نص السؤال

إنكار الأحاديث الواردة في فضائل البلدان وأهلها

المصدر: شبهات المشككين في الإسلام

الجواب التفصيلي

إنكار الأحاديث الواردة في فضائل البلدان وأهلها(*)

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المغرضين بعض الأحاديث الثابتة في فضل بعض البلدان والأمصار، زاعمين أن "النعرة القومية" لدى أهالي الأقاليم والمدن والأمصار المفتوحة كانت سببا في وضع جملة هذه الأحاديث التي تثني على هذا الإقليم أو ذاك، وعلى حسب ما يزعمون فإن النعرة القومية كانت سببا لوضع المصريين حديثا في فضل مصر وشعبها ونصه هكذا: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما». وهم من وراء إنكار الأحاديث الثابتة في فضل بعض البلدان وأهلها يرمون إلى وصم السنة بتهمة الوضع؛ تمهيدا لإنكار نصوصها جملة، وترك العمل بمقتضاها.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن فضل بعض البلدان والأمصار ثابت بالقرآن والسنة الصحيحة، والحديث الذي في حق مصر حديث صحيح، كما أنه ليس فيه ثناء واضح مباشر على شعب مصر حتى يزعم أن المصريين وضعوه تحت إملاء النعرة القومية.

2) إن مع الاعتراف بكثرة الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة التي جاءت في الثناء على بعض الأمصار، فإن علماء الحديث قد فحصوها حديثا حديثا، وبينوا صحيحها من موضوعها.

التفصيل:

أولا. فضائل بعض البلدان والأمصار ثابتة بالأحاديث الصحيحة:

 العصبية القومية مرض قل أن تسلم منه أمة من الأمم؛ فقد وضع الشعوبيون مثلا أحاديث في ذم العرب، ومدح أنفسهم وإعلاء شأنهم، ومما وضعوه في ذلك حديث «إن الله إذا غضب أنزل الوحي بالعربية، وإذا رضي أنزل الوحي بالفارسية»([1])، فقابلهم جهلة العرب بالمثل فوضعوا: «إن الله إذا غضب أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزل الوحي بالعربية»([2])، ومثل هذا كثير يمكن أن يقال في الأحاديث الموضوعة في فضائل بعض البلدان والقبائل.

بيد أن هذا لا يعني أن كل ما ورد في فضائل الأمصار والبلدان موضوع لا أساس له، فلقد أثنى القرآن الكريم على بعض البلدان التي فتحها المسلمون؛

فقال سبحانه وتعالى:

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)

(الإسراء: ١)

وقال - سبحانه وتعالى - لنبيه موسى عليه السلام:

(إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى)

(طه:12)

وقال أيضا:

(يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة)

(المائدة: ٢١).

وفي فضائل المدينة أخرج البخاري أحاديث عدة في كتاب فضائل المدينة عن علي بن أبي طالب، وعن أنس (حديثين)، وعن أبي هريرة (حديثين) وعن غيرهم؛

فعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المدينة حرم من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»([3]).

   

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حرم ما بين لابتي المدينة([4]) على لساني، قال: وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني حارثة فقال: أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم، ثم التفت فقال: بل أنتم فيه»([5]).

   

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت بقرية تأكل القوي، يقولون: يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد»([6]).

·   وأخرج البخاري ستة أحاديث في ذكر "أسلم" و "غفار" و"مزينة" و"جهينة" و"أشجع"، وأنهم موالي النبي - صلى الله عليه وسلم - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -

قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع موالي، ليس لهم مولى دون الله ورسوله»([7]).

وعنه - رضي الله عنه - أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها»([8]).

إن المبدأ الإسلامي العظيم هو قوله تعالى:

(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)

(الحجرات: 13)

، فإذا أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على بلد أو قوم أو مصر فعلى هذا الأساس، فلا غرو أن يوصي النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل مصر خيرا «فإن لهم منكم صهرا وذمة» - أو كما قال - وقد كان رد كبير القبط على رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - خير رد([9])، وهو الذي كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم... لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا بقي، وكنت أظن أنه يخرج من الشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك".

