نص السؤال

اتهام القصص القرآني بالتشوش والاضطراب

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

اتهام القصص القرآني بالتشوش والاضطراب (*)


مضمون الشبهة: 


يتهم بعض المتقولين القصص القرآني بالاضطراب والتشوش والتشوه، قائلين: إن القصص القرآني كان في أصله مجرد أساطير شوهها القرآن حين حكاها. ويرمون من وراء اتهامهم ذلك إلى وصم القرآن بالنقل المشوش المضطرب بغية الطعن في سلامته.


وجوه إبطال الشبهة: 


1) إن الغرض من القصص القرآني ديني في المقام الأول، واقتضى ذلك أن تعرض منه الحلقات التي تقتضيها هذه الأغراض، فآخر حلقة تعرض - بحسب ترتيب السور - تتفق مع أظهر غرض ديني صيغت من أجله.
2) إن ما ادعاه هؤلاء من اضطراب القصص القرآني لا يستند إلى دليل، وسرعان ما ينهدم أمام مطالعة سريعة لبلاغته وإعجازه.
3) يختلف القصص في القرآن الكريم عنه في الكتاب المقدس، فالقرآن يحرص على تعظيم الأنبياء، ومنطقية القص وتسلسل الأحداث وإحكام الأسلوب، بخلاف العهدين القديم والجديد؛ إذ يوسعان الأنبياء تنقيصا وازدراء، ناهيك عما في قصصهما من ركاكة واضحة واضطراب حاد وتناقض ظاهر.


التفصيل: 


أولا. بلاغة القصص القرآني سر من أسرار إعجازه: 


إنه من المدهش حقا أن يقال مثل هذا الهراء عن القصص القرآني، لكن الواضح أن هؤلاء المغالطين لم يقرأوا القرآن بلغته المعجزة، ومن ثم فهم يرددون هذا الكلام السقيم البعيد عن الصواب.
ولنا أن نتساءل: ما المشوش في قصص القرآن؟ إعجازه في نظمه، أم قوته في أسلوبه؟! أم تميزه عن غيره من سائر القصص بخصائص يعلو بها جلالة وقداسة، ويزداد بها بلاغة وإعجازا، ويعظم بها أهمية وتأثيرا؟! أم مجيء هذا القصص في تكرار هادف معجز، حسبما يقتضيه السياق، مما يزيده سموا ورفعة؟! أم تلك الواقعية التاريخية في كل الحقائق الواردة فيها، من غير أن يصادمها عقل، ولا يخالفها نقل؟! أم شموليته المطلقة في حصر النفوس المخاطبة، وطباعها وخلالها ووجهاتها ومكامن نفوسها، وفي تنويع الأساليب والوسائل الملائمة لكل جنس وطريقة، وصدق الله العظيم إذ يقول عن هؤلاء وأمثالهم:

(يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32))

(التوبة).


إن الغرض من القصص القرآني غرض ديني في المقام الأول، هو هداية الناس؛ لذا اقتضى الأمر أن تعرض منه الحلقات التي تقتضيها هذه الأغراض، فآخر حلقة تعرض - بحسب ترتيب السور - تتفق مع أظهر غرض ديني صيغت من أجله القصة، فمثلا قصة موسى - عليه السلام - ورد أول ذكر لها في سورة البقرة، وكان موضوعها ذبح البقرة وتشديد بني إسرائيل على أنفسهم فشدد الله عليهم، ثم جاء ذكر لها في سورة المائدة، وفيها عرض لحلقة التيه، فهؤلاء بنو إسرائيل قد أغدق الله عليهم نعمه، وأملى لهم من رحمته، ثم هم في النهاية لا يحافظون على النعمة، ولا يدخلون الأرض المقدسة، فيتركهم الله في التيه لا مرشد لهم.


كل ذلك في أسلوب رائع، ومواقف متفرقة، لم تضعف بها سياقاتها، هذا ناهيك عما يرافق ذلك من تناسب واقعي لأحداث القصة، وتناسق فني في سياقاتها المتكررة والمتعددة، فإذا تبين هذا علم ضعف هذه الشبهة ووهنها، وكذلك سقوطها، وتبين أيضا أن ما يقوله أصحابها إنما هو قول بغير علم، وهو أقرب إلى أن يكون جعجعة لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن الحق أحق أن يتبع لو كانوا يعلمون.


