نص السؤال
دعوى عدم وجود نص موحد للقرآن؛ لاختلاف مصاحف الصحابة
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
دعوى عدم وجود نص موحد للقرآن؛ لاختلاف مصاحف الصحابة (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أنه لا يوجد نص موحد للقرآن الكريم، بل هناك نصوص كثيرة مختلفة، زيادة ونقصانا وترتيبا فيما يسمى بمصاحف الصحابة، كمصحف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومصحف عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وغيرهما؛ مما يدل على اختلاف هذه المصاحف مع مصحف عثمان - رضي الله عنه - الذي وحد نصه وجمع عليه المسلمين. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في سلامة القرآن وعصمته من التحريف والتبديل.
وجوه إبطال الشبهة:
1) لا يجب أن نقارن مصاحف الصحابة - التي وضعوها لأنفسهم تحت ظروف خاصة - بمصحف عثمان - رضي الله عنه - الذي نقل متواترا وأجمعت عليه الأمة.
2) الصحابة أجمعوا على مصحف عثمان - رضي الله عنه - حال حياته وبعد مماته، ومنهم على - رضي الله عنه - وابن مسعود - رضي الله عنه.
3) لماذا لم يعلن على - رضي الله عنه - مصحفه على الناس بعدما آل إليه الأمر، ويرفض ما لم يرضه من مصحف عثمان رضي الله عنه.
4) هذه الزيادات التي في مصاحف الصحابة لا تعدو كونها تفسيرا للقرآن، أو قراءة شاذة أو خاصة.
5) هذه المصاحف مشكوك في صحتها ونسبتها إلى الصحابة؛ لأن نصوصها لم تبلغنا، بل بلغنا بعض الروايات عن ترتيب سورها وأوجه قراءتها.
6) إن المطالع لأقوال العلماء من أئمة التفسير والقراءات فيما نسب إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة من مصاحف، ليقف على حقيقة ما قررناه سالفا من كون قراءاتهم تلك تفسيرية أو شاذة.
7) نقد العلماء كتاب "المصاحف" لابن أبي داود الذي ورد به الحديث عن مصاحف الصحابة واختلافها؛ وذلك لمخالفة كثير مما جمعه لما هو مجمع عليه.
التفصيل:
أولا. مصاحف بعض الصحابة لها ظروفها الخاصة:
لا يصح أن نضع ما جمعه بعض الصحابة من القرآن في صحف خاصة وفي ظروف خاصة في مقابل المصحف الإمام الذي اجتمع عليه الصحابة جميعا؛ ليكون بين أيدي الأمة، وذلك لأنهم دونوا هذه الصحف حسب ظروفهم، وباعتبارها مصاحف خاصة بهم، وليست للناس. ألا ترى زيد بن ثابت حين كلف بكتابة القرآن كنسخة رسمية يقول: "فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على مما أمرني به - أي أبو بكر - رضي الله عنه - من جمع القرآن"، ثم إن أصحاب المصاحف لم يلزموا أحدا بترتيبها؛ فإن أحدهم قد يكون في سرية، أو غير ذلك من الأمور، فيتغيب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مدة ينزل فيها وحي الله، فإذا رجع أخذ في جمع ما تيسر له مما فاته، فيقع فيما كتبه تقديم وتأخير من هذا الوجه، كما يقول صاحب كتاب المباني:
"ولو كان أصحاب المصاحف من الصحابة يعتقدون أن ترتيبهم الأكمل والأصح، لخالفوا عثمان - رضي الله عنهـ وأعلنوا ذلك للمسلمين، واستمسكوا بترتيب مصاحفهم، ولم يأخذوا بترتيب المصحف العثماني، لكن شيئا من هذا لم ينقل إلينا، وإنما الذي نقل هو إجماعهم على مصحف عثمان - رضي الله عنه - دون مخاصمة في تقديم أو تأخير، أوزيادة أو نقصان، إن المرء ليعجب حين يجد مؤلفينا - غفر الله لهم - يقابلون ترتيب مصاحف الصحابة الخاصة بتريب المصحف العثماني وليصف هذا بأنه أكمل، ويدع للقارئ الحكم على عمل خاص للصحابة، ويأتي بعد ذلك نفر يؤصل هذه المقابلة كابن النديم في الفهرست، واليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب في تاريخه، والشهرستاني: محمد بن عبد الكريم المتوفى سنة 548هـ في مقدمة تفسيره وغيرهم، حتى يصل الأمر إلى أن يأتي بعض المعاصرين فيضع هذا الترتيب في قوائم يعارض بعضها بعضا.
