نص السؤال

استنكار تحويل القبلة

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

استنكار تحويل القبلة(*)

مضمون الشبهة:

استنكر السفهاء من الناس - اليهود والمنافقون ومشركو العرب - تحويل قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى البيت الحرام،

وتعجبوا قائلين:

(ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)

(البقرة: 142)

ألا يثبتون على قبلة واحدة؟!

وجوه إبطال الشبهة:

1)  المشرق والمغرب ملك لله، وله - سبحانه وتعالى - التصرف فيهما كيف شاء.

2)  في تحويل القبلة اختبار وامتحان ليظهر المؤمن من المنافق.

3)  مقولة اليهود ناشئة عن الحسد وكتمان الحق.

4)  لكل أهل ملة قبلتهم التي يتجهون إليها.

5)  الإخبار بقول السفهاء قبل أن يقولوه دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

6)  جوهر الدين في طاعة الله وامتثال أوامره.

التفصيل:

أولا. المشرق والمغرب ملك لله:

من المعلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صلى نحو قبلة بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة، وكانت اليهود قد فرحت بتوجهه نحو بيت المقدس،

فلما أنزل الله:

(قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام)

(البقرة: 144)

ارتاب من ذلك اليهود،

وقالوا:

(ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها)

(البقرة: 142)

وقد وقع لأهل النفاق والريبة شك وزيغ وتخبيط، فأنزل الله جوابا عليهم

قوله عز وجل:

(قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)

(البقرة:142)

فالاتجاهات كلها لله، وملك المشرق والمغرب وما بينهما لله سبحانه، فالحكم والتصرف والأمر كله لله وحده، وليست العبرة بالاتجاه إلى المشرق والمغرب، وإنما العبرة بطاعة الله - عز وجل - وامتثال أمره،

كما قال عز وجل:

(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر)

(البقرة: 177)

فحيثما وجهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده وفي تصرفه، وخدامه حيثما وجهنا وتوجهنا، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله سبحانه الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، فالجهات كلها لله، لا فضل لجهة منها على جهة بذاتها، وإن لله أن يخصص منها ما شاء فيجعله قبلة لمن يشاء:

(قل لله المشرق والمغرب)

(البقرة: 142)

كما أراد الله - عز وجل - أن ينبه أن له - عز وجل - بعبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته عناية عظيمة؛ إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن، وجعل توجههم إلى الكعبة التي هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام،

ولهذا قال:

(قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)

(البقرة:142)

ثانيا. امتحان الناس واختبارهم:

من ردود القرآن على هؤلاء اليهود والمنافقين والمشركين أيضا أن يوضح أن أمر تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فيه امتحان واختبار وفتنة من الله - عز وجل - ليظهر المنافق المرتاب من المؤمن الموقن،

كما قال الله سبحانه وتعالى:

(وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه)

(البقرة: 143)

فقد قال أهل النفاق لما حولت القبلة: ما بال محمد يحولنا مرة إلى ها هنا ومرة إلى ها هنا، وقال بعض المسلمين: كيف بإخواننا الذين ماتوا وقتلوا وكانوا يصلون إلى بيت المقدس؟! وقال أهل الشرك: كما رجع محمد إلى قبلتنا فسيرجع إلى ديننا، أما أهل الإيمان الكامل واليقين الصادق فعلموا أن كل ذلك حق، وأنه من عند الله - عز وجل - وسمعوا له وأطاعوا، ورضوا به وقرت أعينهم.

وإذا فتحويل القبلة شرعه الله لحكم عظيمة؛ منها أن يظهر حال من يتبع الرسول ويطيعه ويستقبل معه حيثما توجه، ممن يرتد عن دينه، وإن كان ذلك الأمر كبيرا وعظيما في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد،

قال عز وجل:

(وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى)

(البقرة: 143)

أما الذين في قلوبهم مرض فإنه كلما حدث أمر أصابهم شك، أما المؤمنون فيحصل لهم اليقين والتصديق، ويزدادون إيمانا مع إيمانهم،

كما قال عز وجل:

(وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون (124) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم)

(التوبة)

وقال عز وجل:

(قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى)

(فصلت: 44)

وقال عز وجل:

(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)

(الإسراء:82)

وأما من مات وقد صلى نحو بيت المقدس فقد وضح الله أن ثواب صلاته لم يذهب هباء، ولا يظلم ربك أحدا،

قال عز وجل:

(وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم)

(البقرة:143)

ثالثا. كتمان اليهود للحق حسدا وعنادا:

من ردود القرآن أيضا على اليهود أنه أبان حسدهم وكتمانهم الحق - وذلك شأنهم وعادتهم - عنادا وكفرا، فهم يعلمون بما في كتبهم عن أنبيائهم أن الله سيوجه نبيه إلى قبلة البيت الحرام، ولهذا تهددهم الله عز وجل،

فقال سبحانه وتعالى:

(وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون)

(البقرة:144)

فهؤلاء اليهود يعلمون صحة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يعرف أحدهم ولده، لكنهم كاتمون للحق،

قال - عز وجل - في الرد عليهم:

(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون)

(البقرة:146)

ومن رد القرآن عليهم أيضا أنه بين أن هؤلاء لو أقيم عليهم كل دليل على صحة ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو أتى لهم بكل آية ما اتبعوه ولا اتبعوا قبلته، فهذه الآيات لا تنفع من ختم الله على قلبه؛

ولذا قال:

(ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض)

(البقرة: 145).

