نص السؤال
كيف يكونُ الإيمانُ باللهِ حرِّيَّةً، مع أن هذا الإيمانَ له لوازمُ ومقتضَياتٌ يجبُ الالتزامُ بها مِن الطاعةِ والالتزامِ بالأمرِ والنهي؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
لا شكَّ أن الحرِّيَّةَ مِن المطالبِ العزيزةِ للإنسان، لكنَّ الإشكالَ إنما يقَعُ في مفهومِ هذه الحرِّيَّة؛ فقد وقَعَ الخلطُ في مفهومِ هذا المصطلَحِ عند كثيرٍ مِن الناس.
والمشكِلةُ الأكبرُ حين تُعارَضُ بها حقائقُ ثابتةٌ؛ فتُضرَبُ الحقائقُ بعضُها ببعض، ولا يُفهَمُ بعضُها في ضوءِ بعض.
ويُمكِنُ أن نشيرَ في ذلك إلى ما يلي:
1- الحقيقةُ تثبُتُ بالأدلَّة، ولا يُمكِنُ معارَضتُها بمخالَفتِها بعضَ الرغَباتِ الإنسانيَّة:
كما أن طلوعَ الشمسِ في النهارِ حقيقةٌ، ولو كان هذا لا يناسِبُ بعضَ الناس.
فاللهُ تعالى ثبَتَ وجودُهُ بالأدلَّةِ القطعيَّةِ المتنوِّعة؛ وعلى ذلك فينبغي فهمُ الحرِّيَّةِ وإنزالُها منزلتَها بما لا يخالِفُ هذه الحقيقةَ؛ فإن الحقائقَ لا تتعارَضُ.
2- هناك قيودٌ لا ينفكُّ عنها الإنسانُ اضطرارًا أو اختيارًا:
فالإنسانُ له حدودٌ بسببِ محدوديَّةِ قوَّتِهِ أو ملكِهِ؛ فهو لا يُمكِنُ أن يطيرَ بمجرَّدِ يدَيْه، أو يعيشَ بغيرِ أكلٍ وشرب.
وكذلك هناك القيودُ القانونيَّةُ والاجتماعيَّةُ وغيرُها، والتي لا تستقيمُ حياةُ الإنسانِ إلا بها، ومهما كانت هناك مِن قوانينَ خاطئةٍ؛ فهناك قوانينُ ضروريَّةٌ تَحفَظُ حياةَ الناسِ وأموالَهم.
والعبوديَّةُ للهِ تعالى هي أسمى مِن تلك بما لا يُقارَن.
3- تصوَّر بعضُهم: أن الحرِّيَّةَ هي عدمُ التقيُّدِ بأيِّ قيدٍ، سواءٌ كان شرعًا أو عقلًا، أو عرفًا أو فطرةً:
وهو مفهومٌ ناقصٌ، ويؤدِّي إلى أن يصيرَ الناسُ أشبَهَ بالبهائم - مع أن الحيواناتِ أيضًا قد تقيِّدُ حرِّيَّتَها بنفسِها طلبًا لمصالِحِها - فلا بدَّ مِن قيودٍ، والشأنُ هو في نوعِ القيدِ، وسببِ الالتزامِ به.
4- كثيرٌ مِن دعَواتِ الحرِّيَّةِ قائمةٌ على التعامُلِ مع الإنسانِ على أنه مجرَّدُ كائنٍ أرضيٍّ بَحْتٍ:
فلا يرتفِعُ بمشاعرِهِ وعواطفِهِ عن عالَمِ الأرض، وقد أغفَلتْ هذه الدعَواتُ البُعْدَ الرُّوحيَّ والدينيَّ الذي فُطِرَ عليه كلُّ البشَر، غيرَ معطِيةٍ للحياةِ الأخرويَّةِ أيَّ اعتبارٍ في تقريرِ المصالحِ والمفاسد، وإنما تَسْعى في تحقيقِ ما تراهُ يحقِّقُ سعادةً دنيويَّةً مَحْضةً.
5- اللهُ تعالى هو الذي خلَقَ الإنسانَ، فأوجَدهُ وأمَدَّهُ بالقُوى والأسباب، وأنعَمَ عليه بالنِّعَمِ الظاهرةِ والباطنة:
فأَمْرُ اللهِ تعالى لخلقِهِ بأوامرَ يُطِيقونها، ولهم فيها مصالحُ أيضًا، ولهم فوق ذلك أجرٌ في الدنيا والآخِرة -: كلُّ ذلك مما لا يُمكِنُ أن يقالَ: «إنه يناقِضُ الحرِّيَّةَ».
