نص السؤال

الزعم أن تأخر تدوين السنة أدى إلى ضياعها

المصدر: شبهات المشككين في الإسلام

الجواب التفصيلي

الزعم أن تأخر تدوين السنة أدى إلى ضياعها(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض أعداء السنة أن تأخر تدوينها، أدى إلى ضياعها؛ ذلك أن المسلمين كانوا في حذر من كتابتها فاعتمدوا في نقلها وروايتها على ذاكرتهم, وهي - بلا شك - قد يعتريها النسيان مما يؤدي إلى التبديل أو التحريف, والصحابة يتورعون عن مثل هذا؛ لعلمهم عاقبة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم, فكانوا يغضون الطرف عن كل ما ينسونه من السنة حتى ضاع معظمها، ولم يصل إلى التابعين إلا القليل الذي ضاع أكثره بنسيانهم له. رامين من وراء ذلك إلى الطعن في صحة السنة التي بين أيدينا.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن صيانة السنة تحصل أول ما تحصل بعدالة حاملها, وإذا خلت الكتابة من الحفظ والفهم والعدالة فلا يوثق حينئذ بشيء من المكتوب؛ ألا ترى أن اليهود والنصارى كانوا يكتبون التوراة والإنجيل ومع ذلك وقع التبديل والتغيير فيهما لـما تجردوا من صفة العدالة؟!

2) إن الكتابة لا تفيد القطع بالصحة، كما أنها دون الحفظ قوة, خصوصا من العرب ومن على شاكلتهم, وعلى رأسهم الصحابة والتابعون، وليس في تأخر تدوين السنة إلى رأس المائة الأولى دليل على ضياعها لقرب المدة وقصر السند في ذلك الوقت؛ إذ لم يكن فيه سوى راو واحد أو اثنين كما عند مالك في الموطأ الذي فيه ما بين مالك والصحابي رجل واحد.

التفصيل:

أولا. إن صيانة السنة تحصل بعدالة حاملها لا بمجرد كتابتها:

إن المعول عليه في المحافظة على ما هو حجة وصيانته من التبديل والخطأ والضياع، هو أن يحمله الثقة العدل، يبلغه من يساميه ثقة وعدلا. وهكذا؛ سواء أكان الحمل على سبيل الحفظ للفظ، أم الكتابة له، أم الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام. فأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة والحفظ ما دامت صفة العدالة متحققة، فإذا اجتمعت هذه الثلاثة مع العدالة؛ كان ذلك الغاية والنهاية في المحافظة، وإذا اجتمعت وانتفت العدالة لم يجد اجتماعها نفعا ولم يغن فتيلا، ولم نأمن حينئذ من التبديل والعبث بالحجة.

ومن باب أولى إذا انفردت الكتابة عن الحفظ والفهم وعدالة الكاتب أو الحامل للمكتوب؛ فإننا حينئذ لا نثق بشيء من المكتوب. ألا ترى أن اليهود والنصارى كانوا يكتبون التوراة والإنجيل ومع ذلك وقع التبديل والتغيير فيهما لما تجردوا من صفة العدالة؛ حتى لا يمكننا أن نجزم ولا أن نظن بصحة شيء منهما، قال سبحانه وتعالى:

(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).

البقرة: [79].

الكتابة ليست من لوازم الحفظ:

إذا كان المعول عليه في المحافظة على المحمول عدالة الحامل له - على أي وجه كان حمله - تحققنا أن الكتابة ليست من لوازم الحفظ، وأن صيانة السنة غير متوقفة عليها. وأنها ليست السبيل الوحيد إلى ذلك، والأدلة على ذلك هي:

1. أنا نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل السفراء من الصحابة إلى القبائل ليدعوا الناس إلى الإسلام ويعلموهم أحكامه ويقيموا بينهم شعائره، ولم يرسل مع كل سفير مكتوبا من القرآن يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يبلغها السفير للمرسل إليهم، ويلزمهم بها، ولا يستطيع أحد أن يثبت أنه كان يكتب لكل سفير هذا القدر من القرآن، والغالب فيما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - هو أن يكتب للسفير كتابا يثبت فيه سفارته ويصحح به بعثته. وفي بعض الأحيان كان يكتب له كتابا مشتملا على بعض الأحكام من السنة وليس فيه نص قرآني, إلا أنه لا يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يراد تبليغها.

فتبين لنا من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى في عدالة السفير، وحفظه لما حفظه من القرآن والسنة - اللذين لم يكتبهما - الكفاية في إقامة الحجة على المرسل إليهم وإلزامهم اتباعه.

2. أنا نعلم أن الصلاة - وهي الركن الثاني من أركان الإسلام - لا يمكن للمجتهد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده؛ بل لا بد من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أنه قد أمر بكتابة كيفيتها التي شرحها بفعله وقوله، ولو كانت الكتابة من لوازم الحفظ، وبدونها يقع التحريف أو الضياع - لما جاز أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر الخطير الذي لا يهتدي إليه المجتهدون من التابعين فمن بعدهم بمحض عقولهم أوباجتهادهم في القرآن - بدون أن يأمر بكتابته التي تحول بينه وبين الضياع أو التحريف.