وحول إحكام القصص القرآني ومصداقية معانيه ووضوح دلالته، يقول د. إبراهيم خليفة، ردا على دعوى اضطراب القصص القرآن وتشويشه -: "وقد أخطأ بعض الباحثين عندما يطلبون في القصص القرآني أن يستكمل أركان القصة بالمعنى الحديث، التي هي مستمدة من الخيال ومبنية على قواعد فنون الكتابة؛ وذلك لأنهم لم يفرقوا بين القصة بمعنى الحكاية، والقصة بمعنى الخبر المحدث به على وجهه، والثاني هو المراد في القصص القرآني؛ لأن الأشخاص والزمان والمكان، ليست بالضرورة أركانا للخبر المحدث به، فقد يبهم المكان والزمان، كما في قوله سبحانه وتعالى:

(وجاءوا أباهم عشاء يبكون (16))

(يوسف)

وقد يبهم الزمان

كما في قوله سبحانه وتعالى:

(فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين (99))

(يوسف)

، وقد يبهم الشخص أو الأشخاص كما

في قوله سبحانه وتعالى:

(إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين (17))

(القلم). 


فالذي يجب وجوده في القصص القرآني هو الحدث والعبرة، أما بقية عناصر القصة فإنما توجد بحسب الحاجة إليها وأهميتها فىها، فلو كان للشخصية مدخل كبير فإنها تذكر؛ كمريم - عليها السلام - في قصتها، والهدهد في قصة سبأ، وكثيرا ما تأتي الشخصية بصورة التنكير كما في قصة النملة، وسماع سليمان - عليه السلام - وقد يهتم بإبراز الزمان كما في قصة أهل الكهف في

قوله سبحانه وتعالى:

(ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا (25))

(الكهف)،

وكذلك في قوله سبحانه وتعالى:

(فأماته الله مائة عام ثم بعثه)

(البقرة: ٢٥٩)،

فالزمان المذكور إنما يذكر بمقدار ما يحتاجه الحدث، وكذلك المكان، كمصر والأحقاف والكهف، وهذه تعد الميزة الأولى في القصص القرآني التي تميزه عن سائر القصص".  [1] 
ويقول أيضا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: "ليس المهم تحديد مولد أو وفاة، ليس المهم تحديد موقع، أو حتى تحديد الشخص، فما يعنينا أن نعرف هوية ذي القرنين، أو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، المهم تقديم الشفاء النفساني والاجتماعي من خلال تاريخ صادق وقصص حق" [2].


ثانيا. دعوى لا تقوم على دليل: 


إن الله أسماه قصصا حقا،

قال سبحانه وتعالى:

(إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62))

(آل عمران)

، ووصفه بأحسن القصص

قال سبحانه وتعالى:

(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3))

(يوسف)،

ونسب القصص إليه:

(ومن أصدق من الله حديثا (87))

(النساء)،

(ومن أصدق من الله قيلا (122))

(النساء)،

وإذا كان المعاندون لا يقتنعون بهذا، ولا يدينون دين الحق فنسألهم، ما دليلكم على دعواكم هذه؟ وما أساس الصدق عندكم؟ وهل التضارب الصارخ هو الصدق؟ ولماذا تثار هذه الأكاذيب غير المنظمة التي ما تواجه إلاديننا؟


إن القصص القرآني إذا اتهم بأنه مشوش فالسؤال: أين المواطن التي يستند هؤلاء إليها في هذه الدعوى؟ ولماذا يعتبر هؤلاء ما يقولونه هو الأصل، ولماذا يكذبون بالصحيح؟ ثم نقول لهم: إذا كان هذا القصص مشوشا ومضطربا في أسلوبه أو إعجازه أو بلاغته أو غير ذلك، فلماذ لم ينكر العرب عليه ذلك، وهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان؟! حقا:

(إن هذا لهو القصص الحق)

(آل عمران: ٦٢)،

ونقول لهم أيضا: إذا كانت الأهداف التي تقف وراء تقديم القصص في القرآن الكريم وفي الكتاب المقدس - هي العبرة والعظة، فأية عبرة في قصص هو في حقيقته مدعى، ينسب إلى الأنبياء أفعالا لا تليق بمقامهم، من ذلك: 


•   جاء عن نوح عليه السلام: "وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء، وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء. فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال: «ملعون كنعان! عبد العبيد يكون لإخوته»". (التكوين 9: 21 - 25).


•   وجاء عن لوط عليه السلام:"وقالت البكر للصغيرة: «أبونا قد شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض. هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا». فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها. وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: «إني قد اضطجعت البارحة مع أبي. نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه، فنحيي من أبينا نسلا». فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما". (التكوين 19: 31 - 36).