6- تقيُّدُ الإنسانِ بمفهومٍ، هو أمرٌ لازم، وحتى مفهومُ الحرِّيَّةِ أصبَحَ منظومةً مِن الأفكارِ يتقيَّدُ بها كثيرٌ مِن الناس:
والعبوديَّةُ للهِ تبارَكَ وتعالى هي الحرِّيَّةُ الحقيقيَّةُ:
فإذا قال رجلٌ: «أنا حُرٌّ»، وأراد أنه حُرٌّ مِن رِقِّ الخَلْقِ، فنعَمْ؛ هو حرٌّ مِن رِقِّ الخلق.
وأما إن أراد أنه حُرٌّ مِن تَبِعاتِ العبوديَّةِ للهِ تبارَكَ وتعالى، وأنه بإنكارِهِ لوجودِ اللهِ، وعدمِ الإيمانِ به، فقد ذاق طعمَ الحرِّيَّة -: فهذا لم يَعرِفْ معنى الحرِّيَّة؛ لأن العبوديَّةَ لغيرِ اللهِ هي الرِّقُّ، أما عبوديَّةُ المرءِ لربِّهِ عزَّ وجلَّ فهي الحرِّيَّة؛ فإنه إن لم يَذِلَّ للهِ، ذَلَّ لغيرِ الله، فيكونُ هنا خادعًا لنفسِهِ إذا قال: «إنه حُرٌّ»، يعني: أنه متجرِّدٌ مِن طاعةِ اللهِ، ولن يقومَ بها.
والإنسانُ مفطورٌ بطبعِهِ على العبادةِ؛ لأنه ناقصٌ مفتقِرٌ بالذات؛ فما مِن إنسانٍ إلا وهو عبدٌ: إما أن يكونَ عبدًا لهواهْ، وإما أن يكونَ عبدًا لمولاهْ؛ فنَرَى أن هؤلاءِ الذين يُريدون أن يكونَ الناسُ في فَوْضَى، مُدَّعِين أن هذه هي الحرِّيَّةُ، قد ابتُلُوا بالرِّقِّ؛ لأن الشيطانَ استرَقَّهم، وجعَلَهم عبيدًا له.
وفي الحديثِ عن النبيِّ ﷺ عن ربِّ العزَّةِ:
«إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا»؛
رواه مسلم (2865).
وقد لخَّص رِبْعِيُّ بنُ عامرٍ دعوةَ الإسلامِ في كلماتٍ قليلة؛ حيثُ قال: «إِنَّ اللهَ ابْتَعَثْنَا؛ لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ»؛ ينظر: «البدايةُ والنهايةُ» لابنِ كَثِيرٍ (9/ 622).
فدعوةُ الإسلامِ تمثِّلُ إنقاذًا للإنسانِ مِن الوقوعِ تحت وَطْأةِ الشركِ، وذُلِّ العبوديَّةِ لغيرِ الله، وتخليصًا له مِن قهرِ الأرباب، ورِبْقةِ الأهواءِ والشهَواتِ والغرائز، وتكريمًا له بأن يكونَ عبدًا للهِ وحدَه، وهنا يكمُنُ كمالُ المخلوقِ وكرامتُهُ وعِزُّه. وعليه: فما دُمْتَ مؤمِنًا بوجودِ ربٍّ خالقٍ مالِكٍ مدبِّرٍ لهذا الكونِ العظيم، له الكمالُ المطلَقُ مِن الأسماءِ والصفاتِ والأفعال، وهو وحده سبحانه المستحِقُّ للعبادةِ، وأنك واقفٌ بين يدَيْهِ في يومٍ آتٍ لا محالةَ -: فالأَوْلى لك أن تلتزِمَ ما أمَرَ به، ونَهَى عنه، وأن تختارَ الدخولَ في كَنَفِهِ وسلطانِه، لا أن تتمرَّدَ عليه بُغْيةَ اتِّباعِ الهَوَى ونزَغاتِ الشيطان
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
افتراضُ التعارُضِ بين الحرِّيَّةِ وبين وجودِ إلهٍ يجبُ طاعتُه.
