نص السؤال

دعوى عدم حسم القرآن مسألة صلب المسيح عليه السلام

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

دعوى عدم حسم القرآن مسألة صلب المسيح عليه السلام(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغالطين أن القرآن لم يكن حاسما في إثبات صلب المسيح، ويستدلون على ذلك

بقوله سبحانه وتعالى:

(وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)

(النساء: 157)

حيث يدعون أنه يعارض

قول الله - سبحانه وتعالى - على لسان المسيح:

(فلما توفيتني)

(المائدة: 117)

مستنكرين الجمع بين إنكار صلب المسيح، وإلقاء الشبه على غيره وصلبه بدلا منه، ونجاته من الصلب مع الإقرار بوفاته عليه السلام. ويسوقون قول الإمام الرازي لتقوية زعمهم: لو كان الله يلقي شبه إنسان على آخر لاختلت الموازين. ويتساءلون: هل يصح أن يخلط القرآن في حديثه عن أحد أنبياء الله بهذه الصورة؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1) عرض القرآن في سورة النساء يؤكد نجاة المسيح - عليه السلام - برفعه إلى السماء من القتل والصلب، وعقيدة المسلمين في خاتمة المسيح يسيرة لا تعقيد فيها، خلافا لعقيدة النصارى.

2) القرآن يقدم على الإنجيل في حادثة رفع المسيح - عليه السلام - وغيرها؛ لخلوه من الخلط والأباطيل، ولعصمته من التحريف، ولتواتره القطعي الثبوت، خلافا للإنجيل.

3)  الأدلة العقلية تؤكد نفي صلب المسيح - عليه السلام - وترد كل ما يقال عن قصة صلبه المزعومة.

4) تعارض أقوال وأفعال المسيح في الإنجيل مع عقيدة الصلب والفداء[1] عند النصارى، يؤكد عدم صلاحية الإنجيل كمرجعية لإثبات حادثة الصلب أو غيرها.

5)  مصادر مسيحية تؤكد نجاة المسيح من الصلب، ووقوعه على شبيهه.

6)  اختلاف الأناجيل في مسألة الصلب يؤكد أن المسيح لم يصلب.

7)  تنبؤات المسيح في الكتاب المقدس بنجاته من القتل!

8)  شخصية المسيح لا تتلاقى مع النهاية الاستسلامية التي صنعها كتاب الأناجيل.

9)  هناك طوائف نصرانية متعددة تنكر صلب المسيح!

10)  مسألة الصلب بين إقرار بولس ونفي المسيح، أيهما يصدق النصارى؟!

11) نهاية يهوذا خير شاهد على صدق القرآن وتحريف الإنجيل، ونجاة المسيح.

12)كلام الإمام الرازي مقطوع من السياق، إيهاما للمسلمين أنه ينكر أن عيسى - عليه السلام - شبه لهم، ولو رجعت إلى مصدر كلامه لعلمت تدليس المدلسين.

التفصيل:

أولا. عرض القرآن في سورة النساء يؤكد الرفع وينفي قتل المسيح وصلبه:

التبس على النصارى صلب عيسى - عليه السلام - كما التبس على اليهود.. وحل القرآن الإشكال، وأزال اللبس، لكن النصارى لم يصدقوا القرآن.

قال الله عز وجل:

(وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)

(النساء).

واعترض النصارى على نفي القرآن قتل عيسى - عليه السلام - وصلبه، واعتبروه خطأ وقع فيه القرآن، واستغرب كثير منهم إنكار القرآن أمرا مجمعا عليه بين اليهود والنصارى، واليونان، والرومان. ويتساءلون: "لماذا ينكر القرآن صلب المسيح وقتله بأيدي اليهود، مع أن اليهود يعترفون بذلك، والنصارى يؤكدونه ويفتخرون به؟ ومدار الإنجيل كله على خبر صلب المسيح والبشارة به، كفاد للبشر"؟

ويدعون أن القرآن ذكر في مواضع أخرى موت المسيح وقيامته، وارتفاعه إلى السماء،

كقوله سبحانه وتعالى:

(إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي)

(آل عمران: ٥٥)

وفيه يقول المسيح:

(فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم)

(المائدة: ١١٧)

ويقول أيضًا:

(والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا)

(مريم:33)

ويقولون: أليس غريبا أن يجيء من ينكر صلب المسيح بعد حدوثه بستمائة سنة؟! إن حادثة الصلب حقيقة تاريخية، سجلها اليونان، والرومان، واليهود، والمسيحيون... وفي "مجمع نيقية" الذي انعقد سنة (325م)، كتب أساقفة العالم المسيحي قانون الإيمان مقرين صلب المسيح!

يؤمن كل النصارى أن اليهود والرومان قتلوا عيسى - عليه السلام - وصلبوه، وأن روحه خرجت على الصليب، وبعد ثلاثة أيام من دفنه ردت إليه روحه، فقام من قبره، وصعد إلى السماء! وكان اليهود يتباهون ويتفاخرون بقتل عيسى - عليه السلام -

قال سبحانه وتعالى:

(وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله)

(النساء: ١٥٧).

أما النصارى فقد جعلوا الصليب جزءا من عقيدتهم ودينهم، والشعار المميز لهم عن باقي أتباع الأديان، ووضعوا الصليب في أعناقهم وعلى كنائسهم، وملابسهم، ومرافق حياتهم، فإذا نفى القرآن صلب عيسى - عليه السلام - نفيا صريحا، فإن النصرانية تتهاوى من أساسها. أما القرآن الكريم فقد نفى صلب عيسى - عليه السلام - وكذب اليهود في ادعاء ذلك،

قال سبحانه وتعالى:

(وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)

(النساء: 157)

فنفى أن يكونوا قد قتلوا عيسى - عليه السلام - أو صلبوه.

ويقرر القرآن أن المختلفين في موضوع القتل والصلب من اليهود والنصارى في شك منه لم يصلوا إلى اليقين؛ لأنهم لا ينطلقون من العلم، وإنما يتبعون الظن، والظن لا يوصل إلى يقين

قال سبحانه وتعالى:

(وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن)

(النساء: 157).

ويؤكد القرآن مرة أخرى أنهم لم يقتلوا عيسى - عليه السلام - يقينا؛ لأن الله العزيز الحكيم رفعه إليه

قال سبحانه وتعالى:

(وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158)

(النساء).