بل يؤلف بعضهم كتبا خاصة باختلاف مصاحف الصحابة، معتمدين على كتاب حققه أحدهم، هو كتاب "المصاحف" لابن أبي داود، وإذا كانت مصاحف الصحابة التي دونوها مصاحف خاصة لأنفسهم أمرا معلوما للكافة بما فيهم هؤلاء المدعون، فإن المقارنة بين بعضها أو بينها وبين المصحف الإمام في ترتيب المصحف حكم جائر، وأكثر من ذلك جورا وشططا أن يقول بعضهم: "ما جمعه واحد لم يتفق حرفيا مع ما جمعه الآخرون".
وراح هؤلاء يتلمسون القراءات الشاذة والروايات التفسيرية، ويثبتونها على أنها قرآن، حتى جمعوا ما يملأ حوالي ثلاثمائة وستين صفحة ألحقوها بكتاب المصاحف الذي حققه أحدهم، والذي لا يتجاوز مائتين وثلاثا وعشرين صفحة، ولا ينسوا أن يثبتوا تلك الاختلافات التي ترجع إلى الرسم الإملائي كلمة () بالألف واللام (اصلوة) بدون اللام، وإلى نطق الكلمة والوقوف عليها كقوله "نوحا" بدون تنوين أو "نوحا" بالتنوين، وإلى النقط والإعجام كقوله "يطوف" بالياء التحتية و "تطوف" بالتاء، وغير ذلك.
لقد تكفل الله - عز وجل - بحفظ القرآن وجمعه وقرآنه، وميز أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - عن سائر الأمم بأن جعل القرآن في صدورهم، ولذلك نجد في كل عصر ومصر منذ البعثة النبوية إلى الآن من يصوب خطأ القارئ، أو الكاتب للقرآن في أي محفل من المحافل "حتى إنهم لو وجدوا في المصحف حرفا زائدا لأنكروه، وكذلك لو بدل حرف عن موضعه، إلا أن يكون فيما يجري مجرى التقديم والتأخير، أو كان بمنزلة قولهم "عذاب عظيم" بدلا من "عذاب أليم"، أو قوله "سميع بصير" بدلا من "عليم حكيم"، أو نحو ذلك فإن هذا قد يشتبه على من لا يحفظ القرآن ظاهرا.
لكن صاحب كتاب "المصاحف" المولع بذكر الروايات المتناقضة والمختلفة يضع هذا العنوان "باب اختلاف مصاحف الصحابة"، ويقول تحته: "إنما قلنا مصحف فلان لما خالف مصحفنا هذا من الخط أو الزيادة أو النقصان"، ثم ينسب ذلك إلى أبيه كما جاء في كتاب" التنزيل" من سنن أبي داود.
وإذا قبلنا المخالفة في الخط فكيف نقبل الزيادة أو النقصان في القرآن؟! وكيف ينسب إلى بعض الصحابة - رضي الله عنهم - مصاحف فيها زيادة عن القرآن أو نقصان؟! إنه إن صحت نسبة هذه المصاحف أو بعضها إلى الصحابة فإن ما نسب إليهم لا يعدو أن يكون بعض الروايات التفسيرية، أو بعض أوجه القراءات الخاصة أو الشاذة، أو ترتيبا خاصا لسور القرآن حسبما تيسر للصحابي.
