نص السؤال
هناك الكثيرُ الذي يَرَى أن الموسيقا والمعازِفَ مِن أسبابِ الفرَحِ وزوالِ الاكتئابِ، كما تُشيرُ بعضُ الدراسات؛ فلماذا تحرِّمون الموسيقا والمعازِفَ؛ أليس تحريمُ الإسلامِ للموسيقا والمعازِفِ يُعَدُّ دعوةً للاكتئاب؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
لماذا تحرِّمون الموسيقا والمعازِفَ؛ أليس فيه دعوةٌ إلى الاكتئاب؟
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
إن هذه الشبهةَ يُثيرُها خصومٌ متعدِّدون؛ ليُضعِفوا مِن شأنِ الإسلامِ وتعاليمِه، أو التديُّنِ وأهلِه، والدعوةِ والدعاة؛ فيصوِّروهم على أنهم أعداءٌ للحياةِ، متخلِّفون رَجْعيُّون، يعيشون في غيرِ زمانِهم؛ والردُّ عليها يحتاجُ إلى بيانِ ما في مقالتِهم مِن جنايةٍ وتقوُّلٍ.
والمستبيحون للمعازفِ والموسيقا لهم شبهاتٌ واهيةٌ، يردِّدونها كثيرًا، لكنها لا تصمُدُ أمامَ الحِجاجِ العلميِّ؛ فليست دعوى سماعِ الموسيقا والمعازِفِ لدفعِ الاكتئابِ بأعجَبَ مِن دعوى بعضِهم: «إنه يَسمَعُ أصواتَ المغنِّياتِ؛ لأن ذلك يذكِّرُهُ بالحُورِ العِين»!
وفي ذلك قصَّةٌ طريفةٌ ذكَرها الشيخُ الألبانيُّ رحمه الله تعالى؛ حيثُ يقولُ: «منذُ نصفِ قرنٍ مِن الزمان، وأنا في دُكَّاني في دِمَشقَ أُصلِحُ الساعاتِ، جاءني زَبُونٌ مِن الطلَبة، وعليه العِمامةُ الأغبانيَّةُ المُزَركَشةُ المعروفةُ في سوريا، فلفَتَ نظري ظَرْفٌ كبيرٌ يتأبَّطُهُ، ظنَنْتُ أن فيه بعضَ إسطواناتِ صندوقِ سَمْعٍ: «فونوغراف»، المعروفةِ في ذلك الزمان، فلما سألتُهُ، أجاب بما ظنَنْتُ، فقلتُ له مستنكِرًا: أأنتَ مغنِّي؟ قال: لا، ولكنِّي أسمعُ الغناءَ، قلتُ: أمَا تَعلَمُ أنه حرامٌ باتِّفاقِ الأئمَّةِ الأربعة؟ قال: لكني أَفعَلُ ذلك بنيَّةٍ حسنةٍ، قلتُ: كيف ذلك؟ قال: «إني أَجلِسُ أسبِّحُ اللهَ وأذكُرُه، والسبحةُ بيدي، وأستمِعُ لغناءِ أمِّ كلثومٍ، فأتذكَّرُ بصوتِها العذبِ صوتَ الحُورِ العِينِ في الجنَّة»، فأنكَرْتُ ذلك عليه أشدَّ الإنكار، ولا أذكُرُ الآنَ ما قلتُ له بعدها، ولكنه لما رجَعَ بعد أسبوعٍ ليأخُذَ ساعتَهُ بعد تصليحِها، جاء معه طالبٌ أقوى منه معروفٌ مِن جمعيَّةِ رابطةِ العلماء، فتكلَّم في الموضوعِ مؤيِّدًا لصاحبِهِ، معتذِرًا عنه بحسنِ نيَّتِه، فأجَبتُهُ بأن حسنَ النيَّةِ لا يَجعَلُ المحرَّمَ حلالًا، فضلًا عن أن يَجعَلَهُ قُرْبةً إلى اللهِ، أرأيتَ لو أن مسلِمًا استحَلَّ شربَ الخمرِ بدعوى تذكُّرِ خمرِ الجنَّة؟! وهكذا يقالُ في الزِّنى أيضًا؛ فاتَّقِ اللهَ، ولا تَفتَحْ على الناسِ بابَ استحلالِ حُرُماتِ الله، بل والتقرُّبِ إلى اللهِ بأدنى الحِيَلِ؛ فانقطَعَ الرجُل».
ونحن نحتاجُ في الجوابِ عن هذه الشبهةِ أن ندافِعَ عن قولِ جمهورِ أهلِ العلمِ بتحريمِ الموسيقا.
ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- مذهبُ جمهورِ العلماءِ في تحريمِ الموسيقا مستنِدٌ إلى نصوصٍ، بل حُكِيَ الإجماعُ على تحريمِها؛ فتركُ الموسيقا والمعازِفِ خيارٌ دينيٌّ، وليس اختيارًا نفسيًّا:
فتحريمُ الموسيقا والمعازِفِ تبَنَّتْهُ قرونٌ مِن المسلِمين على اختلافِ شعوبِهم وبيئاتِهم ونفسيَّاتِهم، وهم قد عاشوا الحياةَ بكلِّ تفاصيلِها.