مختصَرُ الإجابة:
الحقيقةُ ينبغي أن تُقبَلَ، بغَضِّ النظَرِ عن موافَقةِ رغبةِ الإنسانِ أو عدمِها، فإذا ثبَتَ وجودُ اللهِ تعالى، لم تصلُحْ معارَضتُهُ لمخالَفتِهِ ما يَرغَبُ فيه الإنسان.
ثم إن طبيعةَ الحياةِ تفترِضُ وجودَ قيودٍ؛ فالإنسانُ له حدودٌ بسببِ محدوديَّةِ قوَّتِهِ أو ملكِه، وكذلك القيودُ القانونيَّةُ والاجتماعيَّةُ وغيرُها، والعبوديَّةُ للهِ تعالى هي أسمَى مِن تلك بما لا يُقارَن.
فالعبوديَّةُ للهِ تعالى هي الحرِّيَّةُ الحقيقيَّةُ، وغيرُ ذلك ذُلٌّ ورِقٌّ للشيطان.
فالإنسانُ بطبيعتِهِ وفطرتِهِ السَّوِيَّةِ يَسْعى إلى تحصيلِ الحرِّيَّة؛ وهذا أمرٌ متَّفَقٌ عليه عند العقلاء، والحقُّ أن اللهَ تعالى فطَرَ الخلقَ على تحصيلِ حرِّيَّتِهم وكسبِها مِن خلالِ تحقيقِ عبوديَّتِهم له سبحانه وتعالى.
لكنَّ الذين يزعُمون أن حرِّيَّتَهم تتمثَّلُ في الانحلالِ مِن العبوديَّةِ للهِ والإيمانِ به، والتمرُّدِ على أوامرِه، والوقوعِ في مَناهيه -: واقِعون في عبوديَّةِ الشيطانِ؛ اتِّباعًا لأهوائِهم وشهَواتِهم؛ فتقيُّدُ الإنسانِ بمفهومٍ، هو أمرٌ لازم، فحتى «مفهومُ الحرِّيَّةِ» أصبَحَ منظومةً مِن الأفكارِ يتقيَّدُ بها كثيرٌ مِن الناسِ، وهم لها أَرِقَّاءُ، وصدَقَ فيهم قولُ القائل:
هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فَبُلُوا بِرِقَّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ
خاتمة الجواب
قال اللهُ تعالى:
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}
[مريم: 93].
إن كمالَ المخلوقِ في تحقيقِ عبوديَّتِهِ لله، وكلَّما ازداد العبدُ تحقيقًا للعبوديَّة، ازداد كمالُه، وعلَتْ درَجتُه.
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
افتراضُ التعارُضِ بين الحرِّيَّةِ وبين وجودِ إلهٍ يجبُ طاعتُه.
مختصَرُ الإجابة:
الحقيقةُ ينبغي أن تُقبَلَ، بغَضِّ النظَرِ عن موافَقةِ رغبةِ الإنسانِ أو عدمِها، فإذا ثبَتَ وجودُ اللهِ تعالى، لم تصلُحْ معارَضتُهُ لمخالَفتِهِ ما يَرغَبُ فيه الإنسان.
ثم إن طبيعةَ الحياةِ تفترِضُ وجودَ قيودٍ؛ فالإنسانُ له حدودٌ بسببِ محدوديَّةِ قوَّتِهِ أو ملكِه، وكذلك القيودُ القانونيَّةُ والاجتماعيَّةُ وغيرُها، والعبوديَّةُ للهِ تعالى هي أسمَى مِن تلك بما لا يُقارَن.
فالعبوديَّةُ للهِ تعالى هي الحرِّيَّةُ الحقيقيَّةُ، وغيرُ ذلك ذُلٌّ ورِقٌّ للشيطان.
فالإنسانُ بطبيعتِهِ وفطرتِهِ السَّوِيَّةِ يَسْعى إلى تحصيلِ الحرِّيَّة؛ وهذا أمرٌ متَّفَقٌ عليه عند العقلاء، والحقُّ أن اللهَ تعالى فطَرَ الخلقَ على تحصيلِ حرِّيَّتِهم وكسبِها مِن خلالِ تحقيقِ عبوديَّتِهم له سبحانه وتعالى.
لكنَّ الذين يزعُمون أن حرِّيَّتