نص السؤال

دعوى إهمال المحدثين الأسباب السياسية الدافعة للوضع في الحديث

المصدر: شبهات المشككين في الإسلام

الجواب التفصيلي

دعوى إهمال المحدثين الأسباب السياسية الدافعة للوضع في الحديث(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أن علماء الحديث، قد أهملوا البحث في الأسباب السياسية الداعية إلى الوضع في الحديث، ويستدلون على ذلك بأن أصحاب المذاهب السياسية قد أكثروا الوضع في الحديث، ولم يتنبه المحدثون لذلك الأمر. رامين من وراء ذلك إلى إنكار جهود المحدثين في تنقية الحديث الصحيح من الموضوع.

وجوه إبطال الشبهة:

1) كان من أسباب العناية بالحديث سندا ومتنا، ظهور المذاهب السياسية المختلفة في أواخر القرن الأول الهجري؛ فكيف يدعون أن المحدثين أهملوا النظر في الأسباب السياسية الدافعة للوضع، وهم أول من كشف ذلك وقاومه؟

2) اهتمام المحدثين بنقد روايات الشيعة - وهم إحدى الفرق السياسية - والتنبيه على عدم الأخذ عنهم، ونبذ أقوالهم، كل ذلك يؤكد اهتمام المحدثين بالأسباب السياسية الدافعة للوضع في الحديث.

3) كان لبعض الخوارج - وهم من الفرق السياسية أيضا - دور في وضع الحديث، وهذا ما حدا بالمحدثين إلى التشديد في قبول الرواية عنهم.

التفصيل:

أولا. عناية المحدثين بنقد الأحاديث سندا ومتنا مع بداية ظهور الخلافات السياسية:

إن أئمة الحديث كما عنوا به من ناحية جمعه في الكتب الجامعة لمتونه، عنوا كذلك بالبحث عنه من نواح أخرى تتصل به من جهة سنده ومتنه، مما يتوقف عليه قبوله أو رده، والبحث عن حال الحديث من هذه الجوانب هو الأساس الذي يعرف به صحة الحديث أو عدم صحته؛ إذ يتوقف عليه تمييز الطيب من الخبيث، والصحيح من العليل، وتطهير السنة مما عسى أن يكون دخلها من التزيد والاختلاق، وبذلك تسلم الشريعة من الفساد.

وإذا كانت السنة لم تدون تدوينا عاما إلا آخر القرن الأول وبداية القرن الثاني الهجري، فلا يشكلن عليك أن مباحث الرواة وشروطها، والرواة وصفاتهم، والتعديل والتجريح، لم تكن مدونة آنئذ؛ لأنها كانت منقوشة في الحوافظ والأذهان، وعلى صفحات القلوب، شأنها في ذلك شأن متون الأحاديث، وما كان أئمة الحديث الجامعون بغائبة عنهم هذه القواعد، بل كانوا يعرفونها حق المعرفة، فكان وجودها في الأذهان، وإن لم توجد في الأعيان، وكان من أثر هذه المعرفة ما نقل إلينا من التثبت البالغ والتحوط الشديد في قبول المرويات وتدوينها، وصيانتها عن أن يتطرق إليها الكذب، أو الغلط، أو الخطأ.

وإنك لتلمس هذا جليا في الكتب التي ألفت في القرون الأولى، فقد مزجت فيها المتون بأصول علم النقد والرواية، ومن ذلك ما نجده في ثنايا كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي، وما نقله تلاميذ الإمام أحمد في أسئلتهم له ومحاورتهم معه، وما كتبه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، وما ذكره أبو داود في رسالته إلى أهل مكة في بيان طريقته في كتابه "السنن"، وما ذكره الإمام الترمذي في كتابه "العلل"، الذي هو آخر جامعه من تصحيح وتحسين وتضعيف، وما ذكره الإمام البخاري في تواريخه الثلاثة.

ومن هنا يتبين لنا أن نقد المرويات، وتمييز صحيحها من زائفها قد كان ملازما لجمعها في الكتب والجوامع والمسانيد([1]).

وردا على فرية إهمال المحدثين للأسباب السياسية الدافعة للوضع يقول د. أبو شهبة: ولا أدري كيف يقولون إنهم لم يتعرضوا - أي علماء الحديث - لبحث الأسباب السياسية، وقد جعلوا من قواعدهم: عدم قبول رواية أهل الأهواء والمبتدعة من الطوائف المنتسبة إلى الإسلام، ومنهم من فصل بين الداعية وغيره، فقبلوا رواية غير الداعية وردوا رواية الداعية، وما ذلك إلا لأن احتمال تزيده احتمال قريب، بل انظر إلى دقتهم في التعويل على البواعث في الجرح، ويتمثل ذلك واضحا جليا في تفصيلهم في الراوي الداعية، وهو: أن يروي ما يؤيد بدعته أو يروي ما يخالفها، فردوا رواية الأول، وقبلوا الثاني؛ لأن الباعث على التزيد والاختلاق في الأول قريب محتمل، وفي الثاني بعيد جدا، وكذلك تفصيلهم في الراوي غير الداعية، بين أن يروي ما يؤيد بدعته أو يردها ويخالفها، فردوا رواية الأول دون الثاني.

كما جعلوا من قواعدهم التي تدل على الوضع: أن يكون الحديث في فضائل علي وراويه شيعي، أو في ذمه وراويه ناصبي، أو في ذم أعدائهم وراويه رافضي، إلى غير ذلك، ولو رجع هؤلاء إلى الكتب المؤلفة في الموضوعات مثل كتاب "الموضوعات" لابن الجوزي، و"اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للسيوطي، و"تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة" لابن عراق، لوجدوا أن العلماء انتبهوا غاية الانتباه إلى أحاديث الفضائل في الأشخاص، والأمكنة، والأجناس، والأمم، وبوبوا لذلك الأبواب في كتبهم، وقد استغرق ذكر الفضائل في كتاب "اللآلئ" ما يزيد عن مائة صحيفة، فكيف بعد ما ذكرناه يستجيزون لأنفسهم أن يقولوا: "إن العلماء لو اتجهوا هذا الاتجاه لانكشفت أحاديث كثيرة، وتبين وضعها مثل كثير من أحاديث الفضائل..."؟!

أما إذا كانوا يقصدون أنهم لم يحكموا على كل ما ورد في الفضائل بالوضع، فهذا ما لا نوافقهم عليه وما لا نرتضيه لبحث علمي([2]).

وتأكيدا لما سبق فقد وضع المحدثون أيضا شروطا عامة للرواية المقبولة، بحيث تكفل هذه الشروط الضمانات الكافية لصدق الرواة وسلامتهم من الكذب والخطأ والغفلة في النقل، ومن هذه الشروط:

1.  الإسلام: وهو الانقياد ظاهرا وباطنا لله - سبحانه وتعالى - والامتثال في كل أمر ونهي.

2.  التكليف: وذلك يتحقق بالبلوغ والعقل، فلا تقبل رواية الصبي والمجنون.

3. العدالة: وهي ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وذلك بألا يفعل كبيرة، ولا يصر على صغيرة، ولا يكون مبتدعا.

4.  الضبط: هو الحفظ الصحيح لكل ما يسمع من شيخه أو يكتبه.

وبناء على هذه الشروط فقد ردوا رواية من كثر غلطه وغفلته وساء حفظه، وكذا من تساوى صوابه وغلطه، واعتبروا حديثه منكرا، ومن هنا نجد أن المحدثين احتاطوا غاية الاحتياط في الرواية، ولم يأخذوا إلا عن العدل الفطن اليقظ، ونبذوا أحاديث المغفلين والغالطين وأصحاب الأوهام([3]).

ولذلك قد يكون الرجل موصوفا بصفات الراوي الضبط إلا أنه قد يكون من أهل البدع والأهواء فلا يأخذون عنه الحديث.

روى مسلم في صحيحه عن ابن سيرين أنه قال: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم»([4]).

وابن سيرين يشير بهذا إلى ما كان عليه الأمر في عصر التابعين بعد ظهور الفتن، وتفرق المسلمين إلى مذاهب دينية، وأخرى سياسية، واستباح بعض الدعاة لهذه المذاهب الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترويجا لها وتمكينا، فكان ذلك مدعاة للتشدد في رواية الحديث، والتأكد من صحته وصدقه على نطاق أشمل وأشد حيطة وحذرا مما كان عليه الأمر في عهد الصحابة رضي الله عنهم([5]).

يقول د. عمر الأشقر: ومن يدرس طرائق أهل الأهواء في وضعهم الحديث يجد أنهم سلكوا في ذلك طرقا ثلاثة:

الأول: وضع الأحاديث التي تشيد بالأئمة الذين ينتسبون إليهم، كما فعل الشيعة الذين غلوا في تعظيم أئمتهم، وكما فعل الذين وضعوا الأحاديث في فضل معاوية والدولة الأموية، ونحوهم.

الثاني: الأحاديث التي تذم خصومهم، كتلك التي وضعت كذبا وزورا في سب الصحابة الأبرار، أو ذمت معاوية، وخلفاء الدولة الأموية، ونحوهم.

الثالث: الأحاديث التي وضعت لتأصيل الآراء والأحكام والنظريات التي تضمنها مذاهب واضعيها، أو تذم وتبطل ما عليه خصومهم في معتقداتهم وتوجهاتهم.

ويمكن أن يضاف إلى هذه الطرق الثلاث طريقان آخران، ذكرهما ابن عراق:

أحدهما: وضع أحاديث فيها شناعات تنكر من العقلاء، يعزونها إلى مخالفيهم لتسفيه أقوالهم ومذاهبهم، كالأحاديث التي تشبه الله بخلقه، والتي وضعها عليهم خصومهم لتسفيه معتقدهم.

الآخر: جعل الحكم القياسي حديثا لفظيا منسوبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ([6]).

