نص السؤال
الزعم أن هناك توافقًا بين الإسلام واليهودية عقيدة وتشريعًا وكتابًا
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
الزعم أن هناك توافقا بين الإسلام واليهودية عقيدة وتشريعا وكتابا (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المشككين أن الإسلام موافق لليهودية من عدة جوانب:
• من حيث العقيدة: فكلا الديانتين يدعو إلى عقيدة التوحيد.
• كذلك النظام التشريعي متقارب فيهما.
• تشابه أسلوب القرآن والتوراة ومضمونهما.
ويرمون من وراء ذلك إلى القول بأن الإسلام متأثر باليهودية وتابع لها.
وجوه إبطال الشبهة:
1) الإسلام واليهودية ديانتان سماويتان توحيديتان، وقد بقيت عقيدة التوحيد صافية نقية في القرآن، بينما طمستها [1] يد التحريف في التوراة.
2) يختلف التشريع في القرآن عنه في التوارة والتلمود كما وكيفا، وثمة فارق كبير بين السمو الأخلاقي في القرآن، وبين التدني والعنصرية غير الإنسانية في التوراة والتلمود الحاليين.
3) الأسلوب القرآني في القمة التي لا تدانى فصاحة ونصاعة وملاحة وبلاغة، في حين أن أسلوب التوراة والتلمود مفكك باهت هزيل.
التفصيل:
ربما يكون أبلغ في الرد على هذه المغالطات أن نرجع إلى متون الكتب المقدسة، وأصول العقائد في هذه المسائل عند المسلمين واليهود؛ لنتبين أوجه الشبه والاختلاف في الأصل، ثم نتابع تطوراتها لدى الطرفين.
أولا. عقيدة التوحيد بين التوراة والقرآن، وبين اليهودية والإسلام:
لا شك أن عقيدة التوحيد في التوارة المنزلة من عند الله تعالى قبل تحريفها، وكذلك في القرآن الكريم باعتبارهما كتابين سماويين من لدن الإله الواحد الأحد - عقيدة متماثلة جوهرها التوحيد الخالص، والتنزيه الكامل للذات الإلهية.
وعن قضية "الإيمان بالله بين التوراة والقرآن" يقول د. أحمد السقا: يعترف المسلمون بأن الله واحد، ويعترف المسلمون بأن هذا الإله الواحد ليس كمثله شيء
لقوله سبحانه وتعالى:
(قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2))
(الإخلاص)،
ولقوله سبحانه وتعالى:
(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11))
(الشورى)،
ويعترف المسلمون بأن هذا الإله الواحد يعلم ما خفي في الضمائر،
لقوله سبحانه وتعالى:
(وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3))
(الأنعام).
وفي التوراة عبارات تدل على أن الله واحد، وليس كمثله شيء، ويعلم ما خفي في الضمائر.
ففي سفر الخروج*: "ثم تكلم الله بجميع هذه الكلمات قائلا: أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية. لا يكن لك آلهة أخرى أمامي. لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي". (الخروج 20: 1ـ5)، وفي سفر التثنية: "فاعلم أن الرب إلهك هو الله، الإله الأمين، الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل، والمجازي الذين يبغضونه بوجوههم ليهلكهم. لا يمهل من يبغضه. بوجهه يجازيه". (التثنية 7: 9، 10).
وقال سليمان ـعليه السلام - لله عز وجل: "وأعط كل إنسان حسب كل طرقه كما تعرف قلبه. لأنك أنت وحدك تعرف قلوب بني البشر". (أخبار الأيام الثاني 6: 30).
ولكن أية توراة هذه التي نقصدها حين نقول إن مضمون عقيدة التوحيد فيها يماثل ما في القرآن، لا شك أنها التوراة الكتاب السماوي الصحيح، قبل تحريفه، وإلا فإن التوراة التي بين أيدي الناس الآن، والتي سقنا منها الشاهد السابق تحفل بمئات الشواهد على طمس عقيدة التوحيد، وبسبب هذا التحريف اختلط الحابل بالنابل، والغث بالسمين [2]، والصحيح بالسقيم، والأصلي بالمحرف.