3. أن حفظ السنة وصيانتها من التحريف ضرورة دينية، ومع ذلك لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر إيجاب بكتابة كل ما صدر منه، ولو كان حفظ السنة من الضياع متوقفا على الكتابة لما جاز له - صلى الله عليه وسلم - أن يهمل الأمر بها وإيجابها على الصحابة[1].

ثانيا. الكتابة وحدها لا تفيد القطع بالصحة:

إن كتابة غير العدل لا تفيدنا قطعا ولا ظنا، وكذلك إذا كتب العدل وحمل المكتوب إلينا غير عدل، أما إذا حصلت الكتابة من عدل وحمل المكتوب عدل مثله، فإنها لا تفيد القطع بل الظن؛ لأن احتمال التغيير والخطأ باق، وإن كان ضعيفا لوجود العدالة، وإن بلغ كل من الكاتبين والحاملين عدد التواتر، استفدنا القطع. وكذلك إذا كتب واحد وأقر المكتوب جمع بلغ عدد التواتر وحمله عدد مثله. والقطع على كل حال لم نستفده من محض الكتابة وخصوصيتها، وإنما من التواتر الكتابي في الحالة الأولى، أو اللفظي بإقرارهم في الحالة الثانية.

ومع أن الكتابة تفيد الظن والشارع قد تعبدنا به في الفروع، ولم يكلفنا بتلمس سبيل اليقين في كل حكم من الأحكام لما في ذلك من الحرج والتعذر؛ قال تعالى:

(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)

البقرة: [286].

فإنها - أي: الكتابة - دون الحفظ في هذه الإفادة؛ ولذلك ترى علماء الأصول إذا تعارض حديث مسموع وحديث مكتوب يرجحون المسموع[2].

قال الآمدي: "وأما ما يعود إلى المروي فترجيحات؛ الأول: أن تكون رواية أحد الخبرين عن سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية الأخرى عن كتاب. فرواية السماع أولى؛ لبعدها عن تطرق التصحيف والغلط"[3].

ولذلك نرى علماء الحديث - بعد اتفاقهم على صحة رواية الحديث بالسماع - قد اختلفوا في صحة روايته بطريق المناولة أو المكاتبة؛ فمنهم من أجازها محتجا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لأمير سرية كتابا وقال:

«لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا؛ فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس»

[4]

وأخبرهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في تعاليق البخاري في صحيحه، ومنهم من لم يجزها دافعا ما تقدم بأن الحجة إنما وجبت بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المذكور لعدم توهم التبديل والتغيير فيه؛ لعدالة الصحابي. وعليه فالمكاتبة فيها من الاحتمالات أكثر مما في التحديث شفاها، ولذلك وقع الخلاف فيها دونه.

هذا عن درجة الكتابة من الحفظ بشكل عام، أما إذا أضفنا إلى ذلك أن أصحاب هذا الحفظ هم العرب الأمة الأمية التي لا يكثر فيها من يعرف الكتابة، ومن يعرفها منهم قد لا يتقنها، فيتطرق إلى مكتوبه احتمال الخطأ بشكل كبير، وإذا أتقنها الكاتب فقد لا يتقن قراءتها القارئ منهم؛ فيقع في اللبس والخطأ، خصوصا قبل وضع قواعد النقط والشكل والتمييز بين الحروف المعجمة والمهملة، وهو ما لم يحدث قبل عهد عبد الملك بن مروان، ولذلك كان جل اعتمادهم في تواريخهم وأخبارهم وسائر أحوالهم على الحفظ حتى قويت هذه الملكة عندهم، وندر أن يقع منهم خطأ أو نسيان لشيء مما حفظوه. بخلاف من يعتمد على الكتابة من الأمم المتعلمة المتمرنة عليها، فإن ملكة الحفظ تضعف فيهم، ويكثر عندهم الخطأ والنسيان لما حفظوه، كما أن الواقع المشاهد يؤكد تلك الحقيقة، فإنا نجد الأعمى أقوى حفظا لما يسمعه من المبصر؛ لأنه جعل كل اعتماده على ملكة الحفظ، بخلاف المبصر فإنه يعتمد على الكتاب الذي سينظر فيه عند الحاجة، وكذلك التاجر الأمي قد يعقد كثيرا من الصفقات في اليوم الواحد، ومع ذلك نجده يحفظ جميع ما له عند غيره، وما عليه له دونما خطأ أو نسيان لجنيه واحد، وهذا بخلاف التاجر المتعلم الذي اتخذ الدفاتر في متجره، واعتمد عليها في معرفة الصفقات وما عليه وما له، فإننا نجده سريع النسيان لما لم يكتبه كثير الخطأ فيه. ونظير ذلك حاسة السمع عند الأعمى، فإنها أقوى منها بكثير عند البصير؛ لأن الأول لما فقد بصره استعمل سمعه في إدراك أشياء كثيرة كان يميزها بالبصر لو كان بصيرا، فقوي عنده السمع، وكذلك نجد حواس الحيوانات من شم وسمع وبصر أقوى منها في الإنسان بمراحل؛ لأنها تعتمد على هذه الحواس في حياتها أكثر من اعتماد الإنسان عليها.