لقد أراد اليهود الرومان صلب عيسى - عليه السلام - ولكن الله حماه وعصمه منهم، ورفعه إلى السماء، أما هم فقد صلبوا رجلا آخر، وكل ظنهم أنه عيسى! فقال اليهود متبجحين: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله عليه السلام.

أما معنى قوله سبحانه وتعالى: (ولكن شبه لهم) شبه لهم أمر الصلب والقتل، والتبس عليهم، وهذا معناه أنهم قتلوا وصلبوا شخصا آخر سوى عيسى عليه السلام. ومعنى قوله سبحانه وتعالى: (وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه)(النساء) لم يقتل اليهود عيسى - عليه السلام - يقينا، ولم يكن الشخص المقتول المصلوب عيسى حقيقة، إنما كان شخصا آخر غيره، بينما كان عيسى في السماء[2]!!

يقول الإمام محمد رشيد رضا في تفسيره لآيات سورة النساء: )وما قتلوه وما صلبوه( أي: والحال أنهم ما قتلوه، كما زعموا تبجحا بالجريمة، وما صلبوه كما ادعوا وشاع بين الناس: )ولكن شبه لهم( أي: وقع لهم الشبهة، أو الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى، وإنما صلبوا غيره، ومثل هذا الشبه أو الاشتباه يقع في كل زمان كما سنبينه قريبا )وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن( أي: وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب في شك من حقيقة أمره، أي: في حيرة وتردد ما لهم به من علم ثابت قطعي، لكنهم يتبعون الظن أي القرائن التي ترجح بعض الآراء الخلافية على بعض، فالشك الذي هو التردد بين أمرين شامل لمجموعهم لا لكل فرد من أفرادهم، هذا إذا كان - كما يقول علماء المنطق - لا يستعمل إلا فيما تساوى طرفاه بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، والذين يتبعون الظن في أمرهم هم أفراد رجحوا بعض ما وقع الاختلاف فيه على بعض بالقرائن أو بالهوى والميل، والصواب أن هذا معنى اصطلاحي للشك. وأما معناه في أصل اللغة فهو نحو من معنى الجهل، وعدم استبانة ما يجول في الذهن من الأمر، قال الركاض الدبيري:

يشك عليك الأمر ما دام مقبلا

وتعرف ما فيه إذا هو أدبرا

فجعل المعرفة في مقابلة الشك. وقال ابن الأحمر:

وأشياء مما يعطف المرء ذا النهى

تشك على قلبي فما استبينها

وفي لسان العرب: أن الشك ضد اليقين، فهو - إذن - يشمل الظن في اصطلاح أهل المنطق، وهو ما ترجح أحد طرفيه. فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أكان هو المصلوب، أم غيره؟ فبعض المختلفين في أمره الشاكين فيه يقول: إنه هو، وبعضهم يقول: إنه غيره، وما لأحد منهما علم يقيني بذلك، وإنما يتبعون الظن. وقوله تعالى: )إلا اتباع الظن( استثناء منقطع كما علم من تفسيرنا له، وفي الأناجيل المعتمدة عند النصارى أن المسيح قال لتلاميذه: "كلكم تشكون في في هذه الليلة". (متى 26: 31، ومرقس 14: 27)، أي: التي يطلب فيها للقتل.

فإذا كانت أناجيلهم لا تزال ناطقة، فإنه أخبر أن تلاميذه وأعرف الناس به سيشكون فيه في ذلك الوقت وخبره صادق قطعا، فهل يستغرب اشتباه غيرهم وشك من دونهم في أمره، وقد صارت قصته رواية تاريخية منقطعة الإسناد؟

)وما قتلوه يقينا( أي: وما قتلوا عيسى ابن مريم قتلا يقينا أو متيقنين أنه هو بعينه؛ لأنهم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة. وهذه الأناجيل المعتمدة عند النصارى تصرح بأن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الإسخريوطي، وأنه جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو يسوع المسيح فلما قبله قبضوا عليه. وأما إنجيل برنابا فيصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الإسخريوطي نفسه ظنا أنه المسيح؛ لأنه ألقي عليه شبهه. فالذي لا خلاف فيه هو أن الجنود ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية. وقيل: إن الضمير في قوله سبحانه وتعالى: )وما قتلوه يقينا( للعلم الذي نفاه عنهم، والمعنى ما لهم به من علم، لكنهم يتبعون الظن، وما قتلوه عن علم وتثبت منه، بل رضوا بتلك الظنون التي يتخبطون فيها، يقال: قتلت الشيء علما وخبرا: إذا أحطت به واستوليت عليه حتى لا ينازع ذهنك منه اضطراب ولا ارتياب. وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه راجع إلى الظن الذي يتبعونه قال: "لم يقتلوا ظنهم يقينا"؛[3] أي: إنهم يتبعون ظنا غير ممحص ولا موفى أسباب الترجيح، والحكم التي توصل إلى العلم. وقد اختلفت رواية المفسرين بالمأثور في هذه المسألة؛ لأن عمدتهم فيها النقل عمن أسلم من اليهود والنصارى، وهؤلاء كانوا مختلفين ما لهم به من علم يقيني، ولكن الروايات عنهم تشتمل على نحو ما عند النصارى من مقدمات القصة، كجمع المسيح لحواريه "أو تلاميذه"، وخدمته إياهم وغسله لأرجلهم، وقوله لبعضهم: إنه ينكره قبل صياح الديك ثلاث مرات، ومن بيعه بدلالة أعدائه عليه في مقابلة مال قليل، وكون الدلالة عليه كانت بتقبيل الدال عليه له.

ولكن بعضهم قال: إن شبهه ألقي على من دلهم عليه، وبعضهم قال: بل ألقي شبهه على جميع من كانوا معه، وروى ابن جرير القولين عن وهب بن منبه. والحاصل أن جميع روايات المسلمين متفقة على أن عيسى - عليه السلام - نجا من أيدي مريدي قتله؛ فقتلوا آخر ظانين أنه هو.

وأما قوله سبحانه وتعالى: (بل رفعه الله إليه) فقد سبق نظيره في سورة آل عمران وذلك

قال سبحانه وتعالى:

(إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا)

(آل عمران: ٥٥).

جاء عن ابن عباس تفسير التوفي هنا بالإماتة كما هو الظاهر المتبادر، وعن ابن جريج تفسيرها بأصل معناها، وهو الأخذ والقبض، والمراد منه ومن الرفع: إنقاذه من الذين كفروا بعناية من الله الذي اصطفاه وقربه إليه.

(وكان الله عزيزا حكيما) فبعزته وهي كونه يقهر ولا يقهر، ويغلب ولا يغلب، أنقذ عبده ورسوله عيسى - عليه السلام - من اليهود الماكرين، والروم الحاكمين، وبحكمته جزى كل عامل بعمله"[4].

خاتمة المسيح عند النصارى وعند المسلمين:

جعل النصارى خاتمة المسيح - عليه السلام - خاتمة شنيعة ومأساة مروعة، وجعلوا الاعتقاد بحصولها على الوجه الذي صوروه أصلا من أصول دينهم ودعامة من دعائم عقيدتهم لا يقبل من مؤمن إيمانه إلا بها ولا ينفعه عمل صالح ولا عبادة ولا بر، ولا تقوى، ولا إخلاص دون الاعتقاد بصلب المسيح.

وقد تلمسوا لتلك العقيدة أصلا في العهد القديم، وأسسوا عليه صلب المسيح. فقالوا: إن آدم - وهو أول كل البشر - قد عصى الله - عز وجل - بالأكل من الشجرة، التي نهاه عن الأكل منها، فصار خاطئا وصار جميع ذريته خطاة مستحقين للعقاب في الآخرة بالهلاك الأبدي.

وقد جاء جميع أبناء آدم خطاة مذنبين فهم يحملون وزر ذنوبهم، ووزر ذنب أبيهم الذي هو الأصل لذنوبهم.

ولما كان الله - عز وجل - من صفته العدل والرحمة، فمن عدله أنه لا يترك الجريمة دون عقاب، وإلا لم يكن عادلا، والعقاب مناف للرحمة فلا يكون رحيما إذا عاقب، ولا بد من تحقق العدل والرحمة معا، وللخروج من هذا الإشكال شاء الله أن يحل ابنه الذي هو بنفسه الله في رحم امرأة من ذرية آدم، ويتجسد جنينا في رحمها ويولد منها، فيكون ولدها إنسانا كاملا من حيث إنه ابن لتلك المرأة، وإلها كاملا من حيث إنه ابن الله، ويكون معصوما من جميع المعاصي. ثم بعد أن يعيش كما يعيش الناس، ويأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، ويتلذذ ويتألم كما يتلذذون ويتألمون، يأتي أعداء الله وأعداء شريعته ويقتلونه شر قتلة وأفظعها، وهي أن يصلبوه ويسمروا يديه ورجليه في الخشب، ثم يقتلوه بعد أن يلطموه على وجهه ويسخروا منه، ويضفروا له إكليلا من الشوك، ويبصقوا في وجهه، كل ذلك ليفدي البشر من جريمة لم يقترفها هو ولا هم.

إن هذه العملية لم يتحقق بها عدل ولا رحمة؛ لأنه ليس من العدل في شيء أن يؤتى ببريء غير مذنب، ويطوق إثم جريمة جناها سواه، كما أن عقاب غير الآثم ليس فيه رحمة، وبخاصة إذا كان المعاقب من شأن الجبلة أن تشمله بالرحمة، ولو مع الذنب، فالابن البار غير الآثم أولى.

والعقاب على هذا الوجه يخالف الكتاب المقدس عندهم، فقد جاء فيه: "لا يقتل الآباء عن الأولاد، ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيته يقتل". (التثنية 24: 16)، "وإذا كان على إنسان خطية حقها الموت، فقتل وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلق ملعون من الله. فلا تنجس أرضك التي يعطيك الرب إلهك نصيبا". (التثنية 21: 22، 23).

وعلى قول المسيحيين قد بقي الله تعالى مجردا عن صفتي العدل والرحمة من زمن عصيان آدم إلى أن اهتدى إلى تلك الحيلة التي ظهرت له قبيل خلق المسيح - عليه السلام - في مريم. هذا فضلا عن أن عقيدة الصلب لما كانت هي كل الإيمان كانت حادية لمعتنقها

إلى نبذ كل الفضائل، بل مخذلة عن أفعال البر والتقوى، فيكون صاحبها إباحيا فاتكا ليس للفضيلة في نفسه نصيب.

أما خاتمة أمر المسيح بحسب قصص القرآن فهي عجيبة وبسيطة، لا تعقيد فيها؛ ذلك أن المسيح قد أحرج الكهنة والفريسيين[5] بتعليمه، وتجريمه إياهم في طريقتهم، وفضح ريائهم وخبثهم، فدفعهم ذلك إلى الكيد له والتدبير لقتله، فلما اختمر هذا الأمر في أنفسهم شكوا أمره إلى الوالي وزينوا شكواهم بما يستدعي اهتمامه بأن ادعوا عليه أنه يقول: إنه ملك اليهود، وأنهم لا يقرون بملك سوى قيصر رومية، فأرسل الوالي جندا للقبض على المسيح عيسى ابن مريم - عليه السلام - فلما أتوا ولم يبق إلا القبض عليه - والمسيح قد اهتم لهذا الأمر، وخشى أن ينالوه بالأذى - أنقذه الله من أيديهم وطهره منهم، وألقى شبهه على شخص آخر، علم فيما بعد أنه تلميذه الخائن وعرفته الأناجيل بأنه يهوذا الإسخريوطي - كما هو مشهور - وصار بحيث إن كل من رآه لا يشك في أنه يسوع، فأخذ وصلب وقتل ونجا المسيح من شرهم، وقد أعلم الله - عز وجل - الميسح بما سيتم، وشاع في الناس أن يسوع الناصري قتل بعد أن صلب، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.

وقد أورد ابن كثير وابن جرير وغيرهما من المفسرين: أن المسيح لما قرب وقت القبض عليه ندب أصحابه ثلاث مرات طالبا أن يتقدم واحد منهم ليفديه، ويقدم نفسه إلى اليهود عوضا عنه، ويكون جزاؤه الجنةـ فلم ينتدب له في كل مرة إلا واحد بعينه، فلما جاء أعداؤه ألقى الله على صاحبه الذي انتدب له شبه المسيح، وصار بحيث لا يشك أحد من أصحابه في أنه يسوع، فألقي القبض عليه وصلب وقتل، وهو يهوذا الإسخريوطي. الذي واطأ الكهنة على الدلالة على المسيح بأجر[6].