•   وجاء عن موسى عليه السلام:"وكلم الرب موسى في نفس ذلك اليوم قائلا: «اصعد إلى جبل عباريم هذا، جبل نبو الذي في أرض موآب الذي قبالة أريحا، وانظر أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ملكا، ومت في الجبل الذي تصعد إليه، وانضم إلى قومك، كما مات هارون أخوك في جبل هور وضم إلى قومه. لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين، إذ لم تقدساني في وسط بني إسرائيل". (التثنية 32: 48 - 51).


•   وجاء عن داود عليه السلام:"وكان عند تمام السنة، في وقت خروج الملوك، أن داود أرسل يوآب وعبيده معه وجميع إسرائيل، فأخربوا بني عمون وحاصروا ربة. وأما داود فأقام في أورشليم. وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشي على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم. وكانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: «أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي؟». فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها. ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: «إني حبلى». فأرسل داود إلى يوآب يقول: «أرسل إلى أوريا الحثي». 


فأرسل يوآب أوريا إلى داود. فأتى أوريا إليه، فسأل داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب. وقال داود لأوريا: «انزل إلى بيتك واغسل رجليك». فخرج أوريا من بيت الملك، وخرجت وراءه حصة من عند الملك. ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده، ولم ينزل إلى بيته. فأخبروا داود قائلين: «لم ينزل أوريا إلى بيته».فقال داود لأوريا: «أما جئت من السفر؟ فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟» فقال أوريا لداود: «إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟ وحياتك وحياة نفسك، لا أفعل هذا الأمر». فقال داود لأوريا: «أقم هنا اليوم أيضا، وغدا أطلقك».

 
فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده. ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره. وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده، وإلى بيته لم ينزل. وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا. وكتب في المكتوب يقول: «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت». وكان في محاصرة يوآب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه. فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب، فسقط بعض الشعب من عبيد داود، ومات أوريا الحثي أيضا. فأرسل يوآب وأخبر داود بجميع أمور الحرب. وأوصى الرسول قائلا: «عندما تفرغ من الكلام مع الملك عن جميع أمور الحرب، فإن اشتعل غضب الملك، وقال لك: «لماذا دنوتم من المدينة للقتال؟ أما علمتم أنهم يرمون من على السور؟ من قتل أبيمالك بن يربوشث؟ ألم ترمه امرأة بقطعة رحى من على السور فمات في تاباص؟ لماذا دنوتم من السور»؟ فقل: «قد مات عبدك أوريا الحثي أيضا». 


فذهب الرسول ودخل وأخبر داود بكل ما أرسله فيه يوآب. وقال الرسول لداود: «قد تجبر علينا القوم وخرجوا إلينا إلى الحقل فكنا عليهم إلى مدخل الباب. فرمى الرماة عبيدك من على السور، فمات البعض من عبيد الملك، ومات عبدك أوريا الحثي أيضا». فقال داود للرسول: «هكذا تقول ليوآب: لا يسؤ في عينيك هذا الأمر؛ لأن السيف يأكل هذا وذاك. شدد قتالك على المدينة وأخربها. وشدده».


فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها، ندبت بعلها. ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته، وصارت له امرأة وولدت له ابنا. وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب". (صمويل الثاني11: 1 - 27).


ألا يدل ذلك على بطلان هذا القصص وإفكه، وأنه من عند غير الله، وفقا لهذا المعيار القصصي: "العبرة".
أما القصص القرآني، فقد جاء في أوضح صورة، فلا تعمية فيه ولا اضطراب، ولا تشويش ولا خفاء، بل أحيانا يقصه الحق سبحانه، ويدلل على صحته بآثار وجوده كما في:

(وفرعون ذي الأوتاد (10))

(ص)،

وقوله سبحانه وتعالى:

(وإنكم لتمرون عليهم مصبحين (137) وبالليل أفلا تعقلون (138))

(الصافات).


 إن نظم القصص القرآني وإعجازه وبلاغته ووضوحه وقوته في التأثير لدليل على أنه من لدن حكيم خبير، الذي يعلم كل صغيرة وكبيرة، وشهادة المشركين للنظم القرآني - وهم أهل الفصاحة والبلاغة - لهي خير دليل على ربانيته، وحبكته الرائعة، كما قال الوليد بن المغيرة: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، [3] وإنه يعلو ولا يعلى عليه، وما هو بقول بشر".


