نص السؤال

الزعم أن النقاد القدامى كانوا يتساهلون في توثيق الرواة

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

الزعم أن النقاد القدامى كانوا يتساهلون في توثيق الرواة (*)

مضمون الشبهة:يدعي بعض المتوهمين أن أئمة النقد القدامى تساهلوا في توثيقهم للرواة، ويستدلون على ذلك بأن العجلي قد تساهل في توثيقه للرواة؛ إذ كثر توثيقه لمن لا يوجد لغيره فيه كلام، وهو أيضا خالف غيره من أئمة النقد بتوثيقه رواة جهلهم أو ضعفهم أو تركهم غيره، ودليل ذلك عدم اعتماد الحافظ ابن حجر لتوثيق العجلي إذا انفرد. وأما ابن خزيمة فقد كان يوثق المجهولين، وكذلك ابن حبان قد توسع في التعديل. هذا فضلا عن الحاكم النيسابوري الذي جاء تساهله من جهة ضعف تحقيقه لشرط الصحة في كتابه "المستدرك". وأما تساهل ابن عبد البر فقد جاء من جهة أن العدالة عنده كانت تثبت للراوي بمجرد الإسلام، فيقبل بذلك حديثه.

رامين من وراء ذلك إلى القول باضطراب الحكم على الرجال، وكثرة تساهل أئمة الجرح والتعديل في توثيق الرواة.

وجوه إبطال الشبهة:

1) لقد أجمع أئمة الحديث على إمامة العجلي في علم الحديث، وأنه أحد نقاد الآثار وصيارفة العلل وأئمة الجرح والتعديل، أما من توهم أنه متساهل في التوثيق فمردود عليه بوجوه تبين أن الأمر ليس كما توهم.

2) إن ابن خزيمة جرح رواة بالجهالة، ورد حديثهم بذلك في مواضع كثيرة من كتابيه (صحيح ابن خزيمة، التوحيد)، فلو كان الأصل عنده إجراء الرواة على الثقة والعدالة لم يكن لجرحه بالجهالة معنى.

3) إن منهج ابن حبان في التوثيق لا يعني أن من وثقهم في كتابه "الثقات" هم ممن يحتج بهم، بل فيهم من هو حجة، وفيهم من هو دون ذلك ممن هو صالح الاعتبار، وقد أفصح هو عن ذلك في مقدمة الكتاب.

4) إن كلام الحاكم النيسابوري في النقلة في التحقيق معتبر قوي، وتعديله فيما يصف به الرواة من الثقة والصدق مقبول محتج به.

5) إن التحقيق العلمي يدلنا على أن ابن عبد البر جرح بالجهالة في مواضع كثيرة، ورد بها أحاديث رواها مجهولون لم يطعن عليهم إلا بالجهالة.

التفصيل:

أولا. العجلي إمام في الحديث، ولا مطعن في توثيقه:

لقد أثنى العلماء القدامى على العجلي ثناء يبين أنه إمام من أئمة النقد، وأنه من كبار الحفاظ، مع التدين المتين والورع والزهد، حتى إنه كان يقرن في ذلك بيحيى بن معين والإمام أحمد بن حنبل إمامي السنة والجرح والتعديل.

فقد قال عنه الذهبي: "له مصنف مفيد في الجرح والتعديل، طالعته، وعلقت منه فوائد تدل على تبحره بالصنعة وسعة حفظه. وقد ذكر (أي العجلي) للعباس بن محمد الدوري، فقال: كنا نعده مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين"[1].

وذكره الإمام الذهبي في كتابه "ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل"[2]، وذكره السخاوي في رسالته "المتكلمون في الرجال"[3].

 وكتاب العجلي في الجرح والتعديل أحد الموارد التي اعتمد عليها الخطيب البغدادي، والحميدي، وابن عساكر، والمزي، والذهبي، وابن رجب الحنبلي، والحافظ ابن حجر، والسخاوي، والسيوطي، وابن العماد الحنبلي، وغيرهم.

وثناء الأئمة عليه بذلك استمر في حياته وعصره، إلى زمن الإمام الذهبي، بل إلى ما بعد ذلك، حتى العصر الحديث.