ثانيا. القرآن يقدم على الإنجيل:

يقدم القرآن على الإنجيل في قصة رفع المسيح وفي غيرها، إذا تعارض القرآن والإنجيل؛ لأن:

1.  القرآن هو الكتاب الخاتم الذي أنزل الله فيه الحقيقة، التي لم تعبث بها الأيدي البشرية، أو المجامع الرومانية.

2.  الله فصل فيه كل شيء، وجعله مهيمنا على الكتب السابقة.

3.  الله وعد بحفظه، ونفى عنه التحريف، والعبث، والباطل، فما فيه صدق، لا يحتمل الخطأ.

4.  القرآن كتب والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي، وعرضه جبريل - عليه السلام - عليه عام موته عرضتين.

5.  القرآن لم يزد فيه حرف، ولم ينقص منه حرف طوال أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.

6.  القرآن نقل بالتواتر، وعلى أعلى درجات التواتر، حيث ينقله الجيل عن الجيل والأمة عن الأمة.

أما الإنجيل، فإن الله لم يعد بحفظه، ولم يكتب في حياة عيسى - عليه السلام - وبه الكثير من المتناقضات التي لا يمكن التسليم بأنها من عند الله؛ لأنها تفيد تعددية المصادر التي أخذ منها، ولقد تدخل الحكام والأباطرة على مر التاريخ - لحسم مسائل مهمة في النصرانيةـ في نصوص الإنجيل، فقاموا بإثبات ما يوافق عقيدتهم، وشطب ما يخالفها:

يقول النصارى: بأنه كان يوجد بعد رفع المسيح مباشرة:

·          كتاب يحتوى على أقوال السيد المسيح.

·          وكتاب يحتوي على سيرته.

وأن الأناجيل الأربعة قد جمعت الأقوال والسيرة معا، ثم إن الأقوال قد فقدت، والسيرة أيضا. ويسمون الأقوال "لوجيا" Logia، ويسمون السيرة "كويل" Quelle، وقد حكى الأستاذ عباس محمود العقاد عنهم: أن منهم من يسمى "كويل لوجيا"، والحق: أنهما مختلفان. يقول: "الإنجيل" كلمة يونانية بمعنى الخبر السعيد، أو البشارة. وقد تداول المسيحيون في القرن الأول عشرات النسخ من الأناجيل، ثم اعتمد آباء الكنيسة أربع نسخ منها بالاقتراع - أي بكثرة الأصوات - وهي إنجيل مرقس، وإنجيل متى، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، مع طائفة من أقوال الرسل المدونة في العهد الجديد.

ويرجح المؤرخون المختصون بهذه المباحث أن الأناجيل تعتمد على نسخة آرامية مفقودة، يشيرون إليها بحرف "ك" مختزلة من كلمة كويل Quelle بمعنى "الأصل"[7].

ولقد تتبع الحكام والأباطرة الرومان من يخالفهم الاعتقاد، فقتلوا وأحرقوا الكثير منهم، كما عقدوا العديد من المجامع التي تدرس العقيدة وتقررها حسب أهواء هؤلاء الأباطرة، وتحذف ما يعارضها في هذا الاعتقاد من الأناجيل، ولقد استمر هذا الأمر حتى اليوم، حيث يتم عقد العديد من المجامع - على غرار مجمع نيقية - وحذف الكثير من مواد الإنجيل.

يقول الداعية الإسلامي أحمد ديدات تحت عنوان "كذبة الكتاب المقدس": "لم يسمر عيسى على الصليب، كما سمر الآخران، على العكس من الاعتقاد الشائع، هذا إذا كان فعلا قد صلب! شك توما في صلب المسيح، وقد تكون هذه القصة مجرد اختلاق أثيم، تماما كقصة المرأة التي أمسك بها متلبسة بفعل الزنا، وقد حذفت قصة المرأة هذه من إنجيل يوحنا في النسخة الإنجليزية الحديثة.

يبدأ الإصحاح الثامن لهذا الإنجيل بفقرة (12)، أي كتاب ديني يبدأ بفقرة (12)، لقد أزيلت الفقرات (1ـ 11)؛ لأن الاثنين والثلاثين عالما، والخمسين طائفة تعاونت معهم لتنقيح الكتاب المقدس، ووجدوا أن هذه النصوص مختلقة وكاذبة فأمروا بإزالتها"[8].

وإذا تكلمنا عن التواتر عند نقل النصارى للكتاب المقدس، فإن الواقع يؤكد لنا "أن دعوى التواتر ممنوعة، فإن التواتر عبارة عن إخبار عدد كثير لا يجوز العقل اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب بشيء قد أدركوه بحواسهم إداركا صحيحا لا شبهة فيه، وكان خبرهم بذلك متفقا لا اختلاف فيه، هذا إذا كان التواتر في طبقة واحدة، فإن كان التواتر في طبقات كان ما بعد الأولى مخبرا عنها، ويشترط أن يكون أفراد كل طبقة لا يجوز عقل عاقل تواطؤهم على الكذب في الإخبار عمن قبلهم، وأن يكون كل فرد من كل طبقة قد سمع جميع الأفراد الذين يحصل بهم التواتر ممن قبلهم، وأن يتصل السند هكذا إلى الطبقة الأخيرة، فإن اختل شرط من هذه الشروط لا ينعقد التواتر.

وأني للنصارى بمثل هذا التواتر، والذين كتبوا الأناجيل والرسائل المعتمدة عندهم لا يبلغون عدد التواتر، ولم يخبر أحد منهم عن مشاهدة، ومن تنقل عنه المشاهدة كبعض النساء لا يؤمن عليه الاشتباه والوهم، بل قال يوحنا في إنجيله: إن مريم المجدلية وهي أعرف الناس بالمسيح اشتبهت فيه وظنت أنه البستاني، وهو قد كان صاحب آيات، وخوارق عادات، فلا يبعد أن يلقي شبهه على غيره، وينجو بالشكل بصورة غير صورته، كما رووا عنه أنه قال لهم: إنهم يشكون فيه، وكما قال مرقس: إنه ظهر لهم بهيئة أخرى، ثم إن ما عزى إليهم لم ينقله عنهم عدد التواتر بالسماع منهم طبقة بعد طبقة إلى العصر الذي صار للنصارى فيه ملك، وحرية يظهرون فيها دينهم. وقد بين الشيخ رحمة الله الهندي وغيره انقطاع أسانيد هذه الكتب بالبينات الواضحة.

