نص السؤال

توهم وجود خلل في منهج كتاب "الترغيب والترهيب"

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

توهم وجود خلل في منهج كتاب "الترغيب والترهيب")*(

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين وجود خلل في منهج كتاب "الترغيب والترهيب" للإمام المنذري (ت: 656هـ)، ويتجلى ذلك فيما تناوله الكتاب من أحاديث ترغب في الزهد في الدنيا، وترهب من تبعة حبها والتنافس عليها، وتتكلم في فضل الفقراء والمساكين والمستضعفين، وترغب في حبهم ومجالستهم، ويقولون: إن الفقه الصحيح يقتضي منهجا آخر ومسلكا أرشد.

وجها إبطال الشبهة:

1) إن كتاب الإمام المنذري رحمه الله مؤلف في فضل الزهد وفضل الفقر، وقد اشتملت مؤلفات السنة المختلفة ودواوينها على كتب وأبواب كثيرة في فضل الزهد، فليس كتاب الترغيب والترهيب للمنذري بدعا في هذا الفن.

2) لقد كان باعث الإمام المنذري رحمه الله من تأليفه لهذا الكتاب تمييز الزهد المحمود من غيره مما يذم، ومحاربة الترف الزائد، وبيان مسلك الصحابة - رضي الله عنهم - في ذلك، ولا يعد مثل ذلك عيبا يقدح في كتابه.

التفصيل:

أولا. كتاب "الترغيب والترهيب" للإمام المنذري ليس الوحيد في موضوعه، وإنما سبقه ولحقه كثير من المؤلفات:

إن كتب الزهد من الكتب المهمة في الدعوة، والمكتبة الإسلامية عامرة بالكتب والمؤلفات في هذا المجال، ففيها الآن ما يقارب ثمانين كتابا في الزهد معظمها أحاديث معزوة، ومحكوم عليها بالصحة أو الضعف.

ولقد جمع أحد المشتغلين بالعلم، وهو محمد شريف أحاديث عديدة من بعض هذه الكتب في فهرس واحد سماه "موسوعة فهارس كتب الزهد"، وقد جمع فيه أحاديث وآثار عشرة كتب، ومن هذه الكتب:

      1.   الزهد والرقائق: لعبد الله بن المبارك(ت: 181هـ)، وهو مرتب على الموضوعات.

      2.  الزهد: للإمام وكيع بن الجراح بن مليح (ت: 197 هـ)، وهو أيضا مرتب على الأبواب، يسوق الأحاديث والآثار بأسانيدها، وإسناده عال.

      3. الزهد: للإمام أسد بن موسى، الملقب بـ "أسد السنة" (ت: 212 هـ)، والكتاب مرتب على الأبواب، ويورد فيه المؤلف الأحاديث والآثار بأسانيدها

      4.   الزهد: للإمام أحمد بن حنبل (ت: 241هـ).

      5.  الزهد: للإمام هناد بن السري الكوفي الدارمي (ت: 243 هـ)، والكتاب مرتب على الأبواب، يورد المؤلف الحديث أو الأثر بالإسناد والمتن...

     6. الزهد: لأبي داود السجستاني (ت: 275هـ) صاحب "السنن" (أحد الكتب الستة) وهو مرتب على الشخصيات، يذكر الحديث أو الأثر فيه بإسناده[1].

     7. الزهد: للحافظ أبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل (ت: 287هـ)، وهو أيضا مرتب على الأبواب، يورد فيه المؤلف الحديث أو الأثر بالإسناد.

ويتضح من خلال ما سبق أن كل ما ذكرناهم كانوا قبل الحافظ المنذري رحمه الله مما ينفي أنه أتى بما لم يأت به أسلافه.

وهكذا، فإن كتاب المنذري رحمه الله لم يكن الوحيد في هذا الميدان، ولكن سبقه كتب، وأتى بعده في هذا المجال كثير من المؤلفات التي صنفها أهل الحديث، وأهل الفقه، وهي تجل عن الحصر.

ثانيا. الباعث على تأليف "الترغيب والترهيب" للمنذري هو تمييز الزهد المحمود من غيره، ومحاربة الترف الزائد في عصره، وبيان مسلك الصحابة - رضي الله عنهم - في الزهد:

لقد أراد الإمام المنذري رحمه الله في كتابه "الترغيب والترهيب" أن يبين طبيعة حياة السلف، وكيف كانت كفافا؟ وقد كان في ذلك حسن النية، ناصحا للأمة.

إن الإمام المنذري رحمه الله حينما يورد أحاديث الترهيب من حب الدنيا والترغيب في الفقر، إنما يوضح النظرة الصحيحة للمسلم في الزهد في الدنيا، والتي تتلخص في أنه لا حرج أن يصيب من الدنيا ما شاء، لكن بشرطين هما:

1.   أن تكون من طريق مشروع يقره الإسلام ويرضى عنه.

2. أن تكون الدنيا في يده لا في قلبه، بحيث إذا طلبت منه في أي وقت تنازل عنها ابتغاء مرضات الله دون أن يتعلق قلبه بها.

ويوضح هذا أن كثيرا من السلف كانوا أثرياء، بيد أن الدنيا كانت بأيديهم، لا في قلوبهم، فلما دعوا إلى التضحية والجهاد تنازلوا عنها وماضنوا بها.

فلقد كان مقصد الإمام المنذري رحمه الله محاربة الترف، وبيان مسلك الصحابة الكرام في ذلك، ويتضح هذا من خلال الوقوف على المعنى الحقيقي للزهد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الزهد: هو خلاف الرغبة، فيقال فلان زاهد في كذا، وفلان راغب فيه، و الرغبة هي من جنس الإرادة، فالزهد في الشيء انتفاء الإرادة له، إما مع وجود كراهته، وإما مع عدم الإرادة والكراهة، بحيث يكون لا مريدا له، ولا كارها له، وكل من لم يرغب في الشيء ويريده فهو زاهد فيه"[2].

