نص السؤال

ادعاء خطأ يوسف - عليه السلام - بطلبه الإمارة

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

ادعاء خطأ يوسف - عليه السلام - بطلبه الإمارة(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المتوهمين أن يوسف - عليه السلام - طلب الإمارة

إذ قال:

(قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)

(يوسف:55)

وطلب الإمارة مذموم ومنهي عنه، ولا سيما أنه طلبها من كافر، كما أنه زكى نفسه فقال: )إني حفيظ عليم (55)( (يوسف)، ولم يستأنس بالمشيئة ويتبع مقولته بالعبارة المأثورة: إن شاء الله. وذلك يعد خطأ يتنافى مع عصمته بزعمهم.

وجها إبطال الشبهة:

1) يجوز طلب الإمارة للمصلحة لمن كان أهلا لها، بل إن المصلحة إذا اقتضت ولاية إنسان بعينه صارت واجبة في حقه، كما أنه لا إثم في تولية العمل من يد كافر، ما لم يأت الإنسان المولى بمحذور شرعي.

2) إن مدح يوسف - عليه السلام - لنفسه ليس مذموما؛ لأنه لم يقصد منه التطاول والتفاخر، وإنما قصد إلى بيان اتصافه بالصفتين اللازمتين لمن ينوء بعبء الإمارة.

التفصيل:

أولا. يجوز طلب الإمارة للمصلحة لمن كان أهلا لها، بل تجب في حقه إذا لم يوجد غيره:

لقد ظهرت على يوسف - عليه السلام - الخصال التي تؤهله للقيام بهذه المهمة - القيام على خزائن الأرض - قبل أن يطلبها، وهذه الخصال رآها الملك عليه؛ ولذا وثق فيه

فقال له:

(إنك اليوم لدينا مكين أمين)

(يوسف:54) [1].

ومن هذه الصفات:

·       العلم: حيث فسر الرؤيا تفسيرا عجز عنه القوم ويشهد بصحته العقل.

·   الصبر والثبات: حيث كان في السجن، وطلب الملك خروجه منه، فلم يسرع إلى الخروج، وإنما توقف حتى تظهر براءته مما نسب إليه.

·   حسن الأدب: حيث ستر ذكر امرأة العزيز، وعرض أمر النسوة: )ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم (50)( (يوسف) مع أن البلاء وصل إليه من جهتها بالذات.

فلما ظهرت للملك هذه الفضائل من يوسف - عليه السلام - رغب في أن يجعله خالصا لنفسه، فطلب إحضاره إليه ليكون من خاصته، وأهل مشورته، كما هو واضح من قوله: )وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه (54)( (يوسف) أي: خاطبه، وتحقق من فضله وعلمه، وما هو عليه من كمال خلق قال له: )إنك اليوم لدينا مكين أمين (54)( (يوسف)، ذو مكانة ومنزلة، ومؤتمن على كل شيء، فعندئذ طلب يوسف - عليه السلام - من الملك أن يوليه خزائن مصر: )قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (55)( (يوسف)؛ لأن تولي الخزائن بالذات يمكن يوسف من أن يجتاز بالبلاد المحنة الخانقة، والمجاعة المهلكة.

فهو - عليه السلام - لم يرغب في الإمارة ويطلبها لذاتها، وإنما ليتوصل من خلالها إلى رعاية مصلحة الأمة، ودفع غائلة[2] القحط والجوع عنها، حتى يمكن القول إن هذا التصرف أصبح واجبا على يوسف؛ لأنه - وهو )حفيظ عليم (55)( (يوسف) - القادر على تجنيب البلاد خطر القحط، والضيق الشديد، وغيره ممن ليس على مثل صفاته هذه لا يستطيع ما يستطيعه يوسف، مما يجعل هذا التصرف واجبا عليه، ومن ثم يزول الاعتراض عليه في طلبه الإمارة[3].

قال الزمخشري: "إنما قال - يوسف - ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكين مما لأجله بعثت الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله، لا لحب الملك والدنيا".

قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (55)( (يوسف): والآية تدل على جواز أن يطلب الإنسان عملا يكون له أهلا، فإن قيل: قد جاء عن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها»[4]. وحديث أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا نستعمل على عملنا من أراده"[5]. وذكر الحديث وغيره، فالجواب:

أن يوسف - عليه السلام - إنما طلب الإمارة؛ لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه، فإنه لم يكن هناك غيره، وهكذا الحكم اليوم، لو علم إنسان من نفسه أنه يقوم بالحق في القضاء أو الحسبة، ولم يكن هناك من يصلح ولا يقوم مقامه لتعين ذلك عليه، ووجب أن يتولاها ويسأل ذلك، ويخبر بصفاته التي يستحقها به من العلم والكفاية وغير ذلك كما قال يوسف عليه السلام.

أما لو كان هناك من يقوم بها ويصلح لها وعلم بذلك، فالأولى ألا يطلبها لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن: "لا تسأل الأمارة"، وأيضا فإن في سؤالها والحرص عليها مع العلم بكثرة آفاتها وصعوبة التخلص منها دليل على أنه يطلبها لنفسه ولأغراضه، ومن كان هكذا يوشك أن تغلب عليه نفسه فيهلك، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل إليها" ومن أباها لعلمه بآفاتها، ولخوفه من التقصير في حقوقها فر منها، ثم إن ابتلي بها فيرجى له التخلص منها وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أعينت عليها".