بهذا يتبين بجلاء اهتمام المحدثين بدراسة كافة الجوانب عند نقد الحديث بما في ذلك الجانب السياسي.

ثانيا. أثر الشيعة في وضع الحديث، ونقد علماء الحديث لمروياتهم:

أجمع العلماء على أن للشيعة أثرا بارزا في الكذب ووضع الحديث، ولم يخالف في ذلك أحد، بل إن نفرا من الشيعة أنفسهم يقرون بأن بعض من انتسب إليهم كان يفتري ويتقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته، ويذكر ابن أبي الحديد أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلقة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة خصومهم، فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها في مقابلة هذه الأحاديث([7]).

وتميز الروافض من بين الشيعة بكثرة الوضع وغزارته، وشهرتهم بالكذب معروفة عند الأئمة من قديم.

وينقل ابن تيمية اتفاق أهل العلم - بالنقل والرواية والإسناد - على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب([8])، كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الرافضة في الأصل ليسوا أهل علم وخبرة بطريق النظر والمناظرة، ومعرفة الأدلة، وما يدخل فيها من المنع والمعارضة، كما أنهم من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والآثار والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وإنما عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب بل بالإلحاد.

ونقل ابن تيمية قول الإمام مالك عندما سئل عن الرافضة، فقال: لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون، وكذلك قول الشافعي: لم أر أحدا أشهد بالزور من الرافضة([9]).

واشتهرت طائفة الخطابية بين الروافض بالإمعان في الكذب وشهادة الزور، فيروي الخطيب البغدادي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الروافض؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم"([10]).

وقال الخطيب أيضا: "قال أبو أيوب: سئل إبراهيم عن الخطابية، فقال: صنف من الرافضة"([11]).

وهؤلاء الرافضة كانوا إذا استحسنوا أمرا جعلوه حديثا، فقد روى الخطيب في الجامع بإسناده عن حماد بن سلمة قال: "حدثني شيخ لهم - يعني الرافضة - تاب، قال: كنا إذا اجتمعنا واستحسنا شيئا جعلناه حديثا"([12]).

ومع ما لعلي وآل البيت - رضي الله عنهم - في قلوب المؤمنين من رفيع المنزلة وعظيم المكانة بما ثبت لهم من فضل في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، فإن الروافض لم يتورعوا أن يحملوا على علي وآل البيت ماهم في غنى عنه([13]).

بيد أننا نتساءل لماذا كانت الشيعة وفرقهم أكثر وضعا عن غيرهم من الفرق الأخرى؟ وهنا يتجلى دور العلماء في بيان العوامل السياسية وإبراز دورها في عملية الوضع في الحديث.

ويجيب د. عمر فلاته عن هذا التساؤل بقوله: "لو أمعنا النظر لرأينا أن ثمة مؤثرات حدت بكثير من منتسبي الشيعة إلى الوضع في الحديث، وهذه المؤثرات يمكن تقسيمها إلى قسمين: مؤثرات خارجية، ومؤثرات داخلية.

فالمؤثرات الخارجية تتمثل فيما يأتي:

1. انخراط الكثير من أعداء الإسلام في صفوف كثير من الشيعة، وانتحلوا مذهبهم وتظاهروا بحب آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يهدفون بذلك إلى نشر آرائهم الباطلة، وبث نظرياتهم المعادية للإسلام، فاتخذوا التشيع ستارا يعملون من خلفه لتحقيق أهدافهم والوصول إلى مآربهم، وقد استغلوا مكانة آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفوس المسلمين، وبعدهم عن السلطة بعد تنازل الحسن عن الحكم، فأشعلوا نار الفتنة وأذكوها حتى اشتد أوارها باسم آل البيت ليبلغوا ما أرادوا، فلم يكتفوا بتفريق كلمة المسلمين؛ حيث غدوا يشتم بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ويضرب بعضهم رقاب بعض، حين بثوا تعاليمهم المخالفة للإسلام، فسووا بين الأئمة وبين الأنبياء، بل جعل بعضهم الأئمة آلهة عبدوها من دون الله، وطعنوا في الذات العلية، وجعلوها مكانا للجهل والتناقض.

2. انتحال بعض الكذابين والفسقة مذهب التشيع والقيام بالدعوة لبعض أئمة آل البيت والأخذ بترتهم([14])، وإنما غرضهم من ذلك الوصول إلى السلطة والحياة في ظل الإمرة.

وقد سوغوا لأنفسهم الكذب ووضع الحديث والحض عليه، بل تجاوزوا الأمر في ذلك حتى ادعوا الإمامة، بل النبوة، ويكفي في ذلك مثالا قيام المختار الثقفي الكذاب الذي طلب من بعض الصحابة وأبنائهم أن يقووه بأحاديث يضعونها على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليبلغ بها الوصول إلى الإمارة والسلطة"([15]).

وعلى الرغم من كل هذا فإننا لا نتصور قط أن يوافق الحسن والحسين، أو محمد بن الحنفية، أو جعفر الصادق أو زيد بن علي، وغيرهم من أهل البيت على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جدهم، وهم على جانب عظيم من الورع والتقى والصفاء، وإن أهل البيت لأرفع بكثير من أن يكذبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا وجب أن نبين أن أهل البيت براء من هذا كله، وإنما حمل إثم الوضع باسمهم من لف حولهم من شيعتهم، وكثر الوضع وأساءوا إلى إمامهم علي - رضي الله عنه - أكثر مما أحسنوا إليه بذلك([16]).

أما المؤثرات الداخلية فتتضح في بعض آراء انفرد بها الشيعة:

ومحور هذه الآراء يتعلق بالإمامة وغيرها ومن ذلك:

1. جعلوا شرط الإمامة الأفضلية، وقالوا بفضل علي - رضي الله عنه - على الإطلاق بعد رسول الله، وقد ذكر الشوكاني في كتابه "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" جملة من هذه الأحاديث، ومنها: "من لم يقل علي خير الناس فقد كفر"، "والنظر إلى علي عبادة"، "وحب علي يأكل السيئات كما تأكل النار الحطب"، و" من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، ونوح في فهمه، وإبراهيم في حكمه، ويحيى في زهده، وموسى في بطشه؛ فلينظر إلى علي"، و" من مات وفي قلبه بغض لعلي بن أبي طالب فليمت يهوديا أو نصرانيا"، و " من أحبني فليحب عليا، ومن أبغض عليا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أبغض الله أدخله الله النار"([17]).

2. اقتضى إثباتهم الوصية له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقول عليه، بأن وضعوا أحاديث تنص على أنه وارثه، وأنه وصيه من بعده، ومنها: "وصيي، وموضع سري، وخليفتي في أهلي، وخير من أخلف بعدي علي"، و "إن لكل نبي وصيا ووارثا، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب".

3. دعوى الشيعة أن الأئمة محيطون بالأحكام المتعلقة بأفعال العباد، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقنهم إياها، سواء فيما وقع أو فيما سيقع، وأن معرفة هذه الأحكام استأثر الأئمة بها، فلا يعلمها غيرهم إلا من طريقهم، كل هذا سوغ لبعض من انتسب إليهم أن يضع في ذلك أحاديث ينسبها إليهم، ويسلسل إسناده بأئمتهم.

 فقد اشتهر لدى أئمة الحديث نسخ موضوعة ألصقت بآل البيت من ذلك:

o       نسخة أحمد بن عامر بن سليمان الطائي عن آل البيت.

o       نسخة محمد بن سهل بن عامر البجلي عن موسى الرضا عن آبائه.

o       نسخة أحمد بن علي بن صدقة عن علي بن موسى الرضا عن آبائه.

وغير ذلك من النسخ التي حكم عليها الجهابذة بالوضع والكذب.

4. سوغ قول الشيعة بالبداء الوضع والكذب على الله - عز وجل - وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كشف أمره وبدت عورته وأسقط في يده، زعم أنه بدا لله غير ما أخبر([18]).

ويذكر د. مصطفى السباعي جنايتهم وتقولهم على الصحابة فيقول عنهم: "وكما وضعوا الأحاديث في فضل علي وآل البيت - رضي الله عنهم - وضعوا الأحاديث في ذم الصحابة وخاصة الشيخين وكبار الصحابة، حتى قال ابن أبي الحديد: فأما الأمور المستبشعة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة، وأنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج، وأن عمر - رضي الله عنه - ضغطها بين الباب والجدار، فصاحت: يا أبتاه. وجعل في عنق علي حبلا يقاد به، وفاطمة خلفه تصرخ، وابناه الحسن والحسين يبكيان، ثم أخذ ابن أبي الحديد في ذكر الكثير من المثالب، ثم قال: "فكل ذلك لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه، وإنما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله"، وكذلك وضعوا الأحاديث في ذم معاوية رضي الله عنه: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه». وفي ذم معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما: «اللهم أركسهما في الفتنة ودعهما في النار دعا».

وهكذا أسرفت الرافضة في وضع الأحاديث بما يتفق مع أهوائها، وبلغت من الكثرة حدا مزعجا، حتى قال الخليلي في الإرشاد: "وضعت الرافضة في فضائل علي وأهل بيته نحو ثلاثمائة ألف حديث"، ومع ما في قوله من المبالغة؛ فإنه دليل على كثرة ما وضعوا من الأحاديث.

ويكاد المسلم يقف مذهولا من هذه الجرأة البالغة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لولا أن يعلم أن هؤلاء الرافضة أكثرهم من الفرس الذين تستروا بالتشيع لينقضوا عرى الإسلام، أو ممن أسلموا ولم يستطيعوا أن يتخلوا عن كل آثار ديانتهم القديمة، فانتقلوا إلى الإسلام بعقلية وثنية، لا يهمها أن تكذب على صاحب الرسالة، لتؤيد حبا ثاويا في أعماق أفئدتها، وهكذا يصنع الجهال والأطفال حين يحبون وحين يكرهون"([19]).