وإذا كانت الأناجيل ورسائل العهد الجديد قد أثبتت صلب المسيح دون القول بغير ذلك، ودون قبول أي رأي آخر يقول بغير ذلك، فالحق الذي يبدو جليا ولا يحتاج إلى برهان أن هذه الكتب:

1.  لا دليل على عصمتها، ولا على أن كاتبيها كانوا معصومين.

2.  لا دليل على نسبتها إلى من نسبت إليهم؛ لأنها غير متواترة كما تقدم.

3.  معارضة بأمثالها كإنجيل برنابا وترجيحهم إياها على هذا الإنجيل لا يصلح مرجحا عندنا؛ لأنهم اتبعوا في اعتمادها تلك المجامع التي لا ثقة لنا بأهلها، ولا كانوا معصومين عندهم ولا عندنا.

4.  إنها متعارضة في قصة الصلب وفي غيرها.

5.  إنها معارضة بالقرآن العزيز وهو الكتاب الإلهي الذي ثبت نقله بالتواتر الصحيح دون غيره، فقصارى تلك الكتب أن تفيد الظن بالقرائن، كما قال سبحانه وتعالى: )ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157)( (النساء)، والقرآن قطعي فوجب تقديمه؛ لأنه يفيد العلم القطعي[9].

ثالثا. الأدلة العقلية على نفي صلب المسيح:

لا يمكن أن يقبل العقل قصة صلب المسيح لعدد من النتائج التي تترتب عليها، ولعدد من الأسباب هي:

لا يمكن أن يقبل هذه القصة من يؤمن بالدليل العقلي أن خالق العالم لا بد أن يكون بكل شيء عليما، وفي كل صنعه حكيما؛ لأنها تستلزم الجهل والبداء على الباري - عز وجل - كأنه حين خلق آدم - عليه السلام - ما كان يعلم ما يكون عليه أمره، وحين عصى ما كان يعلم ما يقتضيه العدل والرحمة في شأنه، حتى اهتدى إلى ذلك بعد ألوف من السنين مرت على خلقه، كان فيها جاهلا كيف يجمع بين تينك الصفتين من صفاته، وواقعا في ورطة التناقض بينهما، ولكن قد يقبلها من يشترط في الدين عندهم ألا يتفق مع العقل، وأن يأخذ صاحبه بكل ما يسند إلى من نسب إليهم عمل العجائب، ويقول آمنت به، وإن لم يدركه، ولم تذعن له نفسه، ومن ينقلون في أول كتاب من كتبهم الدينية - سفر التكوين - هذه الجملة: "فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه". (التكوين 6: 6)، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا.

· يلزم من يقبل هذه القصة أن يسلم بما يحيله كل عقل مستقل من أن خالق الكون يمكن أن يحل في رحم امرأة في هذه الأرض التي نسبتها إلى سائر ملكه أقل من نسبة الذرة إليها، وإلى سمواتها التي ترى منها، ثم يكون بشرا يأكل ويشرب ويتعب ويعتريه غير ذلك مما يعتري البشر، ثم يأخذه أعداؤه بالقهر والإهانة فيصلبوه مع اللصوص، ويجعلوه ملعونا بمقتضى حكم كتابه لبعض رسله، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا.

·تقتضي هذه القصة أن يكون الخالق العليم الحكيم قد أراد شيئا بعد التفكر فيه ألوفا من السنين، فلم يتم له ذلك الشيء، ذلك أن البشر لم يخلصوا وينجوا بوقوع الصلب من العذاب، فإنهم يقولون: إن خلاصهم متوقف على الإيمان بهذه القصة وهم لم يؤمنوا بها، ولنا أن نقول: إنه لم يؤمن بها أحد قط؛ لأن الإيمان هو تصديق العقل وجزمه بالشيء، والعقل لا يستطيع أن يدرك ذلك، والذين يقولون: إنهم مؤمنون بها يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم تقليدا لمن لقنهم ذلك، فإن سمينا مثل هذا القول إيمانا، نقول: إن أكثر البشر لا يقولون به، بل يردونه بالدلائل العقلية، ومنهم من يرده أيضا بالدلائل النقلية، من دين ثبتت أصوله عندهم بالأدلة العقلية، ومنهم من لم يعلموا بهذه القصة، ومنهم من يقول بمثلها لآلهة أخرى، فإذا عذبهم الله - عز وجل - في الآخرة ولم يدخلهم ملكوته - كما تدعي النصارى - لا يكون رحيما على قاعدة دعاة الصلب والصليب، فكيف جمع بذلك بين العدل والرحمة؟

· يلزم من هذه القصة شيء أعظم من عجز الخالق - تعالى وتقدس - عن إتمام مراده بالجمع بين عدله ورحمته، وهو انتفاء كل من العدل والرحمة في صلب المسيح؛ لأنه عذبه من حيث هو بشر وهو لا يستحق العذاب؛ لأنه لم يذنب قط، فتعذيبه بالصلب والطعن بالحراب - على ما زعموا - لا يصدر من عادل ولا من رحيم بالأحرى، فكيف يعقل أن يكون الخالق غير عادل ولا رحيم، أو أن يكون عادلا رحيما فيخلق خلقا يوقعه في ورطة الوقوع في انتفاء إحدى هاتين الصفتين، فيحاول الجمع بينهما فيفقدهما معا؟

·إذا كان كل من يقول بهذه العقيدة، أو القصة ينجو من عذاب الآخرة كيفما كانت أخلاقه وأعماله، لزم من ذلك أن يكون أهلها إباحيين، وأن يكون الشرير المبطل الذي يعتدي على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم، ويفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، من أهل الملكوت الأعلى لا يعذب على شروره وخطيئاته ولا يجازى عليها بشيء، فله أن يفعل في هذه الدنيا ما شاء هواه، وهو آمن من عذاب الله - وناهيك بهذا مفسدا للبشر - وإذا كان يعذب على شروره وخطيئاته كغيره من غير الصليبيين فما مزية هذه العقيدة؟ وإذا كان له امتياز عند الله - عز وجل - في نفس الجزاء فأين العدل الإلهي؟

· ما رأينا أحدا من العقلاء، ولا من علماء الشرائع والقوانين يقول: إن عفو الإنسان عمن يذنب إليه، أو عفو السيد عن عبده الذي يعصيه، ينافي العدل والكمال، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل، وترى المؤمنين بالله من الأمم المختلفة يصفونه بالعفو، ويقولون: إنه أهل للمغفرة، فدعوى الصليبيين أن العفو والمغفرة مما ينافي العدل مردودة غير مسلمة[10].