بل لقد مضى الأئمة على اعتماد أقوال العجلي، والنص على أنه من أئمة الجرح والتعديل المعتمدين، وعلى الثناء على كتبه في الجرح والتعديل[4].

وعلى هذا لم نجد أحدا من الأئمة السابقين - قبل العصر الحديث - من وصم العجلي بالتساهل في التوثيق، أو أنه لا يعتمد على توثيقه إذا انفرد به لراو لم نجد فيه قولا لغيره.

أما الرد على أدلة من توهم أن العجلي متساهل في التوثيق، فسيكون من وجوه هي:

1. أما توثيقه لمن لم نجد لغيره فيهم كلاما، فما وجه دلالتهم على تساهله إذن؟ وهل تزيد على أن أعلنا جهلنا؟ وأننا عجزنا أن نعرف حال الراوي إلا من طريق العجلي؟!

ثم إن كان هذا دليلا على تساهل العجلي، فلن ينجو إمام من أئمة الجرح والتعديل من أن يكون متساهلا كالعجلي؛ لأنه لا يخلو إمام - لاسيما المكثرون من نقد الرواة - من أن نجد له توثيقا لراو لا متكلم فيه غيره، فصفوا يحيي بن معين، وأحمد بن حنبل، والبخاري وغيرهم بالتساهل إذن بنفس الحجة التي وصفتم بها العجلي بذلك!!

2. وأما مخالفة العجلي بتوثيقه لرواة جهلهم غيره من الأئمة، فمتى يكون من عنده زيادة علم مقدما على غيره إذا لم نقبل توثيق العجلي في هذه الحالة؟!

إن قول الإمام عن راو: إنه (مجهول) إعلام من الإمام عن عدم معرفته له، وإعلان منه أنه لا يخبر حاله، فإذا قال إمام آخر عن ذلك الراوي: إنه (ثقة)، فليس في ذلك مخالفة أصلا، ولا هذه المسألة من مسائل تعارض الجرح والتعديل؛ لأن من جهل الراوي توقف عن الحكم عليه بالثقة أوالضعف لعدم معرفته له، وأما من وثقه فقد عرفه، وعرف من حاله ما يستحق به التوثيق، فأصدر هذا الحكم عليه.

وهنا نقول: من كان عنده علم حجة على من لم يكن عنده علم.

والعجلي إمام كبير، أكبر سنا وأعلى إسنادا من الإمام البخاري، وكان يقرن بالإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في العلم - كما أشرنا سابقا - فمثله لا ينكر عليه أن يعرف من يجهله غيره من أئمة النقد، ولا يستغرب منه أن يكون حجة على عدم علم غيره من حفاظ الحديث، هذا عن توثيقه من يجهلهم غيره ويعلم هو حالهم.

أما إن كان هذا الاستدلال على تساهل العجلي مبني على كونه يوثق من يجهلهم هو أيضا، فهذا قول عجيب جدا؛ إذ لو لم يكن من أدلة بطلانه إلا أن العجلي قد صرح برد المجهول، ووصف رواة بالجهالة (دون توثيق)، لكفى به ردا على القول بتساهل العجلي.

فقد قال عن بقية بن الوليد: "ثقة ما روى عن المعروفين، وما روى عن المجهولين فليس بشيء"[5].

وقال عن مروان بن معاوية: "كوفي ثقة ثبت، وما حدث عن الرجال المجهولين فليس حديثه بشيء[6]".

كما وصف عددا من الرواة بالجهالة، مثل: ثعلبة بن عباد[7]، وشعيب بن ميمون[8]، وعلى العقيلي[9]، وغيرهم، فهل بعد هذا يصح أن نقول: إنه يوثق من جهلهم؟!

3. وأما بالنسبة لمخالفة العجلي بتوثيقه لرواة ضعفهم غيره أو تركهم سواه، فإن هذا أمر لا إشكال فيه في علم الجرح والتعديل؛ إذ إن اختلاف اجتهادات الأئمة في الرواة جرحا وتعديلا أمر معروف وواقع علمي صحيح، فإن لكل إمام شروطا تختلف عن غيره في ثوثيق الرواة وتضعيفهم، فقد تجد إماما قد وثق من ضعفه غيره أو ضعف من وثقه غيره، وربما كان الصواب مع من وثقه، وربما كان العكس.