وهذا كما قال - عز وجل - أيضا:

(إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم (97)

(يونس)

وقال أيضا:

(وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)

(يونس:101)

فهؤلاء قوم لا تقنعهم الدلائل ولا تصرفهم الحجج عن عنادهم، بل هم معاندون متعصبون مقلدون لا نظر لهم ولا استدلال.

رابعا. لكل أهل ملة قبلتهم:

بين الله - عز وجل - أن لكل أهل ملة وأهل دين وجهة وقبلة يتجهون إليها، فلليهودي قبلة يتجه إليها، وللنصراني قبلة يتجه إليها، ولكم أيها المسلمون قبلتكم الحق التي تتجهون إليها،

قال عز وجل:

(ولكل وجهة هو موليها)

(البقرة: ١٤٨)

وهذا كقوله عز وجل:

(لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)

(المائدة: 48)

وقوله عز وجل:

(لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه)

(الحج: 67)

وقوله أيضا:

(قل كل يعمل على شاكلته)

(الإسراء:84)

فإذ كان الأمر كذلك، وكان لكل قوم قبلتهم، فأي شبهة من العقل لهؤلاء المشاغبين الطاعنين في النبوة والتشريع!

خامسا. دليل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:

من ردود القرآن القاطعة، والتي هي أكبر دليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما يخص مسألة تحويل القبلة، أن الله - عز وجل - أخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقول السفهاء قبل أن يقولوه، وقد وقع الأمر كما أخبر - سبحانه وتعالى - نبيه، وكما أخبر نبيه الناس.

وهذا دليل من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - ونوع إعجاز للإخبار بالغيب، وكان بإمكان اليهود والمنافقين والمشركين أن يبدلوا كلام الله ويمتنعوا عن قولهم الذي قالوه، ويكذبوا بذلك القرآن فيما أخبر، لكنهم لم يستطيعوا؛ لأنه ليس لهم من الأمر شيء، وهذا قدر الله، والملك ملكه، وهذا كما حدث مع أبي لهب، حيث أنزل الله فيه قرآنا يتلى وأنه سوف يصلى نارا ذات لهب، ومع ذلك لم يأت أبو لهب يوما ليقول - ولو زعما وادعاء -: إنه أسلم وأنه بذلك يكذب ما جاء به محمد.

ولعل من فوائد الإخبار بقول السفهاء قبل وقوعه بالإضافة إلى ما سبق، توطين النفس وتأهيلها لاستقبال ما سيقوله هؤلاء السفهاء وتهوين صدمة القول وتخفيف روعته، والإشارة إلى سفاهة القائل وجهله قبل أن يتكلم بالكلام.

سادسا. جوهر الدين في طاعة الله:

ويبين الله في آيات أخرى - استكمالا لهذا الرد - أن مخ الدين وجوهره ليس أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب لذاته، ولكن البر هو المسارعة في الخيرات والإيمان بالله واتباع أوامره وامتثال طاعته،

قال عز وجل:

(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر)

(البقرة: 177)

- والمعنى: أن الحكمة في هذه المسألة هي طاعة الله - عز وجل - وامتثال أمره والتوجه حيثما وجه واتباع ما شرع، وليس في لزوم التوجه إلى جهة المشرق والمغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه، كما قال - عز وجل - في الأضاحي والهدايا:

(لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)

(الحج: ٣٧).

الخلاصة:

·الكون كله ملك لله بما فيه المشرق والمغرب، وله - سبحانه وتعالى - المشيئة في أن يوجه من يشاء إلى ما يشاء من مشرق الأرض أو مغربها.

·في تحويل القبلة ابتلاء من الله ليظهر المنافق المرتاب من المؤمن الموقن.

·مقولة اليهود ناشئة عن الحسد للمسلمين وكتمان الحق من الاعتراف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي بشرت بها التوارة.

·لكل أهل ملة قبلتهم التي يوجهون إليها فلماذا ينكرون على المسلمين أن تكون لهم قبلتهم الخاصة بهم.

·الإخبار بقول السفهاء قبل أن يقولوه دليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

·الحكمة النهائية من وراء الأحكام والأوامر والنواهي هي اتباع الشرع وامتثال الأمر وهذا هو جوهر الدين.

المراجع

  1. (*) الآية التي وردت فيها الشبهة: (البقرة/ 142). الآيات التي ورد فيها الرد على الشبهة: (البقرة/ 142: 148).