فهل يجوز في مثل هذا أن تضع عنوانا ضخما يوحي باختلاف المصاحف، وكأنها قرآن آخر غير قرآننا، قرآن أنقص في بعض الجوانب وأكمل في بعضها الآخر من المصحف الإمام؟! وهل يجوز لابن أبي داود أو غيره - غفر الله لنا ولهم - أن يصدر عنوانه هذا (بمصحف عمر بن الخطاب رضي الله عنه) الذي أشار بجمع المصحف الإمام، ولا يذكر سوى ثلاثة أوجه من القراءات لثلاث آيات.
فكيف يقبل عاقل أن يقال: إن قراءة ثلاث آيات بوجه خاص يجوز لأحد أن ينسب لقارئها مصحفا خاصا به ليشعر باستقلاله عن المصحف الإمام، والأعجب من هذا أن يذكر ابن أبي داود بعد مصحف عمر رضي الله عنه "مصحف علي بن أبي طالب رضي الله عنه"، ثم لا يذكر إلا رواية واحدة يدرجها تحته، وهي تقرر أنه قرأ الآية رقم 285 من سورة البقرة هكذا:
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون)
(البقرة:285)،
وواضح أنها رواية تفسيرية من أجلها يضع أبو بكر بن أبي داود مصحفا خاصا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قد يرى بعض المؤلفين إطلاق لفظ "مصحف فلان" على بعض القراءات التي تنسب إليه، كما نسب إلى حمزة بن عبد المطلب مصحفا، وهو الذي استشهد في غزوة أحد قبل اكتمال القرآن بثمانية أعوام، فهذا نوع من الاصطلاح".
لكنه اصطلاح من بعضهم غير دقيق وخطره عظيم؛ إذ يوهم الاختلاف بين مصاحف الصحابة والمصحف الإمام، بل يعمقه ويشعر باستقلالية كل مصحف، حتى ليوضع لمصحف أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - اسم يشعر بذلك فيسمى "لباب القلوب"، ولم يذكر ابن أبي داود "للباب القلوب"، سوى أربع صور من الاختلاف، اثنان منها يخرجان على أنهما قراءتان، والأخريان على أنهما روايتان تفسيريتان، فهل من أجل هذه السور الأربع يسمى مصحف أبي موسى - رضي الله عنه - بلباب القلوب مما يشعر بتميزه باسم خاص يضاف إلى رصيد تاريخ القرآن من النسخ القديمة؟
أما مصحف عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - الذي ذكر ابن أبي داود عن أبي بكر بن عياش أنه رأى مع حفيد لعبد الله بن عمرو مصحف جده، وأن فيه حروفا تخالف حروفنا، أما هذا المصحف فلم تذكر فيه رواية واحدة عن هذه الحروف التي تخالف حروفنا.
ثانيا. الصحابة أجمعوا على مصحف عثمان - رضي الله عنه - حال حياته وبعد مماته وفيهم على وابن مسعود رضي الله عنهما:
أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - على المصحف الإمام ولم يتخلف عبد الله بن مسعود عن ذلك الإجماع، وقد انتهت إليهم قراءات الأئمة السبعة.
وإذا قمنا بإحصاء القراءات التي تصل إلى الصحابة من كتاب "الإقناع في القراءات السبع" لأبي جعفر الأنصاري ابن الباذش المتوفى سنة 540 هـ، لوجدناها كما يأتي:
• علي رضي الله عنه: تنتهي إليه خمس قراءات من قراءات الأئمة السبعة.
• ابن مسعود رضي الله عنه: تنتهي إليه ثلاث قراءات من قراءات الأئمة السبعة.
• ابن عباس رضي الله عنه: تنتهي إليه خمس قراءات من قراءات الأئمة السبعة.
• أبي بن كعب رضي الله عنه: تنتهي إليه ثلاث قراءات من قراءات الأئمة السبعة.
• زيد بن ثابت رضي الله عنه: تنتهي إليه قراءتان من قراءات الأئمة السبعة.
• عثمان بن عفان رضي الله عنه: تنتهي إليه قراءتان من قراءات الأئمة السبعة.
