نص السؤال

إنكار كتابة السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم

المصدر: شبهات المشككين في الإسلام

الجواب التفصيلي

إنكار كتابة السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم(*)

مضمون الشبهة:

 ينكر بعض المغالطين كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبرون أن كتابتها بدعة نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها في أكثر من موضع، فقد قال صلى الله عليه وسلم:

«لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه»

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:

«كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا، فقال: ما هذا تكتبون؟ فقلنا: ما نسمع منك، فقال: أكتاب مع كتاب الله...».

كما أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن لأبي سعيد الخدري ــ رضي الله عنه - حين استأذنه في كتابة الحديث. وكذلك فقد نقلت الأحاديث مشافهة فقط؛ إذ لم تكن الكتابة منتشرة بين العرب. رامين من وراء ذلك إلى الطعن في كون السنة كتبت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتشكيك في مشروعية كتابتها.

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن الأحاديث المتقدمة من أدلة الزاعمين لا تدل على النهي العام المطلق عن كتابة الحديث، وهي تتعارض مع أحاديث أكثر ثبوتا وأصرح دلالة أباح فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابة السنة، مما يقوي القول بنسخها.

2) لقد ثبتت أحاديث كثيرة أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها كتابة السنة، وأن النهي عن كتابتها في بادئ الأمر كان لعلل، فلما زالت تلك العلل أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابتها.

3) لا ننكر أن السنة كانت تنقل مشافهة غالبا وذلك لاعتماد العرب على الذاكرة أكثر من اعتمادهم على الكتابة، لكن هذا لا يعني أنها كانت لا تكتب في عهده، وأمثلة ما كتب آنذاك كثيرة.

التفصيل:

أولا. الأحاديث التي استدل بها الزاعمون لا تدل على النهي المطلق عن كتابة الحديث:

من الثابت تاريخيا أن كتابة السنة بدأت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صحت الأخبار في إباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتابة عنه، ومن المجازفة إنكار ذلك، وأما الأحاديث التي استدلوا بها على إنكار كتابة السنة في عهده صلى الله عليه وسلم، والتي فيها نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكتابة - فإنها محمولة على خوف اختلاط السنة بالقرآن، أي أن النهي عن الكتابة كان مرحليا فقط، ثم نسخ ذلك بإباحتها.

فقد جاءت أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم منها خطأ أنها تفيد كراهة كتابة الحديث، ولكنها في حقيقتها تثبت كتابة الحديث، ونبين ذلك فيما يلي:

الحديث الأول: هو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد روي من طريقين بألفاظ مختلفة:

الرواية الأولى: عن طريق همام، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

«لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»

[1].

وقد اختلف العلماء في هذا الحديث في وقفه[2] ورفعه[3]؛ قال ابن حجر: "ومنهم من أعل حديث أبي سعيد، وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره"[4]. وقال الخطيب البغدادي: "تفرد همام برواية هذا الحديث عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعا"[5].

وهذا الحديث أصح ما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، وإليك الفهم الصحيح لهذا الحديث:

الحديث يبين أن النهي عن الكتابة كان بخصوص الصحيفة التي كتب عليها القرآن فخشى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يختلط كلامه بالقرآن الكريم؛ فنهاهم عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة.

والقول بنسخ الحديث قول كثير من العلماء وذهب إليه العلامة أحمد شاكر، فبعد أن دعم رأيه بالأخبار التي تبيح الكتابة قال: كل هذا يدل على أن حديث أبي سعيد منسوخ، وأنه كان في أول الأمر حين خاف اشتغالهم عن القرآن، وحين خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن، وحديث أبي شاه في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أخبار أبي هريرة - وهو متأخر الإسلام - أن عبد الله بن عمرو كان يكتب يدل على أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبي هريرة، ولو كان حديث أبي سعيد في النهي متأخرا عن الأحاديث في الإذن والجواز لعرف ذلك عند الصحابة يقينا صريحا، ثم جاء إجماع الأمة القطعي يعد قرينة قاطعة على أن الإذن هو الأمر الأخير، وهو إجماع ثابت بالتواتر العلمي عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول رضي الله عنهم[6].

والرواية الثانية: عن سفيان بن وكيع، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال:

«استأذنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتابة فلم يأذن لنا»

[7].

وهذه الرواية صحيحة أيضا، وفيها دليل على أن الكتابة كانت شائعة, وإنما كان الاستئذان لأجل أمر عارض أرادوا كتابته، فلم يأذن لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كتابته وتسجيله لحكمة يريدها صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ "استأذنا" إشارة للجميع مما يفيد أن الكثرة كانت تكتب.

والحديث الثاني: هو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال:

«كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج علينا، فقال: ما هذا تكتبون؟ فقلنا: ما نسمع منك. فقال: أكتاب مع كتاب الله؟ فقلنا: ما نسمع، فقال: اكتبوا كتاب الله، امحضوا كتاب الله، أكتاب غير كتاب الله؟ امحضوا كتاب الله...»

الحديث[8].

لقد اختلف العلماء في صحة هذه الرواية؛ فمنهم من رأى أن في هذه الرواية ضعفا؛ إذ ضعف العلماء عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقد ضعفه النسائي وأحمد والشافعي، وابن حبان قال عنه: "كان ممن يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك"[9], وقد حكم الذهبي على هذا الحديث فقال: "حديث منكر"[10].

فعلى فرض ضعف الرواية فلا شبهة، ولكن الرواية صححها بعض أهل العلم، وتوجيهها إن صح الإسناد فإن المتن يشير صراحة إلى عدم الكتابة مع القرآن الكريم في صحيفة واحدة، وهذا واضح في قوله صلى الله عليه وسلم:

«... أكتابا مع كتاب الله...»

فقد خشي - صلى الله عليه وسلم - أن يختلط القرآن بالسنة.

وقد حكم الشيخ شعيب الأرنؤوط على هذه الرواية بالصحة كما حققها في مسند أحمد رحمه الله تعالى في مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وعليه، فإن الرواية صحيحة، وقد صح النهي عن الكتابة، وصح الإذن فيها، فيكون الإذن ناسخ والنهي منسوخ، وكان النهي لعلة، فلما زالت العلة أذن في الكتابة، وعلى هذا نقيس كل الأحاديث التي صحت في هذا الباب.