ثالثا. القصص بين القرآن والإنجيل: 


إن مقارنة يسيرة بين بعض القصص في القرآن الكريم وما حكاه الكتاب المقدس، من شأنها أن تبين الفرق الشاسع بينهما، وتثبت ربانية القرآن وبشرية هذا الكلام المحرف، وتبطل الزعم باضطراب القصص القرآني وتشوشه، ونورد هنا مثالين عمليين تحليليين لقصتين من القرآن والإنجيل للوقوف على طريقة معالجة الكتابين لهما من حيث الإحكام والدقة والوضوح، فعن قصة إبراهيم في القرآن يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "ذكرت قصة إبراهيم في القرآن عدة مرات، لتعدد العبر فيها، وإن إبراهيم كان أبا العرب، فقصصه له مقامه عند العرب، ونذكر من قصصه بعضه لا كله.


أول ما نذكر من قصة إبراهيم - عليه السلام - هو ما يربطه بالعرب، وما كان شرف العرب به وبناء الكعبة، فقد ذكر هذا البناء الذي قام به، وعاونه فيه ابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام - وبإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - تشرف العرب بأنهم من سلالتهما، وبالبيت الحرام الذي قام بأمر رباني:

(وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124) وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (125) وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128) ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129))

(البقرة).


ثم بين - سبحانه وتعالى - من بعد ذلك بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه كان استجابة لدعوة إبراهيم - عليه السلام - وبذلك تتبين الصلة بين الإسلام ودعوة إبراهيم - عليه السلام - فإذا كان العرب يفتخرون بإبراهيم - عليه السلام - فهذه دعوته قد استجيبت في محمد صلى الله عليه وسلم.


نجد بعد هذه القصة قصة النفس البشرية في نبي الفطرة إبراهيم - عليه السلام - إذ النفوس - ولو كانت مؤمنة - تتمتع بكثرة الدليل لتزداد إيمانا، وإن كان أصل الإيمان قائما، فزيادة البينات تزيد المؤمن إيمانا، وتزيد الجاحد كفرا وعنادا، واقرأ قصة طلبه زيادة الإيمان:

(وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم (260))

(البقرة).


ومن قبل ذلك في الذكر كانت قصته مع الملك عندما ناقشه في إثبات وجود الله، وكيف استطاع إبراهيم - عليه السلام - أن يفحمه؛ إذ هو لا يؤمن إلا بالمحسوس.

قال سبحانه وتعالى:

(ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين (258))

(البقرة).


وترى في قصة إبراهيم - عليه السلام - مع الطير أنه صور النفس الإنسانية - ولو كانت نفس نبي مؤمن - تدعو إلى تكشف المجهول، وتعرف المستور، والمؤمنون يهديهم الله تعالى، ومن لا يريدون الله يتركون في غيهم يعمهون.


وفي قصة إبراهيم - عليه السلام - مع الملك نجد إبراهيم الأريب يأخذ بالطريق الذي يحسم الخلاف دون الطريق الذي يحدث لجاجة من غير إفحام؛ إذ الملك فهم أن القتل إماتة وتركه إحياء، فلم يسترسل رسول الله الفطين الأريب في تعريف للموت والحياة، بل عمد إلى ما يفحمه حسيا، فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين، ومن هذا نرى أنه ليس ثمة تكرار في المعاني والعبر والعظات، وإن كان الموضوع في الأحوال الثلاث يتعلق بإبراهيم عليه السلام [4].


قارن هذا الإعجاز المحكم بالاضطراب الواضح والتناقض الحاد الظاهر في كثير من قصص الإنجيل، الذي أشارت د. مريم زامل إلى بعضه بقولها تحت عنوان "تناقض الأناجيل": "ونود في هذا الفصل أن نقدم بعض هذه النماذج التفصيلية لما قرره ابن تيمية في هذا المقام من التناقض الواقع بين الأناجيل، بل بين الإنجيل الواحد بعضه مع بعض، استكمالا لدراسة ابن تيمية للأناجيل وما قرره بشأنها من تحريف وتناقض، على سبيل المثال: 


الاختلاف الواقع في الزمن في "قصة معجزة صيد السمك" بين إنجيلي لوقا ويوحنا؛ إذ يذكر إنجيل لوقا أحداث القصة أنها وقعت في أثناء رسالة عيسى في الجليل، أما إنجيل يوحنا، فيذكر أحداثها بأنها وقعت بعد قيامه من الأموات، وهذا تناقض فاضح وظاهر ممن يدعون أنهم يكتبون بإلهام، فيحصل منهم هذا التقديم والتأخير في توقيت الحوادث وتاريخ الوقائع.