"فجرح الرواة وتعديلهم قائم على اجتهاد النقاد، وكل ما رجع إلى الاجتهاد فهو مظنة للاختلاف، وذلك اختلاف جائز توجبه سنة التفاوت في العلم والفهم"[10].

قال المنذري: "اختلاف هؤلاء كاختلاف الفقهاء، كل ذلك يقتضيه الاجتهاد، فإن الحاكم إذا شهد عنده بجرح شخص، اجتهد في أن ذلك القدر مؤثر أم لا، وكذلك المحدث إذا أراد الاحتجاج بحديث شخص، ونقل إليه فيه جرح، اجتهد فيه هل هو مؤثر أم لا"[11].

4. أما القول بعدم اعتماد الحافظ ابن حجر على توثيق العجلي فهذا قول باطل؛ إذ بالنظر إلى مؤلفات ابن حجر نجد أنه اعتمده مرات كثيرة سواء أكان وحده هو الموثق أم معه غيره.

وكتابا "تهذيب التهذيب" و "تقريب التهذيب" لابن حجر خير شاهد على ذلك، ونذكر من هذه الأمثلة ما يلي:

ذكر حفص بن عمر بن عبيد الطنافسي في "التقريب" وقال عنه: "ثقة " [12]، مع أنه لم يذكر في التهذيب له موثقا غير العجلي[13].

وها هو يقول عن أم الأسود الخزاعية في "التقريب": "ثقة" [14]، مع أنه لم يذكر في "التهذيب" أن أحدا وثقها غير العجلي[15].

ولما ذكر الحافظ في "التهذيب": البراء بن ناجية الكاهلي، وتوثيق العجلي وابن حبان له، مع قول الذهبي عنه: فيه جهالة لا يعرف، تعقب الحافظ قول الذهبي بقوله: "قد عرفه العجلي وابن حبان فيكفيه" [16]. وأمثلة ذلك كثيرة جدا.

نعم... هناك مواطن أخرى ينقل الحافظ ابن حجر في "التهذيب" توثيق العجلي، ومع ذلك لا يقول عن ذلك الراوي الذي نقل فيه توثيق العجلي في "التقريب": "ثقة" بل يقول: "مقبول" ولذلك أيضا أمثلة كثيرة.

فليس عدم اعتماد الحافظ لتوثيق العجلي في مواطن قاضيا على اعتماده عليه في مواطن أخرى، بل العكس هو الصواب؛ لأن العجلي إمام من جلة أئمة الجرح والتعديل - كما سبق من كلام الأئمة عنه - فبأي حجة نعرض عن اعتماد قوله في راو لا مخالف له فيه أصلا؟

ونقول في هؤلاء الرواة الذين لم يعتمد الحافظ فيهم توثيق العجلي ما نقوله تماما في رواة وثقهم يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، وذكر الحافظ ذلك عنهم في "التهذيب"، ومع ذلك قال عن هؤلاء الرواة الذين وثقهم أولئك الأئمة وأمثالهم في بعض الأحيان: "مقبول"، فهل نقول: إن الحافظ لا يعتمد توثيق أولئك الأئمة؟ أم نلتمس الأعذار للحافظ؟

ونقول: لعل له اجتهادا، أو لعله سبق قلم، أو هو خطأ معذور صاحبه مأجور إن شاء الله تعالى.

المهم ألا يكون عدم اعتماد الحافظ لتوثيق العجلي في بعض الأحيان سببا لعدم اعتمادنا نحن توثيقه، وإلا ألجأنا القياس الصحيح على ذلك إلى عدم اعتمادنا توثيق يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأبي حاتم، وأبي داود، والنسائي، وهذا هو الباطل!!