هذا ما كتبه المقوقس، وهو يدل على أنه اقتنع بالقرآن الكريم والإسلام، ولكن تردد في القبول، وتلطف في الرد، وبنى تردده على أنه كان يظن أن نبي آخر الزمان سيخرج من الشام([10]). فما العجب - إذن - أن يوصي النبي بأقباط مصر خيرا، "فإن لهم صهرا وذمة"؟ أو لم تكن هاجر زوج إبراهيم عليهما السلام مصرية؟

هذا وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده أحاديث عديدة في الثناء على بعض الأمصار، لكنها ليست مقتصرة على البلاد التي فتحها المسلمون، بل عليها وعلى أماكن في قلب الجزيرة العربية.

وأما الحديث الذي جاء في مسند أحمد في فضل مصر فإنه صحيح، ولا غبار عليه، ولم يكن قد وضع تحت إملاء النعرة القومية كما زعموا، وإليكم نص الحديث؛

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما»([11])

، هذا وقد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه تحت باب وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل مصر

عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما»([12]).

وفي رواية عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما، أو قال: ذمة وصهرا»([13]).

وكلا الحديثين كما رأيت وردا في أصح كتب السنة بعد صحيح البخاري، ألا وهو صحيح مسلم، وليس في هذا وضع أو اختلاق تحت تأثيرات النعرة القومية كما يزعمون، فإن قواعد النقد الحديثي لا تعرف العصبية القومية أو القبلية.

وإذا وقفنا على ما عليه هذا الحديث من الصحة وثبوته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - علمنا أن الزعم بأن النعرة القومية كانت سببا في وضعه زعم لا أساس له من الصحة.

ثانيا. تمحيص العلماء لأحاديث فضائل البلدان وأهلها:

خلصنا فيما سبق إلى نتيجة مؤداها أن ثمة أحاديث صحيحة - وليست بالقليلة - وردت في فضائل بعض البلدان وأهلها، وإن كانت هذه النتيجة في الوقت ذاته لا تعني التسليم بصحة كل ما ورد في هذا الشأن، بل إننا معترفون بكثرة الأحاديث التي وضعت في فضائل البلدان أو ذمها، ولسنا مبالغين إذا قلنا: إنه "لا تكاد توجد مدينة من مدن الدولة الإسلامية إلا وضع فيها حديث يشيد بفضلها أو يظهر ذمها والحط منها، أو يحذر من السكنى بها أو يرغب في ذلك، ولعل تنقل مقر السلطة بين الحجاز والشام والعراق كان له دور في ذلك"([14]).

فقد وضعت أحاديث في فضائل مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق وجدة والإسكندرية وعسقلان وقزوين ونصيبين وخراسان، وكذلك وضعت أحاديث في ذم القسطنطينية وطبرية وأنطاكية وصنعاء ومصر والبصرة وبغداد والسودان، إلى غيرها من الأحاديث التي تشير إلى أن العصبية القبلية والفخر بالجنس أو اللون أو الدم أو المدن كان له أثر بارز في وضع الحديث والاختلاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك ما ورد من الأحاديث في ذم الحبشة والسودان، "قال ابن القيم: كل ما ورد من الحديث في ذم الحبشة والسودان فهو كذب"([15])، وكذلك أيضا ما جاء في فضلهم ففيه ضعف. روى ابن حبان في الضعفاء: "اتخذوا السودان، فإن فيهم ثلاثة فيهم سادات الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال"([16]).

لقد "وجد العلماء في كل باب أحاديث صحيحة وأخرى ضعيفة أو موضوعة، فخصصوا للصحيح بدرجاته المختلفة كتبا، وللموضوعات كتبا، فليس الوضع في باب "فضل البلدان وذم البلدان" شيئا خاصا به دون سائر الأبواب، فهذا ابن الجوزي رحمه الله يخصص كتابا ضخما في الموضوعات بعنوان: "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، وقد أورد أحاديث واهية في ذم الإسكندرية وفضل عدن ودمشق وحمص ومرو والأردن والشام والبصرة، وكذلك في ذم بعضها"([17]).

ومهما يكن من أمر فقد صحت أحاديث في فضائل بعض البلدان وأهلها، فليست كل الأحاديث التي وردت في فضائل البلدان موضوعة، وقد صح في فضل اليمن حديث: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم»([18]).

إن ورود كثير من الأحاديث الموضوعة والضعيفة في فضائل بعض البلدان وأهلها، والتي محصها العلماء والمحدثون - لا تجعلنا نتبني مبدأ التعميم في الحكم، فننكر الأحاديث الصحيحة الواردة في فضائل بعض البلدان وأهلها؛ لأنه لا يجوز التعميم إلا بحقه.