في هذا المضمار كتب د. عبد الحليم عويس تحت عنوان "إله التوراة: وثنية وتجسيد" ما يأتي: "يقول المؤرخ العالمي أرنولد توينبي عن إله اليهود: كان يهوه إله قبيلة بدوية، وتطورت هذه الديانة حتى بلغت مرحلة متقدمة على يد الأنبياء في القرن الثامن ق. م. فلما نقل نبوخذ نصر - ملك البابليين بالعراق - جماعة من أشراف اليهود وكهانهم وصناعهم وعمالهم الماهرين - فيما عرف بالسبي البابلي - لا يزيد عددهم على 4600 بلغت الديانة اليهودية نضجها... مما استمده الأسرى اليهود من المجتمع البابلي من عقائد وأفكار، وتأثر اليهود بالديانة الزرادشتية، [3] واستمدوا منها بعضا من عقائدهم في الجن والشياطين، وربما أخذوا منهم بعضا من عقائدهم المهمة.
فاليهودية - بسبب الميل اليهودي الثابت للوثنية والحسية والنفعية - تعرضت في كثير من العصور، لغلبة الوثنية عليها، وهذا مكن لمدارس التحليل الأنثروبيولوجي والسيكولوجي - أن تجد فيها مجالا خصبا لدراسات منحرفة. وحسبنا أن نقرأ أسفار الملوك والقضاة لنرى صورا كثيرة من تعدد الآلهة المبجلة المعبودة، ليس من جانب عامة الناس فقط، بل من جانب الأنبياء أنفسهم بل إننا نجد ما هو أسوأ من ذلك بكثير، حيث يعزى [4] إلى النبي هارون - شقيق موسى - عليه السلام - نفسه - أنه هو الذي صنع للناس العجل أثناء ذهاب موسى لميقات ربه، بعد أن استبطأ بنو إسرائيل عودته التي لم تزد عن المقرر لها إلا عشرة أيام،
(وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)
(الأعراف: 142).
ففي هذه الأيام العشرة وافق النبي الكريم هارون - حسب زعمهم - على أن يصنع لهم عجلا صنما يعبدونه. والتوراة تحكي هذه الواقعة بكلمات وأساليب لا يمكن أن تقبل دينا ولا عقلا. تقول: "ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: «قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر، لا نعلم ماذا أصابه». فقال لهم هارون: «انزعوا أقراط [5] الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم واتوني بها». فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون. فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل [6]، وصنعه عجلا مسبوكا [7]. فقالوا: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر». فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه، ونادى هارون وقال: «غدا عيد للرب». فبكروا في الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة. وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب. فقال الرب لموسى: «اذهب انزل. لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر. زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به. صنعوا لهم عجلا مسبوكا، وسجدوا له وذبحوا له وقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر»". (الخروج 32: 1ـ 8).
بل من العجيب أنهم نسبوا إلى موسى - عليه السلام - أنه عمل حية نحاسا ظل بنو إسرائيل يعبدونها حتى ملك عليهم حزقيا بن آحاز فأزالها، ونص ذلك: "وتكلم الشعب على الله وعلى موسى قائلين: «لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية؟ لأنه لا خبز ولا ماء، وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف». فأرسل الرب على الشعب الحيات المحرقة، فلدغت الشعب، فمات قوم كثيرون من إسرائيل. فأتى الشعب إلى موسى وقالوا: «قد أخطأنا إذ تكلمنا على الرب وعليك، فصل إلى الرب ليرفع عنا الحيات». فصلى موسى لأجل الشعب. فقال الرب لموسى: «اصنع لك حية محرقة وضعها على راية، فكل من لدغ ونظر إليها يحيا». فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية، فكان متى لدغت حية إنسانا ونظر إلى حية النحاس يحيا". (العدد 21: 5 - 9).