وقد وقَعَ الإجماعُ على «تحريمِ الموسيقا والمعازِفِ» مستنِدًا إلى نصوصٍ، ومِن العلماءِ الذين حكَوُا إجماعَ المسلِمين على ذلك: البغَويُّ في «شرحِ السنَّة» (12/383)، وابنُ قُدامةَ في «المُغْني» (12/457)، والنوَويُّ في «رَوْضةِ الطالِبين» (8/205)، وابنُ رجَبٍ في «فتحِ الباري» (2/83)، وفي «نُزْهةِ الأسماع» (ص60)، وابنُ حجَرٍ الهَيْتَميُّ في كتابِهِ «كفِّ الرَّعاعْ، عن محرَّماتِ اللهوِ والسَّماعْ» (ص306)، وغيرُهم ممن يقرُبُ مِن خمسين عالمًا مِن مختلِفِ المذاهبِ والبلدانِ والأعصار.
والحُجَّةُ في هذا البابِ التي انبنى الإجماعُ عليها: نصوصٌ صحيحةٌ صريحةٌ؛
كقولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ -:
«لَيُكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ، وَالخَمْرَ، وَالمَعَازِفَ»
كما عند البخاريِّ في «صحيحِهِ» (5590)
ودَلالتُهُ على التحريمِ أظهَرُ مِن أن يُطوَّلَ في تقريرِها؛ وهو حديثٌ ثابتٌ، صحَّحه جَمٌّ غفيرٌ مِن الأئمَّةِ والحُفَّاظ، ورَدُّوا على مَن ضعَّفه جهلًا بأصولِ علمِ الحديث، أو جهلًا بالطرُقِ الأخرى للحديثِ التي لم تَصِلْه.
وعليه: فمنطلَقُ مَن يترُكُ الموسيقا والمعازِفَ هو نفسُ منطلَقِ مَن يترُكُ نومَهُ لصلاةِ الفجر؛ فهو لا يحرِّمُ الراحةَ، ولا يعادي النومَ؛ ولكنْ يترُكُ شيئًا محدَّدًا لمبدأٍ دينيٍّ.
2- مذهبُ المسلِمين في تحريمِ المعازِفِ والموسيقا ليسَ فيه دعوةٌ للاكتئاب:
فهو تركٌ لشيءٍ محدَّدٍ، وليس تركًا للفرَحِ، وأنواعُ المباحاتِ وأسبابُ تفريحِ النفسِ كثيرةٌ، والمحرَّمُ شيءٌ قليلٌ مقارَنةً بذلك.
بل إن كثيرًا مِن الصالِحين جعَلوا لهم عِوَضًا في أقوَمِ الطُّرُقِ في التذاذِ النفسِ، وتحصيلِها للنعيمِ، وهو سماعُ كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلك أن كلامَ الحبيبِ أشَدُّ تأثيرًا في المُحِبِّ مِن كلامِ غيرِه؛ ولهذا لم يشتغِلِ الأنبياءُ والصِّدِّيقون وأصحابُهم بسماعِ الملاهي والغناء، واقتصَروا على كلامِ ربِّهم؛ لشدَّةِ تأثيرِهِ في أحوالِهم.
بالإضافةِ إلى ما أُبِيحَ مِن الإنشادِ الخالي مِن المعازفِ، والكلامِ المحرَّمِ، ومشابَهةِ أهلِ البدعةِ والمعصية، وكذلك الأصواتُ الطبيعيَّةُ المُرِيحةُ للنَّفْسِ، وغيرُها؛ وهذه كلُّها ملذَّاتٌ صوتيَّةٌ، فضلًا عن غيرِها مِن الملذَّاتِ المباحةِ غيرِ الصوتيَّة.
ونحن لو سلَّمْنا بأن الموسيقا والمعازِفَ فيها منافعُ ومصالحُ؛ مثلُ دفعِ الاكتئاب؛ فيقابِلُ تلك المصالحَ مفاسدُ كثيرةٌ وعظيمة، والشريعةُ لم تأتِ إلا بالمصلحةِ الخالصة، أو الراجحة، وأما ما تكونُ مفسدتُهُ غالبةً على مصلحتِهِ، فهو بمنزلةِ مَن يأخُذُ دِرهَمًا بدينارٍ، أو يَسرِقُ خمسةَ دراهمَ، ويتصدَّقُ منها بدِرهَمَيْن.
وذلك أن الغناءَ الشائعَ اليومَ المصحوبَ بالموسيقا والمعازفِ وآلاتِ الطَّرَبِ، يهيِّجُ الوَجْدَ المشترَكَ، فيُثيرُ مِن النفسِ كوامنَ تضُرُّهُ آثارُها، ويغذِّي النفسَ ويَفتِنُها؛ فتعتاضُ به عن سماعِ كلامِ الله، حتى لا يَبْقى فيها مَحَبَّةٌ لسماعِ القرآن، ولا التذاذٌ به، ولا استطابةٌ له.