• أبو هريرة رضي الله عنه: تنتهي إليه قراءة واحدة من قراءات الأئمة السبعة.
• أبو الدرداء رضي الله عنه: تنتهي إليه قراءة واحدة من قراءات الأئمة السبعة.
ويلاحظ أن هذا الاتصال حسب سلسلة السند التي ذكرها ابن الباذشي؛ لذا نجد بعض الحفاظ من القراء يختلف في العدد زيادة أو نقصانا حسب اتصال السند إليهم.
تلك الإحصائية من كتاب ابن الباذشي تنقض تلك الدعوى التي ادعاها ابن أبي داود وأمثاله قديما، ونفخ فيها بعض المستشرقين حديثا، دعوى اختلاف مصاحف الصحابة (الخاصة) عن المصحف العثماني.
ثالثا. لماذا لم يعلن علي - رضي الله عنه - مصحفه على الناس بعد توليه الخلافة، ويرفض مصحف عثمان رضي الله عنه؟!
لقد كانت لدى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين تولى الخلافة فرصة أن يعلن على الناس ما لم يرضه من أوجه الاختلاف بين مصحفه والمصحف الإمام، أو أن يضيف الناقص إليه ويحذف الزائد، وقد نيطت به هذه المسئولية الكبرى، ويستحيل أن يكتم علي - رضي الله عنه - شيئا يتعلق بالقرآن، ولكن ذلك لم يحدث، إنما حدث الرضى التام بما صنع عثمان - رضي الله عنه - من تحريق المصاحف، وجمع الناس على المصحف الإمام، حتى إن أبا بكر ابن أبي داود الذي نسب إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مصحفا - يذكر بنفسه أن عليا - رضي الله عنه - قال حين حرق عثمان - رضي الله عنه - المصاحف: "لو لم يصنعه لصنعته".
رابعا. هذه الزيادات - إن صحت - لا تعدو كونها تفسيرا للقرآن أو قراءة شاذة أو خاصة:
إن ما روي عن بعض الصحابة - إن صحت نسبته إليهم - لا يخرج عن كونه روايات تفسيرية لبعض الآيات، وإنها روايات آحاد لا ترقى أن تكون قرآنا، فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وقد تحمل هذه الروايات قراءات شاذة لا تعد من القرآن كذلك.
لقد قرر العلماء عقلا وقلبا، دراسة وتمحيصا، وأقرت الأمة الإسلامية كذلك أن هذا القرآن الذي بين أيدينا، وتناقلته الأجيال حفظا في الصدور وكتابة في السطور - منذ جمع الصحابة له، بما فيهم هؤلاء الصحابة الذي نسبت إليهم مصاحف خاصة تختلف عن المصحف الإمام، هذا القرآن الذي وثق بمحضر من الصحابة جميعا، وأقروا بكماله - يستحيل أن يقع فيه تحريف في حرف واحد، إذ كان كل حرف من حروفه مجمعا على صدقه، وما كانت هذه الأمة لتجتمع على ضلالة عقلا واصطلاحا؛ بل يستحيل أن يقع فيه تحريف لكفالة الله وحفظه:
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9))
(الحجر).
ثم إن الجمع الأول للقرآن في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - إنما تم عن طريق استنساخ ما في صدور الصحابة وما في صحفهم، فقد جاء من طريق يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي حاطب: "عن عمر أنه قال: من كان تلقى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من القرآن فليأت به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان" [1].
فهذه الصحف التي كانت بين يدي الصحابة، والتي كتبوها لأنفسهم هي التي استنسخ منها المصحف الإمام، ثم إن عثمان رضي الله عنه "أمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به إلى الأمصار فكيف يقال بعد ذلك: "باختلاف مصاحف الصحابة عن المصحف الإمام".