ولكن على خلاف هذه النظرة الحمقاء العبثية التي ترسمها التوراة المحرفة للأنبياء والتي يراد من خلالها تشويه مقام النبوة المعصوم - نجد القرآن الكريم يبرئ موسى وهارون - عليهما السلام - من الشرك ومن هذه الخيانة لرسالة التوحيد التي أرسلا بها:
(واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51) وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52) ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (53))
(مريم)،
وقال تعالى:
(ولقد مننا على موسى وهارون (114) ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم (115) ونصرناهم فكانوا هم الغالبين (116) وآتيناهما الكتاب المستبين (117) وهديناهما الصراط المستقيم (118) وتركنا عليهما في الآخرين (119) سلام على موسى وهارون (120) إنا كذلك نجزي المحسنين (121) إنهما من عبادنا المؤمنين (122))
(الصافات).
وعن براءة موسى وهارون من عبادة العجل
يقول القرآن:
(واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين (148) ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين (149) ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين (150) قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين (151) إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين (152) والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (153))
(الأعراف).
وفي سورة طه يبين القرآن إنكار هارون على بني إسرائيل عبادتهم العجل وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن ذلك المنكر ووعظهم من أجل ردهم إلى الحق وإقلاعهم عن هذا الضلال من الشرك والكفر.
يقول القرآن:
(ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري (90) قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91))
(طه).
كما يبين القرآن الكريم موقف موسى الحاسم من الشرك وعبادة الأصنام ورفضه لكل ما يمس التوحيد، عندما طلب منه بنو إسرائيل أن يجعل لهم وثنا إلها يعبدونه من دون الله،
قال تعالى:
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون (138) إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون (139) قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين (140))
(الأعراف).
مما دفعه إلى تحطيم العجل - الذي اتخذه السامري لهم إلها في غيبة موسى عندما ذهب للقاء ربه - على مرأى ومسمع من بني إسرائيل، وطرده لمن صنعه لهم:
(قال فما خطبك يا سامري (95) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي (96) قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97) إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما (98) كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا (99))
(طه).
هذه هي الصور الوضيئة لموسى وهارون في القرآن الكريم، تناقض تماما الصورة المشينة [8] التي تحط من قدرهما في التوراة المحرفة، فما أبعد الشقة بين الصورتين، فهل بعد ذلك يجوز لإنسان أن يتجرأ ويدعي وجود أدنى توافق بين الإسلام الصحيح واليهودية المحرفة؟!
وإذا ما عدنا إلى التوراة نجد أنه على خطى موسى وهارون - حاشاهما - جاء نبي الله سليمان ـعليه السلام - لينهي هو الآخر حياته - بعد أن آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده - بعبادة الأوثان والأصنام تقربا لزوجاته الألف، وعلى رأسهم في الإغراء بالطبع زوجته المصرية ابنة فرعون التي نقلت إلى قصور سليمان معبوداتها الوثنية، وبدلا من أن يقودها نبي الله سليمان بن داود إلى توحيد الله، قادته هي - ولا أدري لأي سبب؟ أفليس في زوجاته الألف ما يعصمه من الخضوع لامرأة واحدة؟! - إلى نبذ التوحيد وخيانة عهده وعهد أبيه مع الله، ونحن نجد تصوير هذه الواقعة في سفر الملوك الأول على النحو الآتي: "فذهب سليمان وراء عشتورث إلهة الصيدونيين، وملكوم رجس العمونيىن، وعمل سليمان الشر في عيني الرب، ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه. حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بني عمون. وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن. فغضب الرب على سليمان؛ لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين، وأوصاه في هذا الأمر ألا يتبع آلهة أخرى، فلم يحفظ ما أوصى به الرب". (الملوك الأول 11: 5 - 10)، وهكذا تحول نبي الله سليمان بن داود النبي ابن النبي الذي كان يدعو الناس إلى التوحيد، هو وجنوده من الجن والإنس والطير، إلى داعية للوثنية يبني لها المعابد والمذابح في الأماكن المرتفعة الواضحة.