والموسيقا - التي يدَّعون أنها مضادَّةٌ للاكتئاب - غالبًا ما تكونُ مقرونةً بإنشادِ أشعارِ الذين في قلوبِهم مرَضٌ؛ مِن العِشْقِ ومحبَّةِ الفواحشِ ومقدِّماتِها بالأصواتِ المُطرِبة، وهو مِن أقوى ما يهيِّجُ الفاحشةَ - كما قال أهلُ العِلْم - فإن المغنِّيَ إذا غنَّى بذلك، حرَّك القلوبَ المريضةَ إلى محبَّةِ الفواحش، فعندها يَهِيجُ مرَضُه، ويَقْوَى بلاؤُه، وإنْ كان القلبُ في عافيةٍ مِن ذلك، جعَلَ فيه مرَضًا؛ كما قال بعضُ السلفِ: «الغِناءُ رُقْيةُ الزِّنَى»؛ رواه البيهقيُّ في «شُعَبِ الإيمان» (7/ 111 رقم 4754)، و«رُقْيةُ الحَيَّةِ»: هي ما تُستخرَجُ بها الحيَّةُ مِن جُحْرِها، و«رُقْيةُ العَيْنِ والحُمَةِ»: هي ما تُستخرَجُ به العافيةُ، و«رُقْيةُ الزِّنَى»: هو ما يَدْعو إلى الزِّنى.
والسؤالُ إن جاء مِن جهةِ هذا النَّمَطِ مِن المعترضِين الذين يَدْعون إلى الزِّنى ومقدِّماتِه، فإن أوجُهَ بطلانِ شبهتِهم تزيدُ.
3- لو كان القولُ بتحريمِ الموسيقا والمعازِفِ يؤدِّي إلى الاكتئابِ وغيرِهِ مِن الأمراضِ النفسيَّةِ الخطيرة، لكَثُرَ ذلك في أهلِ الإسلامِ والتديُّنِ؛ وهو خلافُ الواقع:
فالمتديِّنون الذين اتَّبَعوا الشرعَ بتحريمِ الموسيقا والمعازِفِ، إنْ وُجِدَ فيهم بعضُ العيوب - كالجزَعِ، وقلَّةِ الصبرِ - فهو في غيرِهم أكثرُ، حتى إن قلَّةَ الصبرِ واليأسَ مِن الحياةِ تُفْضي بكثيرٍ مِن غيرِ المتديِّنين إلى الانتحار، وإدمانِ المخدِّرات، وغيرِ ذلك مِن السلوكيَّاتِ الخطيرة.
ونحن نجدُ الانتحارَ وإدمانَ المخدِّراتِ - وغيرَها مِن السلوكيَّاتِ المتَّفَقِ على انحرافِها - شائعةً في غيرِ المجتمَعاتِ المتديِّنة، ومعدَّلاتُ الانتحارِ والاكتئابِ هي في غيرِ بلدانِ المسلِمين أكثرُ، وأخبارُ المغنِّين المنتحِرين أو المكتئِبين أو الهارِبين إلى المخدِّراتِ وغيرِها كثيرةٌ.
فما الذي أغنَتْهُ عنهم تلك الموسيقا، وآلاتُ اللهوِ والطرَبِ التي يُدَّعى أنها حلٌّ لمشاكلِ الاكتئاب، والأمراضِ النفسيَّة؟!
بل إن مَن تمسَّك بكتابِ اللهِ قراءةً وتدبُّرًا لمعانيه، يجدُ راحةَ بالٍ وسعادة نفسيَّة لا يجدُها سواه.
4- الحكمةُ مِن تحريمِ المعازفِ والغناء:
مما لا شكَّ فيه: أن اللهَ تعالى حكيمٌ خبيرٌ، ولا يحرِّمُ شيئًا إلا لحِكْمة، بل هو سبحانه لا يحرِّمُ إلا الخبائثَ، واللهُ تعالى هو الربُّ، ونحن عبيدُهُ الذين خلَقَهم، وليس مِن شرطِ الربِّ أن يفسِّرَ أحكامَهُ؛ كما أنَّا نصلِّي المغربَ ثلاثَ ركعاتٍ، والفجرَ ركعتَيْن؛ فالمسلِمُ يمتنِعُ عما حرَّم اللهُ تعالى، ولو لم تَظهَرْ له حكمتُهُ، قاطعًا بأن اللهَ تعالى لم يحرِّمْ ما حرَّمه على عبادِهِ عبَثًا، وإنما له الحكمةُ البالغةُ سبحانه في كلِّ ما أمَرَ به، وكلِّ ما نَهَى عنه؛ مما يعودُ بالمنفعةِ والمصلحةِ على العبادِ في الدنيا والآخرة.
على أن العلماءَ ذكَروا لتحريمِ آلاتِ اللهوِ والموسيقا حِكَمًا كثيرةً؛ مِن كونِها تستجلِبُ الإدمانَ عليها، وتُضعِفُ العقلَ، وتحرِّضُ غالبًا على الزِّنى - كما يُشاهَدُ في أكثرِ الأغاني انتشارًا - وغيرِ ذلك؛ مِن الحِكَمِ التي تفسِّرُ حِكَمَ اللهِ تعالى، ولا يَلزَمُ ثبوتُها.
