نص السؤال

دعوى أن نزول القرآن على سبعة أحرف يتعارض مع نزوله بلغة قريش وحدها

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

دعوى أن نزول القرآن على سبعة أحرف يتعارض مع نزوله بلغة قريش وحدها (*)


مضمون الشبهة: 


يدعي بعض المغالطين أن نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف، ينافي ما هو مقرر من أن القرآن نزل بلغة قريش وحدها، ثم إنه يؤدي إلى ضياع الوحدة التي يجب أن تسود الأمة الواحدة باجتماعها على لسان واحد وكتاب واحد.


وجه إبطال الشبهة: 


الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن غالبا من لغة قريش؛ فقد كانت مجتمع اللهجات، ومن ثم كان اختيارها موضعا لنزول القرآن، كما أن تعدد القراءات أدعى للوحدة؛ لتفادي المفاخرة والتنازع بين القبائل، وهذا على خلاف ما ادعاه بعضهم من كونه يؤدي إلى ضياع الوحدة.


التفصيل: 


الوجوه السبعة موجودة في لغة قريش: 


الوجوه السبعة وجدت في قريش قبل نزول القرآن، وهي من لغتها غالبا، فكلها واقعة في لغة قريش قبل نزول القرآن، ذلك أن قريشا كانت قبل مهبط الوحي والتنزيل قد داورت بين لغات العرب جميعها وتداولتها، وأخذ أهلها ما استملحوه من هؤلاء وأولئك في أسواق العرب ومواسمهم ووقائعهم وحجهم وعمرتهم، ثم استعملوه وأذاعوه، بعد أن هذبوه وصقلوه، وبهذا كانت لغة قريش مجمع لغات مختارة ومنتقاة من بين لغات القبائل كافة، وكانت سببا من أسباب انتهاء الزعامة إليهم واجتماع أوزاع العرب عليهم، ومن هنا شاءت حكمة العليم الحكيم أن يطل عليهم القرآن من هذا الأفق، وأن يطل عليهم من هذه السماء: سماء قريش ولغتها التي منحتهم مقامهم، وخاطبهم بهذا اللسان العام لهم الذي يضم شعرهم ونثرهم، وقد تم له ما أراد بفضل هذه السياسة الرشيدة التي جاءتهم بالإعجاز البياني من جنس ما برعوا فيه، فهي (أي العربية) أفصح اللغات، والقرآن أفصح الكتب، وليس هذا تعصبا فقد أثبته الغرب والعرب قاطبة، ومن هنا يتبين لنا أن لسان قريش جمع الألسنة العربية كافة.


إلى هذا التفسير ذهب د. محمد بن أبو شهبة في ترجيحه للمراد بالأحرف السبع، وناقش الشبهات التي يثيرها هذا التفسير فقال: "المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، وإن شئت فقل: سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة، تختلف فيها الألفاظ والمباني مع اتفاق المعاني، أو تقاربها وعدم اختلافها وتناقضها، وذلك مثل: هلم، وأقبل، وتعال، وإلي، ونحوي، وقصدي، وقربي، فإن هذه ألفاظ سبعة مختلفة يعبر بها عن معنى واحد، وهو طلب الإقبال.


وليس معنى هذا أن كل كلمة كانت تقرأ بسبعة ألفاظ من سبع لغات، بل المراد: أن غاية ما ينتهى إليه الاختلاف في تأدية المعنى هو سبع، فالمعنى الذي تتفق فيه اللغات في التعبير عنه بلفظ واحد يعبر عنه بهذا اللفظ فحسب، والذي يختلف التعبير عنه بلفظين وتدعو الضرورة إلى التوسعة يعبر عنه بلفظين، وهكذا إلى سبع. ومن أمثلة ذلك من القرآن

قوله سبحانه وتعالى:

(إن كانت إلا صيحة واحدة)

(يس: 29)

، وقد قرأ ابن مسعود: إلا زقية واحدة، وقوله:

(فاسعوا إلى ذكر الله)

(الجمعة: 9)

قد قرأ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: "فامضوا إلى ذكر الله، ومثل ما جاء عن ورقاء عن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب، أنه كان يقرأ:

(للذين آمنوا انظرونا)

(الحديد: 13)

: (للذين آمنوا أمهلونا) (للذين آمنوا أخرونا) (للذين آمنوا ارقبونا) وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ:

(كلما أضاء لهم مشوا فيه)

(البقرة: 20)

: (سعوا فيه).