ولكن القرآن يذكر سليمان بالخير ويبرئه تماما من تهمة الكفر هذه:
(ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب (30))
(ص)،
وقال تعالى:(واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102))
(البقرة).
ويقول الله تعالى:
(وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما)
(الأنبياء).
وإذا كان هذا هو مستوى الأنبياء أو الصالحين القدوة الذين يكلمهم الله - حسب زعم التوراة - فمن الطبيعي أن يكون هذا هو حال الشعب، فالناس على دين ملوكهم، ولهذا نجد أن عامة بني إسرائيل يتورطون في عبادة الأوثان لأوهن الأسباب، ويستمرون مع ذلك سنوات طويلة إلى أن تكثر عليهم المصائب، ويحمى عليهم غضب الرب، "فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين، واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء، وأعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم. فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب، ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم [9] والسواري. فحمي غضب الرب على إسرائيل، فباعهم بيد كوشان رشعتايم ملك أرام النهرين. فعبد بنو إسرائيل كوشان رشعتايم ثماني سنين". (القضاة 3: 5ـ8).
وفي النسيج العام للأسفار الخمسة الأساسية التي تشكل التوراة يبدو التساهل مع الأصنام أمرا عاديا في حياة أنبياء بني إسرائيل، فراحيل - زوجة نبي الله يعقوب - تسرق الأصنام (الآلهة) من لابان وتخفيها تحتها وتجلس عليها، وترفض أن تقوم من فوقها وقت البحث عنها بحجة أن عليها عادة النساء ولا تستطيع أن تقوم. ولابان يعتب على يعقوب أنه يريد الهرب دون وداعه، ولكن هذا لا يهمه، بل الذي يهمه هو: لماذا سرق منه آلهته؟
وفي مقابل هذه الصور الرذيلة للأنبياء في التوارة نجد صورة حسنة سامية في القرآن الكريم ترفض كل ما ألحق بسيرتهم من نقائص ومخازي فهم عباد الله المصطفون الأخيار، جعلهم الله هداة للبشرية وأسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر:
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90))
(الأنعام)،
وقال أيضا:(
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين (73))
(الأنبياء).
وإذا ما تركنا الحديث عن الأنبياء والرسل وذهبنا إلى عقيدة التوراة في الإله، رأينا من النسيج العام للتوراة أيضا أن إله اليهود نفسه يهوه لا يشعر في حديثه أنه إله واحد فرد صمد، بل هو يطالب حتى في الوصايا العشر بألا يعبد إسرائيل آلهة أخرى: "لا يكن لك آلهة أخرى أمامي". (الخروج 20: 3)، "فإنك لا تسجد لإله آخر، لأن الرب اسمه غيور. إله غيور هو. احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض، فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم، فتدعى وتأكل من ذبيحتهم، وتأخذ من بناتهم لبنيك، فتزني بناتهم وراء آلهتهن، ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن". (الخروج 34: 14 - 16).
وحتى أزمنة قريبة جدا، بل حتى القرن العشرين، نسمع عبارات تتردد في التراث اليهودي مثل: آلهتك وآلهتهن.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بالنسبة إلى الذات الإلهية ومكانتها عبر العصور، بل تضمن العهد القديم حتى في أسفار التوراة الخمسة المعتمدة.. نعوتا بالغة الهبوط، ليس بالنسبة لله فحسب، بل بالنسبة للبشر الأسوياء، فضلا عن بشر في مستوى الأنبياء عليهم السلام.
إننا نجد في أسفار التوراة حديثا عن الله يجعله أقرب إلى البشرية والتجسيد منه إلى الألوهية والتنزيه.
ومن المعروف أن تشويه صورة الله وتشبيهه بالصفات البشرية الناقصة من شأنه أن يقضي على مكانة الألوهية، وأن يقضي على الشعور بعظمة الله وقدرته وتعاليه، واستحقاقه للعبادة، فإذا لم يكن الله إلها بحق منزها عن صفات النقص، والعجز، والنسبة، فكل شيء مباح في هذه الدنيا، إن التوراة تصف الله بالتعب والإجهاد، والشعور بالإرهاق، ولهذا فإنه يأخذ عطلة ليستريح من عمله.
