نص السؤال

الزعم أن الإمام أحمد كان متساهلًا في الأسانيد قائلًا بالتشبيه

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

الزعم أن الإمام أحمد كان متساهلا في الأسانيد قائلا بالتشبيه(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين أن الإمام أحمد بن حنبل كان لا يجد حرجا - بتساهله في الأسانيد - من أن يثبت الأحاديث الضعيفة في مسنده، كما روى أحاديث الصفات دونما تأويل؛ لأنها جرت على ما يقول به من التشبيه والتجسيم.

ويهدفون من وراء ذلك إلى وصم الإمام أحمد بما لم يعرف عنه؛ بغية هز صورته وتشويه مسنده عند عامة المسلمين.

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن في سيرة الإمام أحمد بن حنبل ما يشهد له بعظيم منزلته، ورسوخ قدمه، أجمع على توثيقه كبار المعدلين من أئمة المحدثين، وتوثيق علماء الجرح والتعديل له يدحض القول بتساهله في الأسانيد وقبوله أحاديث ضعيفة في مسنده.

2) ليس المراد بالضعيف عند الإمام أحمد الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن؛ إذ لم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب؛ فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه ولا قول صحابي، ولا إجماعا على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس، وتقديم الضعيف الذي بهذا المعنى عند الإمام أحمد على الرأي والقياس أمر مجمع عليه عند الأئمة.

3) ما كان للإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - وهو الذي جرد من نفسه درعا واقية أمام خلفاء بني العباس أن يقول بالتجسيم والتشبيه، ولو كان من القائلين بالتشبيه والتجسيم لما وقع فيما وقع فيه من أمر المحنة، ثم إن هذا التشبيه أو ذاك التجسيم لم ينسب إليه ألبتة من أحد، وإلا لذاع أمره كما ذاع قوله بأن القرآن كلام الله، وهذا ما لم يحدث.

التفصيل:

أولا. إن سيرة الإمام أحمد شاهد صدق يعضد ما أجمع عليه كبار العلماء من عظيم منزلته وتوثيقه في الحديث:

إن سيرة الإمام أحمد بن حنبل لتدلنا على أن الإمام قد ضرب أروع الأمثلة لرجل قلما يوجد له مثيل في دنيا الناس بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، "فلقد نشأ الإمام أحمد بن حنبل في ظل حياة خشنة فقيرة، ولكنه مع هذا امتاز بثلاثة أمور:

الأول: أنه كان عفيف النفس عالي الهمة، لا يقبل الهدايا مع حاجته،ويرفض العطايا مع فقره، وكان يتأبي بنفسه على كل متعة فيها شبهة، وهذا الفقر لم يدفعه إلى الكسل، بل طلب الرزق من مصدره الحلال، فعمل في الحياكة، والتدوين للناس وطرق كل باب شريف في العمل، ورضي بما قسم الله له في حياته، دون نظر لما في أيدي الناس، فكان سليم القلب، نقي السريرة، حامدا لله شاكرا لنعمه.

الثاني: أن فقره لم يمنعه من طلب العلم بل جاهد في تحصيله على قسوة الحياة وقلة الزاد؛ فقد روي أنه لما رحل إلى الكوفة يطلب العلم فيها كان ينام في بيت وتحت رأسه حجر، وفي سفره إلى اليمن لطلب العلم اشتغل مع الحمالين ليرتزق حلالا من عمله وعرقه، ورفض أن يأخذ معونة من الناس.

الثالث: أنه ارتفع على القيم المادية، وجابه الدولة العباسية التي أرادت أن تفرض عليه مسألة خلق القرآن، وصبر على محنة العصبية التي أثارها الفارسيون، بالجهل المتعصب أربعة عشر عاما، وهو موقف فذ فريد لأحمد بن حنبل، فهو مستمسك بالحق مهما كان الأمر، ومهما كان الأذي الذي يناله، وذلك لأنه يعلم أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا"[1].

وقد كان الإمام هو الأمين على تراث السنة الإسلامية، فيقول معبرا عن ثقته في السنة ومنافحا عنها: "وجعل الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - الدال على معنى ما أراد من ظاهره - أي القرآن - وباطنه وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه، وشاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا أعلم الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما أخبر عن معنى ما أراه الله من ذلك بمشاهدتهم، ما قصد له الكتاب، فكانوا هم المعبرون عن ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم "[2].

"ومن هذا النص ندرك:

o      ثقة ابن حنبل في السنة، وإيمانه بوظيفتها.

o      ثقته في حاملي السنة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولذلك شد ابن حنبل على يديه بالسنة وعض عليها بالنواجذ، كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم " [3].

"وإننا لنجد أن صلابة الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن لم تكن من قبيل التعصب للرأي، أو مجابهة رأي شخص برأي مثله، بل كانت مجابهة الباطل بحقيقة الدين فيما نقرأه من مساجلة بينه وبين المعتصم حين سأله:ما تقول في القرآن؟ فأجاب الإمام: هو كلام الله، فسأله: أمخلوق هو أو قديم؟ فيرد الإمام: هو كلام الله، ويصر على أنه كلام الله، فيأمر المعتصم به فيضرب حتى يخر مغشيا عليه، ثم يرمى في السجن.

فكلمة الإمام أحمد " هو كلام الله " كلمة عالم منهجي دقيق فاحص، نير العقيدة، قوي الإيمان، شديد التمسك بالأثر النبوي...، وهي مسألة تعطينا فكرة عن قيمة شخصية الإمام الذي استمسك بالحق الذي آمن به في لحظة عجزت الدولة عن فهم إجابة العلماء، فتهورت وثارت أعصابها، واستعانت بالحديد والنار ليغيروا من مسلك العلماء، فتحداهم إيمان ابن حنبل وصلابة موقفه في الدفاع عما يؤمن به من الحق...

وإذا قيس هذا الموقف مع فقر الشيخ وحاجته أدركنا أن أحمد بن حنبل كان إماما للعلماء، يعطي الدليل على قيمة العالم الذي يقدم للحق أكثر مما يأخذ، ويتحمل في سبيله أذى الجلد.

لقد كان الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - قائدا للشخصية العلمية في المنهج، وحمل الرسالة، وطهارة اليد والضمير، والجلد والصبر على الأذى، حتى كان عامل تركيز للشخصية العلمية الإسلامية، فقويت به قلوب الجماهير على بغض نظام الفسوق والاعتداء على الحق، وزادته قيمة يعتز بها الإسلام على طول التاريخ"[4].

ومعلوم أنه حين أراد الخليفة المأمون - ثم المعتصم من بعده - حمل الإمام أحمد على القول بخلق القرآن - سالكين في سبيل ذلك شتى صنوف التعذيب - كان يقول لهم: "أعطوني شيئا من كتاب الله - عز وجل - أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقول به"[5].

"فلو كان أحمد بن حنبل من الذين يتساهلون في الأسانيد ويقبلون ما هو ضعيف، لقبل ما زورمن أحاديث في ذلك؛ حتى يخرج من هذا المأزق، لكن ذلك لم يحدث، ولم يخطر بباله قط باعتباره حلا للمشكلة أو وسيلة للنجاة من عذاب المعتصم وزبانيته. فأين هذا من الصورة الزائفة التي اخترعها هؤلاء؟![6].

والإمام أحمد بن حنبل كان أشد الناس تعظيما لحرمات الله من كتاب وسنة، وها هو عبد الملك الميموني يقول عنه: "ما رأت عيني أفضل من أحمد بن حنبل، وما رأيت أحدا من المحدثين أشد تعظيما لحرمات الله - عز وجل - وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم - إذا صحت عنده - منه"[7].

ويقول الشافعي - رحمه الله -: "خرجت من بغداد وما خلفت فيها رجلا أفضل ولا أعلم ولا أتقى من أحمد بن حنبل"[8].

ويقول النووي: "هو الإمام البارع المجمع على جلالته وإمامته وورعه وزهادته وحفظه ووفور علمه وسيادته"[9].

قال علي بن المديني: "إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث؛ أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة ".

وعنه أيضا قال: "ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قام أحمد بن حنبل، فقيل له: يا أبا الحسن ولا أبو بكر الصديق؟ قال: ولا أبو بكر الصديق؛ إن أبا بكر الصديق كان له أعوان وأصحاب، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب"[10].

ومما يدل على عدم تساهل ابن حنبل في الأسانيد، أو ذكره أحاديث ضعيفة عن جهل منه، أن قدمه العالية في الحديث تبطل ذلك، فقد قال صالح بن أحمد بن حنبل: قال أبي: طلبت الحديث وأنا ابن ست عشرة سنة، ومات هشيم وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أحفظ ما سمعت منه، ولقد جاء إنسان إلى باب ابن علية ومعه كتب هشيم فجعل يلقيها علي، وأنا أقول: هذا إسناده كذا، وهذا إسناده كذا، فجاء المعيطي وكان يحفظ، فقلت له: أجبه فيها فبقي وأغرب من حديثه ما لم أسمع"[11].

وعن عبد الرحمن بن مهدي أنه رأى أحمد بن حنبل أقبل إليه، أو قام من عنده، فقال: "هذا أعلم الناس بحديث سفيان الثوري"[12].

وقال صالح بن أحمد بن عبدالله بن صالح العجلي عن أبيه: "إن أحمد بن حنبل ثقة، ثبت في الحديث، نزه النفس، فقيه في الحديث، متبع، يتبع الآثار، صاحب سنة وخير"[13].

وعن أبي حفص عمر بن محمد بن رجاء عنه: "سمعت أبا زرعة الرازي يقول: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب".

وعن نوح بن حبيب قال: "رأيت أبا عبدالله أحمد بن حنبل في مسجد الخيف سنة ثمان وتسعين ومائة مستندا إلى المنارة، وجاءه أصحاب الحديث، وهو مستند، فجعل يعلمهم الفقه والحديث، ويفتي الناس في المناسك"[14].

وقد ارتضاه أعلام الحديث وجهابذته، وخرجوا له في دواوينهم، فقد خرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وولداه صالح وعبدالله وغيرهم كثير.

فهل مثل هذا يكون متساهلا في الأسانيد يروي أحاديث ضعيفة؟!

وبالجملة فإننا لا نكاد نجد في سيرة ابن حنبل ولا في أقوال العلماء عنه وشهاداتهم له إلا ما يدل على عظيم منزلته، وعلو قدره، وسعة علمه، مما جعل بعضهم يقول: "أحمد بن حنبل محنة، به يعرف المسلم من الزنديق".

ثانيا. الحديث الضعيف الذي أخذ به الإمام أحمد هو الحديث الحسن عند علماء الحديث:

أشار العلماء إلى أن الضعيف الذي يعتمد عليه الإمام أحمد، ويقدمه على رأي الرجال إنما هو الضعيف الذي يرتقي إلى درجة الحسن، وليس الضعيف المتروك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة): "وأما نحن فقولنا: إن الحديث الضعيف خير من الرأي، ليس المراد به الضعيف المتروك، وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي إما صحيح، وإما ضعيف، والضعيف نوعان: ضعيف متروك، وضعيف ليس بمتروك، فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح، فجاء من لم يعرف إلا اصطلاح الترمذي، فسمع قول بعض الأئمة: الحديث الضعيف أحب إلى من القياس، فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي، وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع للحديث الصحيح، وهو في ذلك من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه"[15].

قال ابن القيم: "ليس المراد بالضعيف عنده - يعني الإمام أحمد بن حنبل - الباطل، ولا المنكر، ولا ما روايته متهم، بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه، ولا قول صاحب، ولا إجماعا على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس.

وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة، فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس" [16].

وقال بتفسير شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم للضعيف عند الإمام أحمد فضيلة الشيخ محمد أديب الصالح؛ حيث قال: "إن الضعيف الذي يقدمه أحمد بن حنبل على الرأي ليس الضعيف على الاصطلاح المشهور، وهو الذي لم يجمع صفات القبول التي هي شروط الصحيح والحسن، والذي هو القسم الثالث من أقسام الحديث، على رأي المتأخرين، وإنما هو الضعيف الذي يقابل الصحيح في اصطلاحه هوـ اصطلاح المتقدمين - إذ الخبر عندهم قسمان:

·       صحيح

·       ضعيف

وإنما كان الضعيف كذلك؛ لأنه ضعف عن درجة الصحيح، فيشمل الحديث الحسن"[17].

"وقد تلقى كثير من أهل العلم كلام العلامة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بالقبول والتأييد، بناء على أن الترمذي هو الذي شهر هذا التقسيم للحديث من حيث القبول والرد - أعني: الصحيح والحسن والضعيف - بحيث أصبح إطلاق أحد هذه الأقسام يفيد حكما محددا، لا يتداخل مع غيره، وهذا لا يتنافى مع مجرد ورود ذكر الحديث الحسن، أو الرجل حسن الحديث في كلام المتقدمين؛ لأنه لا يشترط أن يكون الحسن الاصطلاحي"[18].

وبهذا يتضح لنا أن هؤلاء العلماء عندما جوزوا الاحتجاج بالحديث الضعيف لم يقصدوا به الضعيف بمصطلحه المعروف بيننا، وهو الضعيف الواهي أو المتروك، لكنهم قصدوا به الحسن الذي ينجبر بغيره من الشواهد، أو الذي يوافق نصوص القرآن، وتتلقاه الأمة بالقبول.

فهذا القسم - فقط - هو ما أجمع أئمة أهل العلم - ومنهم الإمام أحمد - على تقديمه على الرأي في الأحكام بما تشمله من حلال وحرام، وما يقتضيه ذلك من دقة في النقل والاستشهاد؛ إذ توافرتا في الإمام أحمد - رحمه الله - بشكل لا يتصور معه أن يتطرق لمسنده حديث ضعيف.

وفي النهاية، فإن رواية الإمام أحمد مثل هذا النوع من الحديث لا يعد تساهلا في الرواية أو أنه يروي الضعيف؛ لأن ذلك مذهب العلماء جميعا ولا غبار عليهم فيه.

ثالثا. لم يقل الإمام أحمد بالتشبيه والتجسيم قط وكان يعتبره خروجا على العقيدة الصحيحة:

إن من المعلوم الذي لا مراء فيه لدى علماء السنة أن "الإمام أحمد بن حنبل التزم في مسائل الاعتقاد بالمنقول، ولم يستخدم ما تنتجه العقول؛ ذلك أنه كان رجل سنة، ولم يكن رجل فلسفة، فما كان يعتمد على القضايا الفلسفية والمنازع العقلية، وأنه فوق ذلك يعتقد أن العقول تتقاصر عما وراء المشاهد المحسوس، فالناس من عهد الفلاسفة اليونانيين إلى اليوم، وهم في قول مختلف بالنسبة لأمور الغيب أو لما وراء الطبيعة - كما يقولون - أو لما وراء المحسوس كما نقول"[19].

وها هو الإمام أحمد نفسه يقول: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه الصحابة، وترك البدع، وترك الخصومات، وترك الجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال"[20].

كما نقل عنه ابن تيمية في كتابه "مجموع الفتاوى" قوله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العليا ويعلمون أنه )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى) لا في صفاته ولا في ذاته ولا في أفعاله. إلى أن قال: وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وهو الذي كلم موسى، وتجلى للجبل فجعله دكا، ولا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمة أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمع أحد ولا بصره، ولا كتكليمه تكليم أحد، ولا كتجليه تجلي أحد" [21].

وها هو - رحمه الله - يعلنها صريحة فيقول رادا على كل من اتهمه بهذه التهمة: "لست أتكلم إلا ما كان من كتاب أو سنة أو عن الصحابة والتابعين، وأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود"[22].

فالإمام أحمد بن حنبل إذا اعتمد من النص الذي قام الدليل القاطع على أنه من عند الله، وعلى كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي قام الدليل القاطع على أنه ينطق عن الله، قد آوى إلى ركن حصين، وابتعد عن متاهات العقل وأوهامه، ولم يشغل نفسه إلا بما فيه جدوى من العلم الذي ينفع الناس في أعمالهم، ومعاشهم ومعادهم، فترك ما لا فائدة فيه إلى ما فيه الفائدة[23].

كما أنه أثبت لله تعالى كل ما جاء ذكره في القرآن والحديث من صفات، فهو يصف الله تعالى بأنه سميع بصير متكلم قادر مريد عليم خبير لطيف، عزيز حكيم، )ليس كمثله شيء(، ويذكر كل ما وصف به الله تعالى ذاته من غير تأويل، وكذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى عنه ابنه عبد الله أنه قال في أحاديث الصفات: "هذه الأحاديث نرويها كما جاءت"[24].

ففي حديث «ينزل الله إلى السماء الدنيا»[25]، كان مذهبه فيه أنه لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين؛ لقوله سبحانه وتعالى: )لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (23)( [الأنبياء]، "وروى عن حرب قال: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الحديث والأثر وأهل السنة المعروفين بها، وهو مذهب أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، والحميدي، وغيرهم. كان قولهم: إن الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى)"[26].

فالإمام أحمد "لا يبحث عن كنه الصفات وحقيقتها، ويعتبر التأويل خروجا على السنة والقرآن، وإن لم يكن مستمدا من أحدهما بالنص؛ وذلك لأنه يرى أن اتباع المتشابه ابتغاء للفتنة وابتداع في الدين؛ ولذلك يقول - رحمه الله -: صفة المؤمن إرجاء ما غاب عنه من الأمر إلى الله، كما جاءت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يضرب لها الأمثال"[27].

ومما يقوي نفي التجسيم والتشبيه عن الإمام أحمد، "أنه حبس وامتحن، فضرب بسبب امتناعه من القول بخلق القرآن، وكان المأمون والمعتصم والواثق - وهم خلفاء عصره - على رأي المعتزلة، فلو كان مجسما لأظهر ذلك، كما أظهر القول بأن القرآن غير مخلوق، مع تكفيرهم له بذلك، ولو أظهر التجسيم لذكر ذلك، وضرب عليه، فإنه أعظم من مسألة القرآن.

وأيضا كانوا في مناظرتهم له يلزمونه التجسيم والتشبيه، وهو لا يلتزمه، فلو كان متظاهرا به لما احتاجوا إلى إلزامه، ولصرح به كما صرح بأن القرآن غير مخلوق، وناظر عليه مع التعذيب الذي هو أشد من القتل، وفي هذا أعظم براءة له ولأئمة الحديث من التهمة بالتشبيه والتجسيم[28].

يقول ابن قدامة المقدسي شيخ الحنابلة في خطبة كتابه "الكافي": "الحمد لله الواحد القهار... الذي امتنع عن تمثيل الأفكار، وارتفع عن الوصف بالحد والمقدار..."[29]، فكيف تراهم يفتتحون كتبهم بنقيض مذهبهم ومذهب إمامهم؟! ويقول الإمام أحمد: "من قال عن الله إنه جسم لا كالأجسام كفر".

 وقال ابن تيمية - وهو علم على مذهب الحنابلة -: "لا ريب أن أهل السنة والجماعة والحديث من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم فمتفقون على تنزيه الله تعالى عن مماثلة الخلق، وعلى ذم المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه، ومتفقون على أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله - عز وجل - بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات، قال تعالى: )ليس كمثله شيء( فهذا رد على الممثلة، )وهو السميع البصير(، رد على المعطلة...، ولكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات مشبها، بل المعطلة المحضة الباطنية نفاة الأسماء يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبها "[30].

يقول ابن القيم:

لسنا نشبه ربنا بصفاتنا

إن المشبه عابد الأوثان

كلا ولا نخليه من أوصافه

إن المعطل عابد البهتان

من شبه الله العظيم بخلقه

فهو الشبيه بمشرك نصراني

أو عطل الرحمن من أوصافه

فهو الكفور وليس ذا إيمان[31]

فهذا اعتقاد أحمد بن حنبل، والحنابلة، فأين القول بالتجسيم والتشبيه في عقيدتهم؟!

الخلاصة:

·   إن السيرة الذاتية للإمام أحمد بن حنبل لتدلنا على أنه كان طرازا نادرا من الرجال قلما يوجد له مثيل في دنيا الناس بعد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقد نشأ الإمام أحمد بن حنبل في ظل حياة خشنة فقيرة، ولكنه مع هذا امتاز بعفة النفس وعلو الهمة، لا يقبل الهدايا مع حاجته، ويرفض العطايا مع فقره، وكان يتأبى بنفسه على كل متعة فيها شبهة، وهذا واضح جدا من خلال مجابهته للدولة العباسية التي أرادت أن تفرض عليه مسألة خلق القرآن.

·   لو كان الإمام أحمد بن حنبل ممن يتساهل في الأسانيد كما زعم هؤلاء، لأفلت من العذاب بتزوير حديث واحد يؤيد موقفه بأن القرآن غير مخلوق، لكن هذا لم يحدث، فأين هذا من الصورة الزائفة التي اخترعها هؤلاء للنيل من الإمام أحمد وتشويه مذهبه؟!

·   من المعلوم أن معظم الأحاديث التي دونت في مسند الإمام أحمد مما يصح الاحتجاج بها؛ لأنها إما صحيحة أو حسنة، وفيه أحاديث كثيرة في الصحيحين، وغيرهما من كتب السنة المعروفة. لقد قرر ابن تيمية أن الحديث الضعيف في نظر الإمام أحمد والذي يقبله هو من قبيل الضعيف الذي يرتفع إلى مرتبة الحسن، فقد كان أحمد يعتبر الضعيف قسيم الصحيح، وكان هذا قبل مجيء الترمذي وتقسيمه للحديث إلى: صحيح وضعيف.

·   إن توثيق علماء الجرح والتعديل لأحمد بن حنبل واعتباره ثبتا في الحديث يعد خير شاهد على عدم تساهله في الأسانيد، أو روايته أحاديث ضعيفة دون تمحيص كما يدعي هؤلاء وإلا لما اعتبر ثقة ثبتا يقبل حديثه، لاسيما وأنهم لم يحابوا أحدا قط مهما كان.