ولا يقال: إن بعض هذه الحروف لا يقرأ بها اليوم؛ لأنا نقول: إن هذا هو معنى الأحرف السبع، ونحن لا ندعي بقاءها كلها إلى اليوم، وهذا الرأي يتفق والروايات السابقة الدالة على اختلاف الصحابة في كلمات من القرآن وتنازعهم، ورفع الأمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إقرار الرسول كلا على قراءته، يوافق الأصول التي استنتجناها من هذه الروايات، فالغرض من النزول على سبعة أحرف التيسير ورفع الحرج عن الأمة بالتوسعة في الألفاظ، ما دام المعنى واحدا، فقد كانوا أمة أمية، وكانت لغاتهم متعددة، وكان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة وتذليل للسان وتغيير للعادة، فمن ثم جعل الله لهم متسعا في اللغات بقراءة المعنى الواحد بألفاظ مختلفة.
وقد استمر الأمر على هذا حتى كثر فيهم من يقرأ ويكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لسان قريش، لا سيما بعد أن صارت لقريش السيادة الدينية والدنيوية معا، وقدروا على النطق بلغة قريش، التي هي أعذب اللغات وأسهلها وأطوعها للألسنة، فلم يسعهم أن يقرأوا بخلافها، لا سيما وقد زالت الضرورة وأصبحت التوسعة في القراءة بالأحرف السبع مثار اختلاف وتنازع، فقد حدث في عهد الخليفة الثالث عثمان - رضي الله عنه - أن اجتمع أهل الشام مع أهل العراق في غزوة أرمينية، وكانت قراءاتهم مختلفة، فصار بعضهم يخطئ بعضا، ويقول كل منهم: حرفي الذي أقرأ به خير من حرفك.


فجاء حذيفة بن اليمان إلى عثمان، وقال: يا أمير المؤمنين، أدرك المسلمين قبل أن يختلفوا في كتابهم اختلاف اليهود والنصارى، وحدث أيضا: أنه كان المعلم يعلم قراءة رجل، والآخر يعلم قراءة رجل آخر، فصار الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع هذا الخلاف إلى المعلمين، وكاد أن يكفر بعضهم بعضا، فقال عثمان: أأنتم عندي تختلفون؟ فمن نأى من الأمصار كان أشد اختلافا. 
فرأى الخليفة الراشد عثمان - ونعم ما رأى - على ملأ من الصحابة، ومشورة من أهل الرأي منهم أن يجمع الناس على حرف واحد، حتى تضيق شقة الخلاف ويقل التنازع، فجمع المصحف وكتبه على حرف واحد هو حرف قريش، ونسخ منه نسخا أرسل بها إلى الأمصار، وحرق ما عدا هذا المصحف الذي أمر بجمعه، وعزم على كل من كان عنده مصحف يغاير المصاحف العثمانية أن يحرقه، فاستوثقت - اجتمعت وانضمت - له الأمة بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، فالتزمت القراءة بحرف قريش، وتركت القراءة بالأحرف الست الباقية، التي عزم عليها إمامها العادل الراشد أن تتركها امتثالا لأمر الإسلام في طاعة أولي الأمر ورعاية منهم لمصلحتهم ومصلحة الأمة ممن يأتي بعدهم، حتى درست معرفة هذه الأحرف الست من الأمة وعفت آثارها.
فلا سبيل لأحد اليوم إلى القراءة بها لدثورها وعفاء آثارها، وتتابع المسلمين على رفض القراءة بها من غير جحود منهم لصحتها وصحة شيء منها، فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح، دون ما عداه من الأحرف الباقية.


