نص السؤال
اتهام البخاري بالتعصب والانتصار للمهدوية
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
اتهام البخاري بالتعصب والانتصار للمهدوية(*)
مضمون الشبهة:
يتهم بعض المغرضين الإمام البخاري بالتعصب والانتصار للمهدوية، ويستدلون على ذلك بأن البخاري ساق في صحيحه حديث: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه».
ثم قالوا: وهذا الحديث لا يصح؛ لأنه يكشف عن تعصب البخاري وانتصاره للمهدوية.
زاعمين أن هذا الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الكبير من طريق "محمد بن إسحاق"، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليسوقن رجل من قحطان الناس بعصا» وقد حكم عليه بالضعف.
قائلين: طالما أن رواية الطبراني غير صحيحة فلا شك أن رواية البخاري كذلك.
رامين من وراء ذلك إلى التشكيك فيما رواه البخاري في صحيحه.
وجها إبطال الشبهة:
1) الحديث الذي استدل به المشككون على اتهام البخاري بالتعصب للمهدوية ليس له أدنى علاقة بالمهدي، والمقصود بالرجل القحطاني في الحديث رجل آخر غير المهدي، ومع ذلك فالمهدي حقيقة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ذكرها البخاري لكان محقا أيضا وليس متعصبا.
2) لا علاقة بين سند البخاري لهذا الحديث وسند الطبراني؛ إذ إن رجال سند البخاري كلهم ثقات عدول لا يشوبهم شائبة، أما رجال سند الطبراني فليسوا كذلك.
التفصيل:
أولا. لا علاقة بين حديث القحطاني وأحاديث المهدي:
حديث «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه»[1] لا علاقة له بأحاديث المهدي، بل هو من دلائل النبوة، رواه البخاري بإسناد كالشمس لا غبار عليه، ثم جاء هؤلاء المشككون وزعموا أن الحديث ضعيف؛ لأنه يعضد مهدوية البخاري.
والحقيقة أن المهدي المنتظر حق، وأنه سيظهر آخر الزمان - كما سنوضحه إن شاء الله - لكن الحديث الذي استدل به المشككون لا علاقة له بأحاديث المهدي، وهذا يدل على قصر نظرهم للحديث وفهمهم، فحديث القحطاني الذي استدلوا به قد "ساقه العلماء في بيان ما يقع من الفتن، وقد حمله العلماء على ما يقع من العسف والجور في آخر الزمان كما قال القرطبي، وجمع الحافظ ابن حجر بينه وبين أحاديث تخريب الكعبة على يد ذي السويقتين من الحبشة"[2].
قال ابن حجر العسقلاني: "ولعله جهجاه المذكور في الحديث الآخر، وأصل الجهجاه: الصياح، وهي صفة تناسب ذكر العصا. قلت: ويرد هذا الاحتمال إطلاق كونه من قحطان فظاهره أنه من الأحرار، وتقييده في جهجاه بأنه من الموالي ما تقدم أنه يكون بعد المهدي وعلى سيرته، وأنه ليس دونه، ثم وجدت في كتاب "التيجان لابن هشام" ما يعرف منه - إن ثبت - اسم القحطاني وسيرته وزمانه، فذكر أن "عمران بن عامر" كان ملكا متوجا، وكان كاهنا معمرا وأنه قال لأخيه "عمرو بن عامر" المعروف "بمزيقيا" لما حضرته الوفاة: إن بلادكم ستخرب، وإن لله في أهل اليمن سخطتين ورحمتين: فالسخطة الأولى: هدم سد مأرب وتخرب البلاد بسببه. والثانية: غلبة على أرض اليمن. والرحمة الأولى: يعيشه نبي من تهامة اسمه محمد - صلى الله عليه وسلم - يرسل بالرحمة ويغلب أهل الشرك، والثانية: إذا خرب بيت الله يبعث الله رجلا يقال له شعيب بن صالح فيهلك من خربه، ويخرجهم حتى لا يكون بالدنيا إيمان إلا بأرض اليمن.
وقد تقدم في الحج أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج، وتقدم الجمع بينه وبين حديث " لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت، وأن الكعبة يخربها ذو السويقتين من الحبشة " فينتظم من ذلك أن الحبشة إذا خربت البيت خرج عليها القحطاني فأهلكهم، وأن المؤمنين قبل ذلك يحجون في زمن عيسى - عليه السلام - بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم، وأن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين تبدأ بمن بقي بعد عيسى - عليه السلام - ويتأخر أهل اليمن بعدها.. وقد أخرج مسلم حديث القحطاني عقب حديث تخريب الكعبة ذو السويقتين، فلعله رمز إلى هذا "[3].
فهذا الحديث مع صحته التي لا شك فيها فإنه لا يتحدث عن المهدي الذي قد توهموه، وإنما هو يتحدث عن هذا الرجل القحطاني الذي لا علاقة له بالمهدي.
وبهذا سقط استدلالهم بهذا الحديث على تعصب البخاري للمهدي، ومما يؤكد عدم تعصبه - أيضا - أن المهدي حقيقة لا مراء فيها، ومع ذلك لم يذكرها في صحيحه، فقد نصت الأحاديث الصحيحة على أن المهدي رجل صالح من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي آخر الزمان، وقد ملئت الأرض ظلما وجورا، فيملؤها قسطا وعدلا، ويبعث الله تعالى من يمهد ويوطئ لبيعته وإمامته، وذلك حين تكون رقاب الناس خالية من بيعة لخليفة. وهو عند أهل السنة والجماعة بشر من البشر ليس بنبي ولا معصوم[4].
ومن الأحاديث الصحيحة التي وردت في ذلك:
1. عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة»
[5].
2. عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
«يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطى المال صحاحا، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعا أو ثمانيا، يعنى حججا»
[6].
3. عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلما وعدوانا، قال: ثم يخرج من عترتي أو من أهل بيتي من يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا»
[7].
4. عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
«لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا»
[8].
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت في كتب السنة تؤيد نزول المهدي، فهذه حقيقة ينبغي التسليم بها، وذكرها لا يعنى التعصب لها.
ونخلص من هذا أن البخاري لم يكن متعصبا للمهدوية كما ادعى هؤلاء؛ لأنها حقيقة صحيحة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بالصحيح الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعني التعصب وإنما يعني التمسك بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - علاوة على أن البخاري لم يشر إلى المهدوية في صحيحه وإنما ذكر الرجل القحطاني الذي يسوق الناس بعصاه وهو غير المهدي كما سبق أن بينا، فأين التعصب للمهدي إذن؟!
ثانيا. لا علاقة بين سند البخاري وسند الطبراني، فلماذا الخلط؟!
إن المشتبهين عمدوا إلى رواية أخرجها الطبراني في المعجم الكبير من طريق "محمد بن إسحاق" عن عبد الله بن أبي بكر عن سالم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليسوقن رجل من قحطان الناس بعصا»[9].
وزعموا أنها هي نفس رواية البخاري حيث قالوا: وقد أخرج السيوطي في "الجامع الصغير" حديث البخاري هذا، قال الهيثمي: "فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، والحسين بن عيسى بن ميسرة لم أعرفه[10].
ولكن ما علاقة البخاري بهذا الإسناد، والبخاري لم يخرج الحديث من هذا الطريق؟! لقد أخرجه بلفظ آخر، وبإسناد آخر صحيح، وهو عن عبد العزيز بن عبد الله حدثني سليمان عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة:
«لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه»
[11].
وإذا كان السيوطي قد أشار إلى ضعف سند هذا الحديث بقوله: ومحمد بن إسحاق مدلس، فإن متن الحديث جاء صحيحا في رواية البخاري ومسلم، ولذا صحح الألباني حديث الطبراني، وذلك لثبوته من طريق صحيح عند الشيخين؛ فقد رواه أيضا الإمام مسلم في صحيحه من طريق قتيبة بن سعيد عن عبد العزيز بن محمد عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه[12].
فكيف يكون الحديث ضعيفا وقد أخرجه الشيخان في صحيحيهما؟!