ولقد ساعد العرب على تقوية ملكة الحفظ عندهم طبيعة جوهم وبساطة معيشتهم، وحدة ذكائهم، وقوة فهمهم لما يحدث بينهم، وسعة خبرتهم بأساليب لسانهم وطرق بيانهم.

هذه حالة العرب في جاهليتهم، فما بالك بالصحابة - رضي الله عنهم - الذين قيضهم الله لحفظ الشرع وصيانته وحمله وتبليغه لمن بعدهم، وملأ قلوبهم بالإيمان والتقوى والرهبة والخوف من أن يبلغوا من بعدهم شيئا من أحكام الدين على خلاف ما سمعوا ورأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين حصلت لهم بركة صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتلمذوا له وتخرجوا على يديه، واستنارت قلوبهم بنوره وتأدبوا بأدبه واهتدوا بهديه واستنوا بسنته, ودعا لهم بالحفظ والعلم والفقه.

وقريب من الصحابة في هذا المقام من اجتمع بهم، وشاهد أحوالهم، واتبع خطاهم، واقتفى آثارهم من التابعين، كل ذلك يكاد ينفي عن سامع الحديث من أحدهم توهم خطأ، أو نسيان، أو تبديل، أو اختلاق.

والأخبار التي تدل على قوة الحفظ عند العرب كثيرة يعلمها الخاصة والعامة، ولقد كان كثير من الصحابة والتابعين مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك، كابن عباس والشعبي والزهري والنخعي وقتادة، فكان أحدهم يجتزئ بالسمعة، وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه حفظ قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي أولها:

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

غداة غد أم رائح فمهجر

في سمعة واحدة، وهي خمسة وسبعون بيتا، وقد روي عن الزهري أنه كان يقول: إني لأمر بالبقيع فأسد أذناي مخافة أن يدخل فيها شيء من الخنا؛ فوالله ما دخل أذني شيء قط فنسيته، وقد جاء نحوه عن الشعبي.

فالحفظ والكتابة يتناوبان في المحافظة على الشيء، وفي الغالب يضعف أحدهما إذا قوي الآخر، ومن هنا نفهم أحد أسباب حث الصحابة تلاميذهم على الحفظ، ونهيهم إياهم عن الكتابة؛ وذلك لأنهم كانوا يرون أن الاعتماد على الكتابة يضعف فيهم ملكة الحفظ، وهي ملكة قد طبعوا عليها والنفس تميل إلى ما طبعت عليه وتكره ما يخالفه ويضعفه.

وهنا نقول لمن زعموا أن تأخر كتابة السنة أدى إلى تحريفها وضياعها: إن قولكم مردود؛ وذلك أن الحفظ أسلم في الحفاظ على السنة من الكتابة؛ لأنه في الغالب لا يكون إلا مع الفهم وإدراك المعنى والتحقق منه؛ حتى يستعين بذلك على عدم نسيان اللفظ, ثم إنه يحمل المرء على مراجعة ما حفظه واستذكاره آنا بعد آن حتى يأمن من زواله، ثم إن محفوظه يكون معه في أي وقت وأي مكان، فيرجع إليه في جميع الأحوال عند الحاجة إليه، ولا يكلفه ذلك الحمل مؤونة ولامشقة.

والكتابة خلاف ذلك فإنها غالبا ما تكون بدون فهم المعنى عاجلا وآجلا، أو سببا في عدم الفهم في الحال اعتمادا على ما سوف يفهم فيما بعد، وقد تضيع عليه الفرصة في المستقبل لضياع المكتوب، أو عدم وجوده معه عند الحاجة إليه، أو عدم وجود من يفهمه المكتوب ويشرحه له، ثم إن الكاتب لا يجد في الغالب باعثا يدعوه إلى مراجعة ما كتبه، كما أنه يجد مشقة في حمل المكتوب معه في كل مكان وكل وقت[5].

وإن قيل: إن حافظات الناس قد تضعف فينسون ما حفظوا ويضيع بعضه، قلنا: إذا سلمنا جدلا - رغم ما في ذلك من مغالطة ظاهرة وردت الأدلة بخلافها - بأن السنة لم تدون إلا على رأس المائة الثانية على يد الإمام الزهري بأمر من عمر بن عبد العزيز[6]، اتضح لنا أن المتهمين بضياع السنة هم الصحابة والتابعون؛ ذلك أن ابن شهاب الزهري من التابعين (51: 124هـ)، والصحابة هم الذين تصدوا للوضاعين منذ فتنة قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان ــ رضي الله عنه - مخرجين كل دخيل على السنة مكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم - معتمدين في ذلك على حفظهم للسنة في المقام الأول، وسار التابعون على دربهم في ذلك فكانوا أحفظ الناس وأوعاهم لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, قال - سبحانه وتعالى - عنهم:

(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم).