كما أن لها أثرًا عظيمًا في إفسادِ القلب، وشَغْلِهِ عن مصالِحِه، والصدِّ عن ذِكْرِ الله، وعن الصلاة؛ فبعضُ مفاسدِها وأضرارِها الحاصلةِ للقلبِ: كافٍ في القطعِ بتحريمِها.
وقد أطال العلماءُ في بيانِ بعضِ ما للغناءِ وآلاتِ اللهوِ مِن الأضرارِ والمفاسدِ؛ ومنه قولُهم: «إنه يُورِثُ النفاقَ في قوم، والعنادَ في قوم، والتكذيبَ في قوم، والفجورَ في قوم، والرُّعونةَ في قوم، وأكثرُ ما يُورِثُ: عِشقُ الصُّوَر، واستحسانُ الفواحش، وإدمانُهُ: يثقِّلُ القرآنَ على القلب، ويكرِّهُهُ إلى سماعِهِ بخاصَّة، وإنْ لم يكن هذا نفاقًا، فما للنفاقِ حقيقةٌ! وسرُّ المسألةِ: أنه [أي: الغناءَ والمعازفَ] قرآنُ الشيطان؛ فلا يجتمِعُ هو وقرآنُ الرحمنِ في قلبٍ أبدًا». «إغاثةُ اللهفان» (ص 441).
وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (207).
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال: إن صاحبَ السؤالِ يريدُ أن يقولَ: إن تحريمَ الموسيقا والمعازِفِ: إما خطأٌ على الإسلام، أو نقصٌ في الإسلامِ نفسِه؛ لأنه يدُلُّ على جهلٍ اجتماعيٍّ، أو مرَضٍ نفسيٍّ؛ فالذين يحرِّمون الموسيقا والمعازِفَ على أنفُسِهم يعادون الحياةَ والفرَحَ، ويسبِّبون الاكتئاب.
مختصَرُ الإجابة:
إن القولَ بتحريمِ المعازفِ - وهي: آلاتُ الطرَبِ والموسيقا - هو قولُ عامَّةِ علماءِ المسلِمين عبرَ التاريخ، على اختلافِ عصورِهم وبلدانِهم ومذاهبِهم، وقد حُكِي الإجماعُ على هذا القول، والخلافُ فيه شاذٌّ، لكنِ اشتهَرَ في هذا العصرِ لأسبابٍ مختلِفة. وهذا الإجماعُ مستنِدٌ إلى النصوصِ الصحيحة، متنوِّعةِ الدَّلالةِ على التحريم؛ فهو مبدأٌ دينيٌّ تبنَّاه المسلِمون على اختلافِ بيئاتِهم ونفسيَّاتِهم وعقليَّاتِهم، وعاشوا حياةً طبيعيَّةً بكلِّ تفاصيلِها.
ولو فُرَضَ أنَّا لم نَعرِفْ فيه أيَّ حكمةٍ، فمجرَّدُ تحريمِ الإسلامِ كافٍ في الاستجابةِ لذلك؛ فهي عبادةٌ يختارُها الربُّ المعبودُ الذي لو لم نَعرِفْ حكمتَهُ، لكَفَى حُكْمُه، وهو الحكيمُ الخبير.
ثم إن مَن عَلِمَ أن للهِ في تحريمِهِ حكمةً، وأنه لم يحرِّمْ علينا إلا ما يضُرُّنا، أدرَكَ أن هناك مفاسدَ، ولو لم يَعلَمْها.
ثم إن الموسيقا والغناءَ هي واحدةٌ فقطْ مِن المشتهَيات، وهناك ما لا حَصْرَ له مِن المشتهَياتِ المباحةِ في الإسلام، بل هناك ملذَّاتٌ صوتيَّةٌ كثيرةٌ - مِن تلاوةِ القرآنِ والشعرِ المباحِ، وأصواتِ الطبيعةِ وغيرِها - فضلًا عن سائرِ الملذَّاتِ غيرِ الصوتيَّة؛ فلا حاجةَ إلى إطلاقِ الأحكامِ والعباراتِ المنفِّرةِ ضدَّ الإسلامِ لأجلِ مثالٍ محدودٍ يُمكِنُ تفسيرُه.
وبالمشاهَدةِ: فإن عامَّةَ مجتمَعاتِ المسلِمين الذين يحرِّمون الموسيقا والمعازِفَ - والمتديِّنين بشكلٍ أخصَّ - لم يعانوا مِن الاكتئابِ المؤدِّي إلى الانتحارِ، وإدمانِ المخدِّراتِ، ونحوِ ذلك، حيثُ نجدُ ذلك منتشِرًا في المجتمَعاتِ غيرِ المتديِّنةِ، مع غلَبةِ عالَمِ الموسيقا والغناءِ عليها. أما جِيلُ الصحابةِ والتابِعين رضيَ اللهُ عنهم، فقد كانوا يَشغَلون أوقاتَهم بسماعِ كلامِ اللهِ تعالى، وكان لهم فيه عِوَضٌ عن جميعِ الملاهي، وكانوا بذلك أليَنَ الناسِ قلوبًا، وأرَقَّهم أفئدةً، وأكثرَهم طُمَأنِينةً، وأبعدَهم عن الأمراضِ النفسيَّةِ التي تفشَّت في عصرِنا هذا.