لقد ورد في سفر التكوين النص التالي: "فأكملت السماوات والأرض وكل جندها. وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا ". (التكوين 2: 1 - 3).
والنص - كما نرى - واضح لا يقبل تأويلا، وكل تأويل له لا يخلو من تكلف وتعسف. كما وصفت التوراة الله بالجهل وعدم العلم بالوقائع، يذكر سفر التكوين أن آدم عندما أخطأ اختبأ من وجه الرب الإله: "فنادى الرب الإله آدم وقال له: «أين أنت»؟ فقال: «سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت». فقال: «من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها»؟ فقال آدم: «المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت». فقال الرب الإله للمرأة: «ما هذا الذي فعلت»؟ فقالت المرأة: «الحية غرتني فأكلت»". (التكوين 3: 9ـ13).
فهل يليق أسلوب هذا الحوار بجلال الله؟ وهل يقبل مع هذا الأسلوب البعيد عن التنزيه والعلم المطلق اللائق بعظمة الله، أي تكلف في التأويل أو محاولة للتبرير؟ أوليس من الواجب بالنسبة لقضية الألوهية تنزيه الله عن هذا الأسلوب؟! وهذا الإله - كما تصوره التوراة - يتوتر ويقلق ويخشى على مستقبله من آدم بعد أن أكل من الشجرة، تقول التوراة: "وقال الرب الإله: «هوذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد». فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها". (التكوين3: 22، 23).
ولنلاحظ هنا لغة الجمع في الإله "كواحد منا" فهل هناك أكثر من إله؟!
إن حكايات العهد القديم وخيالاته السارحة، تنال من جلال الألوهية، ولا تبعث النفوس على إعظام لله ولا تهيب، وأين له - هذا القاع المعتم - مما حفل به القرآن الكريم من ترديد لأسماء الله الحسنى وأوصافه السنية؟ فنلاحظ أن سورة بني النضير - وتسمى سورة الحشر - ختمت بأكثر من عشرين اسما ووصفا لله الكبير المتعال، كأنها تذكر القوم "اليهود" بما نسوه، أو تعلمهم ما جهلوه، عن إله انتسبوا إليه، ولم يقدروا قدره، ولم يعرفوا حقه، يقول الله تعالى بعدما وبخ اليهود على غدرهم وفسقهم:
(هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم (22) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون (23))
(الحشر).
في هذه الآية الثانية تسعة أسماء وصفات زيادة عن سابقتها التي تضمنت خمسة أسماء وأوصاف:
(هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (24))
(الحشر).
وفي هذه الآية الثالثة إضافة سبعة أسماء وأوصاف أخرى يتآلف فيها الكمال الإلهي نورا على نور، أين من هذه القمة السامقة حديث التوراة عن إله جهول أكول يصارع عبدا له طول الليل؟! من أجل ذلك حدد الإسلام عقيدته الكبرى في كلمات قلائل واضحة حاسمة:
(قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4))
(الإخلاص).
فالإسلام يرفض كل قول ينسب لله تجسيد أو تشبيها أو حلولا في أشياء وما إلى ذلك من أوهام وضلالات، كما يرفض كل حديث يصور الله تعالى وقد لحقت به عواطف الإنسان وانفعالاته وضعفه، فكل ذلك باطل الأباطيل.
وليس مهما أن يعج العهد القديم بهذه الصور التي لا تليق بالله، ففي كتب الوثنيين أكثر من هذا. لكن أن يقال: إن هذا كتاب مقدس موصول النسب بالله، فهذا ما يستحيل نقلا وعقلا، والأسوأ من ذلك أن تشل العقول أمامه وتغلق، ويبلغ الأمر برجل كالرئيس الأمريكي ريجان أن يرفعه بيديه ملوحا وقائلا: هذا الكتاب يجب أن يحكم العالم!! وللأسف فهذا ما يقع فعلا، وهذا ما يقود البشرية إلى الدمار" [10].