التوبة: [100].

أما قولهم: إن الصحابة كانوا - لخوفهم مغبة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم - يغضون الطرف عن بعض الأحاديث خوفا من أن يغيروا فيها شيئا - فهو قول غريب مردود من جهتين:

الأولى: أن تحرج قليل من الصحابة من رواية أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمرا خاصا بهم وليس قاعدة عامة تشمل كل الصحابة, كما أن هذا التحرج كان ناتجا عن تحريهم الشديد ودقتهم الكبيرة في تحري كل لفظ يسمعونه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن هذا التحرج لأنهم كانوا ينسون أقواله صلى الله عليه وسلم.

الثانية: أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا على علم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

«من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»

[7]

وقال أيضا:

«وحدثوا عني ولا حرج»

[8]

وقال:

«نضر الله امرأ سمع مني حديثا، فحفظه حتى يبلغه، فرب مبلغ أحفظ من سامع»

[9].

وإلى أي شيء استند الزاعمون في أن الصحابة أخذوا بالحديث الأول, ولم يأخذوا بالثاني أو الثالث؟ ثم إن لفظة «متعمدا» تجعل أخذهم بالحديث الأول غير مانع لهم من الرواية؛ لأنه اشترط التعمد، ومن تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من زمرة الصحابة إن لم يخرج من زمرة المسلمين عامة.

وعليه فقد وصلت السنة من الصحابة إلى التابعين نقية كاملة، فعض التابعون عليها بالنواجذ، وهكذا حتى وصلت إلينا كاملة بعدما دونت في أسفار كثيرة.

الخلاصة:

·   إن الكتابة ليست من لوازم الحفظ, كما أنها ليست مانعة من التحريف، فالسنة لم تدون بشكل عام إلا على رأس المائة الثانية، ووصلت إلينا نقية، بعكس التوراة والإنجيل فقد كتبا مبكرا لكنهما لم يسلما من التحريف.

·   ليس في تأخر تدوين السنة دليل على ضياعها؛ لقرب المدة وقصر السند في ذلك الوقت؛ إذ لم يكن فيه سوى راو واحد أو اثنين, كما عند مالك في الموطأ الذي فيه ما بين مالك والصحابي رجل واحد كنافع - مولى ابن عمر - وأحيانا غيره.

·    إن الصحابة كانوا أحفظ خلق الله لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وذلك لسببين:

الأول: قوة حفظهم التي هي من فطرتهم العربية النقية حتى ضربت بهم الأمثال في ذلك.

الثاني: حرصهم على قواعد دينهم، وتبليغ سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

لقد سار التابعون على درب الصحابة في الحفاظ على السنة وبلغوها تابعيهم حتى وصلت إلينا نقية سليمة من التحريف كاملة لا يشوبها نقص.

المراجع:


(*) السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء، حمدي عبد الله عبد العظيم الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، القاهرة، ط1، 2007م. دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار الاعتصام، القاهرة, 1420هـ/ 1999م. السنة المفترى عليها، سالم علي البهنساوي، دار الوفاء، مصر، 1413هـ/ 1992م. تدوين السنة النبوية: نشأته وتطوره، د. محمد بن مطر الزهراني، مكتبة الصديق، السعودية، ط1، 1412هـ. السنة النبوية حجية وتدوينا، محمد صالح الغرسي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1, 1422هـ/ 2002م. المدخل إلى السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد الهادي عبد القادر، دار الاعتصام، القاهرة، 1419هـ/ 1998م. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م.

[1]. الرد على شبهات منكري حجية السنة، د. عبد الغني محمد عبد الخالق، مكتبة السنة، القاهرة، د. ت، ص433، 434 بتصرف.

[2]. الرد على شبهات منكري حجية السنة، د. عبد الغني محمد عبد الخالق، مكتبة السنة، القاهرة، د. ت, ص434، 435 بتصرف.

[3]. الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار الباز، الرياض، ط1، 1421هـ/ 2000م، ص994، 995.

[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان، (1/ 185) معلقا.

[5]. الرد على شبهات منكري حجية السنة، د. عبد الغني محمد عبد الخالق، مكتبة السنة، القاهرة، د. ت، ص436: 439 بتصرف.

[6]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص197.

[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 242)، رقم (107). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليط الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/ 169).

[8]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، (9/ 4089)، رقم (7375).