·   إن القول بأن الإمام أحمد بن حنبل قد قال بالتشبيه والتجسيم يعد ضربا من الخيال، فبالرجوع إلى أقواله نجد أنه - رحمه الله - يقول: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل". فهذا هو منهجه يخلو من التشبيه والتجسيم الذي نسبه إليه هؤلاء.

وأخيرا، فإن الإمام أحمد بن حنبل بوصفه إماما من أئمة أهل السنة كان يعتبر التشبيه والتجسيم خروجا على الإسلام، ودليل ذلك هذه المحنة التي تعرض لها، ومعلوم أنه حبس وضرب بسبب امتناعه عن القول بخلق القرآن، وكان المأمون والمعتصم والواثق - وهم خلفاء عصره - على رأي المعتزلة، فلو كان أحمد مجسما ومشبها لذكر ذلك وأظهر، كما أظهر قوله بأن القرآن غير مخلوق، ولكن هذا لم يحدث؛ لأنه لو حدث لما توانى أعداء الإمام عن إذاعته وهو أعظم من مسألة خلق القرآن.

 المراجع:


(*) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1429هـ/ 2008م. أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو رية، مطبعة صور الحديثة، بيروت، ط2، 1383هـ/1964م. كيف ولماذا التشكيك في السنة، أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، ط1، 1428هـ/ 2007م. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين، رءوف شلبي، دار الطباعة الحديثة، القاهرة، 1987م. دفاع عن السنة، محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1428هـ/ 2007م. دفاع عن الحديث النبوي، أحمد عمر هاشم، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1421هـ/2000م. السنة النبوية وعلومها، أحمد عمر هاشم، مكتبة غريب، القاهرة، ط2، د. ت.

[1]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين، د. رءوف شلبي، دار الطباعة الحديثة، القاهرة، 1987م، ص222:221.

[2]. طبقات الحنابلة، أبو الحسين ابن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (2/63).

[3]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين، د. رءوف شلبي، دار الطباعة الحديثة، القاهرة، 1987م، ص222 بتصرف.

[4]. السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين، د. رءوف شلبي، دار الطباعة الحديثة، القاهرة، 1987م، ص229،228.

[5]. مناقب الإمام أحمد، ابن الجوزي، ص401.

[6]. كيف ولماذا التشكيك في السنة، أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص56.

[7]. مناقب الإمام أحمد، ابن الجوزي، ص229 .

[8]. مناقب الإمام أحمد، ابن الجوزي، ص145.

[9]. تهذيب الأسماء واللغات، النووي، ط1، ص141.

[10]. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (4/418).

[11]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (1/447).

[12]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (1/450).

[13]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (1/453).

[14] . تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (1/458،457).

[15]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/2004م، (4/154).

[16]. إعلام الموقعين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف، دار الجيل، بيروت، د. ت، (1/31).

[17]. لمحات في أصول الحديث، د. محمد أديب الصالح، ص 198، نقلا عن: القول المنيف في حكم العمل بالحديث الضعيف، فواز أحمد زمرلي، دار ابن حزم، لبنان، ط1، 1415هـ/1995م، ص37.

[18]. حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، أشرف بن سعيد، مكتبة السنة، القاهرة، ط1، 1412هـ/1992م، ص89.

[19]. تاريخ المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1996م، ص506.

[20]. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، الذهبي، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1407هـ/ 1987م، (18/ 87).

[21]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية،، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (5/257).

[22]. تاريخ الإسلام، الذهبي، تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1407هـ/ 1987م، (18/ 90).

[23]. تاريخ المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1996م، ص506.

[24]. ذيل طبقات الحنابلة، ابن رجب، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1425هـ، (1/191).

[25]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: صلاة المسافرين وقصدها، باب: الترغيب في الدعاء والتذكير في آخر الليل والإجابة فيه،(3/1341)، رقم (1742) .

[26]. مجموع الفتاوى، ابن تيمية،، تحقيق: أنور الباز وعامر الجزار، دار الوفاء، مصر، ط3، 1426هـ/ 2005م، (5/393).

[27]. تاريخ المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1996م، ص505، 506.

[28]. العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1429هـ/ 2008م، (1/709).

[29]. الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، ابن قدامة المقدسي، دار العقيدة، القاهرة، د. ت، (1/15).

[30]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (2/232،231).

[31]. نونية ابن القيم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط2، 1417هـ، (1/202).