خامسا. هذه المصاحف مشكوك في صحتها فضلا عن نسبتها إلى الصحابة:
إن نصوص هذه المصاحف لم تبلغنا، بل بلغنا بعض الروايات عن ترتيب سورها، أو أوجه قراءاتها، وبعض الروايات التفسيرية بعد أن أحرق عثمان - رضي الله عنه - المصاحف المخالفة بمدة طويلة، مما يجعلنا نحذر كل الحذر في قبول هذه الروايات والتي كانت مستندا لما سمي بعد اختلاف مصاحف الصحابة.
سادسا. أقوال العلماء فيما نسب إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة من مصاحف:
هذا أحد أئمة التفسير والقراءات أبو حيان الأندلسي يقول في تفسيره معلقا على ما نسب إلى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - من أنه قرأ: (فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن) [2]. "وينبغي حملها على التفسير؛ لأنها مخالفة لسواد الإمام، وفيها زيادة، وقد صح عنه النقل الذي لا شك فيه أنه قرأ وأقرأ على رسم السواد، فلذلك ينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير".
في كثير من المواضع التي نسبت فيها قراءة بالزيادة أو النقصان، أو التغيير يقول مثل ذلك، فيحكم على القراءات المخالفة التي نسبت إليه أو إلى غيره بأنها روايات تفسيرية، ولا تعد قرآنا لأنها تخالف ما عليه السواد الأعظم من المسلمين.
يقول عند قوله - سبحانه وتعالى -
في سورة البقرة:
(فأزلهما الشيطان عنها)
(البقرة: 36).
وحكوا أن عبد الله بن مسعود قرأ:
(فوسوس لهما الشيطان عنها)،
وهذه القراءة مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، فينبغي أن تجعل تفسيرا، كذا ما ورد عنه وعن غيره مما خالف سواد المصحف، وأكثر قراءات عبد الله - رضي الله عنه - إنما تنسب إلى الشيعة، وقد قال بعض علمائنا: إنه صح عندنا بالتواتر قراءة عبد الله - رضي الله عنه - غير ما ينقل عنه، مما وافق السواد فتلك إنما هي آحاد، وذلك على تقدير صحتها فلا تعارض ما ثبت بالتواتر".
وإذا كان هذا رأي أبي حيان (المتوفى سنة 745 هـ) فإن مكي بن أبي طالب (المتوفى سنة 437هـ) يرى أن هذه القراءات المخالفة لخط المصحف هي "منسوبة" إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - وقد ينسب إلى الإنسان ما لم يصح عنه، كما قال الإمام مالك وغيره.
يقول في بيان قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأ على قراءة ابن مسعود». [3] ونحن نقرأ بذلك من قراءته، ونتولى ذلك ونرويه ونرغب اليوم فيه ما لم تخالف قراءته المصحف، فإن خالف المصحف، لم نكذب بها ولم نقرأ بها؛ لأنها خارجة عن الإجماع، منقولة بخبر الآحاد، والإجماع أولى من خبر الآحاد، ولأنا لا نقطع أنها قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - على الحقيقة؛ إذ لم يصحبها إجماع.
ولذلك قال مالك وغيره: القراءة التي تنسب إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - فقال: تنسب إليه، ولم يقل: قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - والشيء قد ينسب إلى الإنسان وهو غير صحيح عنه. وينقل عن إسماعيل بن إسحاق القاضي (المتوفى 282هـ) عدم جواز القراءة مما نسب إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - وغيره؛ لأنه لا يقين؛ فيقول: "ما ورد من قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - وغيره - يعني مما يخالف خط المصحف - ليس ينبغي لأحد أن يقرأ به اليوم؛ لأن الناس لا يعلمون علم اليقين أنها قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - وإنما هو شيء يرويه بعض من يحمل الحديث، ولا يجوز أن يعدل عن اليقين إلى ما لا يعرف يقينه".
