نص السؤال
إن الإنسانَ إذا مات ستتحلَّلُ جُثَّتُه، والأديانُ يقولُ مُتَّبِعوها: «إن اللهَ سيَبعَثُهُ يومَ القيامة»؛ فهل هم يقولون بذلك بناءً على دليلٍ منطقيٍّ أو عقليٍّ، أم يؤمِنون به لمجرَّدِ التسليمِ لنصوصِ الأنبياء؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
حول الدليلِ العقليِّ على الإيمانِ باليومِ الآخِر.
الجواب التفصيلي
إن البراهينَ التي ذُكِرتْ في القرآنِ الكريمِ للدَّلالةِ على إمكانِ البَعْثِ وعلى وقوعِهِ جاءت مقرِّرةً لأمورٍ ثلاثةٍ: - كمالِ علمِ اللهِ تعالى. - وكمالِ قدرتِهِ سبحانه. - وكمالِ حكمتِهِ جلَّ شأنُه. أما الأدلَّةُ العقليَّةُ النقليَّةُ المبثوثةُ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ على إمكانِ البعثِ، فتندرِجُ تحت ثلاثةِ أنواعٍ مِن الاستدلالِ العقليِّ: النوعُ الأوَّلُ: الاستدلالُ العقليُّ على إمكانِ البعثِ بوجودِهِ في الواقع: وهو الاستدلالُ على إمكانِ البعثِ بمَن أماتَهم اللهُ تعالى، ثم أحياهم؛ وهذا الدليلُ يعتمِدُ على الحسِّ والمعايَنة؛ فإنه سبحانه دَلَّ على إمكانيَّةِ إحياءِ الموتى وقدرتِهِ على ذلك، بطريقِ الوجودِ والعِيانْ، وبطريقِ الاعتبارِ والبرهانْ، والأوَّلُ أعظمُ الطريقَيْن؛ فلا شيءَ أدَلُّ على إمكانِ الشيءِ مِن وجودِهِ ومعايَنتِه. وقد ورَدَت أمثلةٌ على ذلك في القرآنِ الكريمِ تبيِّنُ ما وقَعَ مِن البعثِ المشاهَدِ في هذه الحياة؛ حتى يكونَ إحياءُ اللهِ تعالى للموتى في الدنيا دليلًا على البعثِ في يومِ القيامة. ومِن أمثلةِ ذلك: قولُهُ تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 55- 56]. وقولُهُ تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72- 73]. وقولُهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]. وقولُهُ تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: ٢٥٩ - 260]. وقولُهُ تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 9- 12]. فهذه القِصصُ فيها مِن الإخبارِ بالموجودِ ما هو أعظَمُ الدلائلِ على القدرةِ والإمكانِ لإحياءِ اللهِ تعالى للموتى يومَ القيامة، وصدقُ هذه الأخبارِ يُعلَمُ بما يُعلَمُ به صدقُ الرسول، ويُعلَمُ بأخبارٍ أخرى مِن غيرِ طريقِ الرسول، وإخبارُهُ ^ بها مِن أعلامِ نبوَّتِه. النوعُ الثاني: الاستدلالُ العقليُّ على إمكانِ البعثِ بما يكونُ البعثُ أهوَنَ منه، وهو أعظَمُ مِن البعث: وهذا الاستدلالُ يستنِدُ على القياسِ بطريقِ الأَوْلى؛ فإنه سبحانه وتعالى: تارَةً: يستدِلُّ على البعثِ بالنشأةِ الأُولى، وأن قدرتَهُ عزَّ وجلَّ على الإعادةِ كقدرتِهِ سبحانه على الابتداءِ وأَوْلى. وتارَةً: يبيِّنُ ذلك بخلقِهِ للسمواتِ والأرض: أ- الاستدلال بالنشأة الأُولى على إمكانِ الإعادةِ والبعث: استدَلَّ القرآنُ الكريمُ على إمكانِ الإعادةِ بالنشأةِ الأُولى؛ فإن الذين يطلُبون دليلًا على إمكانِ البعثِ بعد الموتِ يغفُلون عن أنَّ خَلْقَهم على هذا النحوِ أعظمُ دليلٍ؛ فالقادرُ على خلقِهم قادرٌ على إعادةِ خلقِهم وأَوْلى. والأدلَّةُ في القرآنِ الكريمِ على هذا كثيرةٌ: يقولُ تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66- 67]. ويقولُ جَلَّ شأنُه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: ٧٨]. ويقولُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27]. ويقولُ: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]. ويقولُ: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 49- 51]. فهذه أمثلةٌ قرآنيَّةٌ على الاستدلالِ العقليِّ على إمكانِ البعثِ بطريقِ الأولى؛ فمَن كان قادرًا على الخلقِ ابتداءً، فهو مِن بابِ أَوْلى قادرٌ على الإعادة، وهو أهوَنُ عليه، ولو اجتمَعَ كلُّ الخلائقِ على إيرادِ حُجَّةٍ في إمكانِ البعثِ على هذا الاختصار، لمَا قدَروا عليها؛ إذْ لا شكَّ أن الإعادةَ ثانيًا أهوَنُ مِن الإيجادِ أوَّلًا. ب- الاستدلالُ بخلقِ السمواتِ والأرضِ على إمكانِ الإعادةِ والبعث: ومما يَرِدُ في القرآنِ الكريمِ مِن حُجَجٍ عقليَّةٍ على مُنكِرِي إمكانِ البعثِ: الاستدلالُ بما هو أعظمُ مِن إعادةِ الإنسانِ؛ مثلُ خلقِ السمواتِ والأرض؛ فخَلْقُهما أهوَنُ عليه سبحانه مِن إعادةِ بعثِ الإنسانِ مرَّةً أخرى؛ وهذا مِن طريقِ قياسِ الأَوْلى أيضًا. وهذا الاستدلالُ مِن أعظمِ البراهينِ على بعثِ الناسِ بعد الموت؛ لأن مَن خلَقَ الأعظمَ الأكبرَ، لا شكَّ في قدرتِهِ على خلقِ الأضعفِ الأصغر. ومِن أمثلةِ هذا الاستدلالِ العقليِّ في القرآنِ الكريم: قولُهُ تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 98-99]. وقولُهُ تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81]. وقولُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33]. ومِن المستقِرِّ في بَدَاهةِ العقولِ: أنَّ خلقَ السمواتِ والأرضِ أعظمُ مِن خلقِ الآدميِّين؛ فإذا كان فيها مِن الدَّلالةِ على علمِ خالقِها وقدرتِهِ وحكمتِهِ ما بهَرَ العقولَ؛ أفلا يكونُ ذلك دالًّا على أنه قادرٌ على البعثِ وإحياءِ الموتى، لا يَعْيا بذلك؛ كما لم يَعْيَ بالأوَّلِ بطريقِ الأَوْلى والأَحْرى؟! النوعُ الثالثُ: الاستدلالُ العقليُّ على إمكانِ البعثِ بوجودِ نظیرِهِ في الواقع: جاء الاستدلالُ العقليُّ على إمكانِ البعثِ بأدلَّةٍ عامَّةٍ لكلِّ أحدٍ، وهي دلائلُ حسِّيَّةٌ قاطعةٌ لا يُمكِنُ الشكُّ فيها، وهو طريقُ الاعتبارِ والقياسِ؛ وذلك بقياسِ النظيرِ على النظير. وجاءت الأدلَّةُ تحت هذا النوعِ على أنحاءٍ ثلاثةٍ: أ- الاستدلالُ العقليُّ على جوازِ البعثِ وإمكانِهِ بإحياءِ الأرضِ بعد موتِها، بالمطَرِ والزرعِ والنبات: فمِن الأدلَّةِ العقليَّةِ التي ساقها القرآنُ الكريمُ للاحتجاجِ على مُنكِري إمكانِ البعثِ: قياسُ البعثِ وإعادةِ الموتى على إحياءِ الأرضِ بعد موتِها بالمطَر؛ فإن هذا نظيرُ إحياءِ الموتى وبعثِهم وإخراجِهم مِن قبورِهم. ومِن ذلك قولُهُ تعالى: {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9]. وقولُهُ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]. وقولُهُ تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11]. وقولُهُ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]. وقولُهُ تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9- 11]. هذه الآياتُ السابقةُ استدَلَّ بها القرآنُ الكريمُ على مسألةِ إمكانِ البعثِ وجوازِه؛ فإن الأرضَ المُجدِبةَ تَحْيا وتَرْبو بعد نزولِ المطر، وتخرُجُ منها النباتاتُ المختلِفة، ويقاسُ على ذلك إخراجُ الموتى وبَعْثُهم مِن قبورِهم؛ حيثُ يخرُجون كما تخرُجُ هذه النباتاتُ مِن الأرضِ المَيْتة، والقادرُ على هذا سبحانه قادرٌ على البعثِ؛ إذْ هو نظيرُه. ب- الاستدلالُ العقليُّ على جوازِ البعثِ وإمكانِهِ بحصولِ اليَقَظةِ بعد النوم: كما في قولِهِ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60]. وقولِهِ تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]. وقولِهِ تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]. ج- الاستدلالُ العقليُّ على جوازِ البعثِ وإمكانِهِ بإخراجِ النارِ مِن الشجَر: كقولِهِ تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [الأنعام: 61]. فدَلَّ اللهُ عبادَهُ بما يشاهِدونه مِن جعلِ النارِ مِن العَفَارِ والمَرْخِ - وهما شجَرتانِ خَضْراوان - إذا حُكَّتْ إحداهما بالأخرى بتحريكِ الرِّيحِ لهما، اشتعَلَتِ النارُ فيهما -: على جوازِ إعادتِهِ الحياةَ في العظامِ النَّخِرة، والجلودِ الممزَّقة؛ وهو مِن الدلالةِ بالنظيرِ على نظيرِه. وأما الدلالةُ على وجوبِ وقوعِ البعثِ، فالقرآنُ يقرِّرُ هذه الدَّلالةَ: بأن الجزاءَ مِن مقتضَياتِ حكمةِ اللهِ تعالى وعدلِه، وتنزُّهِهِ عن الظلم، وأن اللهَ تعالى لم يخلُقِ الخلقَ عَبَثًا، ولم يترُكْهم سُدًى، وأنه تعالى لا يسوِّي بين عبادِهِ المؤمِنين والكافِرين في الجزاء؛ فهذا ظلمٌ يتنزَّهُ اللهُ عنه، وهو يخالِفُ الحكمةَ والعدلَ؛ فكان لا بدَّ عقلًا مِن وقوعِ البعثِ، ومِن إعادةِ الخلقِ؛ لمجازاةِ المحسِنين بالإكرام، ومجازاةِ المسيئِين بما عَمِلوا، وعدمِ التسويةِ بين المحسِنين والمسيئِين. |
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال: إن السائلَ يطالِبُ بدليلٍ عقليٍّ على اليومِ الآخِر، وحقيقةُ قولِهِ: أن الأديانَ في أصولِها الكبرى - كالإيمانِ باليومِ الآخِرِ - ليست منطقيَّةً ولا عقليَّةً، وأن مُتَّبِعيها يؤمِنون بها لمجرَّدِ العاطفة. |