وعليه فإنه كما ضعف المحدثون بعض الأحاديث في باب فضائل بعض البلدان وأهلها، فإنهم أيضا أثبتوا صحة بعض الأحاديث في بعض البلدان وأهلها مدحا أو ذما، وليس أمامنا إلا أن نرد ما ضعفوه، أو أخرجوه من جملة الكلام المنسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن نقبل ما قبلوه منه، وثقتنا في قبول هذه الأحاديث الصحيحة لا تقل عن ثقتنا في رفض تلك الأقوال الموضوعة!

الخلاصة:

·   على الرغم من تسليمنا بكثرة الأحاديث التي وضعت في فضائل البلدان وأهلها، فإننا لا نسلم بأن كل ما ورد في هذا الشأن موضوع لا أساس له، فلقد أخرج البخاري في فضائل المدينة عدة أحاديث صحيحة، وأخرج كذلك ستة أحاديث في ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع، وكذا أخرج مسلم في صحيحه أحاديث في فضائل أهل اليمن، وعمان وفارس.

·   إن الحديث الذي جاء في مسند أحمد في حق مصر ليس فيه ثناء على شعب مصر حتى يقال: إن المصريين وضعوه تحت إملاء النعرة القومية؛ إذ لا غضاضة في أن يوصي النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم خيرا "فإن لهم صهرا وذمة".

·   رغم كثرة الأحاديث الموضوعة في فضائل البلدان ومناقب أهلها، فإن علماء الحديث قد فحصوها ونقدوها حديثا حديثا، ولم يمنعهم من ذلك مجيئها في بعض المسانيد، ومن ذلك مثلا الحديث الخاص بفضل عسقلان، وكذلك ما ورد من الأحاديث في ذم الحبشة والسودان.

·   إن من المنطق - أمام تثبت المحدثين بشأن الأحاديث الواردة في باب فضائل البلدان وأهلها - ألا نعمم الحكم عليها بقبول مجمل أو رفض مجمل، وهم الذين قبلوا بعضا وردوا بعضا.

·   إننا وإن لم نقبل من هذه الأخبار ما وصفه جهابذة الحديث بالوضع، فإننا نقبل الأخبار الأخرى الصحيحة الثابتة في فضائل بعض البلدان ومناقب أهلها، بثقة في القبول لا تقل عن تلك الثقة في الرفض.

 

المراجع

  1. (*) كيف ولماذا التشكيك في السنة؟ د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م.
  2. [1]. موضوع: ذكره ابن الجوزي في كتاب الموضوعات, تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، بيروت، ط2، 1403هـ/ 1983م، (1/ 111).
  3. [2]. موضوع: ذكره الفتني في تذكرة الموضوعات, (1/ 113).
  4. [3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل المدينة، باب: حرم المدينة, (4/ 97), رقم (1867).[4]. لابتي المدينة: ناحيتيها.
  5. [5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل المدينة، باب: حرم المدينة, (4/ 97), رقم (1869).
  6. [6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل المدينة، باب: حرم المدينة, (4/ 97), رقم (1870).
  7. [7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش, (6/ 617), رقم (3504).
  8. [8]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع, (6/ 626), رقم (3512).
  9. [9]. كيف ولماذا التشكيك في السنة؟ د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص85، 86 بتصرف.
  10. [10]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (3/ 867).
  11. [11]. صحيح، أخرجه أحمد في مسنده, مسند الأنصار، حديث المشايخ عن أبي بن كعب صلى الله عليه وسلم، رقم (21560). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
  12. [12]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأهل مصر, (9/ 3670), رقم (6375).
  13. [13]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأهل مصر, (9/ 3670), رقم (6376).
  14. [14]. الوضع في الحديث، د. عمر بن حسن عثمان فلاته، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، د. ت، (1/ 262).
  15. [15]. المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ابن القيم، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط2، 1403هـ/ 1987م، ص101.
  16. [16]. الموضوعات, ابن الجوزي, تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، بيروت، ط2، 1403هـ/ 1983م, (1/ 232).
  17. [17]. كيف ولماذا التشكيك في السنة؟ د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص88، 89.
  18. [18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن، (7/ 701), رقم (4388).