[9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود، (6/ 96)، رقم (4157). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

الجواب التفصيلي

الزعم أن تأخر تدوين السنة أدى إلى ضياعها(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض أعداء السنة أن تأخر تدوينها، أدى إلى ضياعها؛ ذلك أن المسلمين كانوا في حذر من كتابتها فاعتمدوا في نقلها وروايتها على ذاكرتهم, وهي - بلا شك - قد يعتريها النسيان مما يؤدي إلى التبديل أو التحريف, والصحابة يتورعون عن مثل هذا؛ لعلمهم عاقبة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم, فكانوا يغضون الطرف عن كل ما ينسونه من السنة حتى ضاع معظمها، ولم يصل إلى التابعين إلا القليل الذي ضاع أكثره بنسيانهم له. رامين من وراء ذلك إلى الطعن في صحة السنة التي بين أيدينا.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن صيانة السنة تحصل أول ما تحصل بعدالة حاملها, وإذا خلت الكتابة من الحفظ والفهم والعدالة فلا يوثق حينئذ بشيء من المكتوب؛ ألا ترى أن اليهود والنصارى كانوا يكتبون التوراة والإنجيل ومع ذلك وقع التبديل والتغيير فيهما لـما تجردوا من صفة العدالة؟!

2) إن الكتابة لا تفيد القطع بالصحة، كما أنها دون الحفظ قوة, خصوصا من العرب ومن على شاكلتهم, وعلى رأسهم الصحابة والتابعون، وليس في تأخر تدوين السنة إلى رأس المائة الأولى دليل على ضياعها لقرب المدة وقصر السند في ذلك الوقت؛ إذ لم يكن فيه سوى راو واحد أو اثنين كما عند مالك في الموطأ الذي فيه ما بين مالك والصحابي رجل واحد.

التفصيل:

أولا. إن صيانة السنة تحصل بعدالة حاملها لا بمجرد كتابتها:

إن المعول عليه في المحافظة على ما هو حجة وصيانته من التبديل والخطأ والضياع، هو أن يحمله الثقة العدل، يبلغه من يساميه ثقة وعدلا. وهكذا؛ سواء أكان الحمل على سبيل الحفظ للفظ، أم الكتابة له، أم الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام. فأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة والحفظ ما دامت صفة العدالة متحققة، فإذا اجتمعت هذه الثلاثة مع العدالة؛ كان ذلك الغاية والنهاية في المحافظة، وإذا اجتمعت وانتفت العدالة لم يجد اجتماعها نفعا ولم يغن فتيلا، ولم نأمن حينئذ من التبديل والعبث بالحجة.

ومن باب أولى إذا انفردت الكتابة عن الحفظ والفهم وعدالة الكاتب أو الحامل للمكتوب؛ فإننا حينئذ لا نثق بشيء من المكتوب. ألا ترى أن اليهود والنصارى كانوا يكتبون التوراة والإنجيل ومع ذلك وقع التبديل والتغيير فيهما لما تجردوا من صفة العدالة؛ حتى لا يمكننا أن نجزم ولا أن نظن بصحة شيء منهما، قال سبحانه وتعالى:

(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).

البقرة: [79].

الكتابة ليست من لوازم الحفظ:

إذا كان المعول عليه في المحافظة على المحمول عدالة الحامل له - على أي وجه كان حمله - تحققنا أن الكتابة ليست من لوازم الحفظ، وأن صيانة السنة غير متوقفة عليها. وأنها ليست السبيل الوحيد إلى ذلك، والأدلة على ذلك هي:

1. أنا نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل السفراء من الصحابة إلى القبائل ليدعوا الناس إلى الإسلام ويعلموهم أحكامه ويقيموا بينهم شعائره، ولم يرسل مع كل سفير مكتوبا من القرآن يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يبلغها السفير للمرسل إليهم، ويلزمهم بها، ولا يستطيع أحد أن يثبت أنه كان يكتب لكل سفير هذا القدر من القرآن، والغالب فيما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - هو أن يكتب للسفير كتابا يثبت فيه سفارته ويصحح به بعثته. وفي بعض الأحيان كان يكتب له كتابا مشتملا على بعض الأحكام من السنة وليس فيه نص قرآني, إلا أنه لا يكفي لإقامة الحجة على جميع الأحكام التي يراد تبليغها.

فتبين لنا من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى في عدالة السفير، وحفظه لما حفظه من القرآن والسنة - اللذين لم يكتبهما - الكفاية في إقامة الحجة على المرسل إليهم وإلزامهم اتباعه.

2. أنا نعلم أن الصلاة - وهي الركن الثاني من أركان الإسلام - لا يمكن للمجتهد أن يهتدي إلى كيفيتها من القرآن وحده؛ بل لا بد من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أنه قد أمر بكتابة كيفيتها التي شرحها بفعله وقوله، ولو كانت الكتابة من لوازم الحفظ، وبدونها يقع التحريف أو الضياع - لما جاز أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر الخطير الذي لا يهتدي إليه المجتهدون من التابعين فمن بعدهم بمحض عقولهم أوباجتهادهم في القرآن - بدون أن يأمر بكتابته التي تحول بينه وبين الضياع أو التحريف.

