نص السؤال

توهم تعارض القرآن بشأن حفظه من الضياع

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

توهم تعارض القرآن بشأن حفظه من الضياع (*)


مضمون الشبهة: 


يزعم بعض المشككين أن هناك تعارضا بين

قوله سبحانه وتعالى:

(سنقرئك فلا تنسى (6) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (7))

(الأعلى)

، وبين قوله سبحانه وتعالى:

(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))

(الحجر)

، كقوله سبحانه وتعالى:

(لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17))

(القيامة)

، حيث أخبر الله - سبحانه وتعالى - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينسى من القرآن ما شاء الله أن ينساه في الآية الأولى، والذي ينسى يضيع، وقد بينت آيات أخرى أن القرآن الكريم محفوظ من الضياع. 
ويتساءل هؤلاء: كيف يشير الله في موضع إلى أن هذا القرآن ينسى، والنسيان طريق الضياع، ثم يقرر في موضع آخر أن القرآن محفوظ من الضياع؟! ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عصمة القرآن من التناقض. 


وجه إبطال الشبهة: 


ينتفي هذا التعارض عن طريقين: 
•       النسيان

في قوله ـ سبحانه وتعالـى ـ:

(سنقرئك فلا تنسى (6))

(الأعلى)

على الوجهين: 
الأول: أنه من قبيل الإنشاء (النهي). 
الثاني: أنه من قبيل الخبر. 
•       الاستثناء

في قوله سبحانه وتعالى:

(إلا ما شاء الله)

(الأعلى: ٧)

بين الحقيقة والمجاز. 
الأول: الحقيقة، والمستثنى هنا هو المنسوخ أو المنسي نسيانا مؤقتا. 
الثاني: المجاز، والاستثناء هنا لبيان القدرة الإلهية. 


التفصيل: 


انتفاء التعارض بين الآيات: 
أخبر الله - عزوجل - النبي - صلى الله عليه وسلم -

في قوله سبحانه وتعالى:

(لا تحرك به لسانك لتعجل به (16) إن علينا جمعه وقرآنه (17))

(القيامة)

، بأنه - سبحانه وتعالى - تولى جمع القرآن في صدره - صلى الله عليه وسلم - لكي يقرأه على الناس من غير أن ينسى منه شيئا. 
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ مع جبريل أثناء تلقي الوحي منه، من شدة حرصه على حفظ القرآن؛ مخافة أن ينسى منه شيئا، فنهاه الله - سبحانه وتعالى - عن ذلك، وطمأنه بأنه سيجمع القرآن في صدره، فلا ينسى منه شيئا.

وكذلك قوله سبحانه وتعالى:

(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))

(الحجر)،

فالقرآن تكفل رب العالمين بحفظه، فلا يضيع منه شيء، كما ذكرت آية الحجر وآية القيامة؛ فلا تعارض بين الآيات،

أما عن قوله سبحانه وتعالى:

(سنقرئك فلا تنسى (6))

(الأعلى)

، فيحتمل احتمالين: 
الأول: أن يكون نهيا، فيكون المعنى: فلا تغفل قراءته وتكراره؛ حتى لا تنساه. وعلى هذا فلا تعارض، وأثبتت الألف في (فلا تنسى) مع أنه مجزوم بـ"لا" الناهية؛ رعاية لفواصل الآيات في السورة. 
الثاني: أن يكون خبرا، فتكون الآية بشارة من الله، ووعدا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه سبحانه سيقوي حفظ نبيه للقرآن؛ حتى لا ينساه. 
والأصح: أن الآية من قبيل الخبر على سبيل البشارة والوعد، ويؤيد ذلك عدة قرائن، منها: 
•   أنه يلزم على كونها نهيا ارتكاب مجاز في النسيان، يحمله على ترك القراءة والغفلة عنها، والحمل على الحقيقة أولى من المجاز. 
•       أن جعل الألف مزيدة للفاصلة خلاف الأصل. 
•   أن في كون الآية خبرا تأييدا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل ما يدل على إعجاز القرآن وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى. 
وإذا كان

قوله سبحانه وتعالى:

(سنقرئك فلا تنسى (6))

(الأعلى)

من باب الإخبار والبشارة والوعد، فما معنى الاستثناء في

قوله سبحانه وتعالى:

(إلا ما شاء الله)

(الأعلى: 7)

وهل هو على حقيقته أم لا؟
وفسر الاستثناء في هذه الآية على قولين: 
الأول: أنه على حقيقته، ومعنى الآية: سنقرئك القرآن فلا تنسى منه إلا ما شاء الله أن تنساه، ويرفع حكمه وتلاوته، فالمستثنى هو ما نسخه الله من القرآن، ورفع حكمه وتلاوته، أو أن النسيان الذي أفاده الاستثناء هو الذي يعقبه التذكر، لا النسيان التام الذي هو محو الشيء من الذهن بالكلية؛ لأن النسيان التام يخل بموجب التبليغ عن الله تعالى، ويزعزع الثقة في القرآن الكريم. ومعنى الآية: سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه، ثم يذكرك به بعد، إما بنفسك، وإما بغيرك. 
الثاني: أن الاستثناء ليس على حقيقته، ومنهم الفراء الذي قال: إن هذا استثناء صلة في الكلام على سنة الله - سبحانه وتعالى - في الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح استثناؤه، والزمخشري أيضا الذي ذكر أن الغرض نفي النسيان رأسا، ولا يقصد استثناء شيء. والاستثناء على هذا لبيان أن الله - سبحانه وتعالى - لو أراد أن يصير نبيه - صلى الله عليه وسلم - ناسيا لذلك لقدر عليه،