وبناء على ما سبق يتضح لنا أن الشيعة هم أول من بدءوا الوضع في الحديث، وأن أول باب طرقه الوضاعون في الحديث هو فضائل الأشخاص، كما أن ذلك يوضح لنا أن المحدثين والعلماء تنبهوا لهذه العصبية، وفطنوا لهذه المسالك فنخلوا الأحاديث على أسسها ولم يهملوا هذه الجوانب.

وقد ضارع الشيعة الجهلة من أهل السنة، فقابلوا - مع الأسف - الكذب بكذب مثله، وإن كان أقل منه دائرة وأضيق نطاقا، ومن ذلك: «ما في الجنة شجرة إلا مكتوب على ورقة منها لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين».

كذلك قابلهم المتعصبون لمعاوية - رضي الله عنه - والأمويين فوضعوا أحاديث مثل قولهم: «الأمناء ثلاثة، أنا وجبريل، ومعاوية»، «أنت مني يا معاوية وأنا منك»، «لا أفتقد في الجنة إلا معاوية فيأتي آنفا بعد وقت طويل، فأقول: من أين يا معاوية؟ فيقول: من عند ربي يناجيني وأناجيه، فيقول: هذا بما نيل من عرضك في الدنيا».

وكذلك فعل المؤيدون للعباسيين فوضعوا إزاء حديث وصاية علي - رضي الله عنه - المكذوب وصاية العباس - رضي الله عنه - «العباس وصيي ووارثي».

وتأسيسا على ما سبق، فإن الوضع في الأحاديث ومناقب الرجال شهد نشاطا ملحوظا على أيدي غلاة الشيعة وخصومهم، وانسحب ذلك على الحكومات والآراء في تلك الفترة، مما عمق هوة الخلاف بين هذه الأحزاب؛ فعاشت الأمة الإسلامية ما بين التناحر السياسي، والتشيع الدافع إلى الوضع في الحديث، فقيض الله لهم علماء بينوا زيف هذا كله، فردوا كل الأحاديث التي جاءت بها هذه الفرق، وجعلوا من شروط قبول الحديث ألا يوافق مذهب صاحبه، فإن وافقه ردوه، واحتاطوا لأنفسهم من الأخذ والرواية عن أصحاب هذه المذاهب، ونبهوا غيرهم على عدم الأخذ عنهم.

أبعد هذا يتهم المحدثون بإهمالهم الأسباب السياسية للوضع في الحديث؟ وإذا كان هذا حالهم كما يدعون، فكيف عرفنا الأحاديث الموضوعة من الصحيحة إن لم يكونوا هم أول من نبهوا على ذلك واهتموا به؟!

ثالثا. أثر الخوارج في وضع الحديث، ودور العلماء في كشف ذلك وتمحيصه:

اختلفت نظرة الباحثين إلى دور الخوارج في وضع الحديث إلى فريقين:

الفريق الأول: يرى أن الخوارج كغيرهم من الفرق الإسلامية؛ كان لبعض الجاهلين والمتعصبين منهم دور في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتصارا أو تعصبا للآراء التي ينتحلونها، وقد استدلوا فيما ذهبوا إليه بأدلة هي:

1. قال الرامهرمزي: "حدثني الحسين بن عبد الله الجشمي من ولد مالك بن جشم، حدثنا عبيد بن هشام حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم قال: قال لي رجل من الخوارج: إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم إنا كنا إذا هوينا أمرا جعلناه في حديث"([20]).

وكذلك ما رواه الخطيب بسنده إلى أبي نعيم الحلبي قال: "حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، عن ابن لهيعة، قال سمعت شيخا من الخوارج وهو يقول: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا"([21]).

وهكذا أشارت الروايتان إلى أن الخوارج كانوا يضعون الحديث فيما يؤيد آراءهم.

2. قال الرامهرمزي: "حدثنا الحضرمي حدثنا ابن نمير، حدثنا ابن إدريس عن الأعمش قال: جالست إياس بن معاوية فحدثني بحديث؛ قلت: من يذكر هذا؟ فضرب لي مثل رجل من الحرورية، فقلت: إلي تضرب هذا المثل؟ تريد أن أكنس الطريق بثوبي فلا أدع بعرة ولا خنفساء إلا حملتها"([22]).

ويعلق د. عمر فلاته على ذلك بقوله: فقد دل كلام الأعمش على أن الخوارج يجانبون الصدق في مروياتهم، ولذا مثل رواياتهم بالبعر والخنفساء تحقيرا واستهانة، ولو لم يظهر له من كذبهم ما شبه حديثهم بما شبه.

الفريق الثاني: يرى أن الخوارج لم يكن لهم دور في وضع الحديث، ولم يقم دليل يثبت به أنهم وضعوا حديثا، ويستدلون على ذلك بما يأتي:

1. روى الخطيب البغدادي في الكفاية وأخرجه عن أبي داود سليمان بن الأشعث قال: "ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثا من الخوارج"([23]).

2. كذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على الشيعة قال: ونحن نعلم أن الخوارج شر منكم، ومع هذا لا نقدر أن نرميهم بالكذب، لأننا جربناهم فوجدناهم يتحرون الصدق لهم وعليهم، وكذلك قوله: ومن تأمل كتب الجرح والتعديل رأى المعروف عند مصنفيها بالكذب الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف، والخوارج مع مروقهم من الدين فهم من أصدق الناس حتى قيل: إن حديثهم من أصح الحديث، لكنهم جهلوا وضلوا في بدعتهم، ولم تكن بدعتهم عن زندقة وإلحاد، بل عن جهل وضلال في معرفة معاني الكتاب([24]).

وبعد أن عرض صاحب كتاب الوضع في الحديث لضعف الآثار السابقة، وصل إلى حكم مفاده أن الخوارج لم يكن لهم أثر في وضع الحديث ويسوق الأدلة على ذلك ومنها:

·   أن النظر في الكتب المؤلفة لجمع الأحاديث الموضوعة والتي تناولت كل الجزئيات التي تطرق إليها الوضع بما في ذلك أحاديث الفرق والمذاهب التي وضعت تأييدا أو انتصارا لتلك المذاهب، فإنا لا نرى لآراء الخوارج التي بنوا عليها مذهبهم ذكرا في تلك المؤلفات، مما يدل على أن الخوارج لم يسلكوا هذا السبيل انتصارا لمذهبهم، أو للدعوة إلى آرائهم، وإذا ثبتت براءتهم فيما انفردوا به مع إعوازهم إلى الانتصار والتأييد، فإن تبرئتهم فيما شاركوا منه غيرهم أولى وألزم.

·   أن كثيرا من طوائف الخوارج يقتصرون في الاحتجاج على ظواهر القرآن، ولا يحتجون بالسنة؛ ولذا فقد خالفوا المشهور من السنة، بل المتواتر في بعض ما ذهبوا إليه؛ كقولهم بإسقاط الرجم عن الزاني؛ إذ ليس في القرآن ذكره، وإسقاط حد القذف عمن قذف المحصن من الرجال، مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء؛ لأن القرآن نص عليهن دون الرجال، وكقولهم: إن الصلوات ركعتان بالعشي وركعتان بالغداة لا غير لقوله سبحانه وتعالى:

(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل)

(هود: ١١٤)

وحيث إنهم لا يقولون بحجية السنة، فمن الطبيعي أنهم لا يلجأون إلى الوضع في الحديث لعدم حاجتهم إليه.

·       أن من أصول الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر، والكذب عندهم من الكبائر؛ ولذا فهم يكفرون الكاذب.

·   اتصافهم بالشدة والغلظة والغلو الشديد لما يعتقدون مما لا يحتاجون فيه إلى ما قالوا برهانا، مع عدم قولهم بالتقية، واعتمادهم على السيف والقوة في إدخال الناس إلى بدعهم حيث لم يعرف الجدل والمناقشة إليهم سبيلا.

·   كونهم أعرابا أقحاحا؛ إذ لم يكن للموالي والعجم أثر أو تأثير عليهم في بدعتهم، مع اتصافهم بالبداوة والحياة المجانفة للمدنية، والحضارة التي من شأنها المداهنة والملق هي الدافع إلى الكذب وتبريره.

·   شهادة جماعة من أئمة الحديث، وعلماء الأمة بصدق الخوارج، وترفعهم عن الكذب وصحة حديثهم مع مخالفتهم له ومن هؤلاء: أبو داود، وابن تيمية وغيرهما([25]).

وممن ذهب إلى تبرئة الخوارج من الوضع في الحديث د. مصطفى السباعي، حيث يقول بعد عرضه للروايات القائله بالوضع: "لقد حاولت أن أعثر على دليل علمي يؤيد نسبة الوضع إلى الخوارج، ولكني رأيت الأدلة العلمية على العكس، تنفي عنهم هذه التهمة؛ فقد كان الخوارج كما ذكرنا يكفرون مرتكب الكبيرة أو مرتكب الذنوب مطلقا، والكذب كبيرة، فكيف إذا كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

 يقول المبرد: "والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب ومن ذوي المعصية الظاهرة"، وكانوا في جمهرتهم عربا أقحاحا؛ فلم يكن وسطهم بالوسط الذي يقبل الدسائس من الزنادقة والشعوبيين كما وقع ذلك للرافضة، وكانوا في العبادة على حظ عظيم، شجعانا صرحاء، لا يجاملون، ولا يلجأون إلى التقية كما يفعل الشيعة. وقوم هذه صفاتهم يبعد جدا أن يقع منهم الكذب. ولو كانوا يستحلون الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاستحلوا الكذب على من دونه من الخلفاء والأمراء والطغاة كزياد والحجاج، وكل ما بين أيدينا من النصوص التاريخية يدل دلالة قاطعة على أنهم واجهوا الحكام والخلفاء بمنتهى الصراحة والصدق، فلماذا يكذبون بعد ذلك؟ على أني أعود

ـ والحديث للدكتور مصطفى السباعي - فأقول: إن المهم عندنا أن نلمس دليلا محسوسا يدل على أنهم ممن وضعوا الحديث، وهذا ما لم أعثر عليه حتى الآن"([26]).

