نص السؤال

ادعاء أن علماء المسلمين كانوا يخترعون الكتب وينسبونها للنبي - صلى الله عليه وسلم - لإثبات قواعدهم الفقهية حين تعوزهم الروايات

المصدر: شبهات المشككين في الإسلام

الجواب التفصيلي

ادعاء أن علماء المسلمين كانوا يخترعون الكتب وينسبونها للنبي - صلى الله عليه وسلم - لإثبات قواعدهم الفقهية حين تعوزهم الروايات(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتقولين أن علماء المسلمين نسبوا للسنة ما ليس منها حين اخترعوا صحفا مكتوبة وألصقوها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على أنها تبين إرادته، فهي نصوص مختلقة لإثبات قواعدهم الفقهية التي أعوزتهم الروايات فيها، ويمثلون لذلك بمسألة تعريف الصدقة، وما يتصل بها من كتب تفصل شئون الزكاة وأنصبتها في الإبل والبقر والغنم ونحوها. ويتساءلون: أليس قبول مثل هذه الصحف - قريبة العهد - أيسر عند قوم قبلوا حلفا بين اليمنية وربيعة يرجع لعهد تبع معد يكرب حين أظهره بعض الناس توفيقا بين عرب الشمال وعرب الجنوب؟! وهم بذلك يرمون إلى: تشكيك المسلمين فيما ينسب للنبي - صلى الله عليه وسلم - من صحف مكتوبة بشأن أحكام الصدقة؛ تمهيدا للتشكيك في السنة جملة وتفصيلا، بغية إنكارها وترك العمل بمقتضاها.

وجها إبطال الشبهة:

1) لقد كان علماء المسلمين على حذر في قبول الصحف المكتوبة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك نقدوها وأجرو عليها قواعدهم الدقيقة، وما قبلوا منها إلا الصحيح الذي لا لبس فيه؛ ولذلك حكموا بالوضع على مثل نسخ ابن هدبة ودينار وأبي الدنيا الأشج وغيرهم، في مقابل إجماعهم مثلا على صحة كتاب أبي بكر إلى أنس.

2) إن تلمس الدليل فيما لا يعد دليلا ضرب من فقدان المرجعية؛ إذ إن الناس قد يصدقون كل شيء إلا أن يكون متصلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منسوبا إليه، فإنه يخضع لتمحيص شديد، ثم إنه لا يصح أن يتخذ الاختلاف في صحة نص في مسألة ما وردت فيها عدة نصوص دليلا على وضع كل ما ورد فيها!

 التفصيل:

أولا. نقد علماء المسلمين للصحف المكتوبة:

إذا أمعنت النظر في حرص الصحابة على حفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقله، وحرص التابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم على نقل هذا الحديث وجمعه، وتنقيته من شوائب التحريف والتزيد، وما قام به علماء السنة من جهود مضنية في تتبع الكذابين والوضاعين، وفضح نواياهم ودخائلهم، وبيان ما لفقوه للسنة من أحاديث مكذوبة، حتى جمعت السنة في كتب صحيحة، وأشبعها النقاد بحثا وتمحيصا، ثم خرجوا من ذلك إلى الاعتراف بصحتها والتسليم بها، إذا أمعنت النظر في ذلك كله؛ أيقنت أن المستشرقين، ومن سلك سبيلهم في التشكيك في السنة يخبطون في أودية الأوهام، ويتأثرون بأهوائهم، وتعصبهم في الحكم على حقائق يعتبر العبث بها - في نظر المحقق المنصف - إسفافا وتلاعبا بالعلم، وليا لأعناق الحقائق التاريخية ميلا مع نظريات الهوى والعصبية([1]).

وقد كان من الجائز أن يكون لهؤلاء مسوغا في موقفهم لو أن علماءنا قبلوا هذه الصحف المكتوبة برمتها من غير ما بحث عن صحتها، لكنهم نقدوها وأجروها على قواعدهم الدقيقة واتخذوا جميع الوسائل لتمحيص الكلام المنسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والتمييز بين صحيحه وسقيمه، وهم الذين حفظوا ألوفا من الأحاديث الموضوعة ليكشفوا حقيقتها للأمة، وتتبعوا أحوال الرواة التي تساعد في عملية النقد وتمييز الطيب من الخبيث([2]).