ثم لنفترض - جدلا - أن الحافظ لم يكن يعتمد توثيق العجلي، فهل الحافظ حجة على غيره من الأئمة، الذين وصفوا العجلي بالإمامة في الحديث، حتى قرنوه بابن معين والإمام أحمد؟!

ويمكن أن نعارض الحافظ بتصرف غيره من الحفاظ، كابن رشيد السبتي، الذي اعتمد توثيق العجلي لعمرة بن جديد في مقابل جهالة أبي زرعة وأبي حاتم وابن عبد البر وغيرهم له؛ ليؤكد لنا بذلك عظيم اعتداده بتوثيق العجلي، وليعطينا مثالا واقعيا لما سبق أن ذكرناه: من أن توثيق الإمام مقدم على جهل غيره من الأئمة؛ لأن مع الموثق زيادة علم.

وهذا أبو عبد الله ابن المواق يرد على ابن القطان الفاسي؛ لقوله عن حسان بن عبد الله الضمري: "لا يعرف"، بقوله: "وليس كذلك، فإنه معروف ثقة، لا يضره ألا يروي عنه إلا واحد. قال أبو مسلم صالح بن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي: حدثني أبي، قال: وحسان بن الضمري شامي تابعي ثقة. وذلك لا يضره فيه قول من لم يعرفه: إنه غير مشهور، فمن علم أولى ممن لم يعلم، وأبو الحسن الكوفي أحد الأئمة في هذا الشأن"[17].

وبذلك نكون قد رددنا على أدلة من توهم أن العجلي متساهل في التوثيق، وبينا أن جميع الأئمة السابقين على رأي واحد: وهو اعتقاد إمامة العجلي في علم الحديث، وأنه أحد نقاد الآثار وصيارفة العلل، وأئمة الجرح والتعديل، وأنه يقرن في النقد بالإمام أحمد ويحيى بن معين[18].

ثانيا. تجريح ابن خزيمة للرواة بالجهالة دليل يبطل دعواهم:

لقد توهم بعض المتأخرين أن ابن خزيمة كان يوثق المجهولين، وهذا يرد عليه من وجهين هما:

1. أنه لا يعاب ناقد من أئمة الحديث بالقول: (يوثق المجهولين)؛ لأنه ما من النقاد أحد وثق راويا إلا وقد أخرجه بذلك التوثيق من جملة المجهولين، ولكن بما قام له من الحجة على ثقته، بناء على ما هو معلوم من تمكن ذلك الناقد في الصنعة.

2. بالنظر الدقيق في كتب ابن خزيمة نجده قد جرح رواة بالجهالة، ورد حديثهم بذلك في مواضع عدة من كتابيه (صحيح ابن خزيمة، والتوحيد)، فلو كان الأصل عنده إجراء الرواة على الثقة والعدالة لم يكن لجرحه بالجهالة معنى.

لكن حقيقة الأمر أن توثيقه لمن وثقه، أو احتجاجه به مبني على الخبرة بأمر ذلك الراوي، وتحقق سلامة حديثه عنده من النكارة.[19] وكان - رحمه الله - من أكابر الفقهاء، قال عنه الإمام ابن حبان: "ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن، ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها، حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا محمد بن إسحاق فقط"، وقال أبو علي النيسابوري: "كان ابن خزيمة يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارئ السورة"[20].

وها هو الإمام أبو الحسن الدارقطني يقول عنه: كان ابن خزيمة إماما ثبتا معدوم النظير.

وقال الحافظ أبو علي النيسابوري - أيضا -: "لم أر أحدا مثل ابن خزيمة"[21].

ثم يقول الذهبي عنه: "وقد كان هذا الإمام جهبذا بصيرا بالرجال، فقال - فيما رواه عنه أبو بكر محمد بن جعفرـ شيخ الحاكم: لست أحتج بشهر بن حوشب، ولا بحريز بن عثمان لمذهبه، ولا بعبد الله بن عمر، ولا ببقية، ولا بمقاتل بن حيان، ولا بأشعث بن سوار، ولا بعلي بن جدعان لسوء حفظه، ولا بعاصم بن عبيد الله، ولا بابن عقيل، ولا بيزيد بن أبي زياد، ولا بمجالد، ولا بحجاج بن أرطأة إذا قال: عن، ولا بأبي حذيفة النهدي، ولا بجعفر بن برقان، ولا بأبي معشر نجيح، ولا بعمر بن أبي سلمة، ولا بقابوس بن أبي ظبيان، ثم سمى خلقا دون هؤلاء في العدالة، فإن المذكورين احتج بهم غير واحد"[22].

وهذه الرواية التي رواها الذهبي فيها دلالة كافية على علم ابن خزيمة الواسع بالرجال وأحوالهم جرحا وتعديلا، وما كان للذهبي أن يقول عنه: إنه بصير بالرجال وهو يوثق المجهولين، أو يحكم على الرجال بغير وجه صحيح، ثم إن عدم احتجاجه بمثل هؤلاء الأئمة يدل على تمكنه في الحكم على الرجال، وإلا لاحتج بهم.

ونخلص من هذا إلى أن ابن خزيمة خبير بالرجال وأحوالهم، وتوثيقه للمجهولين إنما هو عن بينة صحيحة، وتجريحه لكثير من الرواة بالجهالة فيه دلالة كافية على بطلان ما ادعوه، وإلا لما كان لجرحه بالجهالة معنى.

ثالثا. ليس كل من في كتاب "الثقات" ممن يحتج بهم، وذلك حسب منهج ابن حبان فيه:

إن المتأمل لكتابي ابن حبان "الثقات" و"المجروحين" سوف يجده إماما بصيرا بالنقلة، يعرضهم على موازين النقد، ويحرر أحوالهم في الرواية من خلال مروياتهم، وهو ذاته منهج متقدمي الأئمة.

وإيراد ابن حبان المجهولين من الرواة في كتابه "الثقات" يرجع إلى أنه جعل الأصل في كل راو لم يقف في روايته على ما يطعن فيه - اللحاق بالثقات، وإن كان لا يدري من يكون ذلك الراوي.

وقد أبان عن منهجه في مقدمة كتاب "الثقات" فقال: "كل من ذكرته في كتابي هذا تعرى خبره عن الخصال الخمس التي ذكرتها، فهو عدل يجوز الاحتجاج بخبره؛ لأن العدل من لم يعرف منه الجرح ضد التعديل، فمن لم يعلم بجرح فهو عدل إذا لم يبين ضده؛ إذ لم يكلف الناس من الناس معرفة ما غاب عنهم".

وقال قبل هذا: "كل من أذكره في هذا الكتاب فهو صدوق، يجوز الاحتجاج بخبره، إذا تعرى خبره عن خصال خمس، فإذا وجد خبر منكر عن واحد ممن أذكره في كتابي هذا؛ فإن ذلك الخبر لا ينفك من إحدى خمس خصال:

1.  إما أن يكون فوق الشيخ الذي ذكرت اسمه في كتابي هذا - في الإسناد -: رجل ضعيف لا يحتج بخبره.

2.  أو يكون دونه رجل واه لا يجوز الاحتجاج بروايته.

3.  أن يكون الخبر مرسلا، لا يلزمنا به الحجة.

4.  أن يكون منقطعا، لا يقوم بمثله الحجة.

5. أو يكون في الإسناد رجل مدلس، لم يبين سماعه في الخبر من الذي سمعه منه؛ فإن المدلس ما لم يبين سماع خبره عمن كتب عنه، لا يجوز الاحتجاج بذلك الخبر؛ لأنه لا يدرى لعله سمعه من إنسان ضعيف، يبطل الخبر بذكره إذا وقف عليه وعرف الخبر به؛ فما لم يقل المدلس في خبره - وإن كان ثقة: سمعت، أو حدثني، فلا يجوز الاحتجاج بخبره".