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال: إن صاحبَ السؤالِ يريدُ أن يقولَ: إن تحريمَ الموسيقا والمعازِفِ: إما خطأٌ على الإسلام، أو نقصٌ في الإسلامِ نفسِه؛ لأنه يدُلُّ على جهلٍ اجتماعيٍّ، أو مرَضٍ نفسيٍّ؛ فالذين يحرِّمون الموسيقا والمعازِفَ على أنفُسِهم يعادون الحياةَ والفرَحَ، ويسبِّبون الاكتئاب.
مختصَرُ الإجابة:
إن القولَ بتحريمِ المعازفِ - وهي: آلاتُ الطرَبِ والموسيقا - هو قولُ عامَّةِ علماءِ المسلِمين عبرَ التاريخ، على اختلافِ عصورِهم وبلدانِهم ومذاهبِهم، وقد حُكِي الإجماعُ على هذا القول، والخلافُ فيه شاذٌّ، لكنِ اشتهَرَ في هذا العصرِ لأسبابٍ مختلِفة. وهذا الإجماعُ مستنِدٌ إلى النصوصِ الصحيحة، متنوِّعةِ الدَّلالةِ على التحريم؛ فهو مبدأٌ دينيٌّ تبنَّاه المسلِمون على اختلافِ بيئاتِهم ونفسيَّاتِهم وعقليَّاتِهم، وعاشوا حياةً طبيعيَّةً بكلِّ تفاصيلِها.
ولو فُرَضَ أنَّا لم نَعرِفْ فيه أيَّ حكمةٍ، فمجرَّدُ تحريمِ الإسلامِ كافٍ في الاستجابةِ لذلك؛ فهي عبادةٌ يختارُها الربُّ المعبودُ الذي لو لم نَعرِفْ حكمتَهُ، لكَفَى حُكْمُه، وهو الحكيمُ الخبير.
ثم إن مَن عَلِمَ أن للهِ في تحريمِهِ حكمةً، وأنه لم يحرِّمْ علينا إلا ما يضُرُّنا، أدرَكَ أن هناك مفاسدَ، ولو لم يَعلَمْها.
ثم إن الموسيقا والغناءَ هي واحدةٌ فقطْ مِن المشتهَيات، وهناك ما لا حَصْرَ له مِن المشتهَياتِ المباحةِ في الإسلام، بل هناك ملذَّاتٌ صوتيَّةٌ كثيرةٌ - مِن تلاوةِ القرآنِ والشعرِ المباحِ، وأصواتِ الطبيعةِ وغيرِها - فضلًا عن سائرِ الملذَّاتِ غيرِ الصوتيَّة؛ فلا حاجةَ إلى إطلاقِ الأحكامِ والعباراتِ المنفِّرةِ ضدَّ الإسلامِ لأجلِ مثالٍ محدودٍ يُمكِنُ تفسيرُه.
وبالمشاهَدةِ: فإن عامَّةَ مجتمَعاتِ المسلِمين الذين يحرِّمون الموسيقا والمعازِفَ - والمتديِّنين بشكلٍ أخصَّ - لم يعانوا مِن الاكتئابِ المؤدِّي إلى الانتحارِ، وإدمانِ المخدِّراتِ، ونحوِ ذلك، حيثُ نجدُ ذلك منتشِرًا في المجتمَعاتِ غيرِ المتديِّنةِ، مع غلَبةِ عالَمِ الموسيقا والغناءِ عليها. أما جِيلُ الصحابةِ والتابِعين رضيَ اللهُ عنهم، فقد كانوا يَشغَلون أوقاتَهم بسماعِ كلامِ اللهِ تعالى، وكان لهم فيه عِوَضٌ عن جميعِ الملاهي، وكانوا بذلك أليَنَ الناسِ قلوبًا، وأرَقَّهم أفئدةً، وأكثرَهم طُمَأنِينةً، وأبعدَهم عن الأمراضِ النفسيَّةِ التي تفشَّت في عصرِنا هذا.
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
إن هذه الشبهةَ يُثيرُها خصومٌ متعدِّدون؛ ليُضعِفوا مِن شأنِ الإسلامِ وتعاليمِه، أو التديُّنِ وأهلِه، والدعوةِ والدعاة؛ فيصوِّروهم على أنهم أعداءٌ للحياةِ، متخلِّفون رَجْعيُّون، يعيشون في غيرِ زمانِهم؛ والردُّ عليها يحتاجُ إلى بيانِ ما في مقالتِهم مِن جنايةٍ وتقوُّلٍ.
والمستبيحون للمعازفِ والموسيقا لهم شبهاتٌ واهيةٌ، يردِّدونها كثيرًا، لكنها لا تصمُدُ أمامَ الحِجاجِ العلميِّ؛ فليست دعوى سماعِ الموسيقا والمعازِفِ لدفعِ الاكتئابِ بأعجَبَ مِن دعوى بعضِهم: «إنه يَسمَعُ أصواتَ المغنِّياتِ؛ لأن ذلك يذكِّرُهُ بالحُورِ العِين»!
