نص السؤال
توهم وقوع الخلط في القرآن بشأن قصة قارون
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
توهم وقوع الخلط في القرآن بشأن قصة قارون (*)
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن القرآن يخلط في قصة قارون بين قارون وكروسوس ملك ليديا (560 - 546 ق. م) الذي هو علم على الغني عند العرب وغيرهم، وقورح الذي ورد ذكره في التوراة في زمن موسى عليه السلام، ويستدلون على ذلك بالتشابه الواقع بين قصص الأشخاص الثلاثة.
وجوه إبطال الشبهة:
1) قارون الذي ذكره القرآن ليس كروسوس ملك ليديا، ولا قورح الذي ورد ذكره في التوراة؛ وذلك بناء على ما أكده المؤرخون بخصوص نسب قارون الذي يختلف عن نسب هذين الرجلين.
2) الحكمة من القصص القرآني هو استخلاص العبرة والعظة، لا ذكر الأنساب والأسماء، والقرآن يكتفي بما يفيد توصيل العبرة والعظة.
3) وردت قصة قارون في القرآن واضحة متماسكة، بل فصلها الذكر الحكيم تفصيلا بحيث لا تلتبس بأي قصة أخرى.
التفصيل:
أولا. قارون الذي ذكره القرآن ليس كروسوس ملك ليديا، ولا قورح الذي ذكر في التوراة:
كروسوس الذي يقولون عنه إنه ملك ليديا، قد ذكر التاريخ الذي وجد فيه (560 - 546 ق. م) كما حدد المكان الذي عاش فيه وهو ليديا، وقد وردت قصة قارون بتمامها في سورة القصص دون أن يحدد الحق - صلى الله عليه وسلم - زمان وقوعها ولا مكان حدوثها.
كما أن كروسوس هذا الاسم ليس هو اسم قارون وليس له علاقة به لا من جهة المعنى ولا المبنى، وإن كان هناك علاقة بين الاسمين؛ فلماذا لم يأتوا بالأدلة العلمية الواضحة التي تثبت هذه العلاقة؟! فمن أين - إذن - يأتي لهم الزعم أن القرآن يخلط بين كروسوس وقورح في قصة قارون، وهم لا دليل لهم على ذلك؟!
كما أن الأدلة العلمية تثبت أنه ليس قورح، وإن كان لا بد من معرفة نسبه وإلى من ينتهي هذا النسب، فالراجح بالأدلة العلمية أنه يصهار عم موسى - عليه السلام - إذ جاء في قاموس الكتاب المقدس، ص1072: "يصهار: اسم عبري معناه يضيء أو يشرق".
وجاء في تفسير القرطبي والرازي، وجاء في قصص الأنبياء كذلك أن قارون كانت كنيته في قومه المنور؛ لوضاءته وجماله وحسن صوته بالتوراة.
كما أن الجذر العبري "قر ن" معناه: "أنار وأضاء وأشع، واشتق منه: قارون بمعنى الأوار المنور". [1] ويقول أكثر المؤرخين وأهل العلم: إنه كان ابن عم موسى - عليه السلام - فهو قارون بن يصهب بن قاهث بن لاوي، وموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب[2]. وقيل: إنه يصهار عم موسى الذي ورد ذكره في التوراة، فضلا عن أن اسم قارون يحمل معنى آخر، وذلك الفعل "يقر" العبري هو الفعل "وقر" العربي وكلاهما يفيد معاني الثقل والعظمة والمال، فالوقر يعني الحمل الثقيل والوقار من معانيه العظمة، وحينما اشتق القرآن الكريم من "يقرون" اسم قارون لم يبعد كثيرا عن قواعد اللغة العبرية حيث يشتق من "يشرون" اسم "شارون"، فاختيار القرآن لاسم "قارون" كان إعجازا لفظيا، إذ يتماشى مع قواعد اللغة العبرية، وفي نفس الوقت يعني المنير وهو نفس اسم "يصهار"، كما أنه يتضمن الحمل الثقيل، وفيه إشارة إلى كنوزه التي كانت مفاتيحها من الثقل، بحيث يعجز عن حملها الرجال الأشداء.
مما سبق يثبت أن قارون هو يصهار أو يصهر - كما ورد في التفاسير - بن قاهث بن لاوي بن يعقوب - عليه السلام - وليس كروسوس ولا قورح.
ثانيا. ليست الحكمة من القصص القرآني ذكر الأسماء والأنساب، وإنما هي استخلاص العبرة والعظة، بغض النظر عن الزمان والمكان و الأسماء والأنساب:
فالأسلوب القرآني المعجز - يهتم بما يفيد في توصيل العبرة والعظة؛ لذا نراه هنا يكتفي بذكر أن قارون كان من قوم موسى؛ ليعلم أهل البغي والضلال أن النسب لا يغني عن صاحبه شيئا، إن جاءه بأس الله في الدنيا، وحلت به نقمته، «فمن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم [3].