3. أن حفظ السنة وصيانتها من التحريف ضرورة دينية، ومع ذلك لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر إيجاب بكتابة كل ما صدر منه، ولو كان حفظ السنة من الضياع متوقفا على الكتابة لما جاز له - صلى الله عليه وسلم - أن يهمل الأمر بها وإيجابها على الصحابة[1].

ثانيا. الكتابة وحدها لا تفيد القطع بالصحة:

إن كتابة غير العدل لا تفيدنا قطعا ولا ظنا، وكذلك إذا كتب العدل وحمل المكتوب إلينا غير عدل، أما إذا حصلت الكتابة من عدل وحمل المكتوب عدل مثله، فإنها لا تفيد القطع بل الظن؛ لأن احتمال التغيير والخطأ باق، وإن كان ضعيفا لوجود العدالة، وإن بلغ كل من الكاتبين والحاملين عدد التواتر، استفدنا القطع. وكذلك إذا كتب واحد وأقر المكتوب جمع بلغ عدد التواتر وحمله عدد مثله. والقطع على كل حال لم نستفده من محض الكتابة وخصوصيتها، وإنما من التواتر الكتابي في الحالة الأولى، أو اللفظي بإقرارهم في الحالة الثانية.

ومع أن الكتابة تفيد الظن والشارع قد تعبدنا به في الفروع، ولم يكلفنا بتلمس سبيل اليقين في كل حكم من الأحكام لما في ذلك من الحرج والتعذر؛ قال تعالى:

(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)

البقرة: [286].

فإنها - أي: الكتابة - دون الحفظ في هذه الإفادة؛ ولذلك ترى علماء الأصول إذا تعارض حديث مسموع وحديث مكتوب يرجحون المسموع[2].

قال الآمدي: "وأما ما يعود إلى المروي فترجيحات؛ الأول: أن تكون رواية أحد الخبرين عن سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية الأخرى عن كتاب. فرواية السماع أولى؛ لبعدها عن تطرق التصحيف والغلط"[3].

ولذلك نرى علماء الحديث - بعد اتفاقهم على صحة رواية الحديث بالسماع - قد اختلفوا في صحة روايته بطريق المناولة أو المكاتبة؛ فمنهم من أجازها محتجا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لأمير سرية كتابا وقال:

«لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا؛ فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس»

[4]

وأخبرهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في تعاليق البخاري في صحيحه، ومنهم من لم يجزها دافعا ما تقدم بأن الحجة إنما وجبت بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المذكور لعدم توهم التبديل والتغيير فيه؛ لعدالة الصحابي. وعليه فالمكاتبة فيها من الاحتمالات أكثر مما في التحديث شفاها، ولذلك وقع الخلاف فيها دونه.

هذا عن درجة الكتابة من الحفظ بشكل عام، أما إذا أضفنا إلى ذلك أن أصحاب هذا الحفظ هم العرب الأمة الأمية التي لا يكثر فيها من يعرف الكتابة، ومن يعرفها منهم قد لا يتقنها، فيتطرق إلى مكتوبه احتمال الخطأ بشكل كبير، وإذا أتقنها الكاتب فقد لا يتقن قراءتها القارئ منهم؛ فيقع في اللبس والخطأ، خصوصا قبل وضع قواعد النقط والشكل والتمييز بين الحروف المعجمة والمهملة، وهو ما لم يحدث قبل عهد عبد الملك بن مروان، ولذلك كان جل اعتمادهم في تواريخهم وأخبارهم وسائر أحوالهم على الحفظ حتى قويت هذه الملكة عندهم، وندر أن يقع منهم خطأ أو نسيان لشيء مما حفظوه. بخلاف من يعتمد على الكتابة من الأمم المتعلمة المتمرنة عليها، فإن ملكة الحفظ تضعف فيهم، ويكثر عندهم الخطأ والنسيان لما حفظوه، كما أن الواقع المشاهد يؤكد تلك الحقيقة، فإنا نجد الأعمى أقوى حفظا لما يسمعه من المبصر؛ لأنه جعل كل اعتماده على ملكة الحفظ، بخلاف المبصر فإنه يعتمد على الكتاب الذي سينظر فيه عند الحاجة، وكذلك التاجر الأمي قد يعقد كثيرا من الصفقات في اليوم الواحد، ومع ذلك نجده يحفظ جميع ما له عند غيره، وما عليه له دونما خطأ أو نسيان لجنيه واحد، وهذا بخلاف التاجر المتعلم الذي اتخذ الدفاتر في متجره، واعتمد عليها في معرفة الصفقات وما عليه وما له، فإننا نجده سريع النسيان لما لم يكتبه كثير الخطأ فيه. ونظير ذلك حاسة السمع عند الأعمى، فإنها أقوى منها بكثير عند البصير؛ لأن الأول لما فقد بصره استعمل سمعه في إدراك أشياء كثيرة كان يميزها بالبصر لو كان بصيرا، فقوي عنده السمع، وكذلك نجد حواس الحيوانات من شم وسمع وبصر أقوى منها في الإنسان بمراحل؛ لأنها تعتمد على هذه الحواس في حياتها أكثر من اعتماد الإنسان عليها.

ولقد ساعد العرب على تقوية ملكة الحفظ عندهم طبيعة جوهم وبساطة معيشتهم، وحدة ذكائهم، وقوة فهمهم لما يحدث بينهم، وسعة خبرتهم بأساليب لسانهم وطرق بيانهم.

هذه حالة العرب في جاهليتهم، فما بالك بالصحابة - رضي الله عنهم - الذين قيضهم الله لحفظ الشرع وصيانته وحمله وتبليغه لمن بعدهم، وملأ قلوبهم بالإيمان والتقوى والرهبة والخوف من أن يبلغوا من بعدهم شيئا من أحكام الدين على خلاف ما سمعوا ورأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين حصلت لهم بركة صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتلمذوا له وتخرجوا على يديه، واستنارت قلوبهم بنوره وتأدبوا بأدبه واهتدوا بهديه واستنوا بسنته, ودعا لهم بالحفظ والعلم والفقه.

وقريب من الصحابة في هذا المقام من اجتمع بهم، وشاهد أحوالهم، واتبع خطاهم، واقتفى آثارهم من التابعين، كل ذلك يكاد ينفي عن سامع الحديث من أحدهم توهم خطأ، أو نسيان، أو تبديل، أو اختلاق.

والأخبار التي تدل على قوة الحفظ عند العرب كثيرة يعلمها الخاصة والعامة، ولقد كان كثير من الصحابة والتابعين مطبوعين على الحفظ مخصوصين بذلك، كابن عباس والشعبي والزهري والنخعي وقتادة، فكان أحدهم يجتزئ بالسمعة، وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه حفظ قصيدة عمر بن أبي ربيعة التي أولها:

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

غداة غد أم رائح فمهجر

في سمعة واحدة، وهي خمسة وسبعون بيتا، وقد روي عن الزهري أنه كان يقول: إني لأمر بالبقيع فأسد أذناي مخافة أن يدخل فيها شيء من الخنا؛ فوالله ما دخل أذني شيء قط فنسيته، وقد جاء نحوه عن الشعبي.

فالحفظ والكتابة يتناوبان في المحافظة على الشيء، وفي الغالب يضعف أحدهما إذا قوي الآخر، ومن هنا نفهم أحد أسباب حث الصحابة تلاميذهم على الحفظ، ونهيهم إياهم عن الكتابة؛ وذلك لأنهم كانوا يرون أن الاعتماد على الكتابة يضعف فيهم ملكة الحفظ، وهي ملكة قد طبعوا عليها والنفس تميل إلى ما طبعت عليه وتكره ما يخالفه ويضعفه.

وهنا نقول لمن زعموا أن تأخر كتابة السنة أدى إلى تحريفها وضياعها: إن قولكم مردود؛ وذلك أن الحفظ أسلم في الحفاظ على السنة من الكتابة؛ لأنه في الغالب لا يكون إلا مع الفهم وإدراك المعنى والتحقق منه؛ حتى يستعين بذلك على عدم نسيان اللفظ, ثم إنه يحمل المرء على مراجعة ما حفظه واستذكاره آنا بعد آن حتى يأمن من زواله، ثم إن محفوظه يكون معه في أي وقت وأي مكان، فيرجع إليه في جميع الأحوال عند الحاجة إليه، ولا يكلفه ذلك الحمل مؤونة ولامشقة.

والكتابة خلاف ذلك فإنها غالبا ما تكون بدون فهم المعنى عاجلا وآجلا، أو سببا في عدم الفهم في الحال اعتمادا على ما سوف يفهم فيما بعد، وقد تضيع عليه الفرصة في المستقبل لضياع المكتوب، أو عدم وجوده معه عند الحاجة إليه، أو عدم وجود من يفهمه المكتوب ويشرحه له، ثم إن الكاتب لا يجد في الغالب باعثا يدعوه إلى مراجعة ما كتبه، كما أنه يجد مشقة في حمل المكتوب معه في كل مكان وكل وقت[5].

وإن قيل: إن حافظات الناس قد تضعف فينسون ما حفظوا ويضيع بعضه، قلنا: إذا سلمنا جدلا - رغم ما في ذلك من مغالطة ظاهرة وردت الأدلة بخلافها - بأن السنة لم تدون إلا على رأس المائة الثانية على يد الإمام الزهري بأمر من عمر بن عبد العزيز[6]، اتضح لنا أن المتهمين بضياع السنة هم الصحابة والتابعون؛ ذلك أن ابن شهاب الزهري من التابعين (51: 124هـ)، والصحابة هم الذين تصدوا للوضاعين منذ فتنة قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان ــ رضي الله عنه - مخرجين كل دخيل على السنة مكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم - معتمدين في ذلك على حفظهم للسنة في المقام الأول، وسار التابعون على دربهم في ذلك فكانوا أحفظ الناس وأوعاهم لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, قال - سبحانه وتعالى - عنهم:

(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم).