فهذا هو الزهد عند المنذري رحمه الله وكذلك عند غيره من هؤلاء الأئمة الكرام.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا: "الزهد هو الزهد عما لا ينفع، إما لانتفاء نفعه أو لكونه مرجوحا؛ لأنه مفوت لما هو أنفع منه، أو محصل لما يربو ضرره على نفعه، وأما المنافع الخالصة والراجحة فالزهد فيها حمق"[3]، كذلك من المتذهبين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها، وهذا لا شك جهل عظيم؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الغار، وشاور الطبيب، ولبس الدرع، وحفر الخندق، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي، وقال لسعد: «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس»[4].

فالوقوف على الأسباب مع نسيان المسبب غلط، والعمل على الأسباب مع تعلق القلب بالمسبب هو المشروع، وكل هذه الظلمات إنما تقطع بمصباح العلم.

وقد قال ابن الجوزي في هذا المعنى: "ليس الزهد ترك المال وبذله على سبيل السخاء والقوة واستمالة القلوب فحسب، بل الزهد أن يترك الدنيا للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة"[5]، وهذا باب واسع، والمقصود منه تميز الزهد الشرعي من غيره وهو الزهد المحمود، وتميز الرغبة الشرعية من غيرها، وهي الرغبة المحمودة؛ فإنه كثيرا ما يشتبه الزهد بالكسل والعجز، والبطالة عن الأوامر الشرعية، وكثيرا ما تشتبه الرغبة الشرعية بالحرص والطمع، والعمل الذي ضل سعي صاحبه[6].

وإذا أردنا أن نتعرف على المعنى الحقيقي للأحاديث الواردة في الزهد، فلننظر إلى حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولننظر إلى أقوالهم، فعندئذ سنعلم أن هذه الأحاديث والآثار التي أوردها الإمام المنذري شيء هام جدا ينبغي أن يساق في مجال الدعوة إلى الله، وأنه من الفقه الصحيح الذي صنع أجيالا عظيمة من الصحابة الزاهدين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم، ففتحوا البلاد وعمروا الدنيا؛ إذ ليس صلاح الدين يقتضي تغريب الدنيا وتركها.

وبهذا يتبين أن الواجبات والمستحبات لا يصلح فيها زهد ولا ورع، وأما المحرمات والمكروهات فيصلح فيها الزهد والورع، وأما المباحات فيصلح فيها الزهد دون الورع، وهذا القدر ظاهر تعرفه بأدنى تأمل، والمنذري رحمه الله في تصنيفه لكتاب "الترغيب والترهيب" كان موفقا كل التوفيق، ومثله النووي في "رياض الصالحين"، وغيرهما كثير رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين[7].

ومما سبق يتبين أن منهج المنذري رحمه الله كان صحيحا وموفقا، إذ إنه وضح بالمثال والنص فضل الزهد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - ولم يخالف منهجه وهدفه من تأليفه لكتابه، ولم يحدث أي خلل في منهجه لكتابه "الترغيب والترهيب".

الخلاصة:

· إن الحديث في "الزهد" هو مجال خصب ومهم قد خاض فيه الكثير من أهل السنة والحديث.

· الإمام المنذري رحمه الله لم يكن بدعا في التأليف في مجال الزهد ومحاربة الترف، فقد كتب فيه غيره مثل: الإمام وكيع، وعبد الله بن المبارك، والنووي، وابن حنبل وغيرهم، ولقد وردت هذه الشواهد وتلك الآثار من طرق موثوق بها، فصح الاستدلال بها.

· أراد المنذري رحمه الله في كتابه "الترغيب والترهيب" أن يبين عيشة السلف، وكيف كانت كفافا؟ وأراد أيضا أن يوضح نظرة المسلم الصحيحة للزهد في الدنيا، وأن ليس معنى الزهد هو العزوف عن الدنيا بالكلية، وتخريبها وترك عمارتها لغير المسلمين.

· من خلال مدراسة ومطالعة حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والنظر إلى أقوالهم يتبين ويتأكد لنا أن الآثار والأحاديث التي أوردها الإمام المنذري شيء هام جدا، وأنه من الفقه الصحيح الذي صنع أجيالا عظيمة من الصحابة والتابعين، ومن ثم يتبين دحض وبطلان هذه الشبهة.

 

المراجع

  1. (*) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، الشيخ محمد الغزالي، دار الشروق، القاهرة، ط14، 1427هـ/ 2006م.
  2. [1]. طرق الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف، د. عبد المهدي عبد القادر، مكتبة الإيمان، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص181: 183 بتصرف.
  3. [2]. مجموع الفتاوى،ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (10/ 616).
  4. [3]. مجموع الفتاوى،ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (10/ 615).
  5. [4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الوصايا، باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس، (5/ 427، 428)، رقم (2742). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الوصية، باب: الوصية بالثلث، (6/ 2529)، رقم (4131).
  6. [5]. مختصر منهاج القاصدين، ابن قدامة المقدسي، دار المنار، القاهرة، (د. ت) ص296.
  7. [6]. مجموع الفتاوى،ابن تيمية، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (10/ 615) بتصرف.
  8. [7]. جناية الشيخ محمد الغزالي على الحديث وأهله، أشرف عبد المقصود عبد الرحيم، مكتبة الإمام البخاري، ط1، 1410هـ/ 1989م، ص 382، 383.