نص السؤال
دعوى إقرار القرآن بأن النصارى على حق
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
دعوى إقرار القرآن بأن النصارى على حق(*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن القرآن أقر أن النصارى على حق، ويستدلون على هذا
بقوله سبحانه وتعالى:
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
(العنكبوت: 46)،
حيث أمر بجدالهم وليس بمخالفتهم، وهذا يدل على الاتفاق مع شيء من الاختلاف في الرأي.
وجها إبطال الشبهة:
1) الحوار في الإسلام أصل ومبدأ، وله حدود وفيه محاذير.
2) لو كان أهل الكتاب على حق لما كان الجدال من أساسه.
التفصيل:
أولا. الحوار في الإسلام أصل ومبدأ، نظر وتطبيق:
الحوار وسيلة التفاهم الإنساني عامة، والعقائد السماوية ينبغي توصيلها لبني البشر عن طريق الحوار والمناقشة والمجادلة بالحسنى، وهذا هو الأصل في الدعوة إلى الإسلام.
تحت عنوان "الحوار كأصل ومبدأ في الإسلام" كتب د. سعود المولى يقول: "الحوار بالنسبة إلينا هو في صلب العقيدة.. الحوار تعبير عن قيمة عظيمة، بل القيمة الكبرى في التكوين الأساسي للإنسان والبشرية والفطرة، فالدين هو الفطرة:
(فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30))
(الروم).
فطرة الله هذه، دين الإنسانية هذا، تكرر ذكره في الكتب السماوية فحمل تعابير: المحبة والتوبة والندامة والنور والكلمة والبشارة والقلم والقلب واللسان والمغفرة والتسامح والشفقة والرأفة وملح الأرض والمصلحة والفرح والعناية والغفران والبر والتقوى والحكمة والرشد والكرامة والهداية واللطف والحسنة والصدقة وسواء السبيل والصراط المستقيم والعمل الصالح والعبادة والقيام، وكلها هي الحوار:
(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)
(البقرة: 256)،
والحوار هو الدين
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)
(النحل: 125)،
وقد وردت مادة "حوار" في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:
(فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا (34))
(الكهف)،
(قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37))
(الكهف)
، (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (1))
(المجادلة).
ولكن معنى "الحوار والمحاورة والتحاور" ورد في عشرات المواضع خصوصا في صيغ المجادلة بالتي هي أحسن، ولعل الحوار الأول هو ذلك الذي دار بين الله - عز وجل - وملائكته في خلق آدم، فجاءت المحاورة بصيغة "قال، وقالوا":
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33))
(البقرة).
ثم كان الحوار الثاني بين الله - عز وجل - وإبليس، وتنقل لنا آيات القرآن الكريم صورا عدة لهذا الحوار الذي شكل مادة خصبة للتأملات الفكرية والتفسيرات الفقهية.
ثم كان الحوار بين الله ورسله وأنبيائه: آدم ونوح ولوط وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، والحوار بين هؤلاء الرسل والأنبياء وبين قومهم وأهلهم.
وهي كلها حوارات غنية تغطي مساحة كبيرة من متون الكتاب، وشكلت مادة تاريخية وأخلاقية وحكمية وسياسية واجتماعية لاتنضب.
ويمكن الإجمال والقول بأن هذه الحوارات التي ينقلها لنا القرآن الكريم تحمل في مضامينها وأبعادها المعاني الآتية:
1. إن الاختلاف سنة إلهية:
(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات)
(المائدة: 48).
2. وهو رحمة للناس:
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251))
(البقرة).
3. وهو ركن المعرفة:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)) (الحجرات).
(الحجرات).
4. إن الفطرة هي قبول الآخر والحوار معه:
(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99))
(يونس).
إن الحكم الأخير هو لله - عز وجل - وإليه المصير، في حين أن الحقيقة نسبية وهي ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها وليست في يده:
(إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48))
(المائدة).
(إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117))
(الأنعام).
(وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون (68) الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون (69))
(الحج)
. (لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15))
(الشورى).
5. إن شروط الحوار هو الإسلام لرب العالمين، أي الوقوف على أرض واحدة:
(وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (24))
(سبأ)،
(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64))
(آل عمران).
6. ومن مستلزمات الحوار - الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر:
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62))
(البقرة)،
(والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3))
(العصر).
الحوار إذن هو جوهر ولب الرسالات السماوية والفطرة الإنسانية، وهو طريق الرشد والرشاد في الدنيا والآخرة. ذلك بأن الله - عز وجل - غني عن الناس، ولو شاء لما خلقهم أصلا، ولو شاء لجعلهم أمة واحدة، ولكن حكمة الله في الخلق وفي اختلاف الناس نعمة ورحمة ولطف إلهي وسنة لا تبديل لها.
إن سنة التدافع، أي الحوار الدائم بالتي هي أحسن، بالكلمة الطيبة:
(أصلها ثابت وفرعها في السماء (24))
(إبراهيم)،
بالحسنى والموعظة والحكمة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بجهاد النفس وهو الجهاد
(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (34 )
(فصلت).
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251))
(البقرة).
هذا الحوار هوالسنة الإلهية الكونية، ملح الأرض، هو حوار الحياة، حوار التدافع والمدافعة، المجادلة والحكمة، المشاركة والعيش، إنه حوار النضال المشترك من أجل الإنسان وقضاياه، من أجل الحرية والعدل والاستقلال والأمن والسلام والكرامة والخير للجميع.
(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (6))
(الانشقاق).
والحوار مع الآخر شرط لبناء الذات؛ نظرا إلى ما تنطوي عليه الذات الإلهية من أنانية وفردية. فبناء الإنسان الحر والشخصية القرآنية، يمران عبر الحوار مع الآخر
(كلا إن الإنسان ليطغى (6))
(العلق)،
(ألا تطغوا في الميزان (8))
(الرحمن).
والحكم الأخير والحقيقة المطلقة هي الله - سبحانه وتعالى - هو الحجة وهو النبأ العظيم، وهو الهادي، وهو الذي يخبر الجميع يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون ويحكم بينهم
(لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (67) وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون (68) الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون (69))
(الحج).
إن منطق الرسالات السماوية ودليل الفطرة الإنسانية وسنة الحياة والعصر - ترشدنا جميعا إلى اعتبار الأولوية والأهمية المطلقة لحوار الحياة وشهادة التاريخ والحاضر والمستقبل، أي لصوغ مشروع حضاري إنساني مشترك لخير البشرية جمعاء ولمجد الله على الأرض؛ لنكون قوامين بالقسط ولنكون شهداء على الناس؛ ولتكون منا أمة وسط تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر [1].
لقد بدأ الإسلام الحوار، وهذا أمر طبيعي، فهو الدين الذي أنزله الله بعد النصرانية، فواجه - حين بعث به النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وضعا دينيا سائدا في العالم يتمثل في النصرانية، وقد تجلى هذا الحوار أول تجلياته في القرآن الكريم، وكان حوار الإسلام ذا اتجاهين وهما:
1. دعوة المسيحية إلى الإيمان به باعتناقه والاعتراف له بأنه يمثل الكلمة الأخيرة والكاملة في التاريخ الديني للإنسانية.
2. دعوة المسيحية - إذا رفضت الإيمان به - إلى التعايش معه بعد الاعتراف به - إذ لا يمكن التعايش مع الرفض والإنكار المطلق - ولكن هذا الحوار باتجاهيه بقي وحيد الجانب، فلم تستجب المسيحية كنظام ثقافي ومؤسسة عقدية، للاتجاه الأول في الحوار، كما أنها لم تستجب كسلطة سياسية للاتجاه الثاني في الحوار. لقد كان رد فعل المسيحية على نداءي الحوار اللذين وجههما الإسلام نحوها كمؤسسة ثقافية ونظام سياسي هو الحرب ثم علم الكلام، وشهد التاريخ - بعد توسع الإسلام السياسي - التعايش المسيحي الإسلامي داخل عالم الإسلام.
وهكذا ولد - نتيجة لرفض المسيحية لواء الحوار الإسلامي - ثلاثة أشكال من الحوار بين المسيحية والإسلام:
الأول: حوار السلام والحرب: وقد بدأ هذا منذ استشهد الرسول الذي بعث به النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى حاكم بصرى في سوريا حيث فتكت به حامية بيزنطية.
