نص السؤال

أليس القولُ بإثباتِ الصفاتِ للهِ يقتضي التشبيهَ بينه وبين خلقِه؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

هل إثباتُ الصفاتِ للهِ على حقيقتِها بلا تأويلٍ أو تفويضٍ تشبيهٌ؟

الجواب التفصيلي

التشبيهُ في صفاتِ اللهِ، يعني: إثباتَ الصفاتِ للهِ تعالى على جهةٍ تماثِلُ صفاتِ المخلوقِينَ في الخصائص.

وربُّنا سبحانه منزَّهٌ عن هذا التشبيهِ؛ كما قال تعالى:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

[الشورى: 11]

فاللهُ تعالى أثبَتَ لنفسِهِ صفاتٍ، ذكَرَها في كتابِه، وأخبَرَ بها نبيُّه ﷺ.

والتشبيهُ في صفاتِ اللهِ تعالى يكونُ بتشبيهِها بصفاتِ المخلوقِ؛ كأن يقالَ: «حياةُ اللهِ مِثلُ حياةِ المخلوقين»، أو «كلامُ اللهِ مِثلُ كلامِ البشَرِ»، أو «وجهُ اللهِ كوجهِ المخلوقِين»، إلخ.

وهذا خوضٌ في كيفيَّةِ صفاتِ اللهِ تعالى، وكيفيَّةِ حقيقتِها؛ لأن هذا مما لا يَعلَمُهُ أحدٌ مِن الخلق.

فالحقُّ: أن يعتقِدَ المسلِمُ أن صفاتِ اللهِ تعالى ليست كصفاتِ المخلوقين، وأنها على صفةٍ تَلِيقُ بجلالِ اللهِ وكمالِهِ يَعلَمُها اللهُ، ولا نَعلَمُها، وعلينا الإيمانُ والتسليم:

قال إسحاقُ بنُ راهَوَيْهِ (238 هـ): «إنما يكونُ التشبيهُ إذا قال: «يدٌ كيدٍ، أو مِثلُ يدٍ، أو سَمْعٌ كسَمْعٍ، أو مِثلُ سَمْعٍ»، فإذا قال: «سَمْعٌ كسَمْعٍ، أو مِثلُ سَمْعٍ»، فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال اللهُ تعالى: «يَدٌ، وسَمْعٌ، وبَصَرٌ»، ولا يقولُ: «كَيْفَ»، ولا يقولُ: «مِثلُ سَمْعٍ، ولا كسَمْعٍ» -: فهذا لا يكونُ تشبيهًا؛ وهو كما قال اللهُ تعالى في كتابِهِ:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

[الشورى: 11]

ذكَرهُ التِّرمِذيُّ بعد الحديث (662).

ثم إن الكلامَ في الصفاتِ فرعٌ عن الكلامِ في الذات؛ فكما لم يَلزَمِ التشبيهُ في إثباتِ الذات، لم يَلزَمِ التشبيهُ في إثباتِ الصفات:

ومعنى هذا الكلامِ: أننا كما أثبَتْنا وجودَ اللهِ تعالى، كذلك نُثبِتُ صفاتِه، ونُمِرُّها على ظاهِرِها، دون الخوضِ في كيفيَّتِها؛ كما لم نخُضْ في كيفيَّةِ وجودِ اللهِ تعالى:

قال أبو القاسمِ إسماعيلُ الأَصبَهانيُّ الشافعيُّ (535 هـ) - بعد ذكرِ مجموعةٍ مِن الآياتِ والأحاديثِ في صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ -: «فهذا وأمثالُهُ مما صَحَّ نقلُهُ عن رسولِ اللهِ ﷺ، فإن مذهبَنا فيه ومذهبَ السلفِ: إثباتُهُ وإجراؤُهُ على ظاهرِه، ونفيُ الكيفيَّةِ والتشبيهِ عنه ...