وإلى هذا الرأي ذهب الجماهير من سلف الأمة وخلفها، فذهب إليه الأئمة سفيان بن عيينة وابن جرير الطبري ودافع عنه دفاعا شديدا في مقدمة تفسيره، والطحاوي وابن وهب وخلائق كثيرون، واختاره القرطبي ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء، وسنورد الشبه التي أثيرت حوله ونجيب عنها؛ حتى يتبين لنا أنه الرأي المروي والمختار.


الشبهة الأولى:


إن قال قائل: في أي موضوع من القرآن نجد حرفا واحدا مقروءا بسبع لغات مختلفات الألفاظ، متفقات المعاني، حتى يصح لنا أن نفسر الحروف السبع بوجوه ولغات سبعة؟
والجواب: أننا لم ندع أن ذلك موجود اليوم، وإنما قلنا: هذا هو معنى الحديث، ثم جدت ضرورات اضطرت الأمة أن تقتصر على حرف واحد منها، هو حرف قريش. وإنما لم أقل في الجواب إن في القرآن ما يقرأ على سبعة أوجه مثل:

(وعبد الطاغوت)

(المائدة 60)

، (فلا تقل لهما أف)

(الإسراء: 23)،

(وجبريل)

(البقرة:98)؛

لأن الاختلاف في هذا اختلاف قراءات: وهو أداء اللفظ الواحد بطرق مختلفة، وليس اختلاف حروف، أي ألفاظ وكلمات، على ما بينا في المذهب المختار، والقراءات الثابتة على اختلافها ترجع إلى حرف واحد، هو حرف قريش الذي جمع عثمان عليه المصاحف.


الشبهة الثانية:


إن قيل: أين ذهبت الأحرف الست الباقية مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بها وأمرهم بقراءتها، وأنزلهن الله من عنده على نبيه؟ أنسخت هذه الأحرف الست الباقية فرفعت؟ وإذا كان، فما الدليل على نسخها ورفعها؟
والجواب: أن الأحرف الست الباقية لم تنسخ ولم ترفع، ولم تضيعها الأمة، وإنما الأمة أمرت بحفظ القرآن، وخيرت في حفظه وقراءته بأي تلك الأحرف السبع شاءت، كما أمرت إذا حنثت في يمين وهي موسرة أن تكفر بأي الكفارات الثلاثة شاءت: إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة، فلو أجمعت الأمة جميعها على التكفير بواحدة من الكفارات الثلاث دون ما عداها، كانت مصيبة مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق الله، ووصفت بأنها مطيعة لا عاصية. فكذلك الأمة أمرت بحفظ القرآن وقراءته، وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبع شاءت، فرأت لعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد، قراءته بحرف واحد وترك ما عداه. فإن قيل فما العلة؟ قلنا: هو ما قدمنا من أن الأحرف السبع التي جعلت للتيسير ورفع الحرج، أضحت سببا للنزاع والاختلاف، بل التكفير على نحو ما قلنا آنفا. 


الشبهة الثالثة:


إن قيل: كيف يلتئم هذا الرأي الذي اخترتموه في تأويل الحديث مع ما أثر «عن عثمان - رضي الله عنه - أنه دعا زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم» [1].


قلنا في الجواب: إن قول عثمان محمول على ابتداء نزوله، وهو الحرف الأول الذي نزل به جبريل وطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيادة عليه، فقد نزل جبريل بهذا الحرف أولا، ثم كان يأتي بالحروف في عرضاته القرآن مع النبي كل عام في رمضان، فكان ينزل الله - عز وجل - في هذه العرضات ما شاء أن ينزل من ألفاظ اللغات الأخرى، التي تدعو إليها الحاجة، ثم كان أن استقر الأمر آخرا بعد زوال الضرورة على هذا الحرف، وهو لغة قريش، أو يكون مراد عثمان: أن معظمه وأكثره نزل بلغة قريش.