رابعا. تعارض أقوال وأفعال المسيح في الإنجيل مع عقيدة الصلب والفداء عند النصارى:

هناك العديد من الشواهد والأدلة الواردة في الإنجيل التي تتعارض مع عقيدة الصلب والفداء عند النصارى، ومن هذه الشواهد:

· أن أصل هذه العقيدة أن المسيح بذل نفسه باختياره فداء، وكفارة عن البشر، مع أن هذه الأناجيل تصرح بأنه حزن واكتأب عندما شعر بقرب أجله، وطلب من الله أن يصرف عنه هذه الكأس. ففي إنجيل متى: "ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي، وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم: نفسي حزينة جدا حتى الموت. امكثوا ههنا واسهروا معي». ثم تقدم قليلا وخر على وجهه، وكان يصلي قائلا:«يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت». ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نياما، فقال لبطرس: «أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف». فمضى أيضا ثانية وصلى قائلا: «يا أبتاه، إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك". (متى 26: 37 - 42). ومثل هذا في لوقا: "لما صار إلى المكان قال لهم: «صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة». وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى قائلا: يا أبتاه، إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس. ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك". (لوقا 22: 40 - 42)، فكيف يقول المسيح هذا وهو إله عندهم، فهل يمكن أن يجهل بما يمكن وما لا يمكن، وأن يطلب إبطال الطريقة التي أراد الآب - وهو هو عندهم - أن يجمع بها بين عدله ورحمته؟!

·       ومن الشواهد عليها مسألة اللصين اللذين قالوا: إنهما صلبا معه، قال مرقس: "وصلبوا معه لصين، واحدا عن يمينه وآخر عن يساره. فتم الكتاب القائل:«وأحصي مع أثمة». وكان المجتازون يجدفون عليه، وهم يهزون رؤوسهم قائلين:«آه يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام! خلص نفسك وانزل عن الصليب!» وكذلك رؤساء الكهنة وهم مستهزئون فيما بينهم مع الكتبة، قالوا: «خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها! لينزل الآن المسيح ملك إسرائيل عن الصليب، لنرى ونؤمن!». واللذان صلبا معه كانا يعيرانه". (مرقس15: 27 - 32).

وكذلك قال متى: "ثم جلسوا يحرسونه هناك. وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة: «هذا هو يسوع ملك اليهود». حينئذ صلب معه لصان، واحد عن اليمين وواحد عن اليسار. وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين: «يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك! إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب!». وكذلك رؤساء الكهنة أيضا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: «خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها! إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به! قد اتكل على الله، فلينقذه الآن إن أراده! لأنه قال: أنا ابن الله!». وبذلك أيضا كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه. (متى 27: 36 - 44).

وأما لوقا فقد سمى الرجلين اللذين صلبا معه مذنبين، ولكنه قال: "وكان واحد من المذنبين المعلقين يجدف عليه قائلا: «إن كنت أنت المسيح، فخلص نفسك وإيانا!» فأجاب الآخر وانتهره قائلا:«أولا أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه؟ أما نحن فبعدل، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئا ليس في محله». ثم قال ليسوع:«اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك». فقال له يسوع:«الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس». (مرقس 23: 39 - 42)، فكانت نبوءة الكتاب - المراد به إشعياء - أنه يصلب مع أثمة بصيغة الجمع، ثم كان الجمع اثنين ولا بأس بذلك، ولكن كيف يقول اثنان من الإنجيليين المعصومين على رأيهم أن الذي عيره وأهانه هو أحدهما، وهما مثله في عصمته؟

ومثل هذه المخالفات والمعارضات في هذه القصة كثيرة، ومن أظهرها مسألة دفنه ليلة السبت، وقيامه من القبر قبل فجر يوم الأحد، مع أن البشارة أنه يكون في بطن الأرض ثلاثة أيام بلياليها، وهي مدة مكث يونس في بطن الحوت، ومنها مسألة النساء اللواتي جئن القبر، وفيها عدة خلافات في وقت المجيء ورؤية الملك... إلخ[11].

إن وقوع التشابه أمر وارد وواقع يراه الناس ويتلمسونه ويدركونه حق الإدراك، فهو يقع في التوءم، ويقع في غيرهما من المتباعدين الذين يسكنون في أقطار شتى، وبيئات متباينة بين أفراد الجنس البشري، ووقوع شبه المسيح على غيره، سواء كان يهوذا أم غيره له ما يقويه وما يعضده من الأدلة، وهو متحقق من وجهين هما:

1.     أنه عهد بين الناس أن يشبه بعضهم بعضا شبها تاما، بحيث لا يميز أحد المتشابهين المعاشرون والأقربون، وقد يكون هذا بين الغرباء كما يكون بين الأقربين، ولعله يقل في الذين يسافرون وينقلبون بين الكثير من الناس من لم يقع له الاشتباه بين من يعرف ومن لا يعرف، وإننا لزيادة البيان نورد قليلا من الشواهد عن الإفرنج الذين يثق دعاة النصرانية عندنا بهم ما لا يثقون بغيرهم؛ لأن هؤلاء الدعاة من أبناء جنسهم أو مقلدتهم.

قال إميل صاحب كتاب "التربية الاستقلالية" حكاية عن كتاب كتبته امرأة الدكتور إراسم إلى زوجها ما نصه: "لقد كثر ما لاحظت أنه يوجد في بعض الأحوال بين شخصين مختلفين في الذكورة والأنوثة والموطن تشابه كالذي يوجد بين أفراد أسرة واحدة، مع أن كلا منهما يكون أجنبيا عن الآخر من كل الوجوه، أتدري من هو الذي حضرت صورته في ذهني عند وقوع بصري على السيدة وارنجتون؟ ذلك هو صديقك يعقوب نقولا، خلتني أراه بذاته في زي امرأة". فهذا مثال لرأي الكاتب في تشابه الناس.