ويقول د. عجاج الخطيب بعد معالجته للآثار التي تثبت الوضع للخوارج وتفنيدها وإبطالها: وهكذا يثبت أن الخوارج لم ينغمسوا في حمأة الوضع، لما عرف عنهم من الورع والتقوى. بيد أن هذا الأمر - عدم وضع الخوارج للحديث - لم يكن مطلقا أو ممنوعا نهائيا، ولكن لكل قاعدة استثناءات، ولكل فرقة شذوذ، ومن الخوارج أيضا فقد ذهبت طائفة مارقة منهم إلى الوضع في الحديث، ولكنه كان قليلا يؤيد ذلك صاحب كتاب "الحديث والمحدثون" بعد عرضه للخوارج، والتعريف بهم وبأهم صفاتهم، وعوامل قلتهم للوضع فيقول: فكل هذه العوامل كان لها أثر في تقليل الكذب في الحديث من الخوارج بالنسبة إلى غيرهم من الفرق الأخرى. ومع ذلك لم يعدموا أفرادا منهم اصطنعوا الأكاذيب واختلقوا الأحاديث([27]).

وبناء على ما سبق يتضح لنا أن الخوارج يتحرون الصدق في الحديث ولا يكذبون فيه، ولم يقعوا في حمأة الكذب، ولم يعرف عنهم التجرؤ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو التقول عليه سوى فئة ضالة منهم - وهم قليل - عبثت بالحديث بيد أن الله قيض للسنة من يكشف زيف أقوالهم وسوء فعالهم، كما أبطل كيد غيرهم من الفرق المنتسبة للإسلام وغير المنتسبة إليه.

فإذا كان العلماء والمحدثون قد قاموا بهذا الجهد العظيم في نقد المرويات وتمييز صحيحها من سقيمها وقعدوا لذلك القواعد التي لم تصل إلى مثلها أمة من الأمم قبلهم ولا بعدهم ومنها عوامل الوضع وأسبابه، آخذين في الحسبان التعصب المذهبي والانتماءات السياسية ودورها في وضع الحديث، فكيف يقال بعد ذلك: إن علماء الحديث أهملوا الدوافع السياسية الدافعة للوضع؟!

الخلاصة:

·   لقد بقي الحديث النبوي الشريف نقيا لا يعتريه الكذب، ولا يدخله التحريف طوال مدة اجتماع كلمة الأمة الإسلامية على خلفائها الراشدين، ولكن بعد أن وقعت الفتن واختلف الناس، وغدوا فرقا وأشياعا، واندس في جسد الأمة الإسلامية أصحاب المصالح والأهواء، وأصبح كل فريق يسعى لمطلبه، وتحول الخلاف على شخصية الخليفة إلى خلاف سياسي اصطبغ بالصبغة الدينية، ومن هنا فقد قامت كل فرقة على نظريات تخصها، ووضعت في الحديث ما يؤيد وجهة نظرها، فنشأ الوضع في الحديث، وكان أول الوضع من قبل الشيعة في مناقب الرجال لتقوية من يرونه أهلا للإمامة وأحق بها.

·   قام المحدثون بجهود عظيمة في كشف الأحاديث الموضوعة ووضع قواعد لنقد المرويات مع تقنين أسباب الوضع وبيان سمات الوضاعين، وكان من أبرز أسلحتهم في ذلك: قواعد الجرح والتعديل، وأسس الحكم على الرجال والأسانيد، واستعملوا ذلك ليخلصوا السنة الصحيحة من المكذوبة والموضوعة، ووضعوا لذلك شروطا لا بد أن تتوفر في الراوي، وكان من عمدة هذه الشروط ألا يكون من أصحاب البدع والأهواء والمذاهب السياسية التي استباحت الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يدعي أصحاب الأهواء بعد ذلك أن العلماء أهملوا الأسباب السياسية الدافعة للوضع، وهم الذين كشفوا حقيقة هذه الأسباب ونظروا لها القواعد، وكان على رأسها ظهور الفرق والمذاهب الكلامية الفلسفية، ونبهوا على ضرورة البعد عن أصحاب هذه المذاهب والآراء، وعدم الأخذ عنهم.

·   وبعد كل هذا الجهد العظيم الذي قام به المحدثون في تنقيح الأحاديث وتمييز صحيحها من سقيمها، فاعتنوا بنقدها سندا ومتنا عناية فائقة، وحذروا من الرواية عن أصحاب هذه البدع والأهواء، هل يتهمون بإهمال الأسباب السياسية الداعية للوضع؟!

·   لقد كشف علماء الأمة الأفذاذ أثر الشيعة البارز في وضع الحديث، كما بينوا دور الروافض الذين تميزوا بكثرة الوضع، وكان للوضع من قبل الشيعة مؤثرات دفعتهم إلى كثرته، ومن ذلك أسباب خارجية منها: دخول الكثير من أعداء الإسلام في صفوف الشيعة، وانتحلوا مذهبهم وتظاهروا بحب آل البيت، وهم يرمون من وراء ذلك إلى نشر آرائهم الباطلة، كما أنهم انتحلوا مذهب التشيع للوصول إلى السلطة والجاه، فوضعوا الكثير من الأحاديث التي تؤيد وجهتهم وأحقيتهم.

أما المؤثرات الداخلية الداعية للوضع: فقد كان على رأسها شرط الإمامة عندهم أو أفضلية علي بن أبي طالب على غيره من الصحابة وأحقيته بالإمامة دونهم، وكذلك الوصية لعلي ــ رضي الله عنه - مما جعلهم يلصقون بسيدنا علي - رضي الله عنه - أوصافا لا تليق به أو بمكانته في الإسلام، هذا فضلا عن قولهم بالبداء، والذي سوغ لبعضهم الوضع والكذب على الله عز وجل.

·   لقد تطاول الشيعة - بدعوى حبهم لآل البيت - على الصحابة - رضي الله عنهم - ووضعوا في ذلك مرويات باطلة وأحاديث مكذوبة، فحدا ذلك بفريق من الوضاعين من الأحزاب الأخرى، إلى أن يضعوا في مقابلها أحاديث ترفع من شأن من أنقصهم الشيعة، فوضعوا أحاديث في فضل الأمويين والعباسيين وغيرهم.

·   اختلف الباحثون حول الخوارج، وهل لهم دور في وضع الحديث أم لا؟ وانقسموا حيال هذا الأمر إلى فريقين: الأول يرى أنهم وضعوا الحديث، والفريق الآخر يرى براءة ساحتهم من هذا الوضع، والرأي الراجح في هذه المسألة هو قلة وضع الخوارج مقارنة بغيرهم من الفرق الضالة الأخرى، وذلك لأنهم لا يكذبون ويتحرون الصدق مما جعلهم لا يتقولون على النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم مروقهم من الدين.

 

المراجع

  1. (*) دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م.
  2. [1]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص28، 29 بتصرف.
  3. [2]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص286، 287.
  4. [3]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص30: 32 بتصرف.
  5. [4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: بيان أن الإسناد من الدين... (1/ 173).
  6. [5]. حماية السنة من الأكاذيب والأباطيل، د. صالح الفقي، دار النور، القاهرة، 1995م، ص82 بتصرف.
  7. [6]. تنزيه الشريعة المرفوعة، ابن عراق الكناني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1401هـ/ 1981م، (1/ 11). وانظر: الوضع في الحديث النبوي، د. عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م، ص75، 76.
  8. [7]. انظر: شرح نهج البلاغة, ابن أبي الحديد, (1/ 48، 49).
  9. [8]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (1/ 90).
  10. [9]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (1/ 90، 91) بتصرف.
  11. [10]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، مكتبة ابن عباس، القاهرة، 2002م، (1/ 367).
  12. [11]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، مكتبة ابن عباس، القاهرة، 2002م، (1/ 381).
  13. [12]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (1/ 210).
  14. [13]. الوضع في الحديث وجهود العلماء في مواجهته، أبو عبد الله محمد بن رسلان، مكتبة البلاغ، مصر، ط2، 2005م، ص28، 29.
  15. [14]. التره: الثأر.
  16. [15]. الوضع في الحديث، د. عمر حسن فلاته، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، د. ت، (1/ 247، 248).
  17. [16]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص196 بتصرف.
  18. [17]. انظر: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، الشوكاني، تحقيق: المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، د. ت، ص342: 383.
  19. [18]. الوضع في الحديث، د. عمر حسن فلاته، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، د. ت، (1/ 247: 249) بتصرف.
  20. [19]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص83، 84.
  21. [20]. المحدث الفاصل، الرامهرمزي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص424.
  22. [21]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، مكتبة ابن عباس، القاهرة، 2002م، (1/ 376).
  23. [22]. المحدث الفاضل، الرامهرمزي, تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص209.
  24. [23]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي, مكتبة ابن عباس، القاهرة، 2002م، (1/ 389).
  25. [24]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص96، 97 بتصرف.
  26. [25]. الوضع في الحديث، د. عمر حسن فلاته، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، د. ت، (1/ 236، 237) بتصرف.
  27. [26]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص85، 86.
  28. [27]. الحديث والمحدثون، د. محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر، القاهرة، ط1، 1958م، ص87.