كما قال سبحانه وتعالى:

(ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك)

(الإسراء: ٨٦)

، والله - سبحانه وتعالى - لم يشأ ذلك. 
فعدم النسيان إنما هو من الله تعالى وإحسانه، لا من قدرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قوى هذا القول

ما قيل في قول الله - سبحانه وتعالى - عن أهل الجنة:

(وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (108))

(هود)،

من أن الاستثناء ليس على حقيقته، وإنما المقصود: أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا بذاته، بل هو موكول إلى مشيئة الله سبحانه وتعالى. 
وقد ضعف هذا القول بعض المفسرين كأبي حيان الذي قال: وقول الفراء والزمخشري يجعل الاستثناء كلا استثناء، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى، بل ولا في كلام فصيح [1]. 
والأرجح: أن الاستثناء على حقيقته، وأن النسيان الذي أفاده الاستثناء هو الذي يعقبه التذكر، لا النسيان التام، وذلك لأمور هي: 
•   أن الأصل إبقاء الأشياء على حقيقتها، وحيث يمكن هنا الاستثناء على حقيقته مع عدم الإخلال بالقاعدة المقطوع بها، وهي عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في مجال التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - فلا داعي للخروج به عن حقيقته. 
•   أن النسيان الذي يعقبه التذكر لا ضير فيه، ولا يخل بمهمة التبليغ، ولا يزعزع الثقة بالنبي ولا بالقرآن، ولوقوعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - فائدة هي أن يسن لنا. 
•   أن هذا القول تؤيده أحاديث متعددة منها: أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يقرأ في المسجد فقال: "يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا» [2]. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون» [3]  [4]. ويذكر ابن حجر: أن في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجة لمن أجاز النسيان على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ليس طريقه البلاغ مطلقا، وكذا فيما طريقه البلاغ لكن بشرطين: 
أحدهما: أنه بعدما يقع منه تبليغه. 
والآخر: أنه لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكرة، إما بنفسه، وإما بغيره [5]. 
ويندرج تحت زعمهم هذا ادعاؤهم تناقض القرآن

حول قوله سبحانـه وتعالــى:

(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))

(الحجر)

، وقولــه:

(يمحو الله مــا يشــاء ويثبــت وعنــده أم الكتــاب (39))

(الرعد)،

ويتساءلون: كيف يجتمع الحفظ مع المحو؟
ونحن نجيب بأن: الآية تذكر أن الله يمحو أحكاما ويثبت أخرى، ويمحو مقادير ويثبت غيرها، أفي هذا تضارب؟ كما أن المقصود بالمحو والإثبات هو في وقت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما بعد اكتمال القرآن وموت النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الله يحفظ القرآن ويصونه. 


الخلاصة: 


•   ليس

في قوله سبحانه وتعالى:

(سنقرئك فلا تنسى (6))

(الأعلى)،

ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نسى آيات من القرآن نسيانا يقدح في عصمته في التبليغ، ويتعارض مع

قوله ـ سبحانه وتعالى ـ:

(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))

(الحجر)،

الذي يفيد تكفل الله - سبحانه وتعالى - بحفظ القرآن الكريم؛ لأن النسيان الذي أفادته الآية فهو النسيان الذي يعقبه التذكر، لا النسيان التام على أرجح الأقوال. وهذا ما يتناسب مع تكفل المولى بحفظه في مواضع أخرى منه. أو أن الأمر كله من قبيل النفي، بمعنى: فلن تنسى. 
•   الاستثناء 

فى قوله تعالى:

(سنقرئك فلا تنسى (6) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى (7))

(الأعلى)

يمكن أن يفسر على وجهين: إما أنه على الحقيقة، وهذا يعني أن الله - عز وجل - أراد أن ينسى الرسول - سبحانه وتعالى - ما نسخه الله من القرآن ورفع كلمه وتلاوته، أو أنه نسيان يعقبه تذكر. وإما أنه على غير حقيقته، أي: لا يوجد شيء أبيح نسيانه أصلا، فلا مجال للاستثناء في الآية. 

المراجع

  1. (*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. [1]. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، ج7، ص459.
  2.  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب نسيان القرآن وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا (4750)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آية كذا (1873). 
  3. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب القبلة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان (392)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له (1302).
  4. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م ، ص49،48 بتصرف. 
  5. فتح الباري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، ج9، ص68.