الجواب التفصيلي

إنكار الأحاديث الواردة في فضائل البلدان وأهلها(*)

مضمون الشبهة:

ينكر بعض المغرضين بعض الأحاديث الثابتة في فضل بعض البلدان والأمصار، زاعمين أن "النعرة القومية" لدى أهالي الأقاليم والمدن والأمصار المفتوحة كانت سببا في وضع جملة هذه الأحاديث التي تثني على هذا الإقليم أو ذاك، وعلى حسب ما يزعمون فإن النعرة القومية كانت سببا لوضع المصريين حديثا في فضل مصر وشعبها ونصه هكذا: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما». وهم من وراء إنكار الأحاديث الثابتة في فضل بعض البلدان وأهلها يرمون إلى وصم السنة بتهمة الوضع؛ تمهيدا لإنكار نصوصها جملة، وترك العمل بمقتضاها.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن فضل بعض البلدان والأمصار ثابت بالقرآن والسنة الصحيحة، والحديث الذي في حق مصر حديث صحيح، كما أنه ليس فيه ثناء واضح مباشر على شعب مصر حتى يزعم أن المصريين وضعوه تحت إملاء النعرة القومية.

2) إن مع الاعتراف بكثرة الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة التي جاءت في الثناء على بعض الأمصار، فإن علماء الحديث قد فحصوها حديثا حديثا، وبينوا صحيحها من موضوعها.

التفصيل:

أولا. فضائل بعض البلدان والأمصار ثابتة بالأحاديث الصحيحة:

 العصبية القومية مرض قل أن تسلم منه أمة من الأمم؛ فقد وضع الشعوبيون مثلا أحاديث في ذم العرب، ومدح أنفسهم وإعلاء شأنهم، ومما وضعوه في ذلك حديث «إن الله إذا غضب أنزل الوحي بالعربية، وإذا رضي أنزل الوحي بالفارسية»([1])، فقابلهم جهلة العرب بالمثل فوضعوا: «إن الله إذا غضب أنزل الوحي بالفارسية، وإذا رضي أنزل الوحي بالعربية»([2])، ومثل هذا كثير يمكن أن يقال في الأحاديث الموضوعة في فضائل بعض البلدان والقبائل.

بيد أن هذا لا يعني أن كل ما ورد في فضائل الأمصار والبلدان موضوع لا أساس له، فلقد أثنى القرآن الكريم على بعض البلدان التي فتحها المسلمون؛

فقال سبحانه وتعالى:

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)

(الإسراء: ١)

وقال - سبحانه وتعالى - لنبيه موسى عليه السلام:

(إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى)

(طه:12)

وقال أيضا:

(يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة)

(المائدة: ٢١).

وفي فضائل المدينة أخرج البخاري أحاديث عدة في كتاب فضائل المدينة عن علي بن أبي طالب، وعن أنس (حديثين)، وعن أبي هريرة (حديثين) وعن غيرهم؛

فعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المدينة حرم من كذا إلى كذا، لا يقطع شجرها، ولا يحدث فيها حدث، من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»([3]).

   

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «حرم ما بين لابتي المدينة([4]) على لساني، قال: وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بني حارثة فقال: أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم، ثم التفت فقال: بل أنتم فيه»([5]).

   

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت بقرية تأكل القوي، يقولون: يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد»([6]).

·   وأخرج البخاري ستة أحاديث في ذكر "أسلم" و "غفار" و"مزينة" و"جهينة" و"أشجع"، وأنهم موالي النبي - صلى الله عليه وسلم - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -

قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع موالي، ليس لهم مولى دون الله ورسوله»([7]).

وعنه - رضي الله عنه - أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها»([8]).

إن المبدأ الإسلامي العظيم هو قوله تعالى:

(إن أكرمكم عند الله أتقاكم)

(الحجرات: 13)

، فإذا أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على بلد أو قوم أو مصر فعلى هذا الأساس، فلا غرو أن يوصي النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل مصر خيرا «فإن لهم منكم صهرا وذمة» - أو كما قال - وقد كان رد كبير القبط على رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - خير رد([9])، وهو الذي كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم... لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا بقي، وكنت أظن أنه يخرج من الشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك".