وابن حبان - رحمه الله تعالى - كان يرى أن مذهبه هذا مخالف لما كان عليه الأئمة السابقون، ولكنه خالفهم في بعض الرواة الذين ضعفهم الأئمة - بالدلائل - وهذا قوله: "وإنما أذكر في هذا الكتاب الشيخ بعد الشيخ، وقد ضعفه بعض أئمتنا ووثقه بعضهم، فمن صح عندي منه أنه ثقة بالدلائل النيرة التي بينتها في كتاب "الفصل بين النقلة" أدخلته في هذا الكتاب؛ لأنه يجوز الاحتجاج بخبره، ومن صح عندي منهم أنه ضعيف بالبراهين الواضحة التي ذكرتها في كتاب " الفصل بين النقلة " لم أذكره في هذا الكتاب، لكني أدخلته في كتاب " الضعفاء بالعلل "؛ لأنه لا يجوز الاحتجاج بخبره"[23].

وإذا علمنا أن ابن حبان إذا لم يثبت عنده كون الراوي مجروحا فإنه يدخله في "الثقات"، وأنه أدخل فيهم من لا يعرفه، فهذا المنهج لا يعني أن من في كتابه من هؤلاء كلهم ممن يحتج بهم، بل فيهم من هو حجة، وفيهم من هو دون ذلك ممن هو صالح للاعتبار.

والمستورون والمجهولون الذين لم يثبت عليهم فيما رووا حديث منكر يحتملون هم وزره - أي وزر الحديث - فهؤلاء يعتبر بهم، ويحتج بحديثهم لغيره، وربما خرج حديثهم في الصحاح متابعة، وهذا منهج لا يعرف فيه اختلاف من حيث الجملة.

ولا نرى وجها لعيب ابن حبان بهذا؛ لأننا قد تبينا منهجه، فغاية الأمر ألا نجعل من مجرد إيراد الراوي في "الثقات" صحة الاحتجاج به، حتى ينضم إلى ذلك سائر شروط الاحتجاج[24].

وقد أنكر اللكنوي دعوى تساهل ابن حبان في التوثيق، فقال: "هو قول ضعيف؛ لأن ابن حبان معدود ممن له تعنت وإسراف في جرح الرجال، ومن هذا حاله لا يمكن أن يكون متساهلا في تعديل الرجال"[25].

وكذلك فعل السيوطي، قال: "وما ذكره عن تساهل ابن حبان ليس بصحيح؛ فإن غايته أن يسمي الحسن صحيحا، فإن كانت نسبته إلى التساهل باعتبار وجدان الحسن في كتابه فهي مشاحة في الاصطلاح، وإن كانت باعتبار خفة شروطه فإنه يخرج في الصحيح ما كان راويه ثقة غير مدلس، سمع من شيخه وسمع منه الآخذ عنه، ولا يكون هناك إرسال ولا انقطاع، وإذا لم يكن في الراوي جرح ولا تعديل، وكان كل من شيخه والراوي عنه ثقة ولم يأت بحديث منكر فهو عنده ثقة، وفي كتاب الثقات له كثير ممن هذه حاله، ولأجل هذا ربما اعترض عليه في جعلهم ثقات من لم يعرف حاله، ولا اعتراض عليه فإنه لا مشاحة في ذلك"[26].

وقال ابن حبان محددا - أيضا - مذهبه في الحكم على الرجال: "من كان منكر الحديث على قلته لا يجوز تعديله إلا بعد السبر، ولو كان ممن يروي المناكير ووافق الثقات في الأخبار لكان عدلا مقبول الرواية؛ إذ الناس في أقوالهم على الصلاح والعدالة حتى يتبين منهم ما يوجب القدح، هذا حكم المشاهير من الرواة، فأما المجاهيل الذين لم يرو عنهم إلا الضعفاء فهم متروكون على الأحوال كلها"[27].

ومما يدل على بطلان دعوى تساهل ابن حبان ما ذكره محمود إبراهيم زايد في مقدمة كتاب المجروحين قال: "ويعد ابن حبان من بين المتشددين من أئمة المحدثين في الحكم على الرجال، شأنه في ذلك شأن أبي حاتم والنسائي وابن معين وابن القطان ويحيى القطان، وغيرهم. والحافظ الذهبي يشير إلى هذا في ثنايا ترجماته في الميزان عندما ينقل رأي ابن حبان، وكثيرا ما يقسو في عبارته عليه أو يغمزه غمزا شديدا"[28].