أي شبه - بعد هذا - يمكن أن يشتبه على عاقل بين "التوحيد" في صفائه ونقائه في الإسلام، وبين ما رسمته التوراة "المحرفة" من صورة للإله، وهي أقرب ما تكون إلى الوثنية، والجسدية، والبشرية؟!
هذه الصورة المغشوشة المزيفة الشركية، التي رسمتها هذه التوراة لمقام الألوهية، هي التي أثارت في هذا المقام تساؤلات استنكارية جمة في عقل الإمام "ابن القيم" حين تحدث عنها فقال: "وأما اليهود فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم، وغباوتهم وضلالهم ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل، التي بعضها فوق بعض، ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته أيديهم من ذهب، ومن عبادتهم أن جعلوه على صورة أبلد الحيوان، وأقله فطانة، الذي يضرب المثل به في قلة الفهم.
فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة، كيف عبدوا مع الله إلها آخر، وقد شاهدوا من أدلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله ما لم يشاهده سواهم؟! وإذ قد عزموا على اتخاذ إله دون الله اتخذوه، ونبيهم حي بين أظهرهم لم ينتظروا موته، وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من الملائكة المقربين، ولا من الأحياء الناطقين، بل اتخذوه من الجمادات! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس، والقمر، والنجوم، بل من الجواهر الأرضية! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الأرض عالية عليها كالجبال، ونحوها، بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض والصخور والأحجار عالية عليها! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة، وإدخال النار وتقليبه وجوها مختلفة وضربه بالحديد وسبكه، بل من جوهر يحتاج إلى نيل الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار وإحراقه واستخراج خبثه!، وإذ قد فعلوا لم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل، ولا على جوهر علوي لا تناله الأيدي بل على تمثال حيوان أرضي! وإذ قد فعلوا لم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعا من الضيم كالأسد، والفيل، ونحوهما، بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان، وأقبله للضيم والذل بحيث يحرث عليه الأرض ويسقى عليه بالسواقى، والدواليب، ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير.
فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم ونبيهم وحقائق الموجودات؟
وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلها فيعبد إلها مجهولا، بعدما شاهد تلك الآيات الباهرات، ألا يعرف حقيقة الإله ولا أسماءه، وصفاته، ونعوته، ودينه، ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره.
ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم:
(لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)
(البقرة: 55)
، ولا قالوا له:(فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون (24))
(المائدة)،
ولا قتلوا أنفسا، وطرحوا المقتول على أبواب البرآء من قتله، ونبيهم حي بين أظهرهم، وخبر السماء والوحي يأتيه صباحا ومساء، فكأنهم جوزوا أن يخفى هذا على الله كما يخفى على الناس!!
ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له: "يا أبانا، انتبه من رقدتك، كم تنام" ولو عرفوا لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقتلهم، وحبسهم، ونفيهم، ولما تحيلوا [11] على تحليل محارمه، وإسقاط فرائضه بأنواع الحيل.
ولقد شهدت التوراة بعدم فطانتهم وأنهم من الأغبياء، ولو عرفوا لما حجروا عليه بعقولهم الفاسدة، أن يأمر بالشيء في وقت لمصلحة ثم يزيل الأمر به في وقت آخر لحصول المصلحة، وتبدله بما هو خير، وينهى عنه ثم يبيحه في وقت آخر لاختلاف الأوقات والأحوال في المصالح والمفاسد، كما هو شاهد في أحكامه القدرية الكونية التي لا يتم نظام العالم ولا مصلحته إلا بتبديلها واختلافها بحسب الأحوال، والأوقات، والأماكن، فلو اعتمد طبيب ألا يغير الأدوية والأغذية بحسب اختلاف الزمان والأماكن والأحوال لأهلك الحرث والنسل، وعد من الجهال، فكيف يحجر على طبيب القلوب والأديان أن تتبدل أحكامه بحسب اختلاف المصالح؟! وهل ذلك إلا قدح في حكمته ورحمته وقدرته، وملكه التام وتدبيره لخلقه؟
ومن جهلهم بمعبودهم ورسوله وأمره، أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سجدا ويقولوا: حطة، فيدخلوا متواضعين لله سائلين منه أن يحط عنهم خطاياهم، فدخلوا يزحفون على أستاههم [12] بدل السجود لله، ويقولون: "هنطا سقمانا"؛ أي: حنطة سمراء، فذلك سجودهم وخشوعهم، وهذا استغفارهم واستقالتهم من ذنوبهم.