الثاني: حوار اللاهوت وعلم الكلام: بدأ هذا في اللاهوت المسيحي بهجوم على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - والدين الإسلامي، أهون ما يقال فيه أنه كان بعيدا تماما عن العلم والموضوعية وآداب الحوار، ونجد الانعكاسات الإسلامية الأولى لهذا الهجوم في القرآن الكريم [2].
الثالث: حوار التعايش بين أتباع الديانتين في مجتمع واحد، والتعاون المستمر بينهما على صعيد الثقافة والحياة اليومية: وهذا الشكل من الحوار كان وحيد الجانب مدة طويلة من الزمان، فحيث كان الإسلام ذا سلطان ونفوذ، كان يعيش النصارى وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، ولم يتح للمسلمين أن يمارسوا - في الماضي - حياة مستقرة آمنة حيث كان للمسيحية سلطان.
وقد كان الشكل الأول للحوار - حوار الحرب - يستهدف التغيير من الخارج، ووسيلته إلى ذلك الإخضاع بالقوة لسلطة سياسية تمثل الدين الآخر، أما الشكل الثاني من أشكال حوار اللاهوت وعلم الكلام، ووسيلته الإقناع العقلي - فقد كان يستهدف له كل واحدة من الديانتين تغيير الديانة الأخرى من الداخل، وذلك لتحقيق مكسبين وهما:
1. تعزيز مركز كل واحدة من الديانتين أمام أتباعها، وتوفير القناعات الكافية لديهم بأن عقيدتهم تمثل الحق المطلق.
2. اجتذاب أتباع الدين الآخر وحملهم بالإقناع العقلي على اعتناق الدين الجديد، والتخلي عن صيغة إيمانهم القديمة.
ولسنا الآن في صدد بيان مدى نجاح هذا الدين أو ذاك في الحوار اللاهوتي الكلامي، ولا في صدد بيان الأهداف التي تحققت أو لم تتحقق نتيجة لهذا اللون من الحوار.
وأما الشكل الثالث من أشكال الحوار - حوار التعايش، فقد وجد على أرض الإسلام حيث عاش المسيحيون، وأثروا في المجتمع الإسلامي وتأثروا به، وقد ساهم هذا العيش المشترك - بلا ريب - في إنماء الحضارة والثقافة وإغنائهما، وقد كان هذا اللون من الحوار في الماضي وحيد الجانب، فلم يكن ثمة مسلمون يعيشون بحرية وأمان، ويتمتعون بهوية دينية وثقافية مميزة داخل العالم المسيحي [3]، أما الآن فيوجد ذلك على نطاق ملموس، وإن كان هذا النوع من الحوار يعاني مصاعب ومتاعب التمييز والعنصرية بالنسبة للأقليات المسلمة في معظم المجتمعات الغربية.
هذا هو الأصل النظري والتأصيل الشرعي، ثم التطبيق التاريخي الواقعي العلمي لمبدأ الحوار من وجهة النظر الإسلامية، يشهد للمسلمين بالإخلاص والتجرد والتسامح - في الغالب، بينما يتصف فكر وسلوك الجانب الآخر بالاستحواذ والتعدي والتحيز والغرض.
المراجع
- (*) التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة. حضارة الإسلام، جوستاف جرونبياوم، ترجمة: عبد العزيز جاويد، وعبد الحميد العبادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1994م. الإسلام بين الحقيقة والادعاء، مجموعة علماء، الشركة المتحدة للطباعة والنشر، القاهرة، 1996م. موقع الكلمة. [1]. الحوار الإسلامي المسيحي ضرورة المغامرة، د. سعود المولى، دار المنهل، بيروت، ط1، 1996م، ص32: 36.
- [2]. وقد ازداد هذا الهجوم الشرس على الإسلام ونبي الإسلام سوءا ووقاحة في الآونة الأخيرة، بدءا بسلسلة التطاولات السخيفة في وسائل الإعلام المختلفة، وانتهاء برأس الكنيسة الغربية والبابا، مرورا بكل أشكال العداء من قبل ما يسمى حديثا "التيار الصهيومسيحي" المتحكم في صنع القرار في الغرب الآن، وما ترتب عليه من اعتداء واحتلال لأقطار إسلامية؛ كالعراق وأفغانستان... إلخ.
- [3]. الحوار الإسلامي المسيحي: ضرورة المغامرة، د. سعود المولى، دار المنهل، بيروت، ط1، 1996م، ص9: 11.