إن كل هذه القواعد وغيرها قد أجريت على الصحف المكتوبة؛ ولذلك حكم علماء الحديث بالوضع على مثل نسخ ابن هدبة ودينار وأبي الدنيا الأشج وغيرهم، وفي الوقت ذاته نجدهم قد أجمعوا على صحة كتاب أبي بكر إلى أنس، وقد أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود والدارقطني والشافعي والحاكم والبيهقي.

إننا في الوقت الذي نعترف فيه بوجود موضوعات بشأن الصدقة وتعريفها، يجب أن نقر بالصحيح المجمع عليه في هذا الباب كالإجماع - الذي أسلفنا ذكره - على صحة كتاب أبي بكر إلى أنس، والذي أخرجه البخاري قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري قال: حدثني أبي قال: حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسا حدثه أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط...»([3]).

قال ابن حجر في شرح هذا الحديث ما نصه: "قوله: "حدثني ثمامة" هو عم الراوي عنه؛ لأنه عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك، وهذا الإسناد مسلسل بالبصريين من آل أنس بن مالك. وعبد الله بن المثنى اختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة: صالح، ومرة: ليس بشيء. وقواه أبو زرعة وأبو حاتم والعجلي، وأما النسائي فقال: ليس بالقوي. وقال العقيلي: لا يتابع في أكثر حديثه.

وقد تابعه على حديثه هذا حماد بن سلمة فرواه عن ثمامة أنه أعطاه كتابا زعم أن أبا بكر كتبه لأنس وعليه خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه مصدقا فذكر الحديث.

 وأخرجه أبو داود عن أبي سلمة عنه، ورواه أحمد في مسنده قال: "حدثنا أبو كامل حدثنا حماد قال: أخذت هذا الكتاب من ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس أن أبا بكر..." فذكره.

 وقال إسحاق بن راهويه في مسنده: "أخبرنا النضر بن شميل حدثنا حماد بن سلمة أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يحدثه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم..." فذكره.

فوضح أن حمادا سمعه من ثمامة وأقرأه الكتاب فانتفى تعليل من أعله بكونه مكاتبة، وانتفى تعليل من أعله بكون عبد الله بن المثنى لم يتابع عليه"([4]).

نخلص من النص السابق بعدة نتائج تتعاضد في مجملها على إثبات صحة كتاب أبي بكر لأنس رضي الله عنهما في الصدقة وهي:

·  ورود الكتاب في صحيح البخاري - وهو أصح كتاب تلقته الأمة بالقبول بعد كتاب الله عز وجل - قاطع بصحته، بل واعتماد البخاري له في استنباط أصول زكاة الغنم.

·  الراوي الوحيد الذي تكلم فيه من رواة البخاري، وهو عبد الله بن المثنى، قال فيه ابن معين مرة: صالح، ومرة: ليس بشيء، لكن كبار علماء الجرح والتعديل على قبول روايته.

ذكر ابن حجر لهذا الحديث طرقا أخرى تعضده، وهي: طريق أحمد وأبي داود وإسحاق بن راهويه، وكلها عن حماد بن سلمة عن ثمامة.

هناك قاعدة ذكرها علماء الحديث مفادها: أن البخاري إذا خرج رواية لراو متكلم فيه، فإنه يخرج له ما صفا من الروايات التي لم يخطئ فيها هذا الراوي.

وإذا كان العلماء قد أجمعوا على صحة كتاب أبي بكر إلى أنس في الصدقة، فإنهم اختلفوا في غيره من الكتب بين تصحيح وتحسين، ومنها ما جاء مرسلا، ومنها ما جاء منقطعا.

ومهما يكن من أمر فإن علماء الحديث لم يتلقوا هذه الصحف بالقبول من غير ما نقد ولا فحص، ولم يعتمدوا فقط على مجرد النص المكتوب، بل رووا محتوياته بالطرق المعتادة، مشافهة راويا عن راو وهكذا، فكان اعتمادهم عليها من ناحيتين: النص المكتوب، والرواية الشفوية المتصلة([5]).

ثانيا. كتاب الزكاة والصدقات كان من بين الكتب التي كتبها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الإسلام:

إذا كان هؤلاء المغرضون يطعنون في صحة بعض كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ككتاب الصدقة ويزعمون أن المسلمين هم الذين كتبوا هذه الكتب، ونسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي آراؤهم الخاصة وليست من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم - فإننا نسألهم لماذا كتاب الصدقة بالذات؟ وماذا عن بقية الكتب في الزكاة وغيرها؟ وماذا عن آلاف المسائل الأخرى التي اجتهد فيها العلماء برأيهم ولم ينسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولماذا نسبوا كتاب الصدقة فقط ولم ينسبوا بقية آرائهم؟ ومتى كان الاختلاف في صحة نص في مسألة وردت فيها عدة نصوص، دليلا على أن كل ما ورد موضوع لا أساس له؟! وهل يتخذ من وجود نص قديم مكتوب منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليلا على أنهم كانوا يخترعون الكتب حين تعوزهم الروايات؟ وهل يعجز الذين وضعوا الحديث في مختلف نواحيه أن يضعوا بضعة أحاديث تفصل مقدار الزكاة دون أن يلجأوا إلى اختراع نص مكتوب([6])؟!

وإذا تجاوزنا هذه التساؤلات إلى تساؤل آخر - من شأنه أن يلقي مزيدا من الضوء على جانب من جوانب هذه الشبهة - مؤداه: هل ينكر أحد معاهدات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكتبه إلى الملوك والرؤساء؟!

فهناك صلح الحديبية وهي معاهدة مشهورة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من جانب، وبين أهل مكة من جانب آخر، وهناك صلح خيبر، ومعاهدة أهل الحدود بين الحجاز والشام وغيرها.

وبعد صلح الحديبية كانت كتبه - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والرؤساء، فمنها رسالة إلى كسرى ملك الفرس، ورسالة إلى المقوقس عظيم القبط، ورسالة إلى هرقل قيصر الروم، ورسالة إلى النجاشي ملك الحبشة. فهذه الكتب وتلك المعاهدات ثابتة تاريخيا لا يستطيع أحد إنكارها.

وكما كتب - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والرؤساء، كتب عدة رسائل إلى عمال له، وإلى غير عمال تضمنت بعض تشريعات الإسلام، وكان من بين هذه الرسائل، رسالة تضمنت أحكام الزكاة والصدقات؛ فقد روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كتب الصدقة - في صحيفة - ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي، قال: فأخرجها أبو بكر من بعده فعمل بها حتى توفي، ثم أخرجها عمر من بعده فعمل بها...»([7]).

ومن هنا يتبين لنا أن فريضة الزكاة التي وردت في القرآن مجملة كتبها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مفصلة وعمل بها، فلما ولي أبو بكر الخلافة كتب كتبا وضمن هذه الكتب ما ورد في صحيفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخاصة بالصدقات، ثم أرسلها إلى عماله في أقاليم الدولة الإسلامية([8]).

"أما قضية النزاع بين عرب الشمال وعرب الجنوب، وتصديقهم نصا مكتوبا من عصر تبع، فهذا من أغرب الأمور في هذا الموطن، إذ إن الناس يتساهلون في كل شيء إلا أن يكون متصلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منسوبا إليه، فهنا تتفتح العيون، وهنا يقوم البحث والاستقصاء؛ لأنه دين، وما كان لأحد أن يقبل دين الله بالوهم والظن والهوى، ثم إن الذين قبلوا النص المكتوب في النزاع بين عرب الشمال وعرب الجنوب لم يكونوا من علماء الحديث، فما صلة هذا بالموضوع"([9])؟!

إن تلمس الدليل فيما لا يعد دليلا ضرب من فقدان المرجعية، وكما رأينا فإن الواحد من هؤلاء المشككين يخترع الأكذوبة ويتخيلها، ويركب لها في نفسه هيكلا، ثم يلتقط من هنا وهناك ما يوهم أنه يؤيد مقالته ويعضد وهمه، ولا يبالي أن يكذب في النصوص، أو يغالط في الفهم، أو يستدل بما ليس بدليل ويعرض عن الدليل البين القاطع.

الخلاصة:

·   لم يقبل المحدثون الصحف التي كتبت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا دون نقد وتمحيص، بل نقدوها وأجروا عليها قواعدهم الدقيقة؛ ولذلك نجدهم يحكمون بصحة كتاب أبي بكر إلى أنس رضي الله عنهما في الوقت الذي يحكمون فيه بالوضع على مثل نسخ: ابن هدبة ودينار وأبي الدنيا الأشج وغيرهم.