هذا ما كتبه المقوقس، وهو يدل على أنه اقتنع بالقرآن الكريم والإسلام، ولكن تردد في القبول، وتلطف في الرد، وبنى تردده على أنه كان يظن أن نبي آخر الزمان سيخرج من الشام([10]). فما العجب - إذن - أن يوصي النبي بأقباط مصر خيرا، "فإن لهم صهرا وذمة"؟ أو لم تكن هاجر زوج إبراهيم عليهما السلام مصرية؟

هذا وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده أحاديث عديدة في الثناء على بعض الأمصار، لكنها ليست مقتصرة على البلاد التي فتحها المسلمون، بل عليها وعلى أماكن في قلب الجزيرة العربية.

وأما الحديث الذي جاء في مسند أحمد في فضل مصر فإنه صحيح، ولا غبار عليه، ولم يكن قد وضع تحت إملاء النعرة القومية كما زعموا، وإليكم نص الحديث؛

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما»([11])

، هذا وقد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه تحت باب وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل مصر

عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما»([12]).

وفي رواية عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما، أو قال: ذمة وصهرا»([13]).

وكلا الحديثين كما رأيت وردا في أصح كتب السنة بعد صحيح البخاري، ألا وهو صحيح مسلم، وليس في هذا وضع أو اختلاق تحت تأثيرات النعرة القومية كما يزعمون، فإن قواعد النقد الحديثي لا تعرف العصبية القومية أو القبلية.

وإذا وقفنا على ما عليه هذا الحديث من الصحة وثبوته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - علمنا أن الزعم بأن النعرة القومية كانت سببا في وضعه زعم لا أساس له من الصحة.

ثانيا. تمحيص العلماء لأحاديث فضائل البلدان وأهلها:

خلصنا فيما سبق إلى نتيجة مؤداها أن ثمة أحاديث صحيحة - وليست بالقليلة - وردت في فضائل بعض البلدان وأهلها، وإن كانت هذه النتيجة في الوقت ذاته لا تعني التسليم بصحة كل ما ورد في هذا الشأن، بل إننا معترفون بكثرة الأحاديث التي وضعت في فضائل البلدان أو ذمها، ولسنا مبالغين إذا قلنا: إنه "لا تكاد توجد مدينة من مدن الدولة الإسلامية إلا وضع فيها حديث يشيد بفضلها أو يظهر ذمها والحط منها، أو يحذر من السكنى بها أو يرغب في ذلك، ولعل تنقل مقر السلطة بين الحجاز والشام والعراق كان له دور في ذلك"([14]).

فقد وضعت أحاديث في فضائل مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق وجدة والإسكندرية وعسقلان وقزوين ونصيبين وخراسان، وكذلك وضعت أحاديث في ذم القسطنطينية وطبرية وأنطاكية وصنعاء ومصر والبصرة وبغداد والسودان، إلى غيرها من الأحاديث التي تشير إلى أن العصبية القبلية والفخر بالجنس أو اللون أو الدم أو المدن كان له أثر بارز في وضع الحديث والاختلاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك ما ورد من الأحاديث في ذم الحبشة والسودان، "قال ابن القيم: كل ما ورد من الحديث في ذم الحبشة والسودان فهو كذب"([15])، وكذلك أيضا ما جاء في فضلهم ففيه ضعف. روى ابن حبان في الضعفاء: "اتخذوا السودان، فإن فيهم ثلاثة فيهم سادات الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال"([16]).

لقد "وجد العلماء في كل باب أحاديث صحيحة وأخرى ضعيفة أو موضوعة، فخصصوا للصحيح بدرجاته المختلفة كتبا، وللموضوعات كتبا، فليس الوضع في باب "فضل البلدان وذم البلدان" شيئا خاصا به دون سائر الأبواب، فهذا ابن الجوزي رحمه الله يخصص كتابا ضخما في الموضوعات بعنوان: "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، وقد أورد أحاديث واهية في ذم الإسكندرية وفضل عدن ودمشق وحمص ومرو والأردن والشام والبصرة، وكذلك في ذم بعضها"([17]).

ومهما يكن من أمر فقد صحت أحاديث في فضائل بعض البلدان وأهلها، فليست كل الأحاديث التي وردت في فضائل البلدان موضوعة، وقد صح في فضل اليمن حديث: «أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة، وألين قلوبا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم»([18]).

إن ورود كثير من الأحاديث الموضوعة والضعيفة في فضائل بعض البلدان وأهلها، والتي محصها العلماء والمحدثون - لا تجعلنا نتبني مبدأ التعميم في الحكم، فننكر الأحاديث الصحيحة الواردة في فضائل بعض البلدان وأهلها؛ لأنه لا يجوز التعميم إلا بحقه.