فقد كان قارون من قوم موسى وكان ممن سمع منه التوراة ولازمه مدة طويلة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، ولم تؤثر فيه مواعظه، فنافق قومه، وحسد موسى على ما آتاه الله من فضله، وتمنى أن يكون رسولا مثله، كما تمنى ذلك كثير من أثرياء مكة، وكبراء الطائف، ورؤساء اليهود؛ ظنا من هؤلاء القوارين - جمع قارون - أن النبوة والشرف، والعزة، تنال بالثراء والغنى
قال سبحانه وتعالى:
(وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)
(الزخرف:31).
أي: عظيم في نسبه وجاهه وثروته، فضرب الله لهم قارون مثلا يستبينون به حالهم، ومآلهم ويعرفون به أقدارهم، ومنازلهم بين الناس؛ فيعلمون من خلال هذا المثل أنهم ليسوا على شيء، وأن العزة ليست لهم، وإنما هي للمؤمنين، وأن العاقبة يوم القيامة للمتقين[4].
من هذا نصل إلى أن اهتمام القرآن بالتوجيه والإرشاد، واستخدامه الأسلوب الصالح لكل زمان ومكان - يبرر عدم تحديده لزمان هذه القصة، ولا مكانها، كما يبرر عدم ذكره وتفصيل نسب "قارون" والقرآن بهذا الأسلوب لم يترك فرصة لأعدائه لأن يتصيدوا عليه أي عيب أو خلط؛ فلا يرمي هذا القرآن بعيب إلا سفيه غاب عنه فقه الأسلوب القرآني المعجز.
ثالثا. وردت قصة قارون في القرآن واضحة متماسكة، يفهمها الصغير والكبير، والمسلم وغيره:
فقد يعرف شخص ما بصفة من الصفات كالغنى، وغيرها، لكن هذا لا يمنع غيره أن يكون مثله أو أكثر منه، وقد عرف حاتم الطائي - مثلا - بين العرب بالكرم، فهل منع اشتهاره بالكرم من أن يضاهيه غيره في هذه الصفة؟!
وما المانع - كذلك - أن تكون نهاية ومصير هؤلاء - الذين يشتركون في صفة أو صفات ما - واحدة؟ فكثير ممن كذبوا الرسل أخذتهم الصيحة، وكثير أخذتهم الرجفة... إلخ.
وقورح هذا الذي يزعمون أن القرآن يخلط بينه وبين كروسوس - هو ابن يصهار الذي هو "قارون". وقد ثار قارون على موسى - عليه السلام - في سيناء، وقد ذكره القرآن
فقال تعالى:
(إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين)
(القصص:76)
وكانت نهايته الخسف:
(فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)
(القصص:81)
ولعل ما حدث من خسف أموال "قارون" كان له أثر عميق في نفس قورح؛ إذ فقد المال الذي كان يمني نفسه بالتمتع به بعد أن يئول إليه، ولكن ها هي آماله قد ضاعت فخرج من مصر مع موسى؛ إذ لم يعد هناك شيء يربطه بمصر إلا الأسف على هذه الثروة الضائعة، ونفث عما في دخيلته فيما بعد بالثورة على موسى وهارون، وكان مصيره أن خسف الله به الأرض هو الآخر في سيناء كما خسفت الأرض بأبيه من قبل في مصر.
فهل هناك ما يمنع من أن يكون مصير الابن كمصير أبيه[5]؟!
الخلاصة:
· ثبت أن القرآن محكم متماسك بأسلوبه المعجز؛ إذ هو من عند الله، لا ريب فيه، ولا خلط، ولا اضطراب، وقصة قارون التي ورد ذكرها في القرآن على قمة التماسك والإحكام، ولا خلط فيها بين قارون وكروسوس وقورح؛ إذ إن قارون الذي ذكره القرآن ليس كروسوس ملك ليديا، ولا قورح الذي ورد ذكره في التوراة، وإنما هو يصهار بن قاهث بن لاوي بن يعقوب - عليه السلام - كما ثبت هذا بالأدلة العلمية.
· الحكمة من القصص القرآني هي استخلاص العبرة والعظة، والتوجيه والإرشاد؛ لذا لا يعطي كل اهتمامه لتحديد الزمان، والمكان، أو الأسماء، وتفضيل نسبها، وقد حقق هذا الأسلوب القرآني المعجز ما سعى إليه؛ حيث رسم لنا لوحة كاملة لهذا الرجل الذي أنعم الله عليه، فبغى في الأرض، وتكبر ومنع حق الله؛ فكان مصيره أن خسف الله به وبداره الأرض.
· هذا المصير الذي آل إليه قارون لا يمنع من أن يصير إليه غيره؛ فقد كان لابنه نفس المصير، وهذا لا يعني وجود الخلط في القصة التي يشبهها غيرها.
المراجع
- (*) من إعجاز القرآن، رؤوف أبو سعدة، دار الهلال، القاهرة، 1993م.
- من إعجاز القرآن، رؤوف أبو سعدة، دار الهلال، القاهرة، 1993م، ج2، ص71.
- قصص الأنبياء، محمد متولي الشعراوي، دار القدس، القاهرة، ط1، 2006م، ص345.
- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر (7028).
- قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص239.
- التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج 11، ص186.
- قصص الأنبياء، عبد الوهاب النجار، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط1، 1985م، ص333 وما بعدها.