وفي ذلك قصَّةٌ طريفةٌ ذكَرها الشيخُ الألبانيُّ رحمه الله تعالى؛ حيثُ يقولُ: «منذُ نصفِ قرنٍ مِن الزمان، وأنا في دُكَّاني في دِمَشقَ أُصلِحُ الساعاتِ، جاءني زَبُونٌ مِن الطلَبة، وعليه العِمامةُ الأغبانيَّةُ المُزَركَشةُ المعروفةُ في سوريا، فلفَتَ نظري ظَرْفٌ كبيرٌ يتأبَّطُهُ، ظنَنْتُ أن فيه بعضَ إسطواناتِ صندوقِ سَمْعٍ: «فونوغراف»، المعروفةِ في ذلك الزمان، فلما سألتُهُ، أجاب بما ظنَنْتُ، فقلتُ له مستنكِرًا: أأنتَ مغنِّي؟ قال: لا، ولكنِّي أسمعُ الغناءَ، قلتُ: أمَا تَعلَمُ أنه حرامٌ باتِّفاقِ الأئمَّةِ الأربعة؟ قال: لكني أَفعَلُ ذلك بنيَّةٍ حسنةٍ، قلتُ: كيف ذلك؟ قال: «إني أَجلِسُ أسبِّحُ اللهَ وأذكُرُه، والسبحةُ بيدي، وأستمِعُ لغناءِ أمِّ كلثومٍ، فأتذكَّرُ بصوتِها العذبِ صوتَ الحُورِ العِينِ في الجنَّة»، فأنكَرْتُ ذلك عليه أشدَّ الإنكار، ولا أذكُرُ الآنَ ما قلتُ له بعدها، ولكنه لما رجَعَ بعد أسبوعٍ ليأخُذَ ساعتَهُ بعد تصليحِها، جاء معه طالبٌ أقوى منه معروفٌ مِن جمعيَّةِ رابطةِ العلماء، فتكلَّم في الموضوعِ مؤيِّدًا لصاحبِهِ، معتذِرًا عنه بحسنِ نيَّتِه، فأجَبتُهُ بأن حسنَ النيَّةِ لا يَجعَلُ المحرَّمَ حلالًا، فضلًا عن أن يَجعَلَهُ قُرْبةً إلى اللهِ، أرأيتَ لو أن مسلِمًا استحَلَّ شربَ الخمرِ بدعوى تذكُّرِ خمرِ الجنَّة؟! وهكذا يقالُ في الزِّنى أيضًا؛ فاتَّقِ اللهَ، ولا تَفتَحْ على الناسِ بابَ استحلالِ حُرُماتِ الله، بل والتقرُّبِ إلى اللهِ بأدنى الحِيَلِ؛ فانقطَعَ الرجُل».
ونحن نحتاجُ في الجوابِ عن هذه الشبهةِ أن ندافِعَ عن قولِ جمهورِ أهلِ العلمِ بتحريمِ الموسيقا.
ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- مذهبُ جمهورِ العلماءِ في تحريمِ الموسيقا مستنِدٌ إلى نصوصٍ، بل حُكِيَ الإجماعُ على تحريمِها؛ فتركُ الموسيقا والمعازِفِ خيارٌ دينيٌّ، وليس اختيارًا نفسيًّا:
فتحريمُ الموسيقا والمعازِفِ تبَنَّتْهُ قرونٌ مِن المسلِمين على اختلافِ شعوبِهم وبيئاتِهم ونفسيَّاتِهم، وهم قد عاشوا الحياةَ بكلِّ تفاصيلِها.
وقد وقَعَ الإجماعُ على «تحريمِ الموسيقا والمعازِفِ» مستنِدًا إلى نصوصٍ، ومِن العلماءِ الذين حكَوُا إجماعَ المسلِمين على ذلك: البغَويُّ في «شرحِ السنَّة» (12/383)، وابنُ قُدامةَ في «المُغْني» (12/457)، والنوَويُّ في «رَوْضةِ الطالِبين» (8/205)، وابنُ رجَبٍ في «فتحِ الباري» (2/83)، وفي «نُزْهةِ الأسماع» (ص60)، وابنُ حجَرٍ الهَيْتَميُّ في كتابِهِ «كفِّ الرَّعاعْ، عن محرَّماتِ اللهوِ والسَّماعْ» (ص306)، وغيرُهم ممن يقرُبُ مِن خمسين عالمًا مِن مختلِفِ المذاهبِ والبلدانِ والأعصار.
والحُجَّةُ في هذا البابِ التي انبنى الإجماعُ عليها: نصوصٌ صحيحةٌ صريحةٌ؛
كقولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ -:
«لَيُكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ، وَالْحَرِيرَ، وَالخَمْرَ، وَالمَعَازِفَ»
كما عند البخاريِّ في «صحيحِهِ» (5590)
ودَلالتُهُ على التحريمِ أظهَرُ مِن أن يُطوَّلَ في تقريرِها؛ وهو حديثٌ ثابتٌ، صحَّحه جَمٌّ غفيرٌ مِن الأئمَّةِ والحُفَّاظ، ورَدُّوا على مَن ضعَّفه جهلًا بأصولِ علمِ الحديث، أو جهلًا بالطرُقِ الأخرى للحديثِ التي لم تَصِلْه.