وخلاصة القول أن ابن حبان لم يكن متساهلا متوسعا في التعديل، وذكره رواة غير ثقات في كتابه "الثقات" لا يعني تعديله لهم؛ وإنما لأنه ذكر فيه كل من لم يثبت عنده أنه مجروح ونبه على ذلك، بالإضافة إلى ما عرف عنه من تشدده الظاهر في الحكم على الرجال وتجريحهم.

رابعا. للحاكم في توثيقه للرواة شروط وضعها والتزم بها، وإن خالف غيره يرجح الراجح بحجته:

إن الحاكم النيسابوري رأس من رؤوس صناعة الجرح والتعديل، وكلامه في النقلة في التحقيق معتبر قوي، وتعديله فيما يصف به الرواة من الثقة والصدق مقبول محتج به.

والحاكم قد جرى على منهاج النقاد قبله، فزكى رجالا، وجرح آخرين، بل جرح رجالا بالجهالة، مما دل على أن خبر المجهول عنده ليس موضعا للحجة، ولا يحكم بصحته، وهذا موافق لمسلك جمهور أئمة هذا العلم، ووافق غيره من الأئمة في كثير ممن تكلم فيه، وتفرد بفوائد في تعديل الرواة وجرحهم تعد له، وكثير من ذلك منثور في "المستدرك"، ومنه في "سؤالات مسعود السجزي" له، ومنه في "تاريخ نيسابور"، ولا يكاد يخلو سائر كتبه من شيء من ذلك.

وخلاصة ما تحرر لنا في شأن كلام الحاكم في الرواة ما يلي:

1. إن صدرت منه العبارة صريحة في تعديل أو تجريح أو تجهيل الراوي المعين، فقوله حجة كقول شيخه الدارقطني وشبهه، فإن خالفه غيره في بعض ذلك فهو من اختلاف الجرح والتعديل، يرجح الراجح بحجته.

2. حكمه على إسناد في "المستدرك" بقوله مثلا: "صحيح الإسناد" حكم منه بثقة رواته عنده، لكنه في مرتبة غير معينة من القبول، من أجل أنه لم يكن يفرق بين الصحيح والحسن، فقد يكون الراوي في مرتبة الثقة أو مرتبة الصدوق.

ولما ثبت من خطئه الكثير في الحكم على أحاديث بالصحة وهي واهية أو ضعيفة من رواية المجروحين، فإنه لا يصح تعميم القول في الاحتجاج بذلك على كون رواة الإسناد ثقات أو صدوقين، لكنه يرفع من شأن الراوي المجهول عند غيره[29]. وتساهل أبي عبد الله الحاكم في حكمه على الأحايث لا يطعن فيه في شيء؛ لأنه التزم شروطا معينة وسار عليها، فأحاديثه صحيحة عنده، ولا يطعن في أحاديث السنة أيضا؛ لأن العلماء قد تتبعوا ما ذكره بالفحص والدراسة، فهذه الدعوى لا تطعن فيه أو في صحة أحاديث السنة النبوية.

خامسا.لم يكن قول ابن عبد البر على ظاهره، بل ثبت أنه جرح بالجهالة في مواضع كثيرة:

إن كلام ابن عبد البر في الرواة المتقدمين مبني على تلخيص عبارات السلف فيهم؛ فالحجة إذن عائدة إلى كلامهم، ويبقى تحرير ابن عبد البر للعبارة في الراوي تحرير إمام ناقد، فكما نقبل تحرير العبارة ممن جاء بعده كالذهبي وابن حجر من المتأخرين، فقبول قوله أولى، بل إن المتتبع لكلامه في الرواة في كتبه يجد له وزن عبارة الناقد العارف بهذا العلم المقدم فيه.

وإنما دخلت الشبهة عند بعض الناس أن ابن عبد البر يتساهل في التعديل، من جهة ما فهموه عنه من قوله في تفسير العدالة، وأنه يجري المسلمين في الأصل عليها، وليس الأمر كذلك[30].