ثانيا. لقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابة السنة والأدلة على ذلك كثيرة:

لقد سبق أن أشرنا إلى الأحاديث التي استدل بها الزاعمون في النهي عن كتابة الحديث، ولكن هذه الأحاديث لا تقوى أمام أحاديث أكثر ثبوتا وأصرح دلالة أباح فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابة الحديث ومنها:

الحديث الأول: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما أنه

«لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة خطب... فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي فلان»

[11]

قال ابن حجر: "هو أبو شاه". وقيل للأوزاعي: ما قوله اكتبوا لي؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم[12]، وهذا أمر صريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكتابة.

الحديث الثاني: روى البخاري بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما اشتد وجعه قال:

«ائتوني بكتاب، أكتب لكم كتابا لاتضلوا بعده...»

[13].

ولو لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيح الكتابة ما دعا إلى كتابة هذا الكتاب، ولهذا يقول ابن حجر: "وفي هذا الحديث دليل على جواز كتابة العلم؛ لأنه هم أن يكتب لأمته كتابا يحصل معه الأمن من الاختلاف، وهو لا يهم إلا بحق"[14].

الحديث الثالث: روى البخاري بسنده عن وهب بن منبه عن أخيه، قال: سمعت أبا هريرة يقول:

«ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب»

[15].

فإذا كان حديث أبي شاه يحتمل أن يكون إذن الكتابة له خاصا؛ لأنه كان أميا وكان أعمى؛ فإن هذا الحديث بطرقه التي ذكرها البخاري وغيره أقوى في الاستدلال للجواز؛ لأن ابن عمرو لم يكن أميا ولم يكن أعمى[16].

الحديث الرابع: روى البخاري بسنده عن أبي جحيفة قال:

«قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا, إلا كتاب الله، وفهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة, قال قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر»

[17].

إن هذه الأحاديث المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرها إن لم تدل على أن حديث أبي سعيد غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها تقضي بتأويله، والجمع بينه وبينها.

ولا نقول كما يقول بعضهم: إن حديث أبي سعيد هو المتأخر، فيكون ناسخا لها؛ لأن حديث أبي شاه كان عام الفتح, وذلك في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم, وحديث أبي هريرة في المقارنة بينه وبين عبد الله بن عمرو متأخر أيضا؛ لأن أبا هريرة متأخر الإسلام, وهو يدل أيضا على أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبي هريرة, وحديث همه - صلى الله عليه وسلم - بكتابة كتاب لن تضل الأمة بعده كان في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - ويبعد جدا أن يكون حديث أبي سعيد الخدري قد تأخر عن هذه الأحاديث كلها خصوصا حديث "الهم", ولو كان حديث أبي سعيد في النهي متأخر عن هذه الأحاديث في الإذن والجواز, لعرف ذلك عند الصحابة يقينا صريحا[18].

وبهذا يتبين أن النهي عن كتابة السنة لم يكن لكونها بدعة كما يدعي أصحاب هذه الشبهة, ولكن لعلل أغمض هؤلاء المدعون أعينهم عنها, على الرغم من أن هذه العلل واردة في نفس الأحاديث التي احتجوا بها.

ومن هذه العلل:

1. المحافظة على كتاب الله عز وجل, وصيانته عن خلطه بالسنة دون تمييز بينهما: ويبدو هذا واضحا في رواية أبي هريرة:

«أكتاب مع كتاب الله... امحضوا كتاب الله أو خلصوه».

ففي رواية أبي هريرة تلك, ما يبين أن السنة في عهد النبوة والصحابة كانت تكتب بجوار القرآن في صحيفة واحدة بلا تمييز يحفظ معه القرآن من اشتباهه بالسنة التي كتبت بجواره.

ومن هنا ندرك صحة علة النهي عن كتابة شيء - في أول الأمر - سوى القرآن الكريم صيانة لهذا الكتاب المعجز ممن كانوا حديثي عهد بالإسلام, ولم يعتادوا على أسلوبه وأكثرهم من الأعراب الذين لم يكونوا فقهوا في الدين.

وفي الوقت نفسه تعليم الصحابة والأئمة من بعدهم المنهج الأمثل في المحافظة على هذا الكتاب الخالد؛ لذاجاء الإذن بكتابة السنة لمن اعتادوا أسلوب القرآن وتمييزه كعبد الله بن عمرو وغيره ممن أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم, مع استمرار النهي عن كتابة السنة مع القرآن في صحيفة واحدة حتى وإن كان مميزا بينهما.

أما سؤال بعضهم: لماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة السنة في صحف على حدتها, ويكتب عليها ما يفيد أنها أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - فتتميز السنة عن القرآن فلا يؤمن اختلاطهما؟

فنقول: أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة سنته المطهرة في صحف على حدتها, وممن أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك: عبد الله بن عمرو, وجابر بن عبد الله, وغيرهما.

وعليه, فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكتابة في أول الأمر, ثم أذن بعد ذلك, وكان النهي جائزا مع الخوف (خوف الاختلاط بالقرآن), والإذن دائر مع الأمن وجودا وعدما.

2. خشية الانشغال عن القرآن الكريم ومضاهاته بغيره من الكتب حتى ولو كانت السنة النبوية: والمراد بالانشغال عن القرآن الكريم: تقديمها في الاهتمام بها قبل الاهتمام أولا بكتاب الله عز وجل, مما يؤدي إلى ترك كتاب الله وإهماله[19], وهذه العلة صرح بها راوي حديث النهي عن الكتابة وهو الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال أبو نضرة: قلنا لأبي سعيد الخدري: لو كتبتم لنا؟ فإنا لا نحفظ, قال: "لا نكتب لكم ولا نجعلها مصاحف, كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا فنحفظ, فاحفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيكم"، وفي رواية قال أبو سعيد: "أتجعلوها مصاحف تقرءونها"[20]؟

وقال الخطيب البغدادي: "فقد ثبت أن كراهة الكتابة من الصدر الأول, إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله - عز وجل - غيره, أو يشغل عن القرآن سواه"[21].