·   ورد كتاب أبي بكر إلى أنس رضي الله عنهما في صحيح البخاري، وهو أصح كتاب تلقته الأمة بالقبول بعد كتاب الله - عز وجل - واعتماد البخاري إياه في استنباط أصول زكاة الغنم كاف لقبوله والاطمئنان إليه، فضلا عن أن العلماء أجمعوا على أنها نسخة من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة.

·   كما لا يستطيع أحد أن ينكر معاهدات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسائله إلى الملوك والرؤساء، بحكم كونها ثابتة تاريخيا؛ فإنه من الواجب بالمثل أن نقر بما كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عماله على الأمصار وإلى غيرهم وأن هذه الصحيفة - صحيفة الصدقة - واحدة من تلك الصحف المكتوبة.

·   إن الاستدلال على سرعة تلقي الناس وقبولهم الصحف حتى وإن كانت موضوعة محالة عقلا - بنص مكتوب من عصر تبع معد يكرب، وهذا من قبيل تلمس الدليل فيما لا يعد دليلا؛ إذ إن الذين قبلوا النص المكتوب في قضية النزاع بين عرب الشمال وعرب الجنوب لم يكونوا من المحدثين، كما أن الصحيفة المستشهد بها إنما هي حلف بين اليمنية وربيعة، وفرق بين حلف منسوب لقبيلتين يخرجه بعض الناس توفيقا بين فريقين، وبين حديث منسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يخرجه خليفة راشد تشريعا للمسلمين.

 

المراجع

  1. (*) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م.
  2. [1]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص184 بتصرف.
  3. [2]. الرد على المستشرقين في شبهاتهم حول السنة النبوية، محمد شيخ عبد الله، مكتبة عباد الرحمن، القاهرة، ط1، 1429هـ/ 2008م، ص36، 37 بتصرف.
  4. [3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الغنم، (3/ 371، 372)، رقم (1454).
  5. [4]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (3/ 372).
  6. [5]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص218 بتصرف.
  7. [6]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص28 بتصرف.
  8. [7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب، (6/ 290)، رقم (4634). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
  9. [8]. دراسات في السنة النبوية الشريفة، د. صديق عبد العظيم، دار هجر، القاهرة، ط2، 1408هـ/ 1988م، ص110: 114 بتصرف.
  10. [9]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص218.

الجواب التفصيلي

ادعاء أن علماء المسلمين كانوا يخترعون الكتب وينسبونها للنبي - صلى الله عليه وسلم - لإثبات قواعدهم الفقهية حين تعوزهم الروايات(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتقولين أن علماء المسلمين نسبوا للسنة ما ليس منها حين اخترعوا صحفا مكتوبة وألصقوها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على أنها تبين إرادته، فهي نصوص مختلقة لإثبات قواعدهم الفقهية التي أعوزتهم الروايات فيها، ويمثلون لذلك بمسألة تعريف الصدقة، وما يتصل بها من كتب تفصل شئون الزكاة وأنصبتها في الإبل والبقر والغنم ونحوها. ويتساءلون: أليس قبول مثل هذه الصحف - قريبة العهد - أيسر عند قوم قبلوا حلفا بين اليمنية وربيعة يرجع لعهد تبع معد يكرب حين أظهره بعض الناس توفيقا بين عرب الشمال وعرب الجنوب؟! وهم بذلك يرمون إلى: تشكيك المسلمين فيما ينسب للنبي - صلى الله عليه وسلم - من صحف مكتوبة بشأن أحكام الصدقة؛ تمهيدا للتشكيك في السنة جملة وتفصيلا، بغية إنكارها وترك العمل بمقتضاها.

وجها إبطال الشبهة:

1) لقد كان علماء المسلمين على حذر في قبول الصحف المكتوبة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك نقدوها وأجرو عليها قواعدهم الدقيقة، وما قبلوا منها إلا الصحيح الذي لا لبس فيه؛ ولذلك حكموا بالوضع على مثل نسخ ابن هدبة ودينار وأبي الدنيا الأشج وغيرهم، في مقابل إجماعهم مثلا على صحة كتاب أبي بكر إلى أنس.

2) إن تلمس الدليل فيما لا يعد دليلا ضرب من فقدان المرجعية؛ إذ إن الناس قد يصدقون كل شيء إلا أن يكون متصلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منسوبا إليه، فإنه يخضع لتمحيص شديد، ثم إنه لا يصح أن يتخذ الاختلاف في صحة نص في مسألة ما وردت فيها عدة نصوص دليلا على وضع كل ما ورد فيها!

 التفصيل:

أولا. نقد علماء المسلمين للصحف المكتوبة:

إذا أمعنت النظر في حرص الصحابة على حفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقله، وحرص التابعين وتابعي التابعين ومن بعدهم على نقل هذا الحديث وجمعه، وتنقيته من شوائب التحريف والتزيد، وما قام به علماء السنة من جهود مضنية في تتبع الكذابين والوضاعين، وفضح نواياهم ودخائلهم، وبيان ما لفقوه للسنة من أحاديث مكذوبة، حتى جمعت السنة في كتب صحيحة، وأشبعها النقاد بحثا وتمحيصا، ثم خرجوا من ذلك إلى الاعتراف بصحتها والتسليم بها، إذا أمعنت النظر في ذلك كله؛ أيقنت أن المستشرقين، ومن سلك سبيلهم في التشكيك في السنة يخبطون في أودية الأوهام، ويتأثرون بأهوائهم، وتعصبهم في الحكم على حقائق يعتبر العبث بها - في نظر المحقق المنصف - إسفافا وتلاعبا بالعلم، وليا لأعناق الحقائق التاريخية ميلا مع نظريات الهوى والعصبية([1]).

وقد كان من الجائز أن يكون لهؤلاء مسوغا في موقفهم لو أن علماءنا قبلوا هذه الصحف المكتوبة برمتها من غير ما بحث عن صحتها، لكنهم نقدوها وأجروها على قواعدهم الدقيقة واتخذوا جميع الوسائل لتمحيص الكلام المنسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والتمييز بين صحيحه وسقيمه، وهم الذين حفظوا ألوفا من الأحاديث الموضوعة ليكشفوا حقيقتها للأمة، وتتبعوا أحوال الرواة التي تساعد في عملية النقد وتمييز الطيب من الخبيث([2]).

إن كل هذه القواعد وغيرها قد أجريت على الصحف المكتوبة؛ ولذلك حكم علماء الحديث بالوضع على مثل نسخ ابن هدبة ودينار وأبي الدنيا الأشج وغيرهم، وفي الوقت ذاته نجدهم قد أجمعوا على صحة كتاب أبي بكر إلى أنس، وقد أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود والدارقطني والشافعي والحاكم والبيهقي.

إننا في الوقت الذي نعترف فيه بوجود موضوعات بشأن الصدقة وتعريفها، يجب أن نقر بالصحيح المجمع عليه في هذا الباب كالإجماع - الذي أسلفنا ذكره - على صحة كتاب أبي بكر إلى أنس، والذي أخرجه البخاري قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري قال: حدثني أبي قال: حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسا حدثه أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط...»([3]).

قال ابن حجر في شرح هذا الحديث ما نصه: "قوله: "حدثني ثمامة" هو عم الراوي عنه؛ لأنه عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك، وهذا الإسناد مسلسل بالبصريين من آل أنس بن مالك. وعبد الله بن المثنى اختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة: صالح، ومرة: ليس بشيء. وقواه أبو زرعة وأبو حاتم والعجلي، وأما النسائي فقال: ليس بالقوي. وقال العقيلي: لا يتابع في أكثر حديثه.

وقد تابعه على حديثه هذا حماد بن سلمة فرواه عن ثمامة أنه أعطاه كتابا زعم أن أبا بكر كتبه لأنس وعليه خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه مصدقا فذكر الحديث.

 وأخرجه أبو داود عن أبي سلمة عنه، ورواه أحمد في مسنده قال: "حدثنا أبو كامل حدثنا حماد قال: أخذت هذا الكتاب من ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس أن أبا بكر..." فذكره.

 وقال إسحاق بن راهويه في مسنده: "أخبرنا النضر بن شميل حدثنا حماد بن سلمة أخذنا هذا الكتاب من ثمامة يحدثه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم..." فذكره.

فوضح أن حمادا سمعه من ثمامة وأقرأه الكتاب فانتفى تعليل من أعله بكونه مكاتبة، وانتفى تعليل من أعله بكون عبد الله بن المثنى لم يتابع عليه"([4]).