والأصلُ في هذا: أن الكلامَ في الصفاتِ فرعٌ على الكلامِ في الذات، وإثباتُ اللهِ تعالى إنما هو إثباتُ وجودٍ، لا إثباتُ كيفيَّةٍ، فكذلك إثباتُ صفاتِهِ؛ إنما هو إثباتُ وجودٍ، لا إثباتُ كيفيَّةٍ؛ فإذا قلنا: «يَدٌ، وسَمْعٌ، وبَصَرٌ»، ونحوَها، فإنما هي صفاتُ أثبَتَها اللهُ لنفسِهِ، ولم يقل: «معنى اليدِ: القوَّةُ»، ولا «معنى السَّمْعِ والبَصَرِ: العِلمُ والإدراكُ».

ولا نشبِّهُها بالأيدي والأسماعِ والأبصارِ، ونقولُ: إنما وجَبَ إثباتُها؛ لأن الشرعَ ورَدَ بها، ووجَبَ نفيُ التشبيهِ عنها؛ لقولِهِ تعالى:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

[الشورى: 11].

وكذلك قال علماءُ السلفِ في أخبارِ الصفات: «أَمِرُّوها كما جاءت».

«الحجَّهْ، في بيان المَحَجَّهْ» لأبي القاسمِ الأَصبَهانيِّ (1/ 287).

ولو كان إثباتُها حقيقةً تشبيهًا، لَما كان هذا طريقَ النبيِّ ﷺ وأصحابِه:

فعن ابنِ مسعودٍ t؛ أن رسولَ اللهِ ﷺ قال:

«آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ؛ فَهُوَ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً»، إلى أن قال ﷺ: «ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؛ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَلَّا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى، يَا رَبِّ، هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا، فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا، وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ، أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟»، فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حِينَ قَالَ: «أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟»، فَيَقُولُ: «إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ»؛

رواه مسلم (187).

ومقصودُ النبيِّ ﷺ مِن فعلِهِ: هو تأكيدُ أنَّ ضَحِكَ اللهِ عزَّ وجلَّ حقيقيٌّ، وليس معناه: أنَّ ضَحِكَ اللهِ عزَّ وجلَّ كضَحِكِهِ ﷺ، وحاشاهُ ﷺ أن يشبِّهَ صفاتِ اللهِ تعالى بصفاتِ خلقِه؛ وهذا دليلٌ على أن إثباتَ الصفاتِ على الحقيقةِ ليس بتشبيهٍ.

ولا بدَّ أن تَعلَمَ أن ما يَلزَمُ المخلوقَ مِما هو مِن خصائصِه، لا يَلزَمُ الخالقَ، وكذلك: ما يَلزَمُ الخالقَ مِما هو مِن خصائصِه، لا يَلزَمُ المخلوقَ:

فالقولُ بأن إثباتَ صفةِ اليدِ أو العينِ يَلزَمُ منه أنها عُضْوٌ أو جارحةٌ، باطلٌ؛ لأن صفةَ اللهِ هي الأصلُ؛ فاللهُ متَّصِفٌ بصفةِ اليدِ منذُ الأزَلِ قبل وجودِ أيدي المخلوقات، وأيدي المخلوقاتِ محدَثةٌ، خلَقَها اللهُ، وسمَّاها باسمِ صفتِه، وجعَلَها بكيفيَّةٍ تناسِبُ ذواتِنا التي هي أجسامٌ مركَّبةٌ، أما صفاتُ اللهِ، فهي على صفةٍ تَليقُ بذاتِهِ تعالى، لا عِلمَ لنا بكيفيَّتِها.

قال ابنُ القيِّمِ: «وقد بيَّنَّا فيما تقدَّم: أن الصفةَ يَلزَمُها لوازمُ لنفسِها وذاتِها؛ فلا يجوزُ نفيُ هذه اللوازمِ عنها؛ لا في حقِّ الربِّ، ولا في حقِّ العبد، ويَلزَمُها لوازمُ مِن جهةِ اختصاصِها بالعبدِ؛ فلا يجوزُ إثباتُ تلك اللوازمِ للربّ، ويَلزَمُها لوازمُ مِن حيثُ اختصاصُها بالربِّ؛ فلا يجوزُ سلبُها عنه، ولا إثباتُها للعبدِ؛ فعليك بمراعاةِ هذا الأصلِ، والاعتصامِ به في كلِّ ما يُطلَقُ على الربِّ تعالى، وعلى العبد». «مختصَرُ الصواعق» (ص 1230-1231).