3. الحرج في الكتابة: عند كتابة الصحابة للقرآن الكريم, لم تكن وسائل الكتابة ميسرة عندهم؛ لأن الوسائل المتاحة لهم وقتئذ كانت بدائية وغير ميسرة, منها: رقاق الحجارة, والعظام, وسعف النخيل, وجلود الحيوانات, وكانت الأحاديث النبوية أكثر من أن يحصوها؛ ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه الله العلم والحكمة والنبوة, فكان له في كل حدث قول, وفي كل مسألة جواب, وفي كثير من الوحي تفسير وبيان, فأنى لهم الوسائل الكتابية؟! ومن أين لهم الوقت الكافي لتدوين الحديث النبوي كله تدوينا كاملا؟ وليسوا مضطرين - مع ذلك - أن يعتمدوا على الكتابة, وقد منحهم الله حافظة في صدورهم تعوض لهم ما فاتهم من الكتابة تدوينا وتقييدا, ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشق عليهم, فيأمرهم بتدوين السنة النبوية, بل اكتفى بتدوين القرآن الكريم وكتابته[22].

وعليه, فقد ظهر واضحا جليا أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث في أول الأمر ليس لذاته, بل لعلل نصت عليها الأحاديث ذاتها التي نهت عن كتابة السنة وتدوينها, فلما زالت تلك العلل كان الإذن بالكتابة, تلك العلل التي غفل عنها أعداء السنة على الرغم من وجودها صراحة في نفس الأخبار والآثار التي احتجوا بها لشبهتهم, فإن سلموا بصحة تلك الأحاديث, عليهم التسليم بالعلل الواردة فيها, وإن لم يسلموا بصحة ما استشهدوا به من الأخبار والآثار لم يبقى لشبهتهم أساس[23], وفي كلتا الحالتين يبطل ما زعموه من أن كتابة السنة بدعة نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.

والحق كما سبق أن قررنا أن النهي كان لعلة فلما زالت هذه العلة كان الإذن بالكتابة, فالخوف من التباس القرآن بالحديث, والخوف من الانكباب على الحديث والانشغال به عن القرآن, كان هذا كله سببا للمنع من الكتابة, فلما زالت هذه الأسباب عاد الأمر إلى السماح بكتابة الحديث, وقد استقر أمر الصحابة على كتابة الحديث وتدوينه.

ثالثا. لا ننكر أن السنة كانت تنقل مشافهة، ولكن هذا لا يعني أنها كانت لا تكتب:

سقنا في الوجه السابق الأدلة على كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وسنذكر أمثلة على المكتوبات التي كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، فنحن لا ننكر أن السنة كانت تنقل مشافهة، وذلك لاعتماد العرب في تواريخهم وأخبارهم وتجارتهم وسائر أحوالهم على الحفظ، حتى قويت هذه الملكة عندهم، وندر أن يقع منهم خطأ أو نسيان لشيء مما حفظوه، ولقد ساعد العرب على تقوية ملكة الحفظ عندهم طبيعة جوهم، وبساطة معيشتهم، وحدة ذكائهم، وقوة فهمهم لما يحدث بينهم، وسعة خبرتهم بأساليب وطرق بيانهم، هذه حالة العرب في جاهليتهم فما بالك بالصحابة الذين قيضهم الله تعالى لحفظ الشرع وصيانته، والذين دعا لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحفظ والعلم والفقه كما ورد عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم.

وقريب من الصحابة في هذا المقام من اجتمع بهم وشاهد أحوالهم واتبع خطاهم واقتفى آثارهم من التابعين، كل ذلك يكاد ينفي عن سامع الحديث من أحدهم توهم خطأ أو نسيان أو تبديل أو اختلاق، ولقد كان كثير من الصحابة والتابعين مطبوعين على الحفظ، مخصوصين بذلك؛ كأبي هريرة، وابن عباس، والشعبي، والزهري، والنخعي، وقتادة، وغيرهم.

فكانت الأخبار تنقل مشافهة دون الخوف من ضياعها، أو دخول النسيان، والخلط، والتصحيف فيها، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يحفظون الأحاديث عن ظهر قلب ويبلغونها للناس كما سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا لا يعني أن السنة كانت لا تكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل ثبت كتابتها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتدوينها، ومن أمثلة ما كتب على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يأتي:

1. دستور المدينة: عندما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وضع قانونا ودستورا ينظم شئون المسلمين من ناحية، ويقنن علاقتهم مع غيرهم من سكان يثرب وأهلها من ناحية أخرى.

2. كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات: وكان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات، ثم أرسله الخليفة أبو بكر لأنس بن مالك وغيره، وهو مختوم بخاتم النبي صلى الله عليه وسلم.

3.  كتاب سعد بن عبادة: وكان عند سعد بن عبادة الأنصاري كتاب فيه بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم[24].

4. كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل حضرموت: سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا لوائل بن حجر ليعمل به أهل حضرموت[25] فيه أركان الإسلام وتعاليمه وفريضة الزكاة وحد الزنا والخمر.

5. كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل اليمن: عندما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن حزم على اليمن أعطاه كتابا فيه الفرائض والسنن والديات وغيرها، وقد عرف الكتاب باسم صحيفة عمرو بن حزم[26].

6. الصحيفة الصادقة: كما توجد الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص الذي سمح له النبي بكتابة الحديث، وقد عرف سندها في كتب السنة باسم عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والجد هو صاحب الصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص.

7. صحيفة جابر بن عبد الله: كما توجد صحيفة الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري، وقد ذكرها ابن سعد في ترجمة مجاهد.

إن هذه الصحف ليست وحدها التي اشتملت على ما كتب في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، بل هي أهم ما دون في هذا العصر، ومع هذا فهي تحوي أمورا كثيرة من أركان الإسلام وفروعه[27].

ولقد وردت آثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - تشير إلى أنهم كانوا يكتبون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنذكر بعضها هنا للتدليل على ما نحن بصدده:

1. روي عن بشير بن نهيك قال: "كنت أكتب ما أسمع من أبي هريرة، فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابي فقرأته عليه، وقلت له: هذا ما سمعت منك؟ قال: نعم"[28].