نخلص من النص السابق بعدة نتائج تتعاضد في مجملها على إثبات صحة كتاب أبي بكر لأنس رضي الله عنهما في الصدقة وهي:

·  ورود الكتاب في صحيح البخاري - وهو أصح كتاب تلقته الأمة بالقبول بعد كتاب الله عز وجل - قاطع بصحته، بل واعتماد البخاري له في استنباط أصول زكاة الغنم.

·  الراوي الوحيد الذي تكلم فيه من رواة البخاري، وهو عبد الله بن المثنى، قال فيه ابن معين مرة: صالح، ومرة: ليس بشيء، لكن كبار علماء الجرح والتعديل على قبول روايته.

ذكر ابن حجر لهذا الحديث طرقا أخرى تعضده، وهي: طريق أحمد وأبي داود وإسحاق بن راهويه، وكلها عن حماد بن سلمة عن ثمامة.

هناك قاعدة ذكرها علماء الحديث مفادها: أن البخاري إذا خرج رواية لراو متكلم فيه، فإنه يخرج له ما صفا من الروايات التي لم يخطئ فيها هذا الراوي.

وإذا كان العلماء قد أجمعوا على صحة كتاب أبي بكر إلى أنس في الصدقة، فإنهم اختلفوا في غيره من الكتب بين تصحيح وتحسين، ومنها ما جاء مرسلا، ومنها ما جاء منقطعا.

ومهما يكن من أمر فإن علماء الحديث لم يتلقوا هذه الصحف بالقبول من غير ما نقد ولا فحص، ولم يعتمدوا فقط على مجرد النص المكتوب، بل رووا محتوياته بالطرق المعتادة، مشافهة راويا عن راو وهكذا، فكان اعتمادهم عليها من ناحيتين: النص المكتوب، والرواية الشفوية المتصلة([5]).

ثانيا. كتاب الزكاة والصدقات كان من بين الكتب التي كتبها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الإسلام:

إذا كان هؤلاء المغرضون يطعنون في صحة بعض كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ككتاب الصدقة ويزعمون أن المسلمين هم الذين كتبوا هذه الكتب، ونسبوها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي آراؤهم الخاصة وليست من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم - فإننا نسألهم لماذا كتاب الصدقة بالذات؟ وماذا عن بقية الكتب في الزكاة وغيرها؟ وماذا عن آلاف المسائل الأخرى التي اجتهد فيها العلماء برأيهم ولم ينسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟! ولماذا نسبوا كتاب الصدقة فقط ولم ينسبوا بقية آرائهم؟ ومتى كان الاختلاف في صحة نص في مسألة وردت فيها عدة نصوص، دليلا على أن كل ما ورد موضوع لا أساس له؟! وهل يتخذ من وجود نص قديم مكتوب منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - دليلا على أنهم كانوا يخترعون الكتب حين تعوزهم الروايات؟ وهل يعجز الذين وضعوا الحديث في مختلف نواحيه أن يضعوا بضعة أحاديث تفصل مقدار الزكاة دون أن يلجأوا إلى اختراع نص مكتوب([6])؟!

وإذا تجاوزنا هذه التساؤلات إلى تساؤل آخر - من شأنه أن يلقي مزيدا من الضوء على جانب من جوانب هذه الشبهة - مؤداه: هل ينكر أحد معاهدات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكتبه إلى الملوك والرؤساء؟!

فهناك صلح الحديبية وهي معاهدة مشهورة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من جانب، وبين أهل مكة من جانب آخر، وهناك صلح خيبر، ومعاهدة أهل الحدود بين الحجاز والشام وغيرها.

وبعد صلح الحديبية كانت كتبه - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والرؤساء، فمنها رسالة إلى كسرى ملك الفرس، ورسالة إلى المقوقس عظيم القبط، ورسالة إلى هرقل قيصر الروم، ورسالة إلى النجاشي ملك الحبشة. فهذه الكتب وتلك المعاهدات ثابتة تاريخيا لا يستطيع أحد إنكارها.

وكما كتب - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك والرؤساء، كتب عدة رسائل إلى عمال له، وإلى غير عمال تضمنت بعض تشريعات الإسلام، وكان من بين هذه الرسائل، رسالة تضمنت أحكام الزكاة والصدقات؛ فقد روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كتب الصدقة - في صحيفة - ولم يخرجها إلى عماله حتى توفي، قال: فأخرجها أبو بكر من بعده فعمل بها حتى توفي، ثم أخرجها عمر من بعده فعمل بها...»([7]).