1. أنه لم يقل: إني حسيب كريم، وإن كان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم»[6]. ولا قال: إني جميل مليح، إنما قال: )إني حفيظ عليم (55)( فسألها بالحفظ والعلم، لا بالنسب والجمال.

2. إنما قال ذلك عند من لا يعرفه، فأراد تعريف نفسه، وصار ذلك مستثنى من

قوله عز وجل:

(فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى)

(النجم:32)

3.  أنه رأى ذلك فرضا متعينا عليه؛ لأنه لم يكن هنالك غيره[7].

إن الظروف قد تأتي بما لا يحتمل التجربة مع الناس "فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام بالمهمة فله أن يعرض نفسه، ولنفترض أن قوما ركبوا سفينة، ثم هاجت الرياح وهبت العاصفة، وتعقدت الأمور، وارتبك القبطان وجاءه من يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا الأمر، ويحسن إدارة قيادة المركب، وسبق القبطان أن علم منه ذلك، هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة "[8].

"وأما تولية العمل من يد كافر ويكون تبعا له، وتحت أمره وطاعته، فإنه يجوز أن يتولى الإنسان المصلح عملا من قبل سلطان كافر أو جائر، إذا تعين ذلك سبيلا إلى الحكم بأمر الله، ودفع الظلم، وإذا لم يتم ذلك إلا بتمكين الملك الكافر، وأما الفاسق فلا مانع شرعا أن يستظهر النبي أو العالم به، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة والظلمة لهذا "[9].

وقد قيل: "كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض فيما يراه فكان الملك في حكم التابع ليوسف - عليه السلام - والمطيع له"[10].

ثانيا. لقد مدح يوسف - عليه السلام - نفسه ليعلم الملك قدرته على هذا الأمر:

إن قول يوسف - عليه السلام - عن نفسه )إني حفيظ عليم (55)( ليس مدحا لنفسه بمقدار ما هو بيان لاتصافه بالصفتين اللازمتين لمن يقوم بهذا الأمر، إذ إن معنى "حفيظ": أمين أحفظ ما تستحفظنيه، ومعنى "عليم": عالم بوجود التصرف، وكأنه غلب على ظنه ضرورة ذكر اتصافه بهاتين الصفتين؛ ليعلم الملك قدرته على هذا الأمر، وأهليته له.

على أن مدح الإنسان نفسه ليس مذموما إلا إذا قصد منه التطاول والتفاخر والتوصل إلى ما لا يستحق، ويوسف - عليه السلام - نبي الله لا يقصد هذا قطعا، فمدحه نفسه إذن ليس محرما، وإنما المحرم والمنهي عنه هو مدح النفس وتزكيتها وهي لا تستحق ذلك، أو ما كان على سبيل التطاول والتفاخر.

قال النسفي في معنى قوله: )فلا تزكوا أنفسكم(، وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء، لا على سبيل الاعتراف بالنعمة فإنه جائز؛ لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر. وقال ابن كثير في تفسير قوله: )إني حفيظ عليم (55)( مدح نفسه، ويجوز للإنسان ذلك إذا جهل أمره للحاجة[11].

وأما ترك الاستثناء - أي عدم إتباع مقولته بقول: إن شاء الله - فقد علله الفخر الرازي بأنه لو ذكره لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي. ويصح أن السبب في ترك الاستثناء هو: علمه بأن الملك لكفره لا يستسيغ التعليق على مشيئة الله الواحد الأحد، ويوسف - عليه السلام - يحاول استمالة الملك بكل رفق ولين ليسند إليه هذا الأمر الذي في قيام يوسف به مصلحة الخلق[12].

الخلاصة:

·إن للإمارة شروطا، وضوابط إن توافرت في شخص ما وجب إعطاؤها إياه، وجاز له أن يطلبها إن وجد في نفسه قدرة عليها ومصلحة للناس، وتلك الشروط والضوابط والخصال، قد توافرت في يوسف - عليه السلام - قبل أن يطلبها، ولا بأس في ذلك.

·لا حرج في تولية الإمارة أو العمل من يد كافر مادام ذلك لا يؤدي إلى محذور شرعي، وثقة العزيز بيوسف - عليه السلام - جعلته يكله إلى تصرفه الشخصي؛ فامتنع إتيان المحذور من يوسف.

·يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم ومن فضل، ويوسف - عليه السلام - إنما أراد أن يعرف نفسه للملك؛ ليعلم الملك قدرته على هذا الأمر.

المراجع

  1. (*) عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.
  2. مكين: ذو مكانة عند الناس ومعظم لديهم. 
  3.  الغائلة: الداهية. 
  4.  عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص324 بتصرف. 
  5.  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده (6343)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها (4370). 
  6.  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين، باب حكم المرتد والمرتدة (6525)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (4822). 
  7. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله سبحانه وتعالى: ) لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين (7) ( (يوسف) (3210)، وفي مواضع أخرى.
  8.  الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص215: 217.
  9.  تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، أخبار اليوم، القاهرة، ط1، 1999م، ج11، ص6998. 
  10. عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص325. 
  11.  الكشاف، الزمخشري، طبعة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت، ج2، ص329. 
  12.  عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، ص326. 
  13.  عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم، د. محمد أبو النور الحديدي، مطبعة الأمانة، القاهرة، 1399هـ/ 1979م، 327 بتصرف يسير.