والاعتراضُ على بعضِ الصفاتِ الواردةِ في الكتابِ والسنَّةِ على أنها جارحةٌ وأعضاءٌ؛ كصفةِ اليَدِ والقَدَمِ، لم يكن معروفًا في عهدِ السلفِ رحمهم الله، إلا عند أهلِ البِدَعِ؛ كالجهميَّةِ، وغيرِهم، أما السلفُ الصالحُ، فكانوا يؤمِنون بها كما جاءت، ويقولون عن كلِّ الصفاتِ: «أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيفٍ»، أي: أَمِرُّوها على ظاهرِها دون السؤالِ عن تلك الصفةِ: كيف هي؟ بل يفوِّضون كيفيَّتَها للهِ عزَّ وجلَّ.

ثم إنه لا دليلَ مِن القرآنِ، أو السنَّةِ، أو أثرٍ عن أحدٍ مِن السلفِ، على أن إثباتَ الصفاتِ على الحقيقةِ تشبيهٌ للهِ تعالى بخلقِه:

بل ظاهرُ خطابِ القرآنِ: إثباتُ الأسماءِ والصفات، وهو ما فَهِمَهُ الصحابةُ والتابِعون، وفسَّروا به كتابَ الله، ونقَلوا المرويَّاتِ فيه، ولو كان اعتقادُ الظاهرِ تشبيهًا وكفرًا، لكان في هذا طعنٌ في كتابِ اللهِ، واتِّهامٌ له بالتلبيس، ولوجَبَ بيانُ ذلك، ولا دليلَ مِن القرآنِ يدُلُّنا على ذلك.

وقد كان الجهميَّةُ ينفُون ويؤوِّلون الصفاتِ؛ لاعتقادِهم أن إثباتَها على الحقيقةِ تشبيهٌ؛ فسمَّاهم السلفُ: معطِّلةً. ولو كان اعتقادُ ظاهرِ النصوصِ تشبيهًا، لحذَّر منه السلفُ الصالح؛ لأن الأصلَ في الكلامِ أن يكونَ على ظاهرِه، والناسُ يأخُذون بظاهرِ الكلامِ ما لم يَرِدْ دليلٌ على أن الظاهرَ غيرُ مراد.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

افتراضُ التلازُمِ بين إثباتِ الصفاتِ وبين المشابَهةِ بالمخلوقين؛ فيَلزَمُ عنده إثباتُهما جميعًا، أو نفيُهما جميعًا.

مختصَرُ الإجابة:

مِن الإيمانِ باللهِ تعالى: الإيمانُ بما وصفَ به نفسَهُ في كتابِه، وبما وصفَهُ به رسولُهُ محمَّدٌ ﷺ؛ مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيل، ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيل؛ كما قال تعالى:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

[الشورى: 11].

فلا نَنْفي عنه ما وصَفَ به نفسَه، ولا نحرِّفُ الكَلِمَ عن مواضعِه، ولا نُلحِدُ في أسمائِهِ وآياتِه، ولا نكيِّفُ ولا نمثِّلُ صفاتِهِ بصفاتِ خلقِه؛ لأنه سبحانه لا سَمِيَّ له ولا كُفْءَ له ولا نِدَّ له.

ولا يُقاسُ سبحانه بخلقِه؛ لأنه أعلمُ بنفسِهِ وبغيرِه، وأصدقُ قِيلًا وأحسنُ حديثًا.

وليس في إثباتِ الصفاتِ على ما يَلِيقُ بكمالِ اللهِ، مِن دونِ تكييفٍ له أو تمثيلٍ: ما يقتضي أو يُوهِمُ تشبيهَ اللهِ بخلقِهِ؛ لأن مقامَ كلٍّ منهما مختلِفٌ؛ فاتفاقُ الخالقِ والمخلوقِ في المعنى الكلِّيِّ العقليِّ الموجودِ في الأذهان (القَدْرِ المشترَك)، لا يَلزَمُ منه اتِّفاقُهما في الكيفِ والحقيقةِ الخارجيَّةِ؛ فلكلٍّ منهما حقيقةٌ تخُصُّهُ لا يشارِكُهُ فيها الآخَرُ (القَدْرُ الفارِقُ المميِّزُ)؛ وفي ذلك يقولُ ابنُ القيِّمِ: «وقد بيَّنَّا فيما تقدَّم: أن الصفةَ يَلزَمُها لوازمُ لنفسِها وذاتِها؛ فلا يجوزُ نفيُ هذه اللوازمِ عنها؛ لا في حقِّ الربِّ، ولا في حقِّ العبدِ، ويَلزَمُها لوازمُ مِن جهةِ اختصاصِها بالعبدِ؛ فلا يجوزُ إثباتُ تلك اللوازمِ للربّ، ويَلزَمُها لوازمُ مِن حيثُ اختصاصُها بالربِّ؛ فلا يجوزُ سلبُها عنه، ولا إثباتُها للعبدِ؛ فعليك بمراعاةِ هذا الأصلِ، والاعتصامِ به في كلِّ ما يُطلَقُ على الربِّ تعالى، وعلى العبد». «مختصَرُ الصواعق» (ص 1230-1231).

خاتمة الجواب

لما كانت قلوبُ السلفِ الصالحِ سليمةً، وفِطرُهم مستقيمةً، وأذهانُهم صافيةً مطهَّرةً، لم يخطُرْ ببالِهم أن نصوصَ الصفاتِ تُوهِمُ التشبيهَ، ولا ظنُّوا أن صفاتِ اللهِ تعالى تُشبِهُ صفاتِ المخلوقين؛ فكان منهجُهم إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، وأن القولَ في بعضِ الصفاتِ كالقولِ في بعضِها على طريقةٍ واحدة، فلم يكن عندهم شيءٌ مِن التشبيهِ والتمثيل، ولا عندهم شيءٌ مِن التفويضِ والتأويلِ والتعطيل.


مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

افتراضُ التلازُمِ بين إثباتِ الصفاتِ وبين المشابَهةِ بالمخلوقين؛ فيَلزَمُ عنده إثباتُهما جميعًا، أو نفيُهما جميعًا.

مختصَرُ الإجابة:

مِن الإيمانِ باللهِ تعالى: الإيمانُ بما وصفَ به نفسَهُ في كتابِه، وبما وصفَهُ به رسولُهُ محمَّدٌ ﷺ؛ مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيل، ومِن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيل؛ كما قال تعالى:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

[الشورى: 11].

فلا نَنْفي عنه ما وصَفَ به نفسَه، ولا نحرِّفُ الكَلِمَ عن مواضعِه، ولا نُلحِدُ في أسمائِهِ وآياتِه، ولا نكيِّفُ ولا نمثِّلُ صفاتِهِ بصفاتِ خلقِه؛ لأنه سبحانه لا سَمِيَّ له ولا كُفْءَ له ولا نِدَّ له.

ولا يُقاسُ سبحانه بخلقِه؛ لأنه أعلمُ بنفسِهِ وبغيرِه، وأصدقُ قِيلًا وأحسنُ حديثًا.