2.  روي عن عمرو بن أبي سفيان أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: "قيدوا العلم بالكتاب"[29].

3. روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقول: "كنت أجلس إلى ابن عباس فأكتب في الصحيفة حتي تمتلئ، ثم أقلب نعلي فأكتب في ظهورهما"[30].

ونستطيع أن نضيف إلى كل ما سبق كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاهداته التي أملاها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنها ما كان في قراب سيف النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: "ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب"[31].

إن هذا كله يؤكد أن كتابة السنة بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستمرت في عصر الخلافة الراشدة، ثم آل أمرها إلى التدوين الرسمي في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهذا أمر لا خلاف فيه ولا نزاع، وبه تسقط هذه الدعاوى حول كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

الخلاصة:

·   إن المتأمل في أسانيد ومتون الأحاديث التي استدل بها هؤلاء المدعون في زعمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كتابة السنة لأنها بدعة, يجد أن أغلب هذه الأسانيد لا تسلم من مقال، فأما ما صح منها فقد حمله المدعون ما لا يتحمل؛ إذ إن الجمهور من العلماء قال بنسخ أحاديث النهي عن الكتابة، ومنها حديث أبي سعيد الخدري: "لا تكتبوا عني شيئا...", وهذا النهي كان معللا بعلل وجودا وعدما كما أن متونها لا تفيد أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث كان نهيا مطلقا عاما.

·   لقد أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض الصحابة أن يكتبوا الأحاديث كعبد الله بن عمرو بن العاص, وكأمره الصحابة بالكتابة لأبي شاه في عام الفتح, وعليه فلم يكن هذا النهي عن كتابة الحديث نهيا مطلقا, بل كان هذا النهي لعلل منها: خشية اختلاط السنة بالقرآن, والانشغال عن القرآن بالسنة, فلما زالت هذه العلل استقر الأمر على إباحة كتابة الحديث وتدوينه، ومن ثم لا تكون كتابته بعد ذلك من البدع المذمومة في الدين.

·   إن كتابة العلم مبدأ إسلامي، جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية، وعمل به السلف، ولا زالت الأمة عليه إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

·   إن لقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبلغ بمجموعها رتبة التواتر في إثبات ووقوع كتابة السنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, بل وتأمر وتحث على ذلك.

·   من الأمثلة التي تدل على كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: دستور المدينة، وكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات، وكتاب سعد بن عبادة، وكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل حضرموت، وكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل اليمن، والصحيفة الصادقة، وصحيفة جابر بن عبد الله، وكذلك كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاهداته التي أملاها على كتابه من الصحابة.

·   إننا لا ننكر أن السنة كانت تنقل مشافهة، لكن هذا لا يعني أنها أيضا كانت تنقل كتابة، وقد دللنا على ذلك بأمثلة كثيرة.

المراجع:


(*) كيف ولماذا التشكيك في السنة، د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م.

[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزهد والرقائق, باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، (9/ 4089)، رقم (7375).

[2]. الحديث الموقوف: هو ما روي عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم متصلا كان إسناده أو منقطعا.

[3]. الحديث المرفوع: ما أضيف إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية.

[4]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (1/ 251).

[5]. تقييد العلم, الخطيب البغدادي, تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م، ص31.

[6]. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد شاكر، دار التراث، القاهرة، ط2، 1370هـ/ 1951م، ص12.

[7]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: العلم، باب: كراهية كتابة العلم، (7/ 356)، رقم (2802). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2665).

[8]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، رقم (11107). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[9]. كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، ابن حبان، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، سوريا، ط2، 1402هـ، (2/ 57).

[10]. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (2/ 565).

[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 248)، رقم (112). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها... (5/ 2110)، رقم (3247).

[12]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (1/ 249).

[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 251)، رقم (114).

[14]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري, ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (1/ 253).

[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 249)، رقم (113).

[16]. توثيق السنة في القرن الثاني الهجري: أسسه واتجاهاته، د. رفعت فوزي عبد المطلب، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1400هـ/ 1981م، ص48.

[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 246)، رقم (111).

[18]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام: مناقشتها والرد عليها, د. عماد السيد الشربيني, دار اليقين, مصر, ط1, 1423هـ/ 2002م, (1/ 285) بتصرف.

[19]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام: مناقشتها والرد عليها, د. عماد السيد الشربيني, دار اليقين, مصر, ط1, 1423هـ/ 2002م, (1/ 288: 291).

[20]. أخرجه الخطيب البغدادي في تقييد العلم, كتاب: الآثار والأخبار الواردة عن كراهة كتابة العلم، باب: ذكر الأحاديث الموقوفة عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في ذلك، ص36.

[21]. تقييد العلم, الخطيب البغدادي, تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م, ص57.

[22]. معالم السنة, عبد الرحمن عتر, نقلا عن: السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء,حمدي عبد الله الصعيدي, مكتبة أولاد الشيخ، القاهرة، ط1، 2007م، ص99: 101 بتصرف.

[23]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام, د. عماد السيد الشربيني, دار اليقين, مصر, 1423هـ/ 2002, ص298، 299 بتصرف.

[24]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص346.

[25]. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني, تحقيق: علي محمد البجاوي, دار نهضة مصر, القاهرة, د. ت، (6/ 596).

[26]. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني, تحقيق: علي محمد البجاوي, دار نهضة مصر, القاهرة, د. ت، (4/ 293).

[27]. السنة المفترى عليها، سالم علي البهنساوي، دار الوفاء، مصر، 1413هـ/ 1992م، ص58: 61 بتصرف.

[28]. أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب: ذكر الرخصة في كتاب العلم، (1/ 313)، رقم (403).

[29]. أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب: ذكر الرخصة في كتاب العلم، (1/ 309)، رقم (396).

[30]. أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة، باب: من رخص في كتابة العلم، (1/ 139)، رقم (501).

[31]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 249)، رقم (113).