ويوجد في كتب الطب الشرعي حوادث كثيرة في باب تحقيق الشخصيات دالة على أنه كثيرا ما يحدث للناس الخطأ في معرفة بعض الأشخاص، ويشتبهون عليهم بغيرهم، وقد ذكر جاي وفرير مؤلفا كتاب "أصول الطب الشرعي" في اللغة الإنجليزية حادثة استحضر فيها 150 شاهدا لمعرفة شخص يدعى "مارتين جير"، فجزم أربعون منهم أنه هو هو، وقال خمسون: إنه غيره، والباقون ترددوا جدا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا، ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير، وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون، وعاش مع زوجة مارتين محاطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه مدة ثلاث سنوات، وكلهم مصدقون أنه مارتين، ولما حكمت المحكمة عليه - لظهور كذبه بالدلائل القاطعة - استأنف الحكم في محكمة أخرى فأحضر ثلاثون شاهدا آخرون، فأقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين وقال سبعة: إنه غيره، وتردد الباقون، وقد حدثت هذه الحادثة سنة 1539م في فرنسا.. وأمثالها كثير.

وقد بلغ من شبه بعض الأشخاص بغيرهم أن وجد فيهم بعض ما يوجد في غيرهم ممن شابههم من الكسور أو الجروح، أو آثارها وغير ذلك؛ حتى تعسر تمييز بعضهم عن بعض، ولذلك جد الأطباء في وضع مميزات لأشخاص البشر المختلفين.

2.     أن هذه الحادثة من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه عيسى ابن مريم، وأنقذه من أعدائه، فألقى شبهه على غيره، وغير شكله هو فخرج من بينهم وهم لا يشعرون، وفي أناجيلهم وكتبهم جمل متفرقة تؤيد هذا الوجه أشرنا إلى بعضها من قبل، ولا شك أن هذا من الممكنات الخاضعة لمشيئة الله وقدرته.

ويمكن أن يستدل على استجابة الله لدعائه بقول يوحنا حكاية عنه في سياق قصة الصلب: "أجابهم يسوع: ألآن تؤمنون؟ هوذا تأتي ساعة، وقد أتت الآن، تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته، وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي. قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا: أنا قد غلبت العالم". (يوحنا 16: 31 - 33)، وفي هذا المعنى قول متي: " في تلك الساعة قال يسوع للجموع: «كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني! كل يوم كنت أجلس معكم أعلم في الهيكل ولم تمسكوني. وأما هذا كله فقد كان لكي تكمل كتب الأنبياء». حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا. (26: 55، 56)، وقول مرقص: "فأجاب يسوع وقال لهم: «كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني! كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني! ولكن لكي تكمل الكتب». فتركه الجميع وهربوا". (مرقس 14: 48 - 50). فهذا نص في أن التلاميذ كلهم هربوا حين جاء الجند ليقبضوا على المسيح، فلم يكن الذين يعرفونه حق المعرفة هنالك.

ومما يدل على استجابة الله دعوته بأن ينقذه ويعبر عنه تلك الكأس عبارة المزامير التي يقولون: إن المراد بها المسيح، وهذا نصها: "أعني يا رب إلهي خلصني حسب رحمتك وليعلموا أن هذه يدك أنت يا رب فعلت هذا، أما هم فيلعنون، وأما أنت فتبارك، قاموا وخزوا، أما عبدك فيفرح، ليلبس خصمائي خجلا وليتعطفوا بخزيهم كالرداء، أحمد الرب جدا بفمي وفي وسط كثيرين أسبحه؛ لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين على نفسه". (المزامير 109: 26 - 31)، وفي العبارات التي ينسوبنها إلى المسيح شواهد أخرى تدور حول هذا المعنى[12].

خامسا. مصادر مسيحية تؤكد نجاة المسيح من الصلب، ووقوع الصلب على شبيهه:

إن من أشهر وأقدم الأناجيل في الديانة النصرانية إنجيل برنابا، وهو أحد مصادر النصرانية الأساسية قبل انعقاد "مجمع نيقية"، ولقد كان برنابا صاحب هذا الإنجيل من أتباع المسيح القائمين على نشر دعوته، والتبشير باقتراب ملكوت السموات، وقد جاء عنه: "وكان هذا الرجل موثوقا به في الكنيسة ثقة تامة ويندب لوعظ الناس المدعوين للدخول في الدين". (الأعمال 2: 26).

هذا الرجل وجد له إنجيل مدون، وهو عبارة عن قصة للمسيح كإنجيل متى ولوقا، ومرقس، ويوحنا، منقطع السند كما هي منقطعة السند، وهذا الإنجيل يقول فيه مترجمه د. خليل سعادة: تضاربت فيه آراء الباحثين وتشعبت بخصوصه مذاهب المؤرخين وخبطوا فيه بين ضلالة وهدى، وتلمسوا حقيقته بين رشاد وهوى، واستنطقوا الآثار، والأسفار، واستفسروا الأعصار والأمصار، فما ظفروا بعد كل ذلك بما يشفي منهم عليلا، أو يبرد لهم غليلا.

وهذا الإنجيل كانت نسخته بمكتبة الباب - سكتس - بروما واختلسها أسقف يقال له "فرامرينو" حين عثر عليها مصادفة، فقرأها واعتنق الإسلام، وذلك في أواخر القرن السادس عشر، ويقول المترجم في مقدمته: إنه يرى أن كاتب إنجيل برنابا يهودي أندلسي متمكن من الديانة اليهودية والاطلاع عليها قد تنصر واطلع اطلاعا عظيما على النصرانية، ثم أسلم واطلع على الديانة الإسلامية، ويرى أن هذا الحل أقرب إلى الصواب، ثم قال: وبعد كل ما تقدم فإن هذا الإنجيل قد أتى على آيات باهرة من الحكمة وطراز راق من الفلسفة الأدبية وأساليب تسحر الألباب ببلاغتها السامية على ما فيها من البساطة في التعبير، وهو يرمي إلى ترقية العواطف البشرية إلى أفق سام وتنزيهها عن الشهوات البهيمية، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حاثا على الفضائل، مقبحا للرذائل داعيا الإنسان إلى التضحية بنفسه في سبيل الإحسان إلى الناس حتى يزول منه كل أثر للأنانية ويحيا لنفع إخوانه.

وقال ناشره محمد رشيد رضا في مقدمته: "لم نقف على ذكر لإنجيل برنابا في أسفار التاريخ أقدم من المنشور الذي أصدره البابا جلاسيوس الأول في بيان الكتب التي تحرم قراءتها فقد جاء في ضمنها إنجيل برنابا، وقد تولى جلاسيوس البابوية في أواخر القرن الخامس للميلاد أي قبل بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على أن بعض علماء أوربا يرتابون اليوم في ذلك المنشور، كما ذكر د. سعادة في مقدمته والمثبت مقدم على المنفي.

