نص السؤال
ادعاء أن الرسل ينبغي ألا يأكلوا أو يتزوجوا؛ لأن هذا نقص في حقهم
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
ادعاء أن الرسل ينبغي ألا يأكلوا أو يتزوجوا؛ لأن هذا نقص في حقهم(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن الأنبياء ليس لهم أن يكونوا من البشر العاديين الذين يأكلون ويتزوجون ويتناسلون؛ لأن ذلك يمثل هبوطا وسقوطا يشينهم، هادفين من وراء ذلك إلى نفي النبوة عن البشر.
وجوه إبطال الشبهة:
1) أهلية البشر لتحمل الرسالة الإلهية أمر أثبتته التجربة العملية والتاريخ الإنساني.
2) أرسل الله - سبحانه وتعالى - إلى خلقه من هم من جنسهم؛ حتى تتحقق القدوة والأخذ عنهم؛ لأن في المخالفة ذريعة للناس في ألا يقتدوا بهم، متعللين بأنهم ليسوا من جنسهم، وأنهم لا يقوون على ما يقوى عليه هؤلاء الأنبياء.
3) مقتضى بشرية الأنبياء والرسل تجعلهم: يأكلون ويشربون ويتزوجون ويولد لهم، ويتعرضون للبلاء، و يشتغلون بأعمال البشر.
4) لا تعد تلبية الغرائز والشهوات المشروعة سقوطا، وإنما فساد الأخلاق أن تلبى في غير الحلال.
التفصيل:
أولا. أهلية البشر لتحمل الرسالة الإلهية:
إن الله - عز وجل - خلق الإنسان في أحسن تقويم وفضله وكرمه على سائر المخلوقات؛
قال سبحانه وتعالى:
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)
(الإسراء:70)
وكرمنا أي: جعلنا لهم كرما، أي: شرفا وفضلا، وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة.. وقيل: كرمهم بالنطق والتمييز.. وقيل: بتسليطهم على الخلق وتسخير سائر الخلق لهم، وقيل: بالكلام والخط، وقيل: بالفهم والتمييز.
والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف وبه يعرف الله ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب، فمثال الشرع الشمس ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء[1].
وشاءت حكمة العليم الخبير أن يكون الرسل الذين يرسلهم إلى البشر من البشر أنفسهم:
(قل إنما أنا بشر مثلكم)
(الكهف: ١١٠)
أما الذين يستعظمون ويستبعدون اختيار الله بعض البشر لتحمل الرسالة فلا يقدرون الإنسان قدره؛ فالإنسان مؤهل لتحمل الأمانة العظمى، التي أشفقت السموات والأرض والجبال من حملها
قال سبحانه وتعالى:
(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)
(الأحزاب:72)
وهؤلاء الذين استعظموا اختيار الله البشر رسلا، نظروا إلى المظهر الخارجي للإنسان، نظروا إليه على أنه جسد يأكل ويشرب وينام، ويمشي في الأرض لتلبية حاجاته:
(وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا)
(الفرقان:7)
ولم ينظروا إلى جوهر الإنسان وهو تلك الروح التي هي نفخة من روح الله:
(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)
(الحجر:29)
وبهذه الروح تميز الإنسان، وصار إنسانا، واستخلف في الأرض، وقد أودعه الله الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة العلوية التي ميزته، فلا عجب أن يختار الله واحدا من هذا الجنس، صاحب استعداد للتلقي، فيوحى إليه ما يهدي به إخوانه إلى الطريق كلما غام عليهم الطريق، وما يقدم به إليهم العون كلما كانوا بحاجة إلى العون:
(قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
(إبراهيم:11)
ثم إن الرسل يعدون إعدادا خاصا؛ لتحمل النبوة والرسالة، ويصنعون صنعا فريدا:
(واصطنعتك لنفسي)
(طه:41)
، واعتبر هذا بحال نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كيف رعاه وأحاطه بعنايته على الرغم من يتمه وفقره:
(ألم يجدك يتيما فآوى (6) ووجدك ضالا فهدى (7) ووجدك عائلا فأغنى (8)
(الضحى)
وقد زكاه وطهره، وأذهب عنه رجس الشيطان، وأخرج منه حظ الشيطان منذ كان صغيرا،
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه:
«أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست[2] من ذهب بماء زمزم ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره[3] - فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره»[4]. وحدث قريب من هذا عندما جاء جبريل - عليه السلام - يهيئه للرحلة الكبرى للعروج به إلى السماوات العلا، ففي حديث الإسراء: «فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل - عليه السلام - ففرج صدري، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه»[5] [6].
ثانيا. أرسل الله - سبحانه وتعالى - الرسل إلى خلقه من جنسهم حتى تتحقق القدوة والأخذ عنهم:
لقد كثر اعتراض أعداء الرسل على بعثة الرسل من البشر، وكان هذا الأمر من أعظم ما صد الناس عن الإيمان:
(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا)
(الإسراء:94)
وعدوا اتباع الرسل بسبب كونهم بشرا فيما جاءوا به من عقائد وشرائع أمرا قبيحا، وعدوه خسرانا مبينا:
(ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون)
(المؤمنون:34)
(فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر)
(القمر:24)[7].
وقد اقترح أعداء الرسل أن يكون الرسل الذين يبعثون إليهم من الملائكة يعاينونهم ويشاهدونهم، أو على الأقل يبعث مع الرسول البشري رسول من الملائكة:
(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا)
(الإسراء:94)
(وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا)
(الفرقان:7)
وعندما نتأمل النصوص القرآنية، يمكننا أن نرد عليهم من أربعة وجوه هي:
1. أن الله اختارهم بشرا لا ملائكة؛ لأنه أعظم في الابتلاء والاختيار؛ ففي الحديث القدسي: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك»[8].
2.أن في هذا إكراما لمن سبقت لهم منه الحسني، فإن اختيار الله لبعض عباده ليكونوا رسلا تكريما وتفضيلا لهم:
(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا)
(مريم:58)
3.أن البشر أقدر على القيادة والتوجيه، وهم الذين يصلحون قدوة وأسوة، يقول سيد قطب في هذا: "وإنها لحكمة تبدو في رسالة واحد من البشر إلى البشر، واحد من البشر يحس بإحساسهم، ويتذوق مواجدهم، ويعاني تجاربهم، ويدرك آلامهم وآمالهم، ويعرف نوازعهم وأشواقهم، ويعلم ضروراتهم وأثقالهم... ومن ثم يعطف على ضعفهم ونقصهم، ويرجو في قوتهم واستعلائهم، ويسير بهم خطوة خطوة، وهو يفهم ويقدر بواعثهم وتأثراتهم واستجاباتهم؛ لأنه في النهاية واحد منهم، يرتاد بهم الطريق إلى الله بوحي من الله وعون منه على وعثاء الطريق، وهم من جانبهم يجدون فيه القدوة الممكنة؛ لأنه بشر مثلهم، يتسامى بهم رويدا رويدا، ويعيش فيهم بالأخلاق والأعمال والتكاليف التي يبلغهم أن الله قد فرضها عليهم، وأرادها منهم، فيكون بشخصه ترجمة حية للعقيدة التي يحملها إليهم، وتكون حياته وحركاته وأعماله صفحة معروضة لهم، ينقلونها سطرا سطرا، ويحققونها معنى معنى، وهم يرونها بينهم، فتهفوا نفوسهم إلى تقليدها؛ لأنها ممثلة في إنسان"[9].
ولو كان الرسل من الملائكة، ما استطاع البشر أن يأخذوا عنهم أو يجتمعوا، ولكان للناس حجة في عدم اتباع الرسل أن يقولوا: هؤلاء الذين بعثهم الله إلينا وأمرنا باتباعهم ليسوا من جنسنا.. ليسوا بشرا إنما هم ملائكة، وطبيعتنا تختلف عن طبيعتهم فهم أسمى منا خلقا، وأطهر منا عملا وأكرم مقاما؛ لأن الملائكة أطهار كما أخبر عنهم رب العزة عز وجل:
(لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)
(التحريم:6)
وأنهم دائما في عبادة لا ينقطعون عنها أبدا:
(يسبحون الليل والنهار لا يفترون)
(الأنبياء:20)
ثم إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون وليس فيهم شهوة أو ميل إلى المعصية؛ لأنهم عباد مكرمون.. ولما كان الغرض من بعثة الأنبياء أن يكونوا سفراء بين الله وعباده حتى يبلغوا مراده إليهم، كان لا بد أن يكون السفير ممن يمكن الاجتماع به والأخذ عنه، وأن يكون قدوة للبشر في سلوكهم وأخلاقهم وتصرفاتهم، ولا يكون ذلك إلا ممن اتحد معهم في الخصائص والصفات[10].
4.صعوبة رؤية الملائكة، فالكفار عندما يقترحون رؤية الملائكة، وأن يكون الرسل إليهم ملائكة لا يدركون طبيعة الملائكة، ولا يعلمون مدى المشقة والعناء الذي سيلحق بهم من جراء ذلك.
فالاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بسهل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - مع كونه أفضل الخلق، وهو على جانب عظيم من القوة الجسمية والنفسية، عندما رأى جبريل - عليه السلام - على صورته أصابه هول عظيم ورجع إلى منزله يرجف فؤاده، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعاني من اتصال الوحي به شدة، ولذلك قال في الرد عليهم:
(يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا)
(الفرقان:22)
ذلك أن الكفار لا يرون الملائكة إلا حين الموت أو حين نزول العذاب، فلو قدر أنهم رأوا الملائكة كان ذلك اليوم يوم هلاكهم.
فكان إرسال الرسل من البشر ضروريا؛ كي يتمكنوا من مخاطبتهم والفقه عنهم والفهم منهم، ولو بعث الله رسله إليهم من الملائكة ما أمكنهم ذلك:
(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95)
(الإسراء).
فلو كان سكان الأرض ملائكة لأرسل الله إليهم رسولا من جنسهم، أما وإن الذين يسكنون الأرض بشر، فرحمة الله وحكمته تقتضي أن يكون رسولهم من جنسهم:
(لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)
(آل عمران:164)
وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر وسهولة، فإن ذلك يقتضي - لو شاء الله أن يرسل ملكا رسولا إلى البشر - أن يجعله رجلا:
(ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا)
(الأنعام: ٩)
فالله يخبر أنه "لو بعث رسولا ملكا"، لكان على هيئة رجل، يمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه، ولو كان كذلك لاختلط الأمر عليهم[11]. وقد ذكر القرآن الكريم هذا المعنى في معرض الرد على المشركين، حين طلبوا أن يكون النبي المرسل من الملائكة لا من البشر:
(وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)
(الأنعام).
ومعنى الآية الكريمة: لو جعلنا النبي ملكا كما اقترحوا، لجعلناه في صورة رجل من البشر؛ ليمكن اجتماعهم به وأخذهم عنه، وحينئذ يلتبس عليهم الأمر، هل هو ملك أو بشر؟ فيشكون في أمره، ويعودون إلى سيرتهم الأولى في طلبهم أن يكون النبي من الملائكة[12].
قال العلامة القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: قوله سبحانه وتعالى: )ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا(، أي: أنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة؛ لأن كل جنس يألف بجنسه، وينفر من غير جنسه، فلو جعل الله - عز وجل - الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقابلته، ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة، ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به، ويسكنوا إليه، لقالوا: لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك، وعادوا إلى مثل حالهم، حيث كانوا يقولون عن محمد صلى الله عليه وسلم: إنه بشر، وليس بينه وبينهم فرق، فيلبسون على الناس بهذا ويشككونهم، فأعلمهم الله - عز وجل - أنه لو أنزل ملكا في صورة رجل؛ لأوجدوا سبيلا إلى اللبس - الشك - كما يفعلون.
ثالثا. مقتضى كون الأنبياء بشرا أن يتصفوا بالصفات التي لاتنفك البشرية عنها:
يوضح د. عمر الأشقر في كتابه "الرسل والرسالات" أبرز تلك الصفات على النحو التالي:
1. الرسل يأكلون ويشربون وينامون ويتزوجون ويولد لهم:
الرسل والأنبياء يحتاجون لما يحتاج إليه البشر من الطعام والشراب، ويحدثون كما يحدث البشر؛ لأن ذلك من لوازم الطعام والشراب:
(وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين (8)
(الأنبياء).