ومن هنا يتبين لنا أن فريضة الزكاة التي وردت في القرآن مجملة كتبها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مفصلة وعمل بها، فلما ولي أبو بكر الخلافة كتب كتبا وضمن هذه الكتب ما ورد في صحيفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخاصة بالصدقات، ثم أرسلها إلى عماله في أقاليم الدولة الإسلامية([8]).

"أما قضية النزاع بين عرب الشمال وعرب الجنوب، وتصديقهم نصا مكتوبا من عصر تبع، فهذا من أغرب الأمور في هذا الموطن، إذ إن الناس يتساهلون في كل شيء إلا أن يكون متصلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منسوبا إليه، فهنا تتفتح العيون، وهنا يقوم البحث والاستقصاء؛ لأنه دين، وما كان لأحد أن يقبل دين الله بالوهم والظن والهوى، ثم إن الذين قبلوا النص المكتوب في النزاع بين عرب الشمال وعرب الجنوب لم يكونوا من علماء الحديث، فما صلة هذا بالموضوع"([9])؟!

إن تلمس الدليل فيما لا يعد دليلا ضرب من فقدان المرجعية، وكما رأينا فإن الواحد من هؤلاء المشككين يخترع الأكذوبة ويتخيلها، ويركب لها في نفسه هيكلا، ثم يلتقط من هنا وهناك ما يوهم أنه يؤيد مقالته ويعضد وهمه، ولا يبالي أن يكذب في النصوص، أو يغالط في الفهم، أو يستدل بما ليس بدليل ويعرض عن الدليل البين القاطع.

الخلاصة:

·   لم يقبل المحدثون الصحف التي كتبت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا دون نقد وتمحيص، بل نقدوها وأجروا عليها قواعدهم الدقيقة؛ ولذلك نجدهم يحكمون بصحة كتاب أبي بكر إلى أنس رضي الله عنهما في الوقت الذي يحكمون فيه بالوضع على مثل نسخ: ابن هدبة ودينار وأبي الدنيا الأشج وغيرهم.

·   ورد كتاب أبي بكر إلى أنس رضي الله عنهما في صحيح البخاري، وهو أصح كتاب تلقته الأمة بالقبول بعد كتاب الله - عز وجل - واعتماد البخاري إياه في استنباط أصول زكاة الغنم كاف لقبوله والاطمئنان إليه، فضلا عن أن العلماء أجمعوا على أنها نسخة من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة.

·   كما لا يستطيع أحد أن ينكر معاهدات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسائله إلى الملوك والرؤساء، بحكم كونها ثابتة تاريخيا؛ فإنه من الواجب بالمثل أن نقر بما كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عماله على الأمصار وإلى غيرهم وأن هذه الصحيفة - صحيفة الصدقة - واحدة من تلك الصحف المكتوبة.

·   إن الاستدلال على سرعة تلقي الناس وقبولهم الصحف حتى وإن كانت موضوعة محالة عقلا - بنص مكتوب من عصر تبع معد يكرب، وهذا من قبيل تلمس الدليل فيما لا يعد دليلا؛ إذ إن الذين قبلوا النص المكتوب في قضية النزاع بين عرب الشمال وعرب الجنوب لم يكونوا من المحدثين، كما أن الصحيفة المستشهد بها إنما هي حلف بين اليمنية وربيعة، وفرق بين حلف منسوب لقبيلتين يخرجه بعض الناس توفيقا بين فريقين، وبين حديث منسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يخرجه خليفة راشد تشريعا للمسلمين.

 

المراجع

  1. (*) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م.
  2. [1]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص184 بتصرف.
  3. [2]. الرد على المستشرقين في شبهاتهم حول السنة النبوية، محمد شيخ عبد الله، مكتبة عباد الرحمن، القاهرة، ط1، 1429هـ/ 2008م، ص36، 37 بتصرف.
  4. [3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الغنم، (3/ 371، 372)، رقم (1454).
  5. [4]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (3/ 372).
  6. [5]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص218 بتصرف.
  7. [6]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص28 بتصرف.
  8. [7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب، (6/ 290)، رقم (4634). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.
  9. [8]. دراسات في السنة النبوية الشريفة، د. صديق عبد العظيم، دار هجر، القاهرة، ط2، 1408هـ/ 1988م، ص110: 114 بتصرف.
  10. [9]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص218.