وليس في إثباتِ الصفاتِ على ما يَلِيقُ بكمالِ اللهِ، مِن دونِ تكييفٍ له أو تمثيلٍ: ما يقتضي أو يُوهِمُ تشبيهَ اللهِ بخلقِهِ؛ لأن مقامَ كلٍّ منهما مختلِفٌ؛ فاتفاقُ الخالقِ والمخلوقِ في المعنى الكلِّيِّ العقليِّ الموجودِ في الأذهان (القَدْرِ المشترَك)، لا يَلزَمُ منه اتِّفاقُهما في الكيفِ والحقيقةِ الخارجيَّةِ؛ فلكلٍّ منهما حقيقةٌ تخُصُّهُ لا يشارِكُهُ فيها الآخَرُ (القَدْرُ الفارِقُ المميِّزُ)؛ وفي ذلك يقولُ ابنُ القيِّمِ: «وقد بيَّنَّا فيما تقدَّم: أن الصفةَ يَلزَمُها لوازمُ لنفسِها وذاتِها؛ فلا يجوزُ نفيُ هذه اللوازمِ عنها؛ لا في حقِّ الربِّ، ولا في حقِّ العبدِ، ويَلزَمُها لوازمُ مِن جهةِ اختصاصِها بالعبدِ؛ فلا يجوزُ إثباتُ تلك اللوازمِ للربّ، ويَلزَمُها لوازمُ مِن حيثُ اختصاصُها بالربِّ؛ فلا يجوزُ سلبُها عنه، ولا إثباتُها للعبدِ؛ فعليك بمراعاةِ هذا الأصلِ، والاعتصامِ به في كلِّ ما يُطلَقُ على الربِّ تعالى، وعلى العبد». «مختصَرُ الصواعق» (ص 1230-1231).

الجواب التفصيلي

التشبيهُ في صفاتِ اللهِ، يعني: إثباتَ الصفاتِ للهِ تعالى على جهةٍ تماثِلُ صفاتِ المخلوقِينَ في الخصائص.

وربُّنا سبحانه منزَّهٌ عن هذا التشبيهِ؛ كما قال تعالى:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

[الشورى: 11]

فاللهُ تعالى أثبَتَ لنفسِهِ صفاتٍ، ذكَرَها في كتابِه، وأخبَرَ بها نبيُّه ﷺ.

والتشبيهُ في صفاتِ اللهِ تعالى يكونُ بتشبيهِها بصفاتِ المخلوقِ؛ كأن يقالَ: «حياةُ اللهِ مِثلُ حياةِ المخلوقين»، أو «كلامُ اللهِ مِثلُ كلامِ البشَرِ»، أو «وجهُ اللهِ كوجهِ المخلوقِين»، إلخ.

وهذا خوضٌ في كيفيَّةِ صفاتِ اللهِ تعالى، وكيفيَّةِ حقيقتِها؛ لأن هذا مما لا يَعلَمُهُ أحدٌ مِن الخلق.

فالحقُّ: أن يعتقِدَ المسلِمُ أن صفاتِ اللهِ تعالى ليست كصفاتِ المخلوقين، وأنها على صفةٍ تَلِيقُ بجلالِ اللهِ وكمالِهِ يَعلَمُها اللهُ، ولا نَعلَمُها، وعلينا الإيمانُ والتسليم:

قال إسحاقُ بنُ راهَوَيْهِ (238 هـ): «إنما يكونُ التشبيهُ إذا قال: «يدٌ كيدٍ، أو مِثلُ يدٍ، أو سَمْعٌ كسَمْعٍ، أو مِثلُ سَمْعٍ»، فإذا قال: «سَمْعٌ كسَمْعٍ، أو مِثلُ سَمْعٍ»، فهذا التشبيه، وأما إذا قال كما قال اللهُ تعالى: «يَدٌ، وسَمْعٌ، وبَصَرٌ»، ولا يقولُ: «كَيْفَ»، ولا يقولُ: «مِثلُ سَمْعٍ، ولا كسَمْعٍ» -: فهذا لا يكونُ تشبيهًا؛ وهو كما قال اللهُ تعالى في كتابِهِ:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

[الشورى: 11]

ذكَرهُ التِّرمِذيُّ بعد الحديث (662).

ثم إن الكلامَ في الصفاتِ فرعٌ عن الكلامِ في الذات؛ فكما لم يَلزَمِ التشبيهُ في إثباتِ الذات، لم يَلزَمِ التشبيهُ في إثباتِ الصفات:

ومعنى هذا الكلامِ: أننا كما أثبَتْنا وجودَ اللهِ تعالى، كذلك نُثبِتُ صفاتِه، ونُمِرُّها على ظاهِرِها، دون الخوضِ في كيفيَّتِها؛ كما لم نخُضْ في كيفيَّةِ وجودِ اللهِ تعالى:

قال أبو القاسمِ إسماعيلُ الأَصبَهانيُّ الشافعيُّ (535 هـ) - بعد ذكرِ مجموعةٍ مِن الآياتِ والأحاديثِ في صفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ -: «فهذا وأمثالُهُ مما صَحَّ نقلُهُ عن رسولِ اللهِ ﷺ، فإن مذهبَنا فيه ومذهبَ السلفِ: إثباتُهُ وإجراؤُهُ على ظاهرِه، ونفيُ الكيفيَّةِ والتشبيهِ عنه ...