واليقين الذي يشير إليه إسماعيل القاضي هو أن قراءة هؤلاء الصحابة - ابن مسعود - رضي الله عنه - وغيره - لا يخالف بعضها بعضا، وهذا ما ذكره صاحب كتاب "المباني في نظم المعاني" الذي يقول فيه المؤلف - رحمه الله -: "وقد جاء عن محمد بن كعب القرظي قال: رأيت مصاحف ثلاثة: مصحفا فيه قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - ومصحفا فيه قراءة أبي - رضي الله عنه - ومصحفا فيه قراءة زيد - رضي الله عنه - فلم أجد في كل منها ما يخالف بعضها".
فما نسب إلى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وغيره من قراءات تخالف المصحف الإمام - لا يصح، وما نسب من انفراد بعض الصحابة بمصاحف خاصة تخالف ما أجمع عليه الصحابة، وما وافق السواد - أمر مشكوك فيه كما يقول أبو حيان -، بل قد يكون من وضع بعض الزنادقة الملحدين.
يقول صاحب كتاب "المباني": قال الشيخ محمد بن الهيصم - رحمه الله -: وليس يعرف لأبي - رضي الله عنه - مصحف يخالف هذا المصحف، إلا ما ينسب إليه بخبر الواحد دون الجمع الذي يلزم اليقين، إنما كانت قراءته هذه القراءة التي عليها العامة، قال: وقد ذكر بعض مشايخنا - رحمهم الله - أنه رأى مصحفا منسوبا إلى أبي - رضي الله عنه - خالف بعض حروفه حروف هذا المصحف، لكنا لا نؤمن أن يكون ذلك من جهة من يحب الافتخار بالغريب، فإن هذه بلية قد أضرت بالدين، وأخلت بمصالح المسلمين، وطرقت الملحدين إلى الطعن في أركان الإسلام، وسهلت عليهم الشغب في أموره.
إلى أن يقال: فعلى هذا النحو لا يؤمن أحدهم - أحد عبيد أرباب الأموال وأبناء الدنيا - أن يعمد إلى مصحف فيقدم منه سورا ويؤخر أخرى، ويحرف ألفاظا، ثم يزعم أنه مصحف علي - رضي الله عنه - أو مصحف عبد الله - رضي الله عنه - أومصحف أبي - رضي الله عنه - وليس غرض البائس من ذلك إلا أن يحمله إلى بعض الملوك فيقول: إن خزانة مثلك يجب أن لا تخلو من نسخة من كل مصحف ليستخرج من حطامه شيئا، ولايبالي بما كان من جناية على الدين وأهله، فمن سبيل العاقل أن لا يجعل نفسه عرضة الترهات فتهوسه، فإن الحق أبلج، والباطل لجلج، ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تلك هي حقيقة مصاحف الصحابة واختلافها التي حاول المدعون أن يضخموا أمرها، وأن يحيوا ما خمد منها، بالثناء العاطر على أبي بكر ابن أبي داود ومروياته ومحاولة إحياء فتنة أطفأها الله:
(ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32))
(التوبة) [4].
سابعا. نقد كتاب "المصاحف" لابن أبي داود الذي ورد به الحديث عن مصاحف الصحابة واختلافها:
إن كتاب "المصاحف" لابن أبي داود - أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى 316هـ، وهو ابن المحدث أبي داود صاحب السنن المعروف - هو أحد المصنفات التي ألفت عن المصاحف التي وجدت قبل المصحف الإمام الذي جمع الناس عليه ذو النورين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وشاء الله تعالى ألا يبقى منها إلا كتاب "المصاحف" لابن أبي داود، وهذه الكتب أحيا مؤلفوها - غفر الله لهم - خلافا عمل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على وأده وقطعه حين جمع الناس على مصحف واحد هو المصحف الإمام.
لقد كان لبعض الصحابة مصاحف خاصة بهم، كمصحف علي - رضي الله عنه - ومصحف عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ومصحف أبي بن كعب - رضي الله عنه - ومصحف ابن عباس - رضي الله عنهما - ووجد في مصاحفهم بعض الاختلاف عن المصحف الإمام، لكن هذا الاختلاف لا يعدو أن يكون زيادة ألفاظ مدرجة في المصحف كنوع من التفسير والبيان، كما ذكر السيوطي؛ حيث قال: "ما زيد في القراءات كقراءة سعد بن أبي وقاص "وله أخ أو أخت من أم" - أخرجها سعيد بن منصور، وقراءة ابن عباس - رضي الله عنهما - "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج" أخرجها البخاري. وقراءة ابن الزبير رضي الله عنهما "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويستعينون بالله على ما أصابهم".