الجواب التفصيلي

دعوى إهمال المحدثين الأسباب السياسية الدافعة للوضع في الحديث(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغرضين أن علماء الحديث، قد أهملوا البحث في الأسباب السياسية الداعية إلى الوضع في الحديث، ويستدلون على ذلك بأن أصحاب المذاهب السياسية قد أكثروا الوضع في الحديث، ولم يتنبه المحدثون لذلك الأمر. رامين من وراء ذلك إلى إنكار جهود المحدثين في تنقية الحديث الصحيح من الموضوع.

وجوه إبطال الشبهة:

1) كان من أسباب العناية بالحديث سندا ومتنا، ظهور المذاهب السياسية المختلفة في أواخر القرن الأول الهجري؛ فكيف يدعون أن المحدثين أهملوا النظر في الأسباب السياسية الدافعة للوضع، وهم أول من كشف ذلك وقاومه؟

2) اهتمام المحدثين بنقد روايات الشيعة - وهم إحدى الفرق السياسية - والتنبيه على عدم الأخذ عنهم، ونبذ أقوالهم، كل ذلك يؤكد اهتمام المحدثين بالأسباب السياسية الدافعة للوضع في الحديث.

3) كان لبعض الخوارج - وهم من الفرق السياسية أيضا - دور في وضع الحديث، وهذا ما حدا بالمحدثين إلى التشديد في قبول الرواية عنهم.

التفصيل:

أولا. عناية المحدثين بنقد الأحاديث سندا ومتنا مع بداية ظهور الخلافات السياسية:

إن أئمة الحديث كما عنوا به من ناحية جمعه في الكتب الجامعة لمتونه، عنوا كذلك بالبحث عنه من نواح أخرى تتصل به من جهة سنده ومتنه، مما يتوقف عليه قبوله أو رده، والبحث عن حال الحديث من هذه الجوانب هو الأساس الذي يعرف به صحة الحديث أو عدم صحته؛ إذ يتوقف عليه تمييز الطيب من الخبيث، والصحيح من العليل، وتطهير السنة مما عسى أن يكون دخلها من التزيد والاختلاق، وبذلك تسلم الشريعة من الفساد.

وإذا كانت السنة لم تدون تدوينا عاما إلا آخر القرن الأول وبداية القرن الثاني الهجري، فلا يشكلن عليك أن مباحث الرواة وشروطها، والرواة وصفاتهم، والتعديل والتجريح، لم تكن مدونة آنئذ؛ لأنها كانت منقوشة في الحوافظ والأذهان، وعلى صفحات القلوب، شأنها في ذلك شأن متون الأحاديث، وما كان أئمة الحديث الجامعون بغائبة عنهم هذه القواعد، بل كانوا يعرفونها حق المعرفة، فكان وجودها في الأذهان، وإن لم توجد في الأعيان، وكان من أثر هذه المعرفة ما نقل إلينا من التثبت البالغ والتحوط الشديد في قبول المرويات وتدوينها، وصيانتها عن أن يتطرق إليها الكذب، أو الغلط، أو الخطأ.

وإنك لتلمس هذا جليا في الكتب التي ألفت في القرون الأولى، فقد مزجت فيها المتون بأصول علم النقد والرواية، ومن ذلك ما نجده في ثنايا كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي، وما نقله تلاميذ الإمام أحمد في أسئلتهم له ومحاورتهم معه، وما كتبه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، وما ذكره أبو داود في رسالته إلى أهل مكة في بيان طريقته في كتابه "السنن"، وما ذكره الإمام الترمذي في كتابه "العلل"، الذي هو آخر جامعه من تصحيح وتحسين وتضعيف، وما ذكره الإمام البخاري في تواريخه الثلاثة.

ومن هنا يتبين لنا أن نقد المرويات، وتمييز صحيحها من زائفها قد كان ملازما لجمعها في الكتب والجوامع والمسانيد([1]).

وردا على فرية إهمال المحدثين للأسباب السياسية الدافعة للوضع يقول د. أبو شهبة: ولا أدري كيف يقولون إنهم لم يتعرضوا - أي علماء الحديث - لبحث الأسباب السياسية، وقد جعلوا من قواعدهم: عدم قبول رواية أهل الأهواء والمبتدعة من الطوائف المنتسبة إلى الإسلام، ومنهم من فصل بين الداعية وغيره، فقبلوا رواية غير الداعية وردوا رواية الداعية، وما ذلك إلا لأن احتمال تزيده احتمال قريب، بل انظر إلى دقتهم في التعويل على البواعث في الجرح، ويتمثل ذلك واضحا جليا في تفصيلهم في الراوي الداعية، وهو: أن يروي ما يؤيد بدعته أو يروي ما يخالفها، فردوا رواية الأول، وقبلوا الثاني؛ لأن الباعث على التزيد والاختلاق في الأول قريب محتمل، وفي الثاني بعيد جدا، وكذلك تفصيلهم في الراوي غير الداعية، بين أن يروي ما يؤيد بدعته أو يردها ويخالفها، فردوا رواية الأول دون الثاني.

كما جعلوا من قواعدهم التي تدل على الوضع: أن يكون الحديث في فضائل علي وراويه شيعي، أو في ذمه وراويه ناصبي، أو في ذم أعدائهم وراويه رافضي، إلى غير ذلك، ولو رجع هؤلاء إلى الكتب المؤلفة في الموضوعات مثل كتاب "الموضوعات" لابن الجوزي، و"اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للسيوطي، و"تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الموضوعة" لابن عراق، لوجدوا أن العلماء انتبهوا غاية الانتباه إلى أحاديث الفضائل في الأشخاص، والأمكنة، والأجناس، والأمم، وبوبوا لذلك الأبواب في كتبهم، وقد استغرق ذكر الفضائل في كتاب "اللآلئ" ما يزيد عن مائة صحيفة، فكيف بعد ما ذكرناه يستجيزون لأنفسهم أن يقولوا: "إن العلماء لو اتجهوا هذا الاتجاه لانكشفت أحاديث كثيرة، وتبين وضعها مثل كثير من أحاديث الفضائل..."؟!

أما إذا كانوا يقصدون أنهم لم يحكموا على كل ما ورد في الفضائل بالوضع، فهذا ما لا نوافقهم عليه وما لا نرتضيه لبحث علمي([2]).

وتأكيدا لما سبق فقد وضع المحدثون أيضا شروطا عامة للرواية المقبولة، بحيث تكفل هذه الشروط الضمانات الكافية لصدق الرواة وسلامتهم من الكذب والخطأ والغفلة في النقل، ومن هذه الشروط:

1.  الإسلام: وهو الانقياد ظاهرا وباطنا لله - سبحانه وتعالى - والامتثال في كل أمر ونهي.

2.  التكليف: وذلك يتحقق بالبلوغ والعقل، فلا تقبل رواية الصبي والمجنون.

3. العدالة: وهي ملكة تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وذلك بألا يفعل كبيرة، ولا يصر على صغيرة، ولا يكون مبتدعا.

4.  الضبط: هو الحفظ الصحيح لكل ما يسمع من شيخه أو يكتبه.

وبناء على هذه الشروط فقد ردوا رواية من كثر غلطه وغفلته وساء حفظه، وكذا من تساوى صوابه وغلطه، واعتبروا حديثه منكرا، ومن هنا نجد أن المحدثين احتاطوا غاية الاحتياط في الرواية، ولم يأخذوا إلا عن العدل الفطن اليقظ، ونبذوا أحاديث المغفلين والغالطين وأصحاب الأوهام([3]).

ولذلك قد يكون الرجل موصوفا بصفات الراوي الضبط إلا أنه قد يكون من أهل البدع والأهواء فلا يأخذون عنه الحديث.

روى مسلم في صحيحه عن ابن سيرين أنه قال: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم»([4]).

وابن سيرين يشير بهذا إلى ما كان عليه الأمر في عصر التابعين بعد ظهور الفتن، وتفرق المسلمين إلى مذاهب دينية، وأخرى سياسية، واستباح بعض الدعاة لهذه المذاهب الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترويجا لها وتمكينا، فكان ذلك مدعاة للتشدد في رواية الحديث، والتأكد من صحته وصدقه على نطاق أشمل وأشد حيطة وحذرا مما كان عليه الأمر في عهد الصحابة رضي الله عنهم([5]).

يقول د. عمر الأشقر: ومن يدرس طرائق أهل الأهواء في وضعهم الحديث يجد أنهم سلكوا في ذلك طرقا ثلاثة:

الأول: وضع الأحاديث التي تشيد بالأئمة الذين ينتسبون إليهم، كما فعل الشيعة الذين غلوا في تعظيم أئمتهم، وكما فعل الذين وضعوا الأحاديث في فضل معاوية والدولة الأموية، ونحوهم.

الثاني: الأحاديث التي تذم خصومهم، كتلك التي وضعت كذبا وزورا في سب الصحابة الأبرار، أو ذمت معاوية، وخلفاء الدولة الأموية، ونحوهم.

الثالث: الأحاديث التي وضعت لتأصيل الآراء والأحكام والنظريات التي تضمنها مذاهب واضعيها، أو تذم وتبطل ما عليه خصومهم في معتقداتهم وتوجهاتهم.

ويمكن أن يضاف إلى هذه الطرق الثلاث طريقان آخران، ذكرهما ابن عراق:

أحدهما: وضع أحاديث فيها شناعات تنكر من العقلاء، يعزونها إلى مخالفيهم لتسفيه أقوالهم ومذاهبهم، كالأحاديث التي تشبه الله بخلقه، والتي وضعها عليهم خصومهم لتسفيه معتقدهم.

الآخر: جعل الحكم القياسي حديثا لفظيا منسوبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ([6]).

بهذا يتبين بجلاء اهتمام المحدثين بدراسة كافة الجوانب عند نقد الحديث بما في ذلك الجانب السياسي.