وعليه فإنه كما ضعف المحدثون بعض الأحاديث في باب فضائل بعض البلدان وأهلها، فإنهم أيضا أثبتوا صحة بعض الأحاديث في بعض البلدان وأهلها مدحا أو ذما، وليس أمامنا إلا أن نرد ما ضعفوه، أو أخرجوه من جملة الكلام المنسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن نقبل ما قبلوه منه، وثقتنا في قبول هذه الأحاديث الصحيحة لا تقل عن ثقتنا في رفض تلك الأقوال الموضوعة!

الخلاصة:

·   على الرغم من تسليمنا بكثرة الأحاديث التي وضعت في فضائل البلدان وأهلها، فإننا لا نسلم بأن كل ما ورد في هذا الشأن موضوع لا أساس له، فلقد أخرج البخاري في فضائل المدينة عدة أحاديث صحيحة، وأخرج كذلك ستة أحاديث في ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع، وكذا أخرج مسلم في صحيحه أحاديث في فضائل أهل اليمن، وعمان وفارس.

·   إن الحديث الذي جاء في مسند أحمد في حق مصر ليس فيه ثناء على شعب مصر حتى يقال: إن المصريين وضعوه تحت إملاء النعرة القومية؛ إذ لا غضاضة في أن يوصي النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم خيرا "فإن لهم صهرا وذمة".

·   رغم كثرة الأحاديث الموضوعة في فضائل البلدان ومناقب أهلها، فإن علماء الحديث قد فحصوها ونقدوها حديثا حديثا، ولم يمنعهم من ذلك مجيئها في بعض المسانيد، ومن ذلك مثلا الحديث الخاص بفضل عسقلان، وكذلك ما ورد من الأحاديث في ذم الحبشة والسودان.

·   إن من المنطق - أمام تثبت المحدثين بشأن الأحاديث الواردة في باب فضائل البلدان وأهلها - ألا نعمم الحكم عليها بقبول مجمل أو رفض مجمل، وهم الذين قبلوا بعضا وردوا بعضا.

·   إننا وإن لم نقبل من هذه الأخبار ما وصفه جهابذة الحديث بالوضع، فإننا نقبل الأخبار الأخرى الصحيحة الثابتة في فضائل بعض البلدان ومناقب أهلها، بثقة في القبول لا تقل عن تلك الثقة في الرفض.

 

المراجع

  1. (*) كيف ولماذا التشكيك في السنة؟ د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م.
  2. [1]. موضوع: ذكره ابن الجوزي في كتاب الموضوعات, تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، بيروت، ط2، 1403هـ/ 1983م، (1/ 111).
  3. [2]. موضوع: ذكره الفتني في تذكرة الموضوعات, (1/ 113).
  4. [3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل المدينة، باب: حرم المدينة, (4/ 97), رقم (1867).[4]. لابتي المدينة: ناحيتيها.
  5. [5]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل المدينة، باب: حرم المدينة, (4/ 97), رقم (1869).
  6. [6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل المدينة، باب: حرم المدينة, (4/ 97), رقم (1870).
  7. [7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش, (6/ 617), رقم (3504).
  8. [8]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: ذكر أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع, (6/ 626), رقم (3512).
  9. [9]. كيف ولماذا التشكيك في السنة؟ د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص85، 86 بتصرف.
  10. [10]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (3/ 867).
  11. [11]. صحيح، أخرجه أحمد في مسنده, مسند الأنصار، حديث المشايخ عن أبي بن كعب صلى الله عليه وسلم، رقم (21560). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.
  12. [12]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأهل مصر, (9/ 3670), رقم (6375).
  13. [13]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأهل مصر, (9/ 3670), رقم (6376).
  14. [14]. الوضع في الحديث، د. عمر بن حسن عثمان فلاته، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت، د. ت، (1/ 262).
  15. [15]. المنار المنيف في الصحيح والضعيف، ابن القيم، تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط2، 1403هـ/ 1987م، ص101.
  16. [16]. الموضوعات, ابن الجوزي, تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، بيروت، ط2، 1403هـ/ 1983م, (1/ 232).
  17. [17]. كيف ولماذا التشكيك في السنة؟ د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص88، 89.
  18. [18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن، (7/ 701), رقم (4388).