والأصلُ في هذا: أن الكلامَ في الصفاتِ فرعٌ على الكلامِ في الذات، وإثباتُ اللهِ تعالى إنما هو إثباتُ وجودٍ، لا إثباتُ كيفيَّةٍ، فكذلك إثباتُ صفاتِهِ؛ إنما هو إثباتُ وجودٍ، لا إثباتُ كيفيَّةٍ؛ فإذا قلنا: «يَدٌ، وسَمْعٌ، وبَصَرٌ»، ونحوَها، فإنما هي صفاتُ أثبَتَها اللهُ لنفسِهِ، ولم يقل: «معنى اليدِ: القوَّةُ»، ولا «معنى السَّمْعِ والبَصَرِ: العِلمُ والإدراكُ».

ولا نشبِّهُها بالأيدي والأسماعِ والأبصارِ، ونقولُ: إنما وجَبَ إثباتُها؛ لأن الشرعَ ورَدَ بها، ووجَبَ نفيُ التشبيهِ عنها؛ لقولِهِ تعالى:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

[الشورى: 11].

وكذلك قال علماءُ السلفِ في أخبارِ الصفات: «أَمِرُّوها كما جاءت».

«الحجَّهْ، في بيان المَحَجَّهْ» لأبي القاسمِ الأَصبَهانيِّ (1/ 287).

ولو كان إثباتُها حقيقةً تشبيهًا، لَما كان هذا طريقَ النبيِّ ﷺ وأصحابِه:

فعن ابنِ مسعودٍ t؛ أن رسولَ اللهِ ﷺ قال:

«آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ رَجُلٌ؛ فَهُوَ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً»، إلى أن قال ﷺ: «ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؛ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَلَّا تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى، يَا رَبِّ، هَذِهِ لَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا، فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَدْخِلْنِيهَا، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا، وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ، أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟»، فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، حِينَ قَالَ: «أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟»، فَيَقُولُ: «إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ»؛

رواه مسلم (187).

ومقصودُ النبيِّ ﷺ مِن فعلِهِ: هو تأكيدُ أنَّ ضَحِكَ اللهِ عزَّ وجلَّ حقيقيٌّ، وليس معناه: أنَّ ضَحِكَ اللهِ عزَّ وجلَّ كضَحِكِهِ ﷺ، وحاشاهُ ﷺ أن يشبِّهَ صفاتِ اللهِ تعالى بصفاتِ خلقِه؛ وهذا دليلٌ على أن إثباتَ الصفاتِ على الحقيقةِ ليس بتشبيهٍ.

ولا بدَّ أن تَعلَمَ أن ما يَلزَمُ المخلوقَ مِما هو مِن خصائصِه، لا يَلزَمُ الخالقَ، وكذلك: ما يَلزَمُ الخالقَ مِما هو مِن خصائصِه، لا يَلزَمُ المخلوقَ:

فالقولُ بأن إثباتَ صفةِ اليدِ أو العينِ يَلزَمُ منه أنها عُضْوٌ أو جارحةٌ، باطلٌ؛ لأن صفةَ اللهِ هي الأصلُ؛ فاللهُ متَّصِفٌ بصفةِ اليدِ منذُ الأزَلِ قبل وجودِ أيدي المخلوقات، وأيدي المخلوقاتِ محدَثةٌ، خلَقَها اللهُ، وسمَّاها باسمِ صفتِه، وجعَلَها بكيفيَّةٍ تناسِبُ ذواتِنا التي هي أجسامٌ مركَّبةٌ، أما صفاتُ اللهِ، فهي على صفةٍ تَليقُ بذاتِهِ تعالى، لا عِلمَ لنا بكيفيَّتِها.