التوبة: [100].

أما قولهم: إن الصحابة كانوا - لخوفهم مغبة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم - يغضون الطرف عن بعض الأحاديث خوفا من أن يغيروا فيها شيئا - فهو قول غريب مردود من جهتين:

الأولى: أن تحرج قليل من الصحابة من رواية أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمرا خاصا بهم وليس قاعدة عامة تشمل كل الصحابة, كما أن هذا التحرج كان ناتجا عن تحريهم الشديد ودقتهم الكبيرة في تحري كل لفظ يسمعونه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن هذا التحرج لأنهم كانوا ينسون أقواله صلى الله عليه وسلم.

الثانية: أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا على علم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

«من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»

[7]

وقال أيضا:

«وحدثوا عني ولا حرج»

[8]

وقال:

«نضر الله امرأ سمع مني حديثا، فحفظه حتى يبلغه، فرب مبلغ أحفظ من سامع»

[9].

وإلى أي شيء استند الزاعمون في أن الصحابة أخذوا بالحديث الأول, ولم يأخذوا بالثاني أو الثالث؟ ثم إن لفظة «متعمدا» تجعل أخذهم بالحديث الأول غير مانع لهم من الرواية؛ لأنه اشترط التعمد، ومن تعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من زمرة الصحابة إن لم يخرج من زمرة المسلمين عامة.

وعليه فقد وصلت السنة من الصحابة إلى التابعين نقية كاملة، فعض التابعون عليها بالنواجذ، وهكذا حتى وصلت إلينا كاملة بعدما دونت في أسفار كثيرة.

الخلاصة:

·   إن الكتابة ليست من لوازم الحفظ, كما أنها ليست مانعة من التحريف، فالسنة لم تدون بشكل عام إلا على رأس المائة الثانية، ووصلت إلينا نقية، بعكس التوراة والإنجيل فقد كتبا مبكرا لكنهما لم يسلما من التحريف.

·   ليس في تأخر تدوين السنة دليل على ضياعها؛ لقرب المدة وقصر السند في ذلك الوقت؛ إذ لم يكن فيه سوى راو واحد أو اثنين, كما عند مالك في الموطأ الذي فيه ما بين مالك والصحابي رجل واحد كنافع - مولى ابن عمر - وأحيانا غيره.

·    إن الصحابة كانوا أحفظ خلق الله لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وذلك لسببين:

الأول: قوة حفظهم التي هي من فطرتهم العربية النقية حتى ضربت بهم الأمثال في ذلك.

الثاني: حرصهم على قواعد دينهم، وتبليغ سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

لقد سار التابعون على درب الصحابة في الحفاظ على السنة وبلغوها تابعيهم حتى وصلت إلينا نقية سليمة من التحريف كاملة لا يشوبها نقص.

المراجع:


(*) السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء، حمدي عبد الله عبد العظيم الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، القاهرة، ط1، 2007م. دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار الاعتصام، القاهرة, 1420هـ/ 1999م. السنة المفترى عليها، سالم علي البهنساوي، دار الوفاء، مصر، 1413هـ/ 1992م. تدوين السنة النبوية: نشأته وتطوره، د. محمد بن مطر الزهراني، مكتبة الصديق، السعودية، ط1، 1412هـ. السنة النبوية حجية وتدوينا، محمد صالح الغرسي، مؤسسة الريان، بيروت، ط1, 1422هـ/ 2002م. المدخل إلى السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد الهادي عبد القادر، دار الاعتصام، القاهرة، 1419هـ/ 1998م. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م.

[1]. الرد على شبهات منكري حجية السنة، د. عبد الغني محمد عبد الخالق، مكتبة السنة، القاهرة، د. ت، ص433، 434 بتصرف.

[2]. الرد على شبهات منكري حجية السنة، د. عبد الغني محمد عبد الخالق، مكتبة السنة، القاهرة، د. ت, ص434، 435 بتصرف.

[3]. الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، تحقيق: عبد المنعم إبراهيم، مكتبة نزار الباز، الرياض، ط1، 1421هـ/ 2000م، ص994، 995.

[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان، (1/ 185) معلقا.

[5]. الرد على شبهات منكري حجية السنة، د. عبد الغني محمد عبد الخالق، مكتبة السنة، القاهرة، د. ت، ص436: 439 بتصرف.

[6]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص197.

[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 242)، رقم (107). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليط الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/ 169).

[8]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، (9/ 4089)، رقم (7375).

[9]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود، (6/ 96)، رقم (4157). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.