ثانيا. أثر الشيعة في وضع الحديث، ونقد علماء الحديث لمروياتهم:

أجمع العلماء على أن للشيعة أثرا بارزا في الكذب ووضع الحديث، ولم يخالف في ذلك أحد، بل إن نفرا من الشيعة أنفسهم يقرون بأن بعض من انتسب إليهم كان يفتري ويتقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته، ويذكر ابن أبي الحديد أن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلقة في صاحبهم، حملهم على وضعها عداوة خصومهم، فلما رأت البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها في مقابلة هذه الأحاديث([7]).

وتميز الروافض من بين الشيعة بكثرة الوضع وغزارته، وشهرتهم بالكذب معروفة عند الأئمة من قديم.

وينقل ابن تيمية اتفاق أهل العلم - بالنقل والرواية والإسناد - على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب([8])، كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الرافضة في الأصل ليسوا أهل علم وخبرة بطريق النظر والمناظرة، ومعرفة الأدلة، وما يدخل فيها من المنع والمعارضة، كما أنهم من أجهل الناس بمعرفة المنقولات والآثار والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وإنما عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب بل بالإلحاد.

ونقل ابن تيمية قول الإمام مالك عندما سئل عن الرافضة، فقال: لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون، وكذلك قول الشافعي: لم أر أحدا أشهد بالزور من الرافضة([9]).

واشتهرت طائفة الخطابية بين الروافض بالإمعان في الكذب وشهادة الزور، فيروي الخطيب البغدادي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الروافض؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم"([10]).

وقال الخطيب أيضا: "قال أبو أيوب: سئل إبراهيم عن الخطابية، فقال: صنف من الرافضة"([11]).

وهؤلاء الرافضة كانوا إذا استحسنوا أمرا جعلوه حديثا، فقد روى الخطيب في الجامع بإسناده عن حماد بن سلمة قال: "حدثني شيخ لهم - يعني الرافضة - تاب، قال: كنا إذا اجتمعنا واستحسنا شيئا جعلناه حديثا"([12]).

ومع ما لعلي وآل البيت - رضي الله عنهم - في قلوب المؤمنين من رفيع المنزلة وعظيم المكانة بما ثبت لهم من فضل في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، فإن الروافض لم يتورعوا أن يحملوا على علي وآل البيت ماهم في غنى عنه([13]).

بيد أننا نتساءل لماذا كانت الشيعة وفرقهم أكثر وضعا عن غيرهم من الفرق الأخرى؟ وهنا يتجلى دور العلماء في بيان العوامل السياسية وإبراز دورها في عملية الوضع في الحديث.

ويجيب د. عمر فلاته عن هذا التساؤل بقوله: "لو أمعنا النظر لرأينا أن ثمة مؤثرات حدت بكثير من منتسبي الشيعة إلى الوضع في الحديث، وهذه المؤثرات يمكن تقسيمها إلى قسمين: مؤثرات خارجية، ومؤثرات داخلية.

فالمؤثرات الخارجية تتمثل فيما يأتي:

1. انخراط الكثير من أعداء الإسلام في صفوف كثير من الشيعة، وانتحلوا مذهبهم وتظاهروا بحب آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يهدفون بذلك إلى نشر آرائهم الباطلة، وبث نظرياتهم المعادية للإسلام، فاتخذوا التشيع ستارا يعملون من خلفه لتحقيق أهدافهم والوصول إلى مآربهم، وقد استغلوا مكانة آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفوس المسلمين، وبعدهم عن السلطة بعد تنازل الحسن عن الحكم، فأشعلوا نار الفتنة وأذكوها حتى اشتد أوارها باسم آل البيت ليبلغوا ما أرادوا، فلم يكتفوا بتفريق كلمة المسلمين؛ حيث غدوا يشتم بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، ويضرب بعضهم رقاب بعض، حين بثوا تعاليمهم المخالفة للإسلام، فسووا بين الأئمة وبين الأنبياء، بل جعل بعضهم الأئمة آلهة عبدوها من دون الله، وطعنوا في الذات العلية، وجعلوها مكانا للجهل والتناقض.

2. انتحال بعض الكذابين والفسقة مذهب التشيع والقيام بالدعوة لبعض أئمة آل البيت والأخذ بترتهم([14])، وإنما غرضهم من ذلك الوصول إلى السلطة والحياة في ظل الإمرة.

وقد سوغوا لأنفسهم الكذب ووضع الحديث والحض عليه، بل تجاوزوا الأمر في ذلك حتى ادعوا الإمامة، بل النبوة، ويكفي في ذلك مثالا قيام المختار الثقفي الكذاب الذي طلب من بعض الصحابة وأبنائهم أن يقووه بأحاديث يضعونها على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليبلغ بها الوصول إلى الإمارة والسلطة"([15]).

وعلى الرغم من كل هذا فإننا لا نتصور قط أن يوافق الحسن والحسين، أو محمد بن الحنفية، أو جعفر الصادق أو زيد بن علي، وغيرهم من أهل البيت على الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جدهم، وهم على جانب عظيم من الورع والتقى والصفاء، وإن أهل البيت لأرفع بكثير من أن يكذبوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا وجب أن نبين أن أهل البيت براء من هذا كله، وإنما حمل إثم الوضع باسمهم من لف حولهم من شيعتهم، وكثر الوضع وأساءوا إلى إمامهم علي - رضي الله عنه - أكثر مما أحسنوا إليه بذلك([16]).

أما المؤثرات الداخلية فتتضح في بعض آراء انفرد بها الشيعة:

ومحور هذه الآراء يتعلق بالإمامة وغيرها ومن ذلك:

1. جعلوا شرط الإمامة الأفضلية، وقالوا بفضل علي - رضي الله عنه - على الإطلاق بعد رسول الله، وقد ذكر الشوكاني في كتابه "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" جملة من هذه الأحاديث، ومنها: "من لم يقل علي خير الناس فقد كفر"، "والنظر إلى علي عبادة"، "وحب علي يأكل السيئات كما تأكل النار الحطب"، و" من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، ونوح في فهمه، وإبراهيم في حكمه، ويحيى في زهده، وموسى في بطشه؛ فلينظر إلى علي"، و" من مات وفي قلبه بغض لعلي بن أبي طالب فليمت يهوديا أو نصرانيا"، و " من أحبني فليحب عليا، ومن أبغض عليا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أبغض الله أدخله الله النار"([17]).

2. اقتضى إثباتهم الوصية له من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التقول عليه، بأن وضعوا أحاديث تنص على أنه وارثه، وأنه وصيه من بعده، ومنها: "وصيي، وموضع سري، وخليفتي في أهلي، وخير من أخلف بعدي علي"، و "إن لكل نبي وصيا ووارثا، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب".

3. دعوى الشيعة أن الأئمة محيطون بالأحكام المتعلقة بأفعال العباد، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقنهم إياها، سواء فيما وقع أو فيما سيقع، وأن معرفة هذه الأحكام استأثر الأئمة بها، فلا يعلمها غيرهم إلا من طريقهم، كل هذا سوغ لبعض من انتسب إليهم أن يضع في ذلك أحاديث ينسبها إليهم، ويسلسل إسناده بأئمتهم.

 فقد اشتهر لدى أئمة الحديث نسخ موضوعة ألصقت بآل البيت من ذلك:

o       نسخة أحمد بن عامر بن سليمان الطائي عن آل البيت.

o       نسخة محمد بن سهل بن عامر البجلي عن موسى الرضا عن آبائه.

o       نسخة أحمد بن علي بن صدقة عن علي بن موسى الرضا عن آبائه.

وغير ذلك من النسخ التي حكم عليها الجهابذة بالوضع والكذب.

4. سوغ قول الشيعة بالبداء الوضع والكذب على الله - عز وجل - وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كشف أمره وبدت عورته وأسقط في يده، زعم أنه بدا لله غير ما أخبر([18]).

ويذكر د. مصطفى السباعي جنايتهم وتقولهم على الصحابة فيقول عنهم: "وكما وضعوا الأحاديث في فضل علي وآل البيت - رضي الله عنهم - وضعوا الأحاديث في ذم الصحابة وخاصة الشيخين وكبار الصحابة، حتى قال ابن أبي الحديد: فأما الأمور المستبشعة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة، وأنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج، وأن عمر - رضي الله عنه - ضغطها بين الباب والجدار، فصاحت: يا أبتاه. وجعل في عنق علي حبلا يقاد به، وفاطمة خلفه تصرخ، وابناه الحسن والحسين يبكيان، ثم أخذ ابن أبي الحديد في ذكر الكثير من المثالب، ثم قال: "فكل ذلك لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه، وإنما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله"، وكذلك وضعوا الأحاديث في ذم معاوية رضي الله عنه: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه». وفي ذم معاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهما: «اللهم أركسهما في الفتنة ودعهما في النار دعا».

وهكذا أسرفت الرافضة في وضع الأحاديث بما يتفق مع أهوائها، وبلغت من الكثرة حدا مزعجا، حتى قال الخليلي في الإرشاد: "وضعت الرافضة في فضائل علي وأهل بيته نحو ثلاثمائة ألف حديث"، ومع ما في قوله من المبالغة؛ فإنه دليل على كثرة ما وضعوا من الأحاديث.

ويكاد المسلم يقف مذهولا من هذه الجرأة البالغة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لولا أن يعلم أن هؤلاء الرافضة أكثرهم من الفرس الذين تستروا بالتشيع لينقضوا عرى الإسلام، أو ممن أسلموا ولم يستطيعوا أن يتخلوا عن كل آثار ديانتهم القديمة، فانتقلوا إلى الإسلام بعقلية وثنية، لا يهمها أن تكذب على صاحب الرسالة، لتؤيد حبا ثاويا في أعماق أفئدتها، وهكذا يصنع الجهال والأطفال حين يحبون وحين يكرهون"([19]).