قال ابنُ القيِّمِ: «وقد بيَّنَّا فيما تقدَّم: أن الصفةَ يَلزَمُها لوازمُ لنفسِها وذاتِها؛ فلا يجوزُ نفيُ هذه اللوازمِ عنها؛ لا في حقِّ الربِّ، ولا في حقِّ العبد، ويَلزَمُها لوازمُ مِن جهةِ اختصاصِها بالعبدِ؛ فلا يجوزُ إثباتُ تلك اللوازمِ للربّ، ويَلزَمُها لوازمُ مِن حيثُ اختصاصُها بالربِّ؛ فلا يجوزُ سلبُها عنه، ولا إثباتُها للعبدِ؛ فعليك بمراعاةِ هذا الأصلِ، والاعتصامِ به في كلِّ ما يُطلَقُ على الربِّ تعالى، وعلى العبد». «مختصَرُ الصواعق» (ص 1230-1231).

والاعتراضُ على بعضِ الصفاتِ الواردةِ في الكتابِ والسنَّةِ على أنها جارحةٌ وأعضاءٌ؛ كصفةِ اليَدِ والقَدَمِ، لم يكن معروفًا في عهدِ السلفِ رحمهم الله، إلا عند أهلِ البِدَعِ؛ كالجهميَّةِ، وغيرِهم، أما السلفُ الصالحُ، فكانوا يؤمِنون بها كما جاءت، ويقولون عن كلِّ الصفاتِ: «أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيفٍ»، أي: أَمِرُّوها على ظاهرِها دون السؤالِ عن تلك الصفةِ: كيف هي؟ بل يفوِّضون كيفيَّتَها للهِ عزَّ وجلَّ.

ثم إنه لا دليلَ مِن القرآنِ، أو السنَّةِ، أو أثرٍ عن أحدٍ مِن السلفِ، على أن إثباتَ الصفاتِ على الحقيقةِ تشبيهٌ للهِ تعالى بخلقِه:

بل ظاهرُ خطابِ القرآنِ: إثباتُ الأسماءِ والصفات، وهو ما فَهِمَهُ الصحابةُ والتابِعون، وفسَّروا به كتابَ الله، ونقَلوا المرويَّاتِ فيه، ولو كان اعتقادُ الظاهرِ تشبيهًا وكفرًا، لكان في هذا طعنٌ في كتابِ اللهِ، واتِّهامٌ له بالتلبيس، ولوجَبَ بيانُ ذلك، ولا دليلَ مِن القرآنِ يدُلُّنا على ذلك.

وقد كان الجهميَّةُ ينفُون ويؤوِّلون الصفاتِ؛ لاعتقادِهم أن إثباتَها على الحقيقةِ تشبيهٌ؛ فسمَّاهم السلفُ: معطِّلةً. ولو كان اعتقادُ ظاهرِ النصوصِ تشبيهًا، لحذَّر منه السلفُ الصالح؛ لأن الأصلَ في الكلامِ أن يكونَ على ظاهرِه، والناسُ يأخُذون بظاهرِ الكلامِ ما لم يَرِدْ دليلٌ على أن الظاهرَ غيرُ مراد.

خاتمة الجواب

لما كانت قلوبُ السلفِ الصالحِ سليمةً، وفِطرُهم مستقيمةً، وأذهانُهم صافيةً مطهَّرةً، لم يخطُرْ ببالِهم أن نصوصَ الصفاتِ تُوهِمُ التشبيهَ، ولا ظنُّوا أن صفاتِ اللهِ تعالى تُشبِهُ صفاتِ المخلوقين؛ فكان منهجُهم إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، وأن القولَ في بعضِ الصفاتِ كالقولِ في بعضِها على طريقةٍ واحدة، فلم يكن عندهم شيءٌ مِن التشبيهِ والتمثيل، ولا عندهم شيءٌ مِن التفويضِ والتأويلِ والتعطيل.