قال عمرو: فما أدري، أكانت قراءته أم تفسيره، أخرجه سعيد بن منصور، وأخرجه الأنباري، وزعم أنه تفسير، وأخرج عن الحسن - رضي الله عنه - أنه كان يقرأ: (وإن منكم إلا واردها، الورود: الدخول). قال الأنباري: قوله: الورود: الدخول تفسير من الحسن - رضي الله عنه - لمعنى الورود، وغلط فيه بعض الرواة فأدخله في القرآن، فهذه الزيادات ليست قرآنا، وإنما هي بدايات لـ "علم التفسير".
أما ما روي من وجوه القراءة الشاذة التي تزيد أو تنقص من القرآن الذي بين أيدينا، فإن المسلمين يقطعون بأنه ليس قرآنا، لكن بعض المغرضين حاول أن يوهم أن قرآننا ليس واحدا، وأن المصاحف مختلفة فيما بينها معتمدين على كتاب "المصاحف" متصورين أن قرآننا قد مر بمراحل تطورية، كما مر الإنجيل والتوراة من قبل، لكن إذا صدق هذا على كتابهم المقدس، فإنه لا يصدق - قطعا - على القرآن.
يقول د. عبد الصبور شاهين في كتابه "تاريخ القرآن": "نقرر أن ما تحصل لدينا من الروايات التي أعثرنا عليها البحث في مصادر القراءات الشاذة التي اعتمدنا عليها، وكذلك ما رتبه من اعتمد على مادة كتاب "المصاحف" للحافظ أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 316) - كل ذلك ليس بقرآن، وإنما هو من الباب الذي ذكرنا (القراءات الشاذة أو التفسيرية)، ونحن نرى أن تلك الزيادات البيانية كانت ضرورية، وأن وجودها كان طبيعيا في تلك الظروف التاريخية، وهي في نظرنا تعد الملامح الأولى لما عرف من بعد بـ "علم تفسير القرآن".
فالموضوع الذي اعتمد عليه المدعون حقيقته واهية؛ لأن الأصل الذي ارتكزوا عليه واه كذلك، نعني كتاب " المصاحف " نفسه، الذي ألفه ابن أبي داود.
فمن المعلوم أن أقدم ما وصل إلينا من المصنفات التي تتحدث عن المصاحف واختلافاتها - هو كتاب: اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق لابن عامر (المتوفى 118هـ) أي: بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - (المتوفى 35 هـ) بحوالي ثلاث وثمانين سنة - أي بعد ثلاثة أجيال من القراء، أجمعت الأمة فيها على كل لفظ ورد في المصحف الإمام، كما أجمع الصحابة من قبل على عمل عثمان - رضي الله عنه - حين جمعهم على المصحف الإمام وحرق ما عداه.
إن بعض النصوص من كتاب المصاحف نفسه الذي يحاول المغرضون به الكيد للإسلام وأهله - تبين تضافر الصحابة واجتماعهم على عمل عثمان واستحسانهم له، فهذا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أحد الذين لهم مصحف خاص، يقول حين حرق عثمان - رضي الله عنه - المصاحف: "لو لم يصنعه لصنعته"، ثم يذكر المؤلف عن مصعب بن سعد قوله: "أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان - رضي الله عنه - المصاحف فأعجبهم ذلك، وقال: لم ينكر ذلك منهم أحد".
ويعلق ابن أبي داود نفسه على قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات "في كفارة اليمين - وواضح أن الزيادة هنا تفسيرية، ولكنها انقلبت عند بعض الرواة قراءة قرآنية - بقوله: "لا نرى أن نقرأ القرآن إلا لمصحف عثمان، الذي اجتمع عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن قرأ إنسان بخلافه في الصلاة أمرته بالإعادة.