الجواب التفصيلي

إنكار كتابة السنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم(*)

مضمون الشبهة:

 ينكر بعض المغالطين كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتبرون أن كتابتها بدعة نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها في أكثر من موضع، فقد قال صلى الله عليه وسلم:

«لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه»

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:

«كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج علينا، فقال: ما هذا تكتبون؟ فقلنا: ما نسمع منك، فقال: أكتاب مع كتاب الله...».

كما أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن لأبي سعيد الخدري ــ رضي الله عنه - حين استأذنه في كتابة الحديث. وكذلك فقد نقلت الأحاديث مشافهة فقط؛ إذ لم تكن الكتابة منتشرة بين العرب. رامين من وراء ذلك إلى الطعن في كون السنة كتبت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والتشكيك في مشروعية كتابتها.

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن الأحاديث المتقدمة من أدلة الزاعمين لا تدل على النهي العام المطلق عن كتابة الحديث، وهي تتعارض مع أحاديث أكثر ثبوتا وأصرح دلالة أباح فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابة السنة، مما يقوي القول بنسخها.

2) لقد ثبتت أحاديث كثيرة أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها كتابة السنة، وأن النهي عن كتابتها في بادئ الأمر كان لعلل، فلما زالت تلك العلل أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابتها.

3) لا ننكر أن السنة كانت تنقل مشافهة غالبا وذلك لاعتماد العرب على الذاكرة أكثر من اعتمادهم على الكتابة، لكن هذا لا يعني أنها كانت لا تكتب في عهده، وأمثلة ما كتب آنذاك كثيرة.

التفصيل:

أولا. الأحاديث التي استدل بها الزاعمون لا تدل على النهي المطلق عن كتابة الحديث:

من الثابت تاريخيا أن كتابة السنة بدأت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صحت الأخبار في إباحة النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتابة عنه، ومن المجازفة إنكار ذلك، وأما الأحاديث التي استدلوا بها على إنكار كتابة السنة في عهده صلى الله عليه وسلم، والتي فيها نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكتابة - فإنها محمولة على خوف اختلاط السنة بالقرآن، أي أن النهي عن الكتابة كان مرحليا فقط، ثم نسخ ذلك بإباحتها.

فقد جاءت أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم منها خطأ أنها تفيد كراهة كتابة الحديث، ولكنها في حقيقتها تثبت كتابة الحديث، ونبين ذلك فيما يلي:

الحديث الأول: هو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقد روي من طريقين بألفاظ مختلفة:

الرواية الأولى: عن طريق همام، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

«لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»

[1].

وقد اختلف العلماء في هذا الحديث في وقفه[2] ورفعه[3]؛ قال ابن حجر: "ومنهم من أعل حديث أبي سعيد، وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره"[4]. وقال الخطيب البغدادي: "تفرد همام برواية هذا الحديث عن زيد بن أسلم هكذا مرفوعا"[5].

وهذا الحديث أصح ما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، وإليك الفهم الصحيح لهذا الحديث:

الحديث يبين أن النهي عن الكتابة كان بخصوص الصحيفة التي كتب عليها القرآن فخشى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يختلط كلامه بالقرآن الكريم؛ فنهاهم عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة.

والقول بنسخ الحديث قول كثير من العلماء وذهب إليه العلامة أحمد شاكر، فبعد أن دعم رأيه بالأخبار التي تبيح الكتابة قال: كل هذا يدل على أن حديث أبي سعيد منسوخ، وأنه كان في أول الأمر حين خاف اشتغالهم عن القرآن، وحين خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن، وحديث أبي شاه في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أخبار أبي هريرة - وهو متأخر الإسلام - أن عبد الله بن عمرو كان يكتب يدل على أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبي هريرة، ولو كان حديث أبي سعيد في النهي متأخرا عن الأحاديث في الإذن والجواز لعرف ذلك عند الصحابة يقينا صريحا، ثم جاء إجماع الأمة القطعي يعد قرينة قاطعة على أن الإذن هو الأمر الأخير، وهو إجماع ثابت بالتواتر العلمي عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول رضي الله عنهم[6].

والرواية الثانية: عن سفيان بن وكيع، عن سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال:

«استأذنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتابة فلم يأذن لنا»

[7].

وهذه الرواية صحيحة أيضا، وفيها دليل على أن الكتابة كانت شائعة, وإنما كان الاستئذان لأجل أمر عارض أرادوا كتابته، فلم يأذن لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كتابته وتسجيله لحكمة يريدها صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ "استأذنا" إشارة للجميع مما يفيد أن الكثرة كانت تكتب.

والحديث الثاني: هو حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال:

«كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج علينا، فقال: ما هذا تكتبون؟ فقلنا: ما نسمع منك. فقال: أكتاب مع كتاب الله؟ فقلنا: ما نسمع، فقال: اكتبوا كتاب الله، امحضوا كتاب الله، أكتاب غير كتاب الله؟ امحضوا كتاب الله...»

الحديث[8].

لقد اختلف العلماء في صحة هذه الرواية؛ فمنهم من رأى أن في هذه الرواية ضعفا؛ إذ ضعف العلماء عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقد ضعفه النسائي وأحمد والشافعي، وابن حبان قال عنه: "كان ممن يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك"[9], وقد حكم الذهبي على هذا الحديث فقال: "حديث منكر"[10].

فعلى فرض ضعف الرواية فلا شبهة، ولكن الرواية صححها بعض أهل العلم، وتوجيهها إن صح الإسناد فإن المتن يشير صراحة إلى عدم الكتابة مع القرآن الكريم في صحيفة واحدة، وهذا واضح في قوله صلى الله عليه وسلم:

«... أكتابا مع كتاب الله...»

فقد خشي - صلى الله عليه وسلم - أن يختلط القرآن بالسنة.

وقد حكم الشيخ شعيب الأرنؤوط على هذه الرواية بالصحة كما حققها في مسند أحمد رحمه الله تعالى في مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وعليه، فإن الرواية صحيحة، وقد صح النهي عن الكتابة، وصح الإذن فيها، فيكون الإذن ناسخ والنهي منسوخ، وكان النهي لعلة، فلما زالت العلة أذن في الكتابة، وعلى هذا نقيس كل الأحاديث التي صحت في هذا الباب.