نقل الإمام أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: أنزل القرآن أولا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء، ثم أبيح للعرب أن يقرأوه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها على اختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغة إلى أخرى للمشقة، ولما كان فيه من الحمية، ولطلب تسهيل فهم المراد، كل ذلك مع اتفاق المعنى، وعلى هذا يتنزل اختلافهم في القراءة كما تقدم، وتصويب رسول الله كلا منهم.


قال الحافظ ابن حجر معلقا: وتتمة ذلك أن يقال: إن الإباحة المذكورة لم تقع بالتشهي، أي أن كل واحد يغير الكلمة بمرادفها في لغته، بل المراعى في ذلك السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويشير إلى ذلك قول كل من عمر وهشام في حديث: أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم.


الشبهة الرابعة: 


قالوا: لو كانت الحروف السبع هي لغات سبعة من لغات العرب المشهورة، فكيف اختلفت قراءة عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم - رضي الله عنهما - وهما قرشيان، ولغتهما واحدة؟
والجواب: أن العبرة في القراءة بالحروف هو السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أن يقرأ كل واحد بهواه، على حسب ما يتسهل له من لغته، وإنكار بعضهم على الآخر لم يكن لأن المنكر سمع ما ليس من لغته فأنكره، وإنما كان لأنه سمع خلاف ما أقرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - وجائز جدا أن يكون أحدهما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - حروفا بغير لغة قريش فحفظها، وسمع الآخر حروفا بلغة قريش فحفظها، وثبت كل واحد منهما على ما سمع من النبي، فمن ثم اختلفا مع كونهما قرشيين، وكون بعض الناس يعرف غير لغته الأصلية وتتسهل له وينطق بها كما ينطق بها أهلها أمر مشاهد معروف، وهل قال أحد: إن كل واحد من العرب كان يلتزم القراءة بلغته دون غيرها حتى يستشكل ذلك.
ولو كان الأمر كذلك، لقال عمر لهشام: لقد قرأت بغير لغة قومك، ولكنه لم يحدث، وإنما أنكر عليه حروفا لم يقرئه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم.


الشبهة الخامسة:


كيف تقولون: إن الحرف الذي استقر عليه الأمر آخرا هو حرف قريش، مع أن في القرآن كثيرا من الكلمات بغير لغة قريش مثل: (الأرائك) فقد قيل: إنها بلغة اليمن، ومثل:

(أفلم ييأس الذين آمنوا)

(الرعد: 31)

، أي: أفلم يعلموا بلغة هوازن، و (مراغما) أي: متفسحا بلغة هذيل، إلى غير ذلك من الكلمات، وقد ذكر السيوطي في (الإتقان) في النوع السادس والثلاثين - مما ورد في المراد بالأحرف السبع - الكثير من ذلك.
والجواب عن هذا: أن ما ورد من هذه الألفاظ، وإن كانت في الأصل من غير لغة قريش، لكن قريشا أخذتها واستعملتها حتى صارت قرشية بالاستعمال، ومعروف أن مركز قريش هيأ لها أن تأخذ من اللغات الأخرى أعذبها وأسلسها.
إن هذه الكلمات التي ذكرتموها مما توافقت فيه لغة قريش وغيرها، إلا أنها عند غير قريش أشهر وأعرف، وتوافق اللغات في بعض الكلمات أمر غير مستنكر ولا مستغرب، وأيا كان الحال، فوجود هذه الكلمات في القرآن لا ينافي كون القرآن بلغة قريش.
مثل هذه الكلمات التي جاءت في القرآن، وقيل: إنها غير عربية في الأصل، كالمشكاة والقسطاس وإستبرق ونحوها، فإنها إما صارت عربية بالاستعمال، أو أنها مما توافقت فيه لغة العرب وغيرهم، ولم يطعن وجودها في كون القرآن عربيا مبينا.