مهما يكن من أمر فإنجيل برنابا واحد من الأناجيل التي ألفت في قصة المسيح، وإن كان يمتاز عن سائرها بالبلاغة، ودقة التعبير، ويصرح بأمور لعلها هي التي زهدت الكنيسة فيه حتى حرمه البابا جلاسيوس، ومن ذلك: التصريح باسم محمد في كثير من المواضع، وإني أنقل عن إنجيل برنابا لا لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ بل لأن روايته للحوادث أبين، واستقصاءه للأخبار أتم، وإن كان في نظري لا تخلو بعض الموضوعات فيه من المبالغات الشعرية.

على أن د. سعادة مترجم إنجيل برنابا قال في مقدمته بعد أن أفاض في الاحتمالات والآراء في إنجيل برنابا: "بيد أن هناك إنجيلا يسمى بـ "الإنجيل الأغنطسي" طمست رسومه، وعفت آثاره، يبتدئ بمقدمة تندد بالقديس بولس، وينتهي بخاتمة فيها مثل ذلك من إنجيل برنابا، فمن المحتمل - أيضا - أن يكون الإنجيل الأغنطسي أبا لإنجيل برنابا. وأقول: ومن المحتمل - أيضا - أن كاتب الإنجيل الأغنطسي ألم بما كتبه برنابا في إنجيله واقتبس منه ما أثبته في إنجيله وأن إنجيل برنابا يصح أن يكون أبا للإنجيل الأغنطسي. ولو أن المسيحيين أبقوا جميع الأناجيل ولم تحرم الكنيسة قراءتها لوصلت إلينا، ولو على نوع من التحريف، ولكن ذلك التحريم أعدم تلك الأناجيل وربما كان فيها الكثير الطيب، وإلا فأين الإنجيل الأغنطسي والأناجيل المذكورة في الأناجيل، وأنها وجدت والأناجيل التي كان الداعون إلى المسيحية كبولس يحذرون الناس من اتباعها كالتي كانوا يقولون إن أصحابها يحرفون إنجيل المسيح[13]؟

ومن المعلوم أن إنجيل برنابا يقرر أن الذي صلب هو يهوذا الإسخريوطي تحديدا، وأن المسيح لم يصلب؛ لذا نجد أن هذا الإنجيل تم استبعاده من قبل الكنيسة، ومن قبل "مجمع نيقية"؛ لأنه يتعارض مع ما يعتنقه الإمبراطور الروماني، والطوائف النصرانية الحاكمة، والموجودة داخل هيكل السلطة، والقوة، والنفوذ، والتغيير، والعجب كل العجب أن تتبع الطوائف النصرانية بولس وتثق به، ولا تتبع برنابا ولا تثق بإنجيله، ومن يراجع صفحة أو صفحات في تاريخ النصرانية، يتبين له الحق، وليقارن بين بولس - صاحب عقيدة الصلب والفداء - وبرنابا - صاحب الإنجيل الشهير - ليجد العجب، حيث كان النصارى لا يثقون ببولس، بل كانوا يعتبرونه عدوا للنصرانية، أما برنابا فكان يقرر أن المسيح لم يصلب، وأن الذي صلب هو يهوذا شبيهه، ولكن النصارى لا يأخذون بقوله؟!

أضف إلى ذلك ما نشرته مجلة "المجلة" في عددها الصادر بتاريخ 9/10/1993م، برقم (712) حول اكتشاف عدد من المخطوطات الضائعة من مكتبة الإسكندرية، كانت بنجع حمادي، وعثروا فيما عثروا على أناجيل مكتوبة بالقبطية، كانت قد دفنت يوم أصدرت روما في القرن الرابع الميلادي أمرها بإحراق الأناجيل غير الأربعة. وقد جاء في الأناجيل القبطية المكتشفة: جاء على لسان بطرس: "إن الذي رأيته سعيدا يضحك هو يسوع الحي، لكن من يدخلون المسامير في يديه وقدميه فهو البديل، فقد وضعوا العار على الشبيه"، وورد فيها أيضا على لسان المسيح: "كان آخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه، كنت أنا في العلاء أضحك لجهلهم"[14].

لا أعلم إلى متى سيكتم النصارى المصادر التي تصرح بعدم صلب المسيح، ووقوع الصلب على شبيهه، وإلى متى لا يعترفون بالحقيقة الواضحة، أم إنهم

كما يقول الله سبحانه وتعالى:

(فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم)

(القصص: ٥٠).

سادسا. اختلاف الأناجيل في مسألة الصلب يؤكد أن المسيح لم يصلب:

لم تختلف الأناجيل الأربعة في مسألة من المسائل كاختلافها في تفصيل مسألة صلب المسيح وقتله، فلا تكاد جزئية من الجزئيات في أحدها تتحد مع الجزئية نفسها في إنجيل آخر، ولما كانت هذه الأناجيل من تأليف قوم يدعي المسيحيون لهم الإلهام ويعتقدون خلوها من الخطأ، كان ينبغي أن تكون كتابتهم في هذه الحادثة المهمة التي هي مناط النجاة، ودعامة الإيمان في نظرهم متطابقة متوافقة بحيث لا يكون فيها اختلاف أصلا، إذ النفس لا تطمئن إلى الأخذ بروايات إذا اتفقت في موضع واحد من قصة جاءت في جميعها فإنها تتخالف في مواضع كثيرة، وإذا لم يكن الراوي أمينا كل الأمانة كانت الثقة بروايته ضعيفة والتصديق بها غير سائغ.

فقد خالف مرقس متى، فزاد في شهادة الشهود عليه قول الشاهدين: "إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأياد.. فسأله رئيس الكهنة أيضا وقال له: أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع: أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسا عن يمين القوة، وآتيا في سحاب السماء". (مرقس 14: 58 - 62)، فخالف متى في هذه المواضع. وقوله: "المبارك" يريد "داود".

وأما لوقا فقد ضرب صفحا عن طلب شهود زور على المسيح، ولم يذكر سوى قول مشيخة الشعب ورؤساء الكهنة: إن كنت أنت المسيح، فقل لنا! فقال لهم: إن قلت لكم لا تصدقو