ومن ذلك أنهم ولدوا كما ولد البشر لهم آباء وأمهات، وأعمام وعمات وأخوال وخالات، يتزوجون ويولد لهم
قال سبحانه وتعالى:
(ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب)
(الرعد:38)
ويصيبهم ما يصيب البشر من أعراض، فهم ينامون ويقومون، ويصحون ويمرضون، ويأتي عليهم ما يأتي على البشر من الموت، فقد جاء في ذكر إبراهيم خليل الرحمن لربه:
(والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين (81)
(الشعراء)
وقال الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم:
(إنك ميت وإنهم ميتون)
(الزمر:30)
وقال مبينا أن هذه سنة في الرسل كلهم:
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)
(آل عمران:144)[13]
وقد جاء في وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الأسود قال:
«سألت عائشة: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة» [14] [15].
2. تعرض الأنبياء للابتلاء:
ومن مقتضى بشرية الرسل أنهم يتعرضون للابتلاء كما يتعرض البشر، فقد يسجنون،
كما سجن يوسف عليه السلام:
(قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين)
(يوسف:33)
وذكر الله أنه:
(فلبث في السجن بضع سنين)
(يوسف: ٤٢)
وقد يصيبهم قومهم بالأذى وقد يدمونهم، كما أصابوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة أحد؛ فأدموه وكسروا رباعيته، وقد يخرجونهم من ديارهم، كما هاجر إبراهيم من العراق إلى الشام، وكما هاجر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة، وقد يقتلونهم
قال سبحانه وتعالى:
(أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون)
(البقرة:87)
وقد يصابون بالأمراض، كما ابتلى الله نبيه أيوب فصبر،
وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم
«أن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه»[16].
وكان من ابتلائه أن ذهب أهله وماله، وكان ذا مال وولد كثير:
(وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84)
(الأنبياء)
والأنبياء لا يصابون بالبلاء فحسب، بل هم أشد الناس بلاء،
فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: «قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال صلى الله عليه وسلم: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» [17].
«ودخل أبو سعيد الخدري على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك،[18] فوضع يده على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوجد حره بين يديه فوق اللحاف، فقال: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال: "إنا كذلك، يضعف لنا البلاء، ويضعف لنا الأجر"، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ فقال: "الأنبياء"، قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال: "ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة التي يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء»[19].
3. اشتغال الأنبياء بأعمال البشر:
ومن مقتضى بشريتهم أنهم قد يقومون بالأعمال والأشغال التي يمارسها البشر، فمن ذلك اشتغال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتجارة قبل البعثة، ومن ذلك رعي الأنبياء للغنم، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجني الكباث[20]، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عليكم بالأسود منه، فإنه أطيبه"، قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: وهل من نبي إلا وقد رعاها». [21]
ومن الأنبياء الذين نص القرآن على أنهم رعوا الغنم نبي الله موسى - عليه السلام - فقد عمل في ذلك عدة سنوات، فقد قال له العبد الصالح:
(قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين)
(القصص:27)
قال ابن حجر: والذي قاله الأئمة أن الحكمة في رعاية الأنبياء للغنم؛ ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتعتاد قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها إلى سياسة الأمم.
ومن الأنبياء الذين عملوا بأعمال البشر داود - عليه السلام - فقد كان حدادا يصنع الدروع، قال سبحانه وتعالى:
(وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون)
(الأنبياء:80)
وفي نفس الوقت كان ملكا، وكان يأكل مما تصنعه يداه. ونبي الله زكريا كان يعمل نجارا، فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان زكريا نجارا»[22] [23].
رابعا. لا تعد تلبية الغرائز والشهوات المشروعة سقوطا، وإنما فساد الأخلاق أن تلبى في غير الحلال:
ليس الهبوط أن يشتهي المرء طعاما أو امرأة، وإنما الهبوط أن يأكل المرء من سحت، أو يتصل بمن لا تحل له. والعجب أن يعيب هؤلاء على بشر مثلهم، ثم يقلدونهم في قولهم، فأصحاب تلك الدعوات لم يكونوا خالقيها، وإنما اقتبسوا من غيرهم قولهم، فقد جاء النص:
(قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون)
(فصلت:14)
وتولى القرآن الرد:
(ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون)
(الأنعام:9)
لأنه لا يمكن أن يتعامل ملك على ملائكيته مع بشر على بشريته؛ وذلك لأمر أراده الإسلام في موضع النبوة، وذلك أن فيه الأسوة، وكيف يتأسى بمن خالف طبيعته، فلو ذكر لمعاند قوله سبحانه وتعالى:
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)
(الأحزاب)
ليقول: ومن أين لي وأنا بشر وهو ملك؟
لكن الله لما شاء وجودهم أنبياء جعلهم بشرا؛ حتى يسهل التأسي بهم ومتابعتهم، إن هذا الفهم السقيم بقية باقية من فهم الأمم السابقة، وخاصة أهل الكتاب في كتابهم المقدس، تلك المفاهيم الممتزجة بكل باطل، فالنبي عندهم أشبه بالكهنة والعرافين، وهم بين متخبطين في الرذائل ساقطين سقوط أدنى البشر أو متألـهين، وهذا الخليط المترنح لا يستقر على وضع مستقيم حتى في الاعوجاج نفسه.