الاختلاف الواقع بين إنجيل متى وبين إنجيل لوقا في مكان ظهور المسيح - عليه السلام - حيث يفهم من كلام متى أن أبوي المسيح - ويقصدان بهما يوسف النجار ومريم - كانا يقيمان في بيت لحم بعد ولادته، وأن هذه الإقامة كانت لمدة سنتين تقريبا، وجاء المجوس إلى هناك يريدون أن يسجدوا للرب، ثم ذهب يوسف ومريم إلى مصر هربا من هيردوس، وأقاما فيها حتى وفاة هيردوس ثم رجعا وأقاما في الناصرة.


ويفهم من كلام لوقا أنهما ذهبا إلى أورشليم، بعد ولادة المسيح وقدما الذبيحة، وفي هذه الأثناء أخذ سمعان الممتلئ بروح القدس المسيح - عليه السلام - على ذراعيه في الهيكل أوصاه، وكذلك حنة النبية بنت فنوئيل، وقفت تسبح ربها في تلك الأثناء، وأخبرت جميع المنتظرين في أورشليم، ثم عاد أبواه بعد ذلك إلى الناصرة، وأقاما فيها، وفي كل سنة من أيام العيد كانا يذهبان من الناصرة إلى أورشليم، وأن المسيح - عليه السلام - عندما بلغ الثانية عشرة من عمره أقام بدون علم أبويه ثلاثة أيام في أورشليم.


ويقول صاحب "إظهار الحق" تعليقا على ذلك: "لو كان هيرودس وأهل أورشليم معاندين للمسيح - عليه السلام - لما أخبر الرجل الممتلئ بروح القدس في الهيكل الذي كان مجمع الناس في كل حين، ولما أخبرت النبية بهذا الخبر في أورشليم، التي كانت دار السلطنة ليهرود، وقد سلم نورتن بهذا الاختلاف الحقيقي بين الإنجيلين، وحكم بأن بيان متى خطأ وبيان لوقا صحيح.
وقد أقر كولمان الدبلوماسي الألماني في كتابه "العهد الجديد" بهذا الاختلاف والتناقض بين إنجيلي متى ولوقا في مكان ظهور المسيح، والغريب أنهم يعترفون بالتناقض والخلل في كتبهم، ومع ذلك فهم يعتبرونه من المسوغات التي تبعث على الثقة في الكتاب المقدس، يقول الأب روجي تعليقا على مكان ظهور المسيح عليه السلام: "إن هذا التفكك وهذا الغموض وهذا الاختلال يبعث على الثقة عنده" [5].
فيا كل من أودع الله الحكيم في رأسه عقلا: أيهما المحكم وأيهما المفكك المضطرب المشوش المتناقض؟!


الخلاصة: 


•  بلاغة القصص القرآني الجلية وإعجازه الباهر وإحكام نظمه الرائع - ووضوحه وقوته في التأثير كلها أمور ظاهرة لكل ذي عقل منصف وفهم سليم.
•  اتهام القصص القرآني بالتشوش اتهام لا يقوم على دليل؛ فقد وصفه الله - عز وجل - بأحسن القصص:

(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3))

(يوسف)،

ثم أين تلك المواطن التي يستند إليها هؤلاء في هذه الدعوى، ولماذا لم ينكر العرب على هذا القصص القرآني اضطرابه وتشويشه، وهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان.
•  الفرق شاسع بين إحكام القصص القرآني، وبين اضطراب القصص في الكتاب المقدس وتناقضه وتشوشه، وإن مقارنة سريعة بين القصص القرآني والقصص في العهد القديم والجديد توضح مدى المفارقة بينهما، وتؤكد أن القصص القرآني قد جاء في أوضح صورة، فلا تعمية فيه ولا اضطراب، ولا تشويش ولا خفاء ولا غموض. 

المراجع

  1. (*) شبهات المعترضين ومفترياتهم حول صدق نبوة محمد ورسالته، ماهر عبد الوهاب. [1]. الموسوعة القرآنية المتخصصة، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة،1427هـ/ 2006، ص178، 179.
  2.  [2]. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط1، 2004م، ص 158. 
  3.  [3]. الغدق: المطر الكثير العام. وأغدق المطر يغدق إغداقا فهو مغدق. 
  4.  [4]. المعجزة الكبرى: القرآن، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م، ص152: 150 بتصرف يسير 
  5.  [5]. موقف ابن تيمية من النصرانية، د. مريم عبد الرحمن زامل، معهد البحوث بجامعة أم القرى، 1997م، ط1، ص 187 وما بعدها.