مختصَرُ الإجابة: القرآنُ يقرِّرُ الأدلَّةَ العقليَّةَ على إمكانِ وقوعِ البعثِ، وعلى وجوبِ وقوعِه: أما إمكانُ وقوعِهِ، فيستدِلُّ القرآنُ عليه: - إما بما قد وقَعَ مِن بعثٍ وإحياءٍ للموتى في الدنيا. - أو بما قد وقَعَ مما البعثُ أهوَنُ منه، وهو أعظمُ مِن البعثِ؛ كابتداءِ الخلقِ؛ فإن إعادةَ الخَلْقِ أهوَنُ على اللهِ تعالى مِن إنشائِهم، وكخلقِ السمواتِ والأرض. - أو بما وقَعَ مما هو نظيرُ البعثِ؛ كإحياءِ الأرضِ بعد موتِها، بالمطَرِ والزرعِ والنبات، وكحصولِ اليَقَظةِ بعد النوم، وكإخراجِ النارِ مِن الشجَر: وأما الدليلُ على وجوبِ وقوعِ البعثِ: فقد ذكَرَ القرآنُ أن الجزاءَ مِن مقتضَياتِ حكمةِ اللهِ تعالى وعدلِه، وتنزُّهِهِ عن الظلم، وأنه سبحانه لم يخلُقِ الخلقَ عَبَثًا، ولم يترُكْهم سُدًى، وأنه تعالى لا يسوِّي بين عبادِهِ المؤمِنين والكافِرين في الجزاء؛ فهذا ظلمٌ يتنزَّهُ اللهُ عنه، وهو يخالِفُ الحكمةَ والعدلَ؛ فكان لا بدَّ عقلًا مِن وقوعِ البعثِ، ومِن إعادةِ الخلقِ؛ لمجازاةِ المحسِنين بالإكرام، والمسيئِين بما عَمِلوا. |
خاتمة الجواب
فالبعثُ أصلٌ مِن الأصولِ التي بُعِثَتْ بها الأنبياءُ، وهي حقيقةٌ ثابتة، دلَّت على إمكانِها ووقوعِها: الكتُبُ السماويَّةُ والأنبياء، وكذلك العقلُ والفطرة.
وعلى العاقلِ ألا يُنكِرَ إعادةَ الخلقِ للبعث، وتأمُّلُ أدلَّتِها يدُلُّ على أهميَّتِها، وهي حادثةٌ عظيمةٌ عليه أن يستعِدَّ لها، ولا يَنفَعُهُ إنكارُها. وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (252).
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال: إن السائلَ يطالِبُ بدليلٍ عقليٍّ على اليومِ الآخِر، وحقيقةُ قولِهِ: أن الأديانَ في أصولِها الكبرى - كالإيمانِ باليومِ الآخِرِ - ليست منطقيَّةً ولا عقليَّةً، وأن مُتَّبِعيها يؤمِنون بها لمجرَّدِ العاطفة. |
مختصَرُ الإجابة: القرآنُ يقرِّرُ الأدلَّةَ العقليَّةَ على إمكانِ وقوعِ البعثِ، وعلى وجوبِ وقوعِه: أما إمكانُ وقوعِهِ، فيستدِلُّ القرآنُ عليه: - إما بما قد وقَعَ مِن بعثٍ وإحياءٍ للموتى في الدنيا. - أو بما قد وقَعَ مما البعثُ أهوَنُ منه، وهو أعظمُ مِن البعثِ؛ كابتداءِ الخلقِ؛ فإن إعادةَ الخَلْقِ أهوَنُ على اللهِ تعالى مِن إنشائِهم، وكخلقِ السمواتِ والأرض. - أو بما وقَعَ مما هو نظيرُ البعثِ؛ كإحياءِ الأرضِ بعد موتِها، بالمطَرِ والزرعِ والنبات، وكحصولِ اليَقَظةِ بعد النوم، وكإخراجِ النارِ مِن الشجَر: وأما الدليلُ على وجوبِ وقوعِ البعثِ: فقد ذكَرَ القرآنُ أن الجزاءَ مِن مقتضَياتِ حكمةِ اللهِ تعالى وعدلِه، وتنزُّهِهِ عن الظلم، وأنه سبحانه لم يخلُقِ الخلقَ عَبَثًا، ولم يترُكْهم سُدًى، وأنه تعالى لا يسوِّي بين عبادِهِ المؤمِنين والكافِرين في الجزاء؛ فهذا ظلمٌ يتنزَّهُ اللهُ عنه، وهو يخالِفُ الحكمةَ والعدلَ؛ فكان لا بدَّ عقلًا مِن وقوعِ البعثِ، ومِن إعادةِ الخلقِ؛ لمجازاةِ المحسِنين بالإكرام، والمسيئِين بما عَمِلوا. |