ومن هذا يتبين أن سند البخاري يختلف عن سند الطبراني تماما، فرجال البخاري كلهم ثقات عدول لا يختلف عليهم اثنان، وقد رواه مسلم أيضا عن طريق رجاله كلهم ثقات عدول، أما الطبراني فرجال إسناده ليسوا كذلك، ولا يضر سند البخاري ضعف سند الطبراني، فلماذا الطعن؟!
الخلاصة:
· إن الحديث الذي استدل به المشككون على اتهام البخاري بالتعصب والانتصار للمهدوية، لا علاقة له على الإطلاق بالمهدي، فالرجل القحطاني الذي تحدث عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا رجل آخر غير المهدي، وهذا الحديث ساقه العلماء في بيان ما يقع من الفتن في آخر الزمان، وقد حملوه على ما يقع من الظلم والجور في آخر الزمان.
· هذا الحديث الذي رواه البخاري حديث صحيح، إسناده كالشمس، لا غبار عليه، وإن كان السيوطي قد ضعف حديث الطبراني فإنه ليس شرطا؛ لأن الطريق الذي رواه به البخاري غير الطريق الذي رواه بهالطبراني، فالإسناد مختلف، وعليه فلا علاقة للبخاري بإسناد الطبراني إن كان ضعيفا، غير أن الألباني قد صحح حديث الطبراني في صحيح الجامع بمجموع طرقه وشواهده التي ورد بها في الصحيحين والطريق الأخرى التي رواها عن أبي هريرة رضي الله عنه.
· إن خلافة المهدي في آخر الزمان حقيقة لا مراء فيها، والمهدي رجل صالح من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي آخر الزمان وقد ملئت الأرض ظلما وجورا، فيملؤها قسطا وعدلا، ثم ينزل عيسى - عليه السلام - فيقتل الدجال، وقد بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة صحيحة، أخرجت عن جمهرة من الصحابة الكرام.
· لذلك فالإيمان به والاعتقاد بموجبه أمر واجب على المسلمين جميعا بما فيهم البخاري نفسه، فلو افترضنا صحة ما تزعمون من ذكر البخاري لأحاديث المهدي فإن هذا لا يدل على تعصبه وانتصاره للمهدوية؛ لأن هذا لا يتعدى أن يكون مجرد رواية قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحيح، وليس اختراعا من عنده هو.
ومن خلال هذا يتبين أنه لا دليل ولا حجة على اتهام البخاري بالتعصب والانتصار للمهدوية.
المراجع:
(*) السنة النبوية بين كيد الأعداء وجهل الأدعياء، حمدي عبد الله عبد العظيم الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ، القاهرة، ط1، 2007م.
[1]. صحيح البخاري ( بشرح فتح الباري)، كتاب: المناقب، باب: ذكر قحطان، (6/630)، رقم (3517). مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفتن، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، (9/4010)، رقم (7175).
[2]. الغارة على السنة النبوية، د. الحسن العلمي، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة، 1424هـ، ص45.
[3]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (13/84).
[4] . المهدي المنتظر وأدعياء المهدية، محمد بيومى، مكتبة الإيمان، مصر، ط1، 1416هـ/ 1995م، ص5.
[5] . صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: الفتن، باب: خروج المهدي، (2/1367)، رقم (4085). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (4085).
[6] . صحيح: أخرجه الحاكم فى المستدرك، كتاب: الفتن والملاحم، (4/ 601)، رقم (8673). وصححه الذهبي في تعليقه على المستدرك والألباني في الصحيحة برقم (711).
[7] . صحيح: أخرجه أحمد فى مسنده، مسند أبي سعيد الخدري، رقم (11331). وقال الأرنؤوط فى تعليقه على المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[8] . صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: المهدي، (11/251)، رقم (4275). وصححه الألبانى فى صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (4283).
[9]. ضعيف: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، كتاب: العين، باب: عبد الله بن عمر بن الخطاب، (12/308)، رقم (13198).
[10]. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهيثمي، دار الفكر، بيروت، 1412هـ، (5/241).
[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الفتن، باب: تغير الزمان حتى تعبد الأوثان، (13/82)، رقم(7117).
[12]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، (9/4011)، رقم (7175).