ/ 1993م، ص350، 351 بتصرف.
  8. [7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الشهادات، باب: لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها، (5/ 344) معلقا.
  9. [8]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر, ط3، 1426هـ/ 2005م، (13/ 344: 355) بتصرف.
  10. [9]. مناهل العرفان في علوم القرآن، الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، 1417هـ/ 1996م، (2/ 21).
  11. [10]. انظر: في السنة النبوية ومصطلح الحديث, د. حسين سمرة، دار الهاني، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص284: 348. الحديث والمحدثون، د. محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر، القاهرة، ط1، 1958م, ص369: 418.
  12. [11]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده, مسند بني هاشم, مسند عبد الله بن عباس، (3/ 265)، رقم (1873). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
  13. [12]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (2/ 232).
  14. [13]. الرفع والتكميل، أبو الحسنات اللكنوي، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط3، 1407هـ، ص191.
  15. [14]. نتائج الأفكار في تخريج الأذكار، ابن حجر العسقلاني, نقلا عن: الرفع والتكميل، أبو الحسنات اللكنوي، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط3، 1407هـ، ص195.
  16. [15]. حجية السنة ورد الشبهات التي أثيرت حولها، الجامعة الدولية بأمريكا اللاتينية، د.ت، ص153، 154 بتصرف.
  17. [16]. علوم الحديث، ابن الصلاح, المكتبة العلمية، بيروت، 1401هـ/ 1981م، ص15، 16.
  18. [17]. دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار الاعتصام، القاهرة, 1420هـ/ 1999م، ص52.
  19. [18]. شرح صحيح مسلم، النووي, تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م, (1/ 130).
  20. [19]. هدي الساري مقدمة فتح الباري, ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص9.
  21. [20]. هدي الساري مقدمة فتح الباري, ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص512.
  22. [21]. هدي الساري مقدمة فتح الباري, ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، ص9.