ثانيا. لقد أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابة السنة والأدلة على ذلك كثيرة:

لقد سبق أن أشرنا إلى الأحاديث التي استدل بها الزاعمون في النهي عن كتابة الحديث، ولكن هذه الأحاديث لا تقوى أمام أحاديث أكثر ثبوتا وأصرح دلالة أباح فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابة الحديث ومنها:

الحديث الأول: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما أنه

«لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة خطب... فجاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لأبي فلان»

[11]

قال ابن حجر: "هو أبو شاه". وقيل للأوزاعي: ما قوله اكتبوا لي؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم[12]، وهذا أمر صريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكتابة.

الحديث الثاني: روى البخاري بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما اشتد وجعه قال:

«ائتوني بكتاب، أكتب لكم كتابا لاتضلوا بعده...»

[13].

ولو لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيح الكتابة ما دعا إلى كتابة هذا الكتاب، ولهذا يقول ابن حجر: "وفي هذا الحديث دليل على جواز كتابة العلم؛ لأنه هم أن يكتب لأمته كتابا يحصل معه الأمن من الاختلاف، وهو لا يهم إلا بحق"[14].

الحديث الثالث: روى البخاري بسنده عن وهب بن منبه عن أخيه، قال: سمعت أبا هريرة يقول:

«ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب»

[15].

فإذا كان حديث أبي شاه يحتمل أن يكون إذن الكتابة له خاصا؛ لأنه كان أميا وكان أعمى؛ فإن هذا الحديث بطرقه التي ذكرها البخاري وغيره أقوى في الاستدلال للجواز؛ لأن ابن عمرو لم يكن أميا ولم يكن أعمى[16].

الحديث الرابع: روى البخاري بسنده عن أبي جحيفة قال:

«قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا, إلا كتاب الله، وفهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة, قال قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر»

[17].

إن هذه الأحاديث المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرها إن لم تدل على أن حديث أبي سعيد غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها تقضي بتأويله، والجمع بينه وبينها.

ولا نقول كما يقول بعضهم: إن حديث أبي سعيد هو المتأخر، فيكون ناسخا لها؛ لأن حديث أبي شاه كان عام الفتح, وذلك في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم, وحديث أبي هريرة في المقارنة بينه وبين عبد الله بن عمرو متأخر أيضا؛ لأن أبا هريرة متأخر الإسلام, وهو يدل أيضا على أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبي هريرة, وحديث همه - صلى الله عليه وسلم - بكتابة كتاب لن تضل الأمة بعده كان في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - ويبعد جدا أن يكون حديث أبي سعيد الخدري قد تأخر عن هذه الأحاديث كلها خصوصا حديث "الهم", ولو كان حديث أبي سعيد في النهي متأخر عن هذه الأحاديث في الإذن والجواز, لعرف ذلك عند الصحابة يقينا صريحا[18].

وبهذا يتبين أن النهي عن كتابة السنة لم يكن لكونها بدعة كما يدعي أصحاب هذه الشبهة, ولكن لعلل أغمض هؤلاء المدعون أعينهم عنها, على الرغم من أن هذه العلل واردة في نفس الأحاديث التي احتجوا بها.

ومن هذه العلل:

1. المحافظة على كتاب الله عز وجل, وصيانته عن خلطه بالسنة دون تمييز بينهما: ويبدو هذا واضحا في رواية أبي هريرة:

«أكتاب مع كتاب الله... امحضوا كتاب الله أو خلصوه».

ففي رواية أبي هريرة تلك, ما يبين أن السنة في عهد النبوة والصحابة كانت تكتب بجوار القرآن في صحيفة واحدة بلا تمييز يحفظ معه القرآن من اشتباهه بالسنة التي كتبت بجواره.

ومن هنا ندرك صحة علة النهي عن كتابة شيء - في أول الأمر - سوى القرآن الكريم صيانة لهذا الكتاب المعجز ممن كانوا حديثي عهد بالإسلام, ولم يعتادوا على أسلوبه وأكثرهم من الأعراب الذين لم يكونوا فقهوا في الدين.

وفي الوقت نفسه تعليم الصحابة والأئمة من بعدهم المنهج الأمثل في المحافظة على هذا الكتاب الخالد؛ لذاجاء الإذن بكتابة السنة لمن اعتادوا أسلوب القرآن وتمييزه كعبد الله بن عمرو وغيره ممن أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم, مع استمرار النهي عن كتابة السنة مع القرآن في صحيفة واحدة حتى وإن كان مميزا بينهما.

أما سؤال بعضهم: لماذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة السنة في صحف على حدتها, ويكتب عليها ما يفيد أنها أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - فتتميز السنة عن القرآن فلا يؤمن اختلاطهما؟

فنقول: أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابة سنته المطهرة في صحف على حدتها, وممن أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك: عبد الله بن عمرو, وجابر بن عبد الله, وغيرهما.

وعليه, فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكتابة في أول الأمر, ثم أذن بعد ذلك, وكان النهي جائزا مع الخوف (خوف الاختلاط بالقرآن), والإذن دائر مع الأمن وجودا وعدما.

2. خشية الانشغال عن القرآن الكريم ومضاهاته بغيره من الكتب حتى ولو كانت السنة النبوية: والمراد بالانشغال عن القرآن الكريم: تقديمها في الاهتمام بها قبل الاهتمام أولا بكتاب الله عز وجل, مما يؤدي إلى ترك كتاب الله وإهماله[19], وهذه العلة صرح بها راوي حديث النهي عن الكتابة وهو الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال أبو نضرة: قلنا لأبي سعيد الخدري: لو كتبتم لنا؟ فإنا لا نحفظ, قال: "لا نكتب لكم ولا نجعلها مصاحف, كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا فنحفظ, فاحفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيكم"، وفي رواية قال أبو سعيد: "أتجعلوها مصاحف تقرءونها"[20]؟

وقال الخطيب البغدادي: "فقد ثبت أن كراهة الكتابة من الصدر الأول, إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله - عز وجل - غيره, أو يشغل عن القرآن سواه"[21].