وبناء على ما سبق يتضح لنا أن الشيعة هم أول من بدءوا الوضع في الحديث، وأن أول باب طرقه الوضاعون في الحديث هو فضائل الأشخاص، كما أن ذلك يوضح لنا أن المحدثين والعلماء تنبهوا لهذه العصبية، وفطنوا لهذه المسالك فنخلوا الأحاديث على أسسها ولم يهملوا هذه الجوانب.

وقد ضارع الشيعة الجهلة من أهل السنة، فقابلوا - مع الأسف - الكذب بكذب مثله، وإن كان أقل منه دائرة وأضيق نطاقا، ومن ذلك: «ما في الجنة شجرة إلا مكتوب على ورقة منها لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق، عثمان ذو النورين».

كذلك قابلهم المتعصبون لمعاوية - رضي الله عنه - والأمويين فوضعوا أحاديث مثل قولهم: «الأمناء ثلاثة، أنا وجبريل، ومعاوية»، «أنت مني يا معاوية وأنا منك»، «لا أفتقد في الجنة إلا معاوية فيأتي آنفا بعد وقت طويل، فأقول: من أين يا معاوية؟ فيقول: من عند ربي يناجيني وأناجيه، فيقول: هذا بما نيل من عرضك في الدنيا».

وكذلك فعل المؤيدون للعباسيين فوضعوا إزاء حديث وصاية علي - رضي الله عنه - المكذوب وصاية العباس - رضي الله عنه - «العباس وصيي ووارثي».

وتأسيسا على ما سبق، فإن الوضع في الأحاديث ومناقب الرجال شهد نشاطا ملحوظا على أيدي غلاة الشيعة وخصومهم، وانسحب ذلك على الحكومات والآراء في تلك الفترة، مما عمق هوة الخلاف بين هذه الأحزاب؛ فعاشت الأمة الإسلامية ما بين التناحر السياسي، والتشيع الدافع إلى الوضع في الحديث، فقيض الله لهم علماء بينوا زيف هذا كله، فردوا كل الأحاديث التي جاءت بها هذه الفرق، وجعلوا من شروط قبول الحديث ألا يوافق مذهب صاحبه، فإن وافقه ردوه، واحتاطوا لأنفسهم من الأخذ والرواية عن أصحاب هذه المذاهب، ونبهوا غيرهم على عدم الأخذ عنهم.

أبعد هذا يتهم المحدثون بإهمالهم الأسباب السياسية للوضع في الحديث؟ وإذا كان هذا حالهم كما يدعون، فكيف عرفنا الأحاديث الموضوعة من الصحيحة إن لم يكونوا هم أول من نبهوا على ذلك واهتموا به؟!

ثالثا. أثر الخوارج في وضع الحديث، ودور العلماء في كشف ذلك وتمحيصه:

اختلفت نظرة الباحثين إلى دور الخوارج في وضع الحديث إلى فريقين:

الفريق الأول: يرى أن الخوارج كغيرهم من الفرق الإسلامية؛ كان لبعض الجاهلين والمتعصبين منهم دور في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتصارا أو تعصبا للآراء التي ينتحلونها، وقد استدلوا فيما ذهبوا إليه بأدلة هي:

1. قال الرامهرمزي: "حدثني الحسين بن عبد الله الجشمي من ولد مالك بن جشم، حدثنا عبيد بن هشام حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم قال: قال لي رجل من الخوارج: إن هذا الحديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم إنا كنا إذا هوينا أمرا جعلناه في حديث"([20]).

وكذلك ما رواه الخطيب بسنده إلى أبي نعيم الحلبي قال: "حدثنا أبو عبد الرحمن المقري، عن ابن لهيعة، قال سمعت شيخا من الخوارج وهو يقول: إن هذه الأحاديث دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا"([21]).

وهكذا أشارت الروايتان إلى أن الخوارج كانوا يضعون الحديث فيما يؤيد آراءهم.

2. قال الرامهرمزي: "حدثنا الحضرمي حدثنا ابن نمير، حدثنا ابن إدريس عن الأعمش قال: جالست إياس بن معاوية فحدثني بحديث؛ قلت: من يذكر هذا؟ فضرب لي مثل رجل من الحرورية، فقلت: إلي تضرب هذا المثل؟ تريد أن أكنس الطريق بثوبي فلا أدع بعرة ولا خنفساء إلا حملتها"([22]).

ويعلق د. عمر فلاته على ذلك بقوله: فقد دل كلام الأعمش على أن الخوارج يجانبون الصدق في مروياتهم، ولذا مثل رواياتهم بالبعر والخنفساء تحقيرا واستهانة، ولو لم يظهر له من كذبهم ما شبه حديثهم بما شبه.

الفريق الثاني: يرى أن الخوارج لم يكن لهم دور في وضع الحديث، ولم يقم دليل يثبت به أنهم وضعوا حديثا، ويستدلون على ذلك بما يأتي:

1. روى الخطيب البغدادي في الكفاية وأخرجه عن أبي داود سليمان بن الأشعث قال: "ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثا من الخوارج"([23]).

2. كذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على الشيعة قال: ونحن نعلم أن الخوارج شر منكم، ومع هذا لا نقدر أن نرميهم بالكذب، لأننا جربناهم فوجدناهم يتحرون الصدق لهم وعليهم، وكذلك قوله: ومن تأمل كتب الجرح والتعديل رأى المعروف عند مصنفيها بالكذب الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف، والخوارج مع مروقهم من الدين فهم من أصدق الناس حتى قيل: إن حديثهم من أصح الحديث، لكنهم جهلوا وضلوا في بدعتهم، ولم تكن بدعتهم عن زندقة وإلحاد، بل عن جهل وضلال في معرفة معاني الكتاب([24]).

وبعد أن عرض صاحب كتاب الوضع في الحديث لضعف الآثار السابقة، وصل إلى حكم مفاده أن الخوارج لم يكن لهم أثر في وضع الحديث ويسوق الأدلة على ذلك ومنها:

·   أن النظر في الكتب المؤلفة لجمع الأحاديث الموضوعة والتي تناولت كل الجزئيات التي تطرق إليها الوضع بما في ذلك أحاديث الفرق والمذاهب التي وضعت تأييدا أو انتصارا لتلك المذاهب، فإنا لا نرى لآراء الخوارج التي بنوا عليها مذهبهم ذكرا في تلك المؤلفات، مما يدل على أن الخوارج لم يسلكوا هذا السبيل انتصارا لمذهبهم، أو للدعوة إلى آرائهم، وإذا ثبتت براءتهم فيما انفردوا به مع إعوازهم إلى الانتصار والتأييد، فإن تبرئتهم فيما شاركوا منه غيرهم أولى وألزم.

·   أن كثيرا من طوائف الخوارج يقتصرون في الاحتجاج على ظواهر القرآن، ولا يحتجون بالسنة؛ ولذا فقد خالفوا المشهور من السنة، بل المتواتر في بعض ما ذهبوا إليه؛ كقولهم بإسقاط الرجم عن الزاني؛ إذ ليس في القرآن ذكره، وإسقاط حد القذف عمن قذف المحصن من الرجال، مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء؛ لأن القرآن نص عليهن دون الرجال، وكقولهم: إن الصلوات ركعتان بالعشي وركعتان بالغداة لا غير لقوله سبحانه وتعالى:

(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل)

(هود: ١١٤)

وحيث إنهم لا يقولون بحجية السنة، فمن الطبيعي أنهم لا يلجأون إلى الوضع في الحديث لعدم حاجتهم إليه.

·       أن من أصول الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر، والكذب عندهم من الكبائر؛ ولذا فهم يكفرون الكاذب.

·   اتصافهم بالشدة والغلظة والغلو الشديد لما يعتقدون مما لا يحتاجون فيه إلى ما قالوا برهانا، مع عدم قولهم بالتقية، واعتمادهم على السيف والقوة في إدخال الناس إلى بدعهم حيث لم يعرف الجدل والمناقشة إليهم سبيلا.

·   كونهم أعرابا أقحاحا؛ إذ لم يكن للموالي والعجم أثر أو تأثير عليهم في بدعتهم، مع اتصافهم بالبداوة والحياة المجانفة للمدنية، والحضارة التي من شأنها المداهنة والملق هي الدافع إلى الكذب وتبريره.

·   شهادة جماعة من أئمة الحديث، وعلماء الأمة بصدق الخوارج، وترفعهم عن الكذب وصحة حديثهم مع مخالفتهم له ومن هؤلاء: أبو داود، وابن تيمية وغيرهما([25]).

وممن ذهب إلى تبرئة الخوارج من الوضع في الحديث د. مصطفى السباعي، حيث يقول بعد عرضه للروايات القائله بالوضع: "لقد حاولت أن أعثر على دليل علمي يؤيد نسبة الوضع إلى الخوارج، ولكني رأيت الأدلة العلمية على العكس، تنفي عنهم هذه التهمة؛ فقد كان الخوارج كما ذكرنا يكفرون مرتكب الكبيرة أو مرتكب الذنوب مطلقا، والكذب كبيرة، فكيف إذا كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

 يقول المبرد: "والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب ومن ذوي المعصية الظاهرة"، وكانوا في جمهرتهم عربا أقحاحا؛ فلم يكن وسطهم بالوسط الذي يقبل الدسائس من الزنادقة والشعوبيين كما وقع ذلك للرافضة، وكانوا في العبادة على حظ عظيم، شجعانا صرحاء، لا يجاملون، ولا يلجأون إلى التقية كما يفعل الشيعة. وقوم هذه صفاتهم يبعد جدا أن يقع منهم الكذب. ولو كانوا يستحلون الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاستحلوا الكذب على من دونه من الخلفاء والأمراء والطغاة كزياد والحجاج، وكل ما بين أيدينا من النصوص التاريخية يدل دلالة قاطعة على أنهم واجهوا الحكام والخلفاء بمنتهى الصراحة والصدق، فلماذا يكذبون بعد ذلك؟ على أني أعود

ـ والحديث للدكتور مصطفى السباعي - فأقول: إن المهم عندنا أن نلمس دليلا محسوسا يدل على أنهم ممن وضعوا الحديث، وهذا ما لم أعثر عليه حتى الآن"([26]).