فإذا كان هذا رأي ابن أبي داود نفسه، فإنا نسأل لماذا - إذن - أجهدت نفسك بجمع هذه الروايات العجيبة، وأحييت خلافا أراد أمير المؤمنين عثمان والخليفتان قبله والصحابة - رضي الله عنهم - وأده وشجبه؟! لماذا أحييت هذه الروايات التي اختلط فيها الحق بالباطل، والتي لم تنتشر إلا بعد اتساع الفتن وتألب الأحداث، ورجوع بعض الناس من النفاق إلى أشد من الأعرابية الأولى، وإن أكثر هذا مما أكثرته الملاحدة، وتزيدت به الفئة الغالبة كما يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي.
إن مصحف عثمان - رضي الله عنه - يجب أن تكون كل قراءة قرآنية متفقة مع نصه، وإن الشك فيه كفر، وإن الزيادة عليه لا تجوز، وأنه القرآن المتواتر الخالد إلى يوم القيامة، كل أولئك حقائق ثابتات تواترت في الأجيال جيلا بعد جيل.
الخلاصة:
• لا يجب أن نقارن مصاحف الصحابة التي جمعوها لأنفسهم تحت ظروف خاصة بمصحف عثمان - رضي الله عنه - الذي أجمعت الأمة عليه رسميا؛ لأنهم لم يلتزموا جميعا جمع القرآن ولا ترتيبه على نسق واحد، وإنما كان جمع كل واحد وترتيبه حسبما تيسر له.
• الصحابة أجمعوا على مصحف عثمان - رضي الله عنه - حال حياته وبعد مماته، ومنهم على وابن مسعود - رضي الله عنهما -، وقد قال علي - رضي الله عنه - حين أحرق عثمان - رضي الله عنه - المصاحف: " لو لم يصنعه لصنعته ".
• لماذا لم يعلن علي - رضي الله عنه - مصحفه على الناس بعدما آل إليه الأمر، ويرفض ما لم يرضه من مصحف الإمام، إن كان هناك خلاف بين مصحفه ومصحف عثمان رضي الله عنه.
• هذه الزيادات - إن صحت - لا تعدو كونها تفسيرا للقرآن أو قراءة شاذة أو خاصة؛ وإذ إنها روايات آحاد لا ترقى أن تكون قرآنا؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر.
• هذه المصاحف مشكوك في صحة نسبتها إلى الصحابة؛ لأن نصوصها لم تبلغنا، بل بلغتنا بعض الروايات عن ترتيب سورها وأوجه قراءتها.
• أقوال العلماء فيما نسب إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة من مصاحف - أنها إما روايات غير صحيحة أصلا، أو روايات تفسيرية في مصاحفهم.
• نقد كتاب "المصاحف" لابن أبي داود الذي ورد به الحديث عن مصاحف الصحابة واختلافها يبين أنه كان حاطب ليل، حتى إن بعض النصوص من كتاب المصاحف نفسه الذي يحاول المغرضون به الكيد للإسلام وأهله - تبين تضافر الصحابة واجتماعهم على عمل عثمان واستحسانهم له.
المراجع
- (*) المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1410هـ/1990م. [1]. أخرجه ابن أبي داود في المصاحف، كتاب جمع عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ القرآن في المصحف، باب من كان تلقى من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (27)، وعلاء الدين البرهان فوري في كنز العمال، حرف الهمزة، كتاب الأذكار من قسم الأفعال من حرف الهمزة، باب في لواحق التفسير، جمع القرآن (4759).
- الآية كما جاءت في مصحف الإمام: ( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) (النساء: ٣٤).
- صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ (4255)، وابن ماجه في سننه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ (138)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (138).
- المستشرقون والقرآن، د. إسماعيل سالم عبد العال، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 1410هـ/1990م، ص60: 72 بتصرف.