فالتحقيق العلمي يدلنا على أن ابن عبد البر جرح بالجهالة في مواضع كثيرة، ورد بها أحاديث رواها مجهولون لا طعن عليهم إلا بالجهالة، وذلك في كتبه: التمهيد، والاستذكار، والاستيعاب، فدل على أنه لم يعن إثبات العدالة لكل من روى تأصيلا، وإنما جعل في التحقيق على العدالة من حمل العلم وعرف أنه اعتنى به، والمجهولون لم يعرفوا بحمل العلم، إذ المعرفة والاعتناء بالعلم توجب الشهرة به، وهو ما ينافي الجهالة، وهذا كلام لا إشكال فيه، ولم يقل ابن عبد البر: (كل من روى الحديث فهو عدل) ليصح التعقب عليه. فقوله صحيح في الجملة في المعروفين من الرواة[31].

ودور ابن عبد البر في علم الحديث معروف، شهد به العالم والجاهل، وعرف العلماء له قدره في الحديث. قال الفتح بن خاقان في "مطمح الأنفس": الفقيه الإمام العالم الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر إمام الأندلس وعالمها، الذي التاحت به معالمها، صحح المتن والسند، وميز المرسل من المسند، وفرق بين الموصول والمنقطع، وكسا الملة منه نور ساطع، حصر الرواة، وأحصى الضعفاء منهم والثقات، جد في تصحيح السقيم، وجدد منه ما كان كالكهف والرقيم، مع معاناة العلل، وإرهاف ذلك العلل، والتثقيف للمؤتلف، والتنبيه على المختلف، وشرح المقفل، واستدراك المغفل، وله فنون هي للشريعة رتاج، وفي مفرق الملة تاج... وكان ثقة، وكانت الأنفس على تفضيله متفقة، أما أدبه فلا تعبر لجته، ولا تدحض حجته...[32].

مما سبق يتبين لنا وجوب وضع كلام أئمة النقد في موضعه اللائق به، واتخاذ أحكامهم الناتجة عن اجتهاداتهم قاعدة ننطلق منها إلى الحكم على رواة الأحاديث؛ لأن أحكامهم هذه هي خلاصة علمهم العظيم في السنة والحديث. بالإضافة إلى إدراكنا بقصور علمنا، ونقص أهليتنا عن بلوغ درجة الاجتهاد المطلق في علم الحديث [33].

الخلاصة:

·   إن نقاد الحديث هم الطائفة التي امتن الله على هذه الأمة بها؛ لتحفظ عليها سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتميز ما هو منها وتنفي عنها ما ليس منها؛ مما يدل على عظم مقام هذه الصناعة.

ولما كان الأمر كذلك، وجب علينا إزالة الشبهة عن أئمتهم، والكلام محصور في الأئمة: أحمد بن عبد الله العجلي، وأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبي حاتم محمد بن حبان البستي، وأبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وأبي عمر بن عبد البر.

·   من المعلوم عند المعتني بعلم الحديث أن لهؤلاء الأئمة كلاما كثيرا في تعديل الرواة، لكن أشكل منهم إطلاق التعديل في طائفة من الرواة هم في نظر غيرهم من النقاد مجهولون أو مجروحون.

·   لا ينبغي أن يكون ذلك مما يؤخذ على هؤلاء الأئمة؛ لأننا كثيرا ما نجد من الأئمة النقاد من عدل من جرحه غيره، ولكن بما قام له من حجة على ثقته، بناء على ما هو معلوم من تمكن ذلك الناقد في الصفة.

بالإضافة إلى ذلك فإن طريقة هؤلاء الأئمة في الجرح والتعديل تدلنا على أنهم لم يكونوا يوثقون لمجرد التوثيق، أو يجرحون لمجرد التجريح، وإنما كان لكل منهم منهج التزم به.

·   إن من الواجب أن يعتبر لكل ناقد نقده، فإن جاءت عبارته على الموافقة لعبارة سائر النقاد فذاك ظاهر القبول، وإن خالف أخضعنا قوله لقواعد الترجيح عند اختلاف الجرح والتعديل، وإن انفرد وجب قبول قوله والاحتجاج به كغيره، حتى يتبين بالحجة خطؤه.