نص السؤال
استنكار إنزال القرآن مُنَجَّمًا وعدم إنزاله جملة واحدة
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
استنكار إنزال القرآن منجما وعدم إنزاله جملة واحدة(*)
مضمون الشبهة:
اعترض المشركون والكفار على طريقة نزول القرآن منجما[1] على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: لماذا لم ينزل الكتاب على محمد - صلى الله عليه وسلم - جملة واحدة، كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وغيرها من الكتب الإلهية.
قال سبحانه وتعالى:
(وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)
(الفرقان:٣٢).
وجها إبطال الشبهة:
1) الكتب السابقة لم تنزل جملة واحدة.
2) هناك أسباب لنزول القرآن الكريم منجما:
·تنزيل القرآن منجما حسب الوقائع والأحداث ليكون أثبت لقلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأدعى إلى تقوية حفظه وفهمه.
·وكذلك ليكون أيسر على العامل به فلو أخذ المسلمون بجميع الفرائض مرة واحدة لنفروا.
·نزول القرآن منجما فيه مطابقة لمقتضى الحال ومناسبة للمقام وبيان إعجازه.
·وكذلك تلقين النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجة كلما فتحوا له بابا من الجدل.
التفصيل:
أولا. الكتب السابقة لم تنزل جملة واحدة:
هذه الشبهة من معاذير المشركين وتعليلاتهم الفاسدة؛ إذ طعنوا في القرآن بأنه نزل منجما وقالوا: لو كان من عند الله لنزل كتابا جملة واحدة، وهذا القول ظاهر في أنه عائد إلى المشركين، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل، فإنها لم تنزل جملة واحدة، وإنما كانت وحيا مفرقا، فالتوراة التي أنزلت على موسى - عليه السلام - في الألواح هي عشر كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن، وما كان الإنجيل - قبل تحريفه - إلا أقوالا ينطق بها عيسى - عليه السلام - في الملأ، وكذلك الزبور نزل قطعا كثيرة، فالمشركون نسوا ذلك أو جهلوا، فقالوا: هلا نزل القرآن على محمدجملة واحدة فنعلم أنه رسول الله، وقيل: قائل هذا اليهود أو النصارى، فإن صح ذلك فهو بهتان منهم؛ لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة.. فإن تلك الكتب لم تنزل أسفارا تامة قط[2].
ثانيا. علل تنزل القرآن الكريم منجما:
·تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد أجاب الله - عز وجل - عن اعتراض الكفار وتعنت المشركين فيما لا يعنيهم بأن القرآن إنما نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والأحداث وما يحتاج إليه من الأحكام؛ ليثبت به أولا قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - أي يقوي قلبه ليعيه ويتحمله؛
قال سبحانه وتعالى:
(كذلك لنثبت به فؤادك)
(الفرقان: ٣٢).
والفؤاد: هنا العقل، وتثبيته بذلك الإنزال جعله ثابتا في ألفاظه ومعانيه لا يضطرب وجاء في بيان حكمة إنزال القرآن منجما بهذه الكلمة الجامعة (لنثبت به فؤادك)؛ لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل ما به خير للنفس، ومنه ما قاله الزمخشري: الحكمة في تفريقه أن نقوى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه؛ لأن المتلقن إنما يقوي قلبه على حفظ العلم يلقي إليه إذا ألقى إليه شيئا بعد شيء وجزءا عقب جزء، كما أن نزوله منجما أعون لحفاظه على فهمه وتدبره؛ فتكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين،
ولذا قال:
(لتقرأه على الناس على مكث)
(الإسراء: ١٠٦).
·تيسير العمل به:
ومن الحكم العظيمة التي ذكرها الله - عز وجل - لنزول القرآن مفرقا أن من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور معينة، ففرقناه ليكون أوعى للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأيسر على العامل به، ولذا رتلناه ترتيلا؛ أي: شيئا بعد شيء، والترتيل: الترسل والتثبت، فكان كلما نزل وحي جديد زاده قوة في القلب،
قال سبحانه وتعالى:
(ورتلناه ترتيلا)
(الفرقان)
وقال:
(وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)
(الإسراء:106)
والمعنى: أنزلناه منجما مفرقا لما في ذلك من المصلحة، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا وكذلك كان نزوله على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين ليكونوا أوعى لما ينزل فيهم؛ لأنهم بحاجة إلى علمه فيكثر العمل بما فيه وذلك مما يثبت فؤاد النبي ويشرح صدره.
·مطابقة مقتضى الحال:
ومن المصلحة أيضا أنه لو لم ينزل منجما على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام، وهذا من تمام إعجازها، كما أن تنزيله وتحديهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلما نزل شيء منها أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة واحدة، قال سبحانه وتعالى: )ونزلناه تنزيلا(؛ أي: أنزلناه منجما، حسن التأليف، بين الدلالة، منسقا في ألفاظه ومعانيه غير متراكم، فهو مفرق في الزمان فإذا كمل إنزال سورة جاءت آياتها مرتبة متناسبة كأنها أنزلت جملة واحدة، ومفرق في التأليف بأنه مفصل واضح، وفي ذلك إشارة إلى أن ذلك من دلائل أنه من عند الله؛ لأن شأن كلام الناس إذا فرق تأليفه على أزمنة متباعدة أن يعتوره التفكيك وعدم تشابه الجمل[3].
·تلقين النبي الحجة:
ومن علل نزول القرآن مفرقا أنه يثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويطمئنه ويمده بالحجة البالغة كلما فتحوا له بابا من الجدل، وكلما اقترحوا عليه اقتراحا، أو اعترضوا عليه اعتراضا:
(ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا)
(الفرقان:33)
وإنهم ليجادلون بالباطل، والله يرد عليهم باطلهم بالحق الذي يدفعه، والحق هو الغاية التي يريد القرآن تقريرها، وليس مجرد الانتصار في الجدل، ولا الغلبة في المحاجة إنما هو الحق القوي بنفسه، الواضح الذي لا يلتبس به الباطل.
والله - سبحانه وتعالى - يعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالعون في كل جدل يقوم بينه وبين قومه فهو على الحق، والله يمده بالحق الذي لا يعفي على الباطل، فأنى يقف جدلهم لحجة الله البالغة؟ وأنى يقف باطلهم للحق الدامغ الذي يتنزل من عند الله[4].
قال سبحانه وتعالى:
(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل)
(الإسراء: ١٠٥)
وقال سبحانه وتعالى:
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)
(الإسراء:82)
وذلك من حكم نزوله منجما أنه ينزل بالدواء للمؤمنين كلما حزبهم أمر من الشهوات أو الشبهات، ويزداد الظالمون بذلك ضلالا وخسرانا.
الخلاصة:
·نزل القرآن منجما ليكون أيسر على العامل به وأثبت لقلب النبي صلى الله عليه وسلم.
·ماذا لو أخذ المسلمون بجميع الفرائض مرة واحدة؟! أفلا يكون النفور وعدم الاستطاعة هو الغالب في تنفيذهم للفرائض؟
·المتلقن يقوي حفظه وفهمه إذا تلقى الشيء مرة بعد مرة، وهذا ما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته.
·نزول القرآن منجما فيه مطابقة لمقتضى حال المؤمنين، ومناسبة لمقام التشريع.
المراجع
- (*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (الفرقان/ 32). الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (الفرقان/ 32، 33، الإسراء/ 106).
- التنجيم: التفريق، والمقصود أن القرآن نزل مفرقا بحسب الوقائع التي كانت تحدث مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما يحتاج إليه من الأحكام.
- التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، مج9، ج19، ص18 بتصرف.
- التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، ص20 بتصرف.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، مصر، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج5، ص2563.