3. الحرج في الكتابة: عند كتابة الصحابة للقرآن الكريم, لم تكن وسائل الكتابة ميسرة عندهم؛ لأن الوسائل المتاحة لهم وقتئذ كانت بدائية وغير ميسرة, منها: رقاق الحجارة, والعظام, وسعف النخيل, وجلود الحيوانات, وكانت الأحاديث النبوية أكثر من أن يحصوها؛ ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه الله العلم والحكمة والنبوة, فكان له في كل حدث قول, وفي كل مسألة جواب, وفي كثير من الوحي تفسير وبيان, فأنى لهم الوسائل الكتابية؟! ومن أين لهم الوقت الكافي لتدوين الحديث النبوي كله تدوينا كاملا؟ وليسوا مضطرين - مع ذلك - أن يعتمدوا على الكتابة, وقد منحهم الله حافظة في صدورهم تعوض لهم ما فاتهم من الكتابة تدوينا وتقييدا, ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشق عليهم, فيأمرهم بتدوين السنة النبوية, بل اكتفى بتدوين القرآن الكريم وكتابته[22].

وعليه, فقد ظهر واضحا جليا أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث في أول الأمر ليس لذاته, بل لعلل نصت عليها الأحاديث ذاتها التي نهت عن كتابة السنة وتدوينها, فلما زالت تلك العلل كان الإذن بالكتابة, تلك العلل التي غفل عنها أعداء السنة على الرغم من وجودها صراحة في نفس الأخبار والآثار التي احتجوا بها لشبهتهم, فإن سلموا بصحة تلك الأحاديث, عليهم التسليم بالعلل الواردة فيها, وإن لم يسلموا بصحة ما استشهدوا به من الأخبار والآثار لم يبقى لشبهتهم أساس[23], وفي كلتا الحالتين يبطل ما زعموه من أن كتابة السنة بدعة نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.

والحق كما سبق أن قررنا أن النهي كان لعلة فلما زالت هذه العلة كان الإذن بالكتابة, فالخوف من التباس القرآن بالحديث, والخوف من الانكباب على الحديث والانشغال به عن القرآن, كان هذا كله سببا للمنع من الكتابة, فلما زالت هذه الأسباب عاد الأمر إلى السماح بكتابة الحديث, وقد استقر أمر الصحابة على كتابة الحديث وتدوينه.

ثالثا. لا ننكر أن السنة كانت تنقل مشافهة، ولكن هذا لا يعني أنها كانت لا تكتب:

سقنا في الوجه السابق الأدلة على كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وسنذكر أمثلة على المكتوبات التي كانت في عهده صلى الله عليه وسلم، فنحن لا ننكر أن السنة كانت تنقل مشافهة، وذلك لاعتماد العرب في تواريخهم وأخبارهم وتجارتهم وسائر أحوالهم على الحفظ، حتى قويت هذه الملكة عندهم، وندر أن يقع منهم خطأ أو نسيان لشيء مما حفظوه، ولقد ساعد العرب على تقوية ملكة الحفظ عندهم طبيعة جوهم، وبساطة معيشتهم، وحدة ذكائهم، وقوة فهمهم لما يحدث بينهم، وسعة خبرتهم بأساليب وطرق بيانهم، هذه حالة العرب في جاهليتهم فما بالك بالصحابة الذين قيضهم الله تعالى لحفظ الشرع وصيانته، والذين دعا لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحفظ والعلم والفقه كما ورد عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهم.

وقريب من الصحابة في هذا المقام من اجتمع بهم وشاهد أحوالهم واتبع خطاهم واقتفى آثارهم من التابعين، كل ذلك يكاد ينفي عن سامع الحديث من أحدهم توهم خطأ أو نسيان أو تبديل أو اختلاق، ولقد كان كثير من الصحابة والتابعين مطبوعين على الحفظ، مخصوصين بذلك؛ كأبي هريرة، وابن عباس، والشعبي، والزهري، والنخعي، وقتادة، وغيرهم.

فكانت الأخبار تنقل مشافهة دون الخوف من ضياعها، أو دخول النسيان، والخلط، والتصحيف فيها، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يحفظون الأحاديث عن ظهر قلب ويبلغونها للناس كما سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا لا يعني أن السنة كانت لا تكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل ثبت كتابتها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتدوينها، ومن أمثلة ما كتب على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يأتي:

1. دستور المدينة: عندما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وضع قانونا ودستورا ينظم شئون المسلمين من ناحية، ويقنن علاقتهم مع غيرهم من سكان يثرب وأهلها من ناحية أخرى.

2. كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات: وكان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات، ثم أرسله الخليفة أبو بكر لأنس بن مالك وغيره، وهو مختوم بخاتم النبي صلى الله عليه وسلم.

3.  كتاب سعد بن عبادة: وكان عند سعد بن عبادة الأنصاري كتاب فيه بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم[24].

4. كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل حضرموت: سلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا لوائل بن حجر ليعمل به أهل حضرموت[25] فيه أركان الإسلام وتعاليمه وفريضة الزكاة وحد الزنا والخمر.

5. كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل اليمن: عندما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن حزم على اليمن أعطاه كتابا فيه الفرائض والسنن والديات وغيرها، وقد عرف الكتاب باسم صحيفة عمرو بن حزم[26].

6. الصحيفة الصادقة: كما توجد الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص الذي سمح له النبي بكتابة الحديث، وقد عرف سندها في كتب السنة باسم عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والجد هو صاحب الصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص.

7. صحيفة جابر بن عبد الله: كما توجد صحيفة الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري، وقد ذكرها ابن سعد في ترجمة مجاهد.

إن هذه الصحف ليست وحدها التي اشتملت على ما كتب في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، بل هي أهم ما دون في هذا العصر، ومع هذا فهي تحوي أمورا كثيرة من أركان الإسلام وفروعه[27].

ولقد وردت آثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - تشير إلى أنهم كانوا يكتبون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنذكر بعضها هنا للتدليل على ما نحن بصدده:

1. روي عن بشير بن نهيك قال: "كنت أكتب ما أسمع من أبي هريرة، فلما أردت أن أفارقه أتيته بكتابي فقرأته عليه، وقلت له: هذا ما سمعت منك؟ قال: نعم"[28].