الجواب التفصيلي
إن البراهينَ التي ذُكِرتْ في القرآنِ الكريمِ للدَّلالةِ على إمكانِ البَعْثِ وعلى وقوعِهِ جاءت مقرِّرةً لأمورٍ ثلاثةٍ: - كمالِ علمِ اللهِ تعالى. - وكمالِ قدرتِهِ سبحانه. - وكمالِ حكمتِهِ جلَّ شأنُه. أما الأدلَّةُ العقليَّةُ النقليَّةُ المبثوثةُ في كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ على إمكانِ البعثِ، فتندرِجُ تحت ثلاثةِ أنواعٍ مِن الاستدلالِ العقليِّ: النوعُ الأوَّلُ: الاستدلالُ العقليُّ على إمكانِ البعثِ بوجودِهِ في الواقع: وهو الاستدلالُ على إمكانِ البعثِ بمَن أماتَهم اللهُ تعالى، ثم أحياهم؛ وهذا الدليلُ يعتمِدُ على الحسِّ والمعايَنة؛ فإنه سبحانه دَلَّ على إمكانيَّةِ إحياءِ الموتى وقدرتِهِ على ذلك، بطريقِ الوجودِ والعِيانْ، وبطريقِ الاعتبارِ والبرهانْ، والأوَّلُ أعظمُ الطريقَيْن؛ فلا شيءَ أدَلُّ على إمكانِ الشيءِ مِن وجودِهِ ومعايَنتِه. وقد ورَدَت أمثلةٌ على ذلك في القرآنِ الكريمِ تبيِّنُ ما وقَعَ مِن البعثِ المشاهَدِ في هذه الحياة؛ حتى يكونَ إحياءُ اللهِ تعالى للموتى في الدنيا دليلًا على البعثِ في يومِ القيامة. ومِن أمثلةِ ذلك: قولُهُ تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 55- 56]. وقولُهُ تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72- 73]. وقولُهُ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]. وقولُهُ تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: ٢٥٩ - 260]. وقولُهُ تعالى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 49]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف: 9- 12]. فهذه القِصصُ فيها مِن الإخبارِ بالموجودِ ما هو أعظَمُ الدلائلِ على القدرةِ والإمكانِ لإحياءِ اللهِ تعالى للموتى يومَ القيامة، وصدقُ هذه الأخبارِ يُعلَمُ بما يُعلَمُ به صدقُ الرسول، ويُعلَمُ بأخبارٍ أخرى مِن غيرِ طريقِ الرسول، وإخبارُهُ ^ بها مِن أعلامِ نبوَّتِه. النوعُ الثاني: الاستدلالُ العقليُّ على إمكانِ البعثِ بما يكونُ البعثُ أهوَنَ منه، وهو أعظَمُ مِن البعث: وهذا الاستدلالُ يستنِدُ على القياسِ بطريقِ الأَوْلى؛ فإنه سبحانه وتعالى: تارَةً: يستدِلُّ على البعثِ بالنشأةِ الأُولى، وأن قدرتَهُ عزَّ وجلَّ على الإعادةِ كقدرتِهِ سبحانه على الابتداءِ وأَوْلى. وتارَةً: يبيِّنُ ذلك بخلقِهِ للسمواتِ والأرض: أ- الاستدلال بالنشأة الأُولى على إمكانِ الإعادةِ والبعث: استدَلَّ القرآنُ الكريمُ على إمكانِ الإعادةِ بالنشأةِ الأُولى؛ فإن الذين يطلُبون دليلًا على إمكانِ البعثِ بعد الموتِ يغفُلون عن أنَّ خَلْقَهم على هذا النحوِ أعظمُ دليلٍ؛ فالقادرُ على خلقِهم قادرٌ على إعادةِ خلقِهم وأَوْلى. والأدلَّةُ في القرآنِ الكريمِ على هذا كثيرةٌ: يقولُ تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66- 67]. ويقولُ جَلَّ شأنُه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: ٧٨]. ويقولُ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27]. ويقولُ: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15]. ويقولُ: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 49- 51]. فهذه أمثلةٌ قرآنيَّةٌ على الاستدلالِ العقليِّ على إمكانِ البعثِ بطريقِ الأولى؛ فمَن كان قادرًا على الخلقِ ابتداءً، فهو مِن بابِ أَوْلى قادرٌ على الإعادة، وهو أهوَنُ عليه، ولو اجتمَعَ كلُّ الخلائقِ على إيرادِ حُجَّةٍ في إمكانِ البعثِ على هذا الاختصار، لمَا قدَروا عليها؛ إذْ لا شكَّ أن الإعادةَ ثانيًا أهوَنُ مِن الإيجادِ أوَّلًا. ب- الاستدلالُ بخلقِ السمواتِ والأرضِ على إمكانِ الإعادةِ والبعث: ومما يَرِدُ في القرآنِ الكريمِ مِن حُجَجٍ عقليَّةٍ على مُنكِرِي إمكانِ البعثِ: الاستدلالُ بما هو أعظمُ مِن إعادةِ الإنسانِ؛ مثلُ خلقِ السمواتِ والأرض؛ فخَلْقُهما أهوَنُ عليه سبحانه مِن إعادةِ بعثِ الإنسانِ مرَّةً أخرى؛ وهذا مِن طريقِ قياسِ الأَوْلى أيضًا. وهذا الاستدلالُ مِن أعظمِ البراهينِ على بعثِ الناسِ بعد الموت؛ لأن مَن خلَقَ الأعظمَ الأكبرَ، لا شكَّ في قدرتِهِ على خلقِ الأضعفِ الأصغر. ومِن أمثلةِ هذا الاستدلالِ العقليِّ في القرآنِ الكريم: قولُهُ تعالى: {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 98-99]. وقولُهُ تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 81]. وقولُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33]. ومِن المستقِرِّ في بَدَاهةِ العقولِ: أنَّ خلقَ السمواتِ والأرضِ أعظمُ مِن خلقِ الآدميِّين؛ فإذا كان فيها مِن الدَّلالةِ على علمِ خالقِها وقدرتِهِ وحكمتِهِ ما بهَرَ العقولَ؛ أفلا يكونُ ذلك دالًّا على أنه قادرٌ على البعثِ وإحياءِ الموتى، لا يَعْيا بذلك؛ كما لم يَعْيَ بالأوَّلِ بطريقِ الأَوْلى والأَحْرى؟! النوعُ الثالثُ: الاستدلالُ العقليُّ على إمكانِ البعثِ بوجودِ نظیرِهِ في الواقع: جاء الاستدلالُ العقليُّ على إمكانِ البعثِ بأدلَّةٍ عامَّةٍ لكلِّ أحدٍ، وهي دلائلُ حسِّيَّةٌ قاطعةٌ لا يُمكِنُ الشكُّ فيها، وهو طريقُ الاعتبارِ والقياسِ؛ وذلك بقياسِ النظيرِ على النظير. وجاءت الأدلَّةُ تحت هذا النوعِ على أنحاءٍ ثلاثةٍ: أ- الاستدلالُ العقليُّ على جوازِ البعثِ وإمكانِهِ بإحياءِ الأرضِ بعد موتِها، بالمطَرِ والزرعِ والنبات: فمِن الأدلَّةِ العقليَّةِ التي ساقها القرآنُ الكريمُ للاحتجاجِ على مُنكِري إمكانِ البعثِ: قياسُ البعثِ وإعادةِ الموتى على إحياءِ الأرضِ بعد موتِها بالمطَر؛ فإن هذا نظيرُ إحياءِ الموتى وبعثِهم وإخراجِهم مِن قبورِهم. ومِن ذلك قولُهُ تعالى: {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: 9]. وقولُهُ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]. وقولُهُ تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11]. وقولُهُ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]. وقولُهُ تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9- 11]. هذه الآياتُ السابقةُ استدَلَّ بها القرآنُ الكريمُ على مسألةِ إمكانِ البعثِ وجوازِه؛ فإن الأرضَ المُجدِبةَ تَحْيا وتَرْبو بعد نزولِ المطر، وتخرُجُ منها النباتاتُ المختلِفة، ويقاسُ على ذلك إخراجُ الموتى وبَعْثُهم مِن قبورِهم؛ حيثُ يخرُجون كما تخرُجُ هذه النباتاتُ مِن الأرضِ المَيْتة، والقادرُ على هذا سبحانه قادرٌ على البعثِ؛ إذْ هو نظيرُه. ب- الاستدلالُ العقليُّ على جوازِ البعثِ وإمكانِهِ بحصولِ اليَقَظةِ بعد النوم: كما في قولِهِ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60]. وقولِهِ تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42]. وقولِهِ تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]. ج- الاستدلالُ العقليُّ على جوازِ البعثِ وإمكانِهِ بإخراجِ النارِ مِن الشجَر: كقولِهِ تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [الأنعام: 61]. فدَلَّ اللهُ عبادَهُ بما يشاهِدونه مِن جعلِ النارِ مِن العَفَارِ والمَرْخِ - وهما شجَرتانِ خَضْراوان - إذا حُكَّتْ إحداهما بالأخرى بتحريكِ الرِّيحِ لهما، اشتعَلَتِ النارُ فيهما -: على جوازِ إعادتِهِ الحياةَ في العظامِ النَّخِرة، والجلودِ الممزَّقة؛ وهو مِن الدلالةِ بالنظيرِ على نظيرِه. وأما الدلالةُ على وجوبِ وقوعِ البعثِ، فالقرآنُ يقرِّرُ هذه الدَّلالةَ: بأن الجزاءَ مِن مقتضَياتِ حكمةِ اللهِ تعالى وعدلِه، وتنزُّهِهِ عن الظلم، وأن اللهَ تعالى لم يخلُقِ الخلقَ عَبَثًا، ولم يترُكْهم سُدًى، وأنه تعالى لا يسوِّي بين عبادِهِ المؤمِنين والكافِرين في الجزاء؛ فهذا ظلمٌ يتنزَّهُ اللهُ عنه، وهو يخالِفُ الحكمةَ والعدلَ؛ فكان لا بدَّ عقلًا مِن وقوعِ البعثِ، ومِن إعادةِ الخلقِ؛ لمجازاةِ المحسِنين بالإكرام، ومجازاةِ المسيئِين بما عَمِلوا، وعدمِ التسويةِ بين المحسِنين والمسيئِين. |
خاتمة الجواب
فالبعثُ أصلٌ مِن الأصولِ التي بُعِثَتْ بها الأنبياءُ، وهي حقيقةٌ ثابتة، دلَّت على إمكانِها ووقوعِها: الكتُبُ السماويَّةُ والأنبياء، وكذلك العقلُ والفطرة.
وعلى العاقلِ ألا يُنكِرَ إعادةَ الخلقِ للبعث، وتأمُّلُ أدلَّتِها يدُلُّ على أهميَّتِها، وهي حادثةٌ عظيمةٌ عليه أن يستعِدَّ لها، ولا يَنفَعُهُ إنكارُها. وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (252).