ويقول د. عجاج الخطيب بعد معالجته للآثار التي تثبت الوضع للخوارج وتفنيدها وإبطالها: وهكذا يثبت أن الخوارج لم ينغمسوا في حمأة الوضع، لما عرف عنهم من الورع والتقوى. بيد أن هذا الأمر - عدم وضع الخوارج للحديث - لم يكن مطلقا أو ممنوعا نهائيا، ولكن لكل قاعدة استثناءات، ولكل فرقة شذوذ، ومن الخوارج أيضا فقد ذهبت طائفة مارقة منهم إلى الوضع في الحديث، ولكنه كان قليلا يؤيد ذلك صاحب كتاب "الحديث والمحدثون" بعد عرضه للخوارج، والتعريف بهم وبأهم صفاتهم، وعوامل قلتهم للوضع فيقول: فكل هذه العوامل كان لها أثر في تقليل الكذب في الحديث من الخوارج بالنسبة إلى غيرهم من الفرق الأخرى. ومع ذلك لم يعدموا أفرادا منهم اصطنعوا الأكاذيب واختلقوا الأحاديث([27]).

وبناء على ما سبق يتضح لنا أن الخوارج يتحرون الصدق في الحديث ولا يكذبون فيه، ولم يقعوا في حمأة الكذب، ولم يعرف عنهم التجرؤ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو التقول عليه سوى فئة ضالة منهم - وهم قليل - عبثت بالحديث بيد أن الله قيض للسنة من يكشف زيف أقوالهم وسوء فعالهم، كما أبطل كيد غيرهم من الفرق المنتسبة للإسلام وغير المنتسبة إليه.

فإذا كان العلماء والمحدثون قد قاموا بهذا الجهد العظيم في نقد المرويات وتمييز صحيحها من سقيمها وقعدوا لذلك القواعد التي لم تصل إلى مثلها أمة من الأمم قبلهم ولا بعدهم ومنها عوامل الوضع وأسبابه، آخذين في الحسبان التعصب المذهبي والانتماءات السياسية ودورها في وضع الحديث، فكيف يقال بعد ذلك: إن علماء الحديث أهملوا الدوافع السياسية الدافعة للوضع؟!

الخلاصة:

·   لقد بقي الحديث النبوي الشريف نقيا لا يعتريه الكذب، ولا يدخله التحريف طوال مدة اجتماع كلمة الأمة الإسلامية على خلفائها الراشدين، ولكن بعد أن وقعت الفتن واختلف الناس، وغدوا فرقا وأشياعا، واندس في جسد الأمة الإسلامية أصحاب المصالح والأهواء، وأصبح كل فريق يسعى لمطلبه، وتحول الخلاف على شخصية الخليفة إلى خلاف سياسي اصطبغ بالصبغة الدينية، ومن هنا فقد قامت كل فرقة على نظريات تخصها، ووضعت في الحديث ما يؤيد وجهة نظرها، فنشأ الوضع في الحديث، وكان أول الوضع من قبل الشيعة في مناقب الرجال لتقوية من يرونه أهلا للإمامة وأحق بها.

·   قام المحدثون بجهود عظيمة في كشف الأحاديث الموضوعة ووضع قواعد لنقد المرويات مع تقنين أسباب الوضع وبيان سمات الوضاعين، وكان من أبرز أسلحتهم في ذلك: قواعد الجرح والتعديل، وأسس الحكم على الرجال والأسانيد، واستعملوا ذلك ليخلصوا السنة الصحيحة من المكذوبة والموضوعة، ووضعوا لذلك شروطا لا بد أن تتوفر في الراوي، وكان من عمدة هذه الشروط ألا يكون من أصحاب البدع والأهواء والمذاهب السياسية التي استباحت الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يدعي أصحاب الأهواء بعد ذلك أن العلماء أهملوا الأسباب السياسية الدافعة للوضع، وهم الذين كشفوا حقيقة هذه الأسباب ونظروا لها القواعد، وكان على رأسها ظهور الفرق والمذاهب الكلامية الفلسفية، ونبهوا على ضرورة البعد عن أصحاب هذه المذاهب والآراء، وعدم الأخذ عنهم.

·   وبعد كل هذا الجهد العظيم الذي قام به المحدثون في تنقيح الأحاديث وتمييز صحيحها من سقيمها، فاعتنوا بنقدها سندا ومتنا عناية فائقة، وحذروا من الرواية عن أصحاب هذه البدع والأهواء، هل يتهمون بإهمال الأسباب السياسية الداعية للوضع؟!

·   لقد كشف علماء الأمة الأفذاذ أثر الشيعة البارز في وضع الحديث، كما بينوا دور الروافض الذين تميزوا بكثرة الوضع، وكان للوضع من قبل الشيعة مؤثرات دفعتهم إلى كثرته، ومن ذلك أسباب خارجية منها: دخول الكثير من أعداء الإسلام في صفوف الشيعة، وانتحلوا مذهبهم وتظاهروا بحب آل البيت، وهم يرمون من وراء ذلك إلى نشر آرائهم الباطلة، كما أنهم انتحلوا مذهب التشيع للوصول إلى السلطة والجاه، فوضعوا الكثير من الأحاديث التي تؤيد وجهتهم وأحقيتهم.

أما المؤثرات الداخلية الداعية للوضع: فقد كان على رأسها شرط الإمامة عندهم أو أفضلية علي بن أبي طالب على غيره من الصحابة وأحقيته بالإمامة دونهم، وكذلك الوصية لعلي ــ رضي الله عنه - مما جعلهم يلصقون بسيدنا علي - رضي الله عنه - أوصافا لا تليق به أو بمكانته في الإسلام، هذا فضلا عن قولهم بالبداء، والذي سوغ لبعضهم الوضع والكذب على الله عز وجل.

·   لقد تطاول الشيعة - بدعوى حبهم لآل البيت - على الصحابة - رضي الله عنهم - ووضعوا في ذلك مرويات باطلة وأحاديث مكذوبة، فحدا ذلك بفريق من الوضاعين من الأحزاب الأخرى، إلى أن يضعوا في مقابلها أحاديث ترفع من شأن من أنقصهم الشيعة، فوضعوا أحاديث في فضل الأمويين والعباسيين وغيرهم.

·   اختلف الباحثون حول الخوارج، وهل لهم دور في وضع الحديث أم لا؟ وانقسموا حيال هذا الأمر إلى فريقين: الأول يرى أنهم وضعوا الحديث، والفريق الآخر يرى براءة ساحتهم من هذا الوضع، والرأي الراجح في هذه المسألة هو قلة وضع الخوارج مقارنة بغيرهم من الفرق الضالة الأخرى، وذلك لأنهم لا يكذبون ويتحرون الصدق مما جعلهم لا يتقولون على النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم مروقهم من الدين.

 

المراجع

  1. (*) دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م.
  2. [1]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص28، 29 بتصرف.
  3. [2]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص286، 287.
  4. [3]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1409هـ/ 1989م، ص30: 32 بتصرف.
  5. [4]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: بيان أن الإسناد من الدين... (1/ 173).
  6. [5]. حماية السنة من الأكاذيب والأباطيل، د. صالح الفقي، دار النور، القاهرة، 1995م، ص82 بتصرف.
  7. [6]. تنزيه الشريعة المرفوعة، ابن عراق الكناني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1401هـ/ 1981م، (1/ 11). وانظر: الوضع في الحديث النبوي، د. عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1424هـ/ 2004م، ص75، 76.
  8. [7]. انظر: شرح نهج البلاغة, ابن أبي الحديد, (1/ 48، 49).
  9. [8]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (1/ 90).
  10. [9]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (1/ 90، 91) بتصرف.
  11. [10]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، مكتبة ابن عباس، القاهرة، 2002م، (1/ 367).
  12. [11]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، مكتبة ابن عباس، القاهرة، 2002م، (1/ 381).
  13. [12]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (1/ 210).
  14. [13]. الوضع في الحديث وجهود العلماء في مواجهته، أبو عبد الله محمد بن رسلان، مكتبة البلاغ، مصر، ط2، 2005م، ص28، 29.
  15. [14]. التره: الثأر.
  16. [15]. الوضع في الحديث، د. عمر حسن فلاته، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، د. ت، (1/ 247، 248).
  17. [16]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص196 بتصرف.
  18. [17]. انظر: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، الشوكاني، تحقيق: المعلمي اليماني، المكتب الإسلامي، بيروت، د. ت، ص342: 383.
  19. [18]. الوضع في الحديث، د. عمر حسن فلاته، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، د. ت، (1/ 247: 249) بتصرف.
  20. [19]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص83، 84.
  21. [20]. المحدث الفاصل، الرامهرمزي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص424.
  22. [21]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي، مكتبة ابن عباس، القاهرة، 2002م، (1/ 376).
  23. [22]. المحدث الفاضل، الرامهرمزي, تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، ط2، 1404هـ/ 1984م، ص209.
  24. [23]. الكفاية في معرفة أصول علم الرواية، الخطيب البغدادي, مكتبة ابن عباس، القاهرة، 2002م، (1/ 389).
  25. [24]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ص96، 97 بتصرف.
  26. [25]. الوضع في الحديث، د. عمر حسن فلاته، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، د. ت، (1/ 236، 237) بتصرف.
  27. [26]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص85، 86.
  28. [27]. الحديث والمحدثون، د. محمد محمد أبو زهو، مطبعة مصر، القاهرة، ط1، 1958م، ص87.