2.  روي عن عمرو بن أبي سفيان أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: "قيدوا العلم بالكتاب"[29].

3. روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقول: "كنت أجلس إلى ابن عباس فأكتب في الصحيفة حتي تمتلئ، ثم أقلب نعلي فأكتب في ظهورهما"[30].

ونستطيع أن نضيف إلى كل ما سبق كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاهداته التي أملاها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومنها ما كان في قراب سيف النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: "ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب ولا أكتب"[31].

إن هذا كله يؤكد أن كتابة السنة بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستمرت في عصر الخلافة الراشدة، ثم آل أمرها إلى التدوين الرسمي في عهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهذا أمر لا خلاف فيه ولا نزاع، وبه تسقط هذه الدعاوى حول كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

الخلاصة:

·   إن المتأمل في أسانيد ومتون الأحاديث التي استدل بها هؤلاء المدعون في زعمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كتابة السنة لأنها بدعة, يجد أن أغلب هذه الأسانيد لا تسلم من مقال، فأما ما صح منها فقد حمله المدعون ما لا يتحمل؛ إذ إن الجمهور من العلماء قال بنسخ أحاديث النهي عن الكتابة، ومنها حديث أبي سعيد الخدري: "لا تكتبوا عني شيئا...", وهذا النهي كان معللا بعلل وجودا وعدما كما أن متونها لا تفيد أن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كتابة الحديث كان نهيا مطلقا عاما.

·   لقد أباح النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض الصحابة أن يكتبوا الأحاديث كعبد الله بن عمرو بن العاص, وكأمره الصحابة بالكتابة لأبي شاه في عام الفتح, وعليه فلم يكن هذا النهي عن كتابة الحديث نهيا مطلقا, بل كان هذا النهي لعلل منها: خشية اختلاط السنة بالقرآن, والانشغال عن القرآن بالسنة, فلما زالت هذه العلل استقر الأمر على إباحة كتابة الحديث وتدوينه، ومن ثم لا تكون كتابته بعد ذلك من البدع المذمومة في الدين.

·   إن كتابة العلم مبدأ إسلامي، جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية، وعمل به السلف، ولا زالت الأمة عليه إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

·   إن لقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تبلغ بمجموعها رتبة التواتر في إثبات ووقوع كتابة السنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, بل وتأمر وتحث على ذلك.

·   من الأمثلة التي تدل على كتابة السنة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: دستور المدينة، وكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات، وكتاب سعد بن عبادة، وكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل حضرموت، وكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل اليمن، والصحيفة الصادقة، وصحيفة جابر بن عبد الله، وكذلك كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاهداته التي أملاها على كتابه من الصحابة.

·   إننا لا ننكر أن السنة كانت تنقل مشافهة، لكن هذا لا يعني أنها أيضا كانت تنقل كتابة، وقد دللنا على ذلك بأمثلة كثيرة.

المراجع:


(*) كيف ولماذا التشكيك في السنة، د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م.

[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزهد والرقائق, باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، (9/ 4089)، رقم (7375).

[2]. الحديث الموقوف: هو ما روي عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم متصلا كان إسناده أو منقطعا.

[3]. الحديث المرفوع: ما أضيف إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية.

[4]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (1/ 251).

[5]. تقييد العلم, الخطيب البغدادي, تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م، ص31.

[6]. الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، أحمد شاكر، دار التراث، القاهرة، ط2، 1370هـ/ 1951م، ص12.

[7]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: العلم، باب: كراهية كتابة العلم، (7/ 356)، رقم (2802). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2665).

[8]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، رقم (11107). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[9]. كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، ابن حبان، تحقيق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، سوريا، ط2، 1402هـ، (2/ 57).

[10]. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (2/ 565).

[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 248)، رقم (112). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها... (5/ 2110)، رقم (3247).

[12]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (1/ 249).

[13]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 251)، رقم (114).

[14]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري, ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1986م، (1/ 253).

[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 249)، رقم (113).

[16]. توثيق السنة في القرن الثاني الهجري: أسسه واتجاهاته، د. رفعت فوزي عبد المطلب، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1400هـ/ 1981م، ص48.

[17]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 246)، رقم (111).

[18]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام: مناقشتها والرد عليها, د. عماد السيد الشربيني, دار اليقين, مصر, ط1, 1423هـ/ 2002م, (1/ 285) بتصرف.

[19]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام: مناقشتها والرد عليها, د. عماد السيد الشربيني, دار اليقين, مصر, ط1, 1423هـ/ 2002م, (1/ 288: 291).

[20]. أخرجه الخطيب البغدادي في تقييد العلم, كتاب: الآثار والأخبار الواردة عن كراهة كتابة العلم، باب: ذكر الأحاديث الموقوفة عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ في ذلك، ص36.

[21]. تقييد العلم, الخطيب البغدادي, تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م, ص57.

[22]. معالم السنة, عبد الرحمن عتر, نقلا عن: السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء,حمدي عبد الله الصعيدي, مكتبة أولاد الشيخ، القاهرة، ط1، 2007م، ص99: 101 بتصرف.

[23]. السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام, د. عماد السيد الشربيني, دار اليقين, مصر, 1423هـ/ 2002, ص298، 299 بتصرف.

[24]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص346.

[25]. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني, تحقيق: علي محمد البجاوي, دار نهضة مصر, القاهرة, د. ت، (6/ 596).

[26]. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني, تحقيق: علي محمد البجاوي, دار نهضة مصر, القاهرة, د. ت، (4/ 293).

[27]. السنة المفترى عليها، سالم علي البهنساوي، دار الوفاء، مصر، 1413هـ/ 1992م، ص58: 61 بتصرف.

[28]. أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب: ذكر الرخصة في كتاب العلم، (1/ 313)، رقم (403).

[29]. أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب: ذكر الرخصة في كتاب العلم، (1/ 309)، رقم (396).

[30]. أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة، باب: من رخص في كتابة العلم، (1/ 139)، رقم (501).

[31]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 249)، رقم (113).