وعليه: فمنطلَقُ مَن يترُكُ الموسيقا والمعازِفَ هو نفسُ منطلَقِ مَن يترُكُ نومَهُ لصلاةِ الفجر؛ فهو لا يحرِّمُ الراحةَ، ولا يعادي النومَ؛ ولكنْ يترُكُ شيئًا محدَّدًا لمبدأٍ دينيٍّ.
2- مذهبُ المسلِمين في تحريمِ المعازِفِ والموسيقا ليسَ فيه دعوةٌ للاكتئاب:
فهو تركٌ لشيءٍ محدَّدٍ، وليس تركًا للفرَحِ، وأنواعُ المباحاتِ وأسبابُ تفريحِ النفسِ كثيرةٌ، والمحرَّمُ شيءٌ قليلٌ مقارَنةً بذلك.
بل إن كثيرًا مِن الصالِحين جعَلوا لهم عِوَضًا في أقوَمِ الطُّرُقِ في التذاذِ النفسِ، وتحصيلِها للنعيمِ، وهو سماعُ كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلك أن كلامَ الحبيبِ أشَدُّ تأثيرًا في المُحِبِّ مِن كلامِ غيرِه؛ ولهذا لم يشتغِلِ الأنبياءُ والصِّدِّيقون وأصحابُهم بسماعِ الملاهي والغناء، واقتصَروا على كلامِ ربِّهم؛ لشدَّةِ تأثيرِهِ في أحوالِهم.
بالإضافةِ إلى ما أُبِيحَ مِن الإنشادِ الخالي مِن المعازفِ، والكلامِ المحرَّمِ، ومشابَهةِ أهلِ البدعةِ والمعصية، وكذلك الأصواتُ الطبيعيَّةُ المُرِيحةُ للنَّفْسِ، وغيرُها؛ وهذه كلُّها ملذَّاتٌ صوتيَّةٌ، فضلًا عن غيرِها مِن الملذَّاتِ المباحةِ غيرِ الصوتيَّة.
ونحن لو سلَّمْنا بأن الموسيقا والمعازِفَ فيها منافعُ ومصالحُ؛ مثلُ دفعِ الاكتئاب؛ فيقابِلُ تلك المصالحَ مفاسدُ كثيرةٌ وعظيمة، والشريعةُ لم تأتِ إلا بالمصلحةِ الخالصة، أو الراجحة، وأما ما تكونُ مفسدتُهُ غالبةً على مصلحتِهِ، فهو بمنزلةِ مَن يأخُذُ دِرهَمًا بدينارٍ، أو يَسرِقُ خمسةَ دراهمَ، ويتصدَّقُ منها بدِرهَمَيْن.
وذلك أن الغناءَ الشائعَ اليومَ المصحوبَ بالموسيقا والمعازفِ وآلاتِ الطَّرَبِ، يهيِّجُ الوَجْدَ المشترَكَ، فيُثيرُ مِن النفسِ كوامنَ تضُرُّهُ آثارُها، ويغذِّي النفسَ ويَفتِنُها؛ فتعتاضُ به عن سماعِ كلامِ الله، حتى لا يَبْقى فيها مَحَبَّةٌ لسماعِ القرآن، ولا التذاذٌ به، ولا استطابةٌ له.
والموسيقا - التي يدَّعون أنها مضادَّةٌ للاكتئاب - غالبًا ما تكونُ مقرونةً بإنشادِ أشعارِ الذين في قلوبِهم مرَضٌ؛ مِن العِشْقِ ومحبَّةِ الفواحشِ ومقدِّماتِها بالأصواتِ المُطرِبة، وهو مِن أقوى ما يهيِّجُ الفاحشةَ - كما قال أهلُ العِلْم - فإن المغنِّيَ إذا غنَّى بذلك، حرَّك القلوبَ المريضةَ إلى محبَّةِ الفواحش، فعندها يَهِيجُ مرَضُه، ويَقْوَى بلاؤُه، وإنْ كان القلبُ في عافيةٍ مِن ذلك، جعَلَ فيه مرَضًا؛ كما قال بعضُ السلفِ: «الغِناءُ رُقْيةُ الزِّنَى»؛ رواه البيهقيُّ في «شُعَبِ الإيمان» (7/ 111 رقم 4754)، و«رُقْيةُ الحَيَّةِ»: هي ما تُستخرَجُ بها الحيَّةُ مِن جُحْرِها، و«رُقْيةُ العَيْنِ والحُمَةِ»: هي ما تُستخرَجُ به العافيةُ، و«رُقْيةُ الزِّنَى»: هو ما يَدْعو إلى الزِّنى.
والسؤالُ إن جاء مِن جهةِ هذا النَّمَطِ مِن المعترضِين الذين يَدْعون إلى الزِّنى ومقدِّماتِه، فإن أوجُهَ بطلانِ شبهتِهم تزيدُ.
3- لو كان القولُ بتحريمِ الموسيقا والمعازِفِ يؤدِّي إلى الاكتئابِ وغيرِهِ مِن الأمراضِ النفسيَّةِ الخطيرة، لكَثُرَ ذلك في أهلِ الإسلامِ والتديُّنِ؛ وهو خلافُ الواقع:
فالمتديِّنون الذين اتَّبَعوا الشرعَ بتحريمِ الموسيقا والمعازِفِ، إنْ وُجِدَ فيهم بعضُ العيوب - كالجزَعِ، وقلَّةِ الصبرِ - فهو في غيرِهم أكثرُ، حتى إن قلَّةَ الصبرِ واليأسَ مِن الحياةِ تُفْضي بكثيرٍ مِن غيرِ المتديِّنين إلى الانتحار، وإدمانِ المخدِّرات، وغيرِ ذلك مِن السلوكيَّاتِ الخطيرة.
ونحن نجدُ الانتحارَ وإدمانَ المخدِّراتِ - وغيرَها مِن السلوكيَّاتِ المتَّفَقِ على انحرافِها - شائعةً في غيرِ المجتمَعاتِ المتديِّنة، ومعدَّلاتُ الانتحارِ والاكتئابِ هي في غيرِ بلدانِ المسلِمين أكثرُ، وأخبارُ المغنِّين المنتحِرين أو المكتئِبين أو الهارِبين إلى المخدِّراتِ وغيرِها كثيرةٌ.
فما الذي أغنَتْهُ عنهم تلك الموسيقا، وآلاتُ اللهوِ والطرَبِ التي يُدَّعى أنها حلٌّ لمشاكلِ الاكتئاب، والأمراضِ النفسيَّة؟!
بل إن مَن تمسَّك بكتابِ اللهِ قراءةً وتدبُّرًا لمعانيه، يجدُ راحةَ بالٍ وسعادة نفسيَّة لا يجدُها سواه.
4- الحكمةُ مِن تحريمِ المعازفِ والغناء:
مما لا شكَّ فيه: أن اللهَ تعالى حكيمٌ خبيرٌ، ولا يحرِّمُ شيئًا إلا لحِكْمة، بل هو سبحانه لا يحرِّمُ إلا الخبائثَ، واللهُ تعالى هو الربُّ، ونحن عبيدُهُ الذين خلَقَهم، وليس مِن شرطِ الربِّ أن يفسِّرَ أحكامَهُ؛ كما أنَّا نصلِّي المغربَ ثلاثَ ركعاتٍ، والفجرَ ركعتَيْن؛ فالمسلِمُ يمتنِعُ عما حرَّم اللهُ تعالى، ولو لم تَظهَرْ له حكمتُهُ، قاطعًا بأن اللهَ تعالى لم يحرِّمْ ما حرَّمه على عبادِهِ عبَثًا، وإنما له الحكمةُ البالغةُ سبحانه في كلِّ ما أمَرَ به، وكلِّ ما نَهَى عنه؛ مما يعودُ بالمنفعةِ والمصلحةِ على العبادِ في الدنيا والآخرة.
على أن العلماءَ ذكَروا لتحريمِ آلاتِ اللهوِ والموسيقا حِكَمًا كثيرةً؛ مِن كونِها تستجلِبُ الإدمانَ عليها، وتُضعِفُ العقلَ، وتحرِّضُ غالبًا على الزِّنى - كما يُشاهَدُ في أكثرِ الأغاني انتشارًا - وغيرِ ذلك؛ مِن الحِكَمِ التي تفسِّرُ حِكَمَ اللهِ تعالى، ولا يَلزَمُ ثبوتُها.
كما أن لها أثرًا عظيمًا في إفسادِ القلب، وشَغْلِهِ عن مصالِحِه، والصدِّ عن ذِكْرِ الله، وعن الصلاة؛ فبعضُ مفاسدِها وأضرارِها الحاصلةِ للقلبِ: كافٍ في القطعِ بتحريمِها.
وقد أطال العلماءُ في بيانِ بعضِ ما للغناءِ وآلاتِ اللهوِ مِن الأضرارِ والمفاسدِ؛ ومنه قولُهم: «إنه يُورِثُ النفاقَ في قوم، والعنادَ في قوم، والتكذيبَ في قوم، والفجورَ في قوم، والرُّعونةَ في قوم، وأكثرُ ما يُورِثُ: عِشقُ الصُّوَر، واستحسانُ الفواحش، وإدمانُهُ: يثقِّلُ القرآنَ على القلب، ويكرِّهُهُ إلى سماعِهِ بخاصَّة، وإنْ لم يكن هذا نفاقًا، فما للنفاقِ حقيقةٌ! وسرُّ المسألةِ: أنه [أي: الغناءَ والمعازفَ] قرآنُ الشيطان؛ فلا يجتمِعُ هو وقرآنُ الرحمنِ في قلبٍ أبدًا». «إغاثةُ اللهفان» (ص 441).
وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (207).