ومن جهلهم وغباوتهم، أن الله ـعز وجل - أراهم من آيات قدرته وعظيم سلطانه وصدق رسوله ما لا مزيد عليه، ثم أنزل عليهم بعد ذلك كتابه، وعهد إليهم فيه عهده، وأمرهم أن يأخذوه بقوة فيعبدوه بما فيه كما خلصهم من عبودية فرعون والقبط، فأبوا أن يقبلوا ذلك وامتنعوا منه، فنتق الجبل [13] العظيم فوق رءوسهم على قدرهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوا أطبقته عليكم فقبلوه من تحت الجبل. قال ابن عباس: رفع الله الجبل فوق رءوسهم، وبعث نارا من قبل وجوههم، وأتاهم البحر من تحتهم، ونودوا: إن لم تقبلوا أرضختكم [14] بهذا، وأحرقتكم بهذا، وأغرقتكم بهذا، فقبلوه، وقالوا: سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعناك، ولما آمنوا بعد ذلك قالوا:
(سمعنا وعصينا)
(البقرة: 93).
ومن جهلهم أنهم شاهدوا الآيات ورأوا العجائب التي يؤمن على بعضها البشر، ثم قالوا بعد ذلك:
(لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)
(البقرة: 55)،
وكان الله سبحانه قد أمر موسى أن يختار لميقاته:
(واختار موسى قومه سبعين رجلا)
(الأعراف:١٥٥)
لميقاته، فاختارهم موسى وذهب بهم إلى الجبل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل، وقال للقوم: ادنوا، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الحجاب وقعوا سجدا، فسمعوا الرب تعالى وهو يكلم موسى، ويأمره وينهاه ويعهد إليه، فلما انكشف الغمام قالوا:
(لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) [15].
ولعله من اللطيف أن نختم الحديث في هذا الجانب بطرفة ساقها الشيخ منصور الرفاعي عبيد تحت عنوان "نكتة"، قال فيها: "شاعر الإسلام العظيم محمد إقبال لما سئل: لماذا نزلت الأديان السماوية، وبعث الله رسله وأنبياءه في آسيا، ولم يبعث أحد منهم في أوربا؟ فأجاب محمد إقبال: آسيا اختارها الله لتكون مكانا لتنزل رسالته، وترك أوربا للشيطان، فقال السائل: قد عرفنا رسل الله، فأين رسل الشيطان إلى أوربا؟ قال: اليهود.
إن اليهود هم هم، في كل زمان. وقد أساءوا الأدب دائما مع الله، عبدوا العجل، وقالوا عزير ابن الله، ثم قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وهذا اجتراء منهم وافتراء. لكن ماذا نقول لأولاد الأفاعي الذين عاشوا وأيديهم ملوثة بدماء الأنبياء، ثم هم تمردوا على موسى، واتهموا إبراهيم ـعليه السلام - من قبل. وعاشوا في كل أنواع الفساد. لذلك عندما سمعوا قول الله تعالى في آية نزلت في القرآن الكريم:
(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون (245))
(البقرة).
ذهب اليهود إلى رسول الله ـصلى الله عليه وسلم - وقالوا له: يا محمد افتقر ربك فسأل عباده القرض،
فأنزل الله سبحانه وتعالى:
(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182))
(آل عمران).
إن من اجترأ على قتل الأنبياء بغير حق، لم يستبعد منه أن يقول على الله أقوالا منكرة، لكن الحق ـعز وجل - أخبر بأنه سينتقم من المجرمين الظالمين الذين يفترون الكذب.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال:
دخل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بيت المدراس، [16] فوجد من اليهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له "فنحاص"، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر يقال له "أشيع". فقال أبو بكر: ويحك يا فنحاص، اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر - رضي الله عنه - فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا، وقال: والذي نفسي بيده، لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فاكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبصر ما صنع بي صاحبك. فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "ما حملك على ما صنعت"؟ فقال: يا رسول الله، إن عدو الله قد قال قولا عظيما، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، فضربت وجهه. فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقا لأبي بكر:(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء).
وقوله:(سنكتب ما قالوا) تهديد ووعيد؛
ولهذا قرنه بقوله:
(وقتلهم الأنبياء بغير حق)
(آل عمران: ١٨١)؛
أي: هذا قولهم في الله، وهذه معاملتهم لرسل الله، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء؛
ولهذا قال:
(ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182))
(آل عمران)؛
أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتحقيرا وتصغيرا [17].
هذا ما كان من أمر عقيدة التوحيد بين كتب الديانتين - الإسلام واليهودية - المقدسة. فماذا عن الجوانب الأخرى كالمعاملات والأخلاقيات؟
المراجع
- (*) قصة الحضارة، ول ديورانت، ترجمة: محمد بدران، دار الجيل، بيروت، 1418هـ/ 1998م. الإسلام والغرب، روم لاندو، ترجمة: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 1962م. الأديان في القرآن، محمد بن الشريف، دار المعارف، القاهرة، ط3. الرد على المشكل، سيد أحمد محسب مرسي، المكتبة الثقافية، بيروت، ط1، 1408هـ/ 1988م. [1]. طمستها: أزالت معالمها وغيرتها وبدلتها.
- اختلط الحابل بالنابل والغث بالسمين: أي اضطربت الأمور.
- الزرادشتية: ديانة فارسية قديمة تقوم على عبادة وثنية في إطار من الصراع بين قوى النور وقوى الظلام، تنسب إلى زرادشت الذي ادعى النبوة، وقال بواحدنية الله، وأنه خالق النور والظلمة، وأن الخير والشر والصلاح والفساد إنما حصل بامتزاجها لحكمة رآها في التركيب، وقد جاءهم بكتاب سماه (الأوفستا)، زعم أنه نزل عليه من السماء، وقد دعا فيه إلى عبادة النار؛ لأنها تمثل رمز الخير.
- يعزي: ينسب.
- الأقراط: جمع قرط، وهو ما يعلق في شحمة الأذن من در أو ذهب أو فضة أو نحوها.
- الإزميل: آلة من حديد أحد طرفيها حاد ينقر بها الحجر والخشب، أو تزال بها الزوائد من المصنوعات الخشبية.
- المسبوك: يقال: سبك المعدن: إذا أذابه وخلصه من الخبث، ثم أفرغه في قالب.
- المشينة: المعيبة.
- البعليم: جمع بعل، وهو بمعنى إله عند اليهود.
- الفكر اليهودي بين تأجيج الصراعات وتدمير الحضارات، د. عبد الحليم عويس، مركز الإعلام العربي، القاهرة، ط1، 2003م، ص9 وما بعدها.
- تحيلوا: استخدموا الحيلة والخداع.
- الأستاه: الأعجاز.
- نتق الجبل: ارتفع من مكانه ليسقط في مكان آخر.
- أرضختكم: المقصود بها أسقط عليكم الجبل.
- . هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، ابن قيم الجوزية، تحقيق: أحمد حجازي السقا، دار الريان للتراث، القاهرة، 1979م، ص369 وما بعدها.
- بيت المدراس: هو البيت الذي يدرس فيه اليهود كتبهم.
- القرآن واليهود، منصور الرفاعي عبيد، مركز الكتاب للنشر، القاهرة، ط1، 2003م، ص58: 60.