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن اجتناب ما أحله الله؛ ففي الحديث عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[24].
الخلاصة:
· شاءت حكمة العليم الخبير أن يكون الرسل الذين يرسلهم إلى البشر من البشر أنفسهم: )قل إنما أنا بشر مثلكم( (الكهف: 110)؛ لذا أعدهم الله إعدادا خاصا؛ لتحمل أعباء النبوة والرسالة، وصنعهم صنعا فريدا: )واصطنعتك لنفسي (41)( (طه)، واعتبر هذا بحال نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كيف رعاه وأحاطه بعنايته على الرغم من يتمه وفقره، وقد زكاه وطهره، وأذهب عنه رجس الشيطان، وأخرج منه حظ الشيطان مذ كان صغيرا.
· لم يرسل الله - عز وجل - إلى عباده رسلا من الملائكة، ولكن أرسل إليهم رسلا من البشر؛ كي تسهل مخاطبتهم، والأخذ عنهم، ولاتفاقهم في الخلقة والصفات؛ لأنهم أسوة وقدوة للبشر جميعا، فكيف يكون الأسوة والقدوة من غير جنسهم؟
· كون الرسل بشرا يقتضي أن يتصفوا بصفات البشر، كالأكل والشرب والزواج والنوم والابتلاء، وغيرها من صفات البشر؛ لأن هؤلاء الأنبياء لا بد أن تكون لهم سنن في كل متطلبات الحياة من مأكل ومشرب وزواج ونوم وغيرها؛ ليقتدي بها الناس في حياتهم، وهذا لا يتحقق إلا بكونهم بشرا.
لا تعد تلبية الغرائز والشهوات المشروعة سقوطا، وإنما فساد الأخلاق أن تلبى في غير الحلال، وهذا ما حرمه الله على الأنبياء وغيرهم من البشر.
المراجع
- (*) النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ.
- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ص294.
- الطست: إناء كبير مستدير مصنوع من نحاس وغيره.
- الظئر: المرضعة غير ولدها، ويقع على الرجل والمرأة.
- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماوات وفرض الصلوات (431).
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلوات، باب كيف فرضت الصلوت في الإسراء (342)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفرض الصلوات (433).
- الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص63: 65.
- الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص65.
- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (7386).
- الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص65: 67.
- النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص19.
- الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص68.
- النبوة والأنبياء، محمد علي الصابوني، دار الصابوني، مكة المكرمة، 1390هـ، ص20.
- الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص68، 69.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب من كان في حاجة على أهله فأقيمت الصلاة فخرج (644)، وفي مواضع أخرى.
- شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص143.
- صحيح: أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/ 299) برقم (3617)، وابن حبان في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصبر وثواب الأمراض (2898)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (17).
- صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (1607)، والترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء (2398)، وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (143).
- يوعك: أصابه مرض من شدة الحمى والتعب.
- صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء (4024)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (3250).
- الكباث: ثمر الأراك.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ) يعكفون على أصنام لهم ( (الأعراف: ١٣٨) (3225)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب فضيلة الأسود من الكباث (5470)، واللفظ للبخاري.
- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل زكريا ـ عليه السلام ـ (6312).
- الرسل والرسالات، د. عمر سليمان عبد الله الأشقر، دار النفائس، الأردن، دار السلام، القاهرة، 1426هـ/ 2005م، ص68: 72.
- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776)، ومسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة (3469).