الشبهة السادسة:


إن قيل: ما اللغات السبعة التي نزل بها القرآن؟ ومن أي ألسن العرب كانت؟
قلنا: لا حاجة بنا اليوم إلى معرفة الألسن الست الأخرى، ولا إلى القراءة بها بعد أن اندرست وعفت آثارها، وبحسبنا هذا اللسان الباقي، وهو لغة قريش، وكل ما قيل في تعيين اللغات السبعة لم يثبت بطريق صحيح، والذي نراه: أنه كان نزل على لغات العرب المشهورة وأفصحها، وليس في البحث عن تحديدها كبير عناء ما دام أن الحرف الباقي - وهو حرف قريش - أفصحها وأعذبها وأسلسلها، وما دامت الأحرف الأخرى قد اندرست ولم يبق منها شيء.


ولكي تزداد يقينا بأن قريشا أفصح العرب ولسانهم أفصح الألسنة وأعذبها، ننقل لك بعض ما قاله الأئمة في هذا المقام: قال ابن فارس في فقه اللغة، عن إسماعيل بن أبي عبيد، قال: أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم، أن قريشا أفصح العرب ألسنة وأصفاهم لغة، وذلك أن الله تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم نبي الرحمة محمدا - صلى الله عليه وسلم - فجعل قريشا قطان حرمه وولاة بيته، فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم، وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم، ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم وتسميتها أهل الله؛ لأنهم الصريح من ولد إسماعيل - عليه السلام - لم تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلة من الله - عز وجل - لهم وتشريفا؛ إذ جعلهم رهط بيته الأدنين وعترته الصالحين.


وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب، ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولا عجرفة قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا الكسر تسمعه من أسد وقيس.. وقال الفراء: كانت العرب تحضر الموسم كل عام، وتحج البيت في الجاهلية، وقريش يسمعون لغات العرب فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ومستقبح الألفاظ.


ولو نزل القرآن بغير لغة قريش لكان هذا سببا للمشاحنات، وإظهارا للعصبيات التي جاء الإسلام ليقضي عليها، ولذهب أهل كل قبيلة بلغتهم، ولعلا بعضهم على بعض.
وقال أبو نصر الفارابي: "كانت قريش أجود العرب انتقاء للأفصح، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعا، وأبينها إبانة عما في النفس" [2].
ثم إننا نسأل هؤلاء عن مدى علمهم باللهجات العربية، وماذا يعرفون عنها وماذا يدرون عن لسان كل قوم من العرب، حتى يدعوا أن الأحرف السبع تنافي لغة قريش، كان ينبغي عليهم أولا أن يدرسوا لهجات العرب، ومنها قريش، ثم يدعوا ما شاءوا!


الخلاصة: 


•  الأحرف السبع جعلت للتيسير ورفع الحرج، فلما أضحت سببا للنزاع والاختلاف اقتصر على حرف قريش، الذي كان قاسما مشتركا بين لهجات قبائل العرب.
•  الوجوه السبع نزل بها القرآن الكريم من لغة قريش غالبا؛ لأنها متعددة اللهجات، والدليل على ذلك أن الذين قرءوا بها قبل انتشار الإسلام في بقاع الأرض هم القرشيون قبل غيرهم، والذين كانوا يحتكمون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فيقرهم جميعا كلا بحرفه، كما في حديث عمر وهشام بن حكيم الذي سبق ذكره.
•  تعدد القراءات أدعى للوحدة لتفادي المفاخرة والتنازع بين القبائل، وذهب أكثر العلماء إلى أن المراد بالأحرف السبع سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد، على معنى أنه حيث تختلف لغات العرب في التعبير عن معنى من المعاني يأتي القرآن منزلا بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد، وحيث لا يكون هناك اختلاف فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر، واختلفوا في اللغات السبعة، إلا أن أكثره بلغة قريش؛ لأنها أفصح لغاتهم.

المراجع

  1. (*) مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م. [1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب نزل القرآن بلسان قريش (3315). 
  2.  . المدخل لدراسة القرآن الكريم، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1423هـ / 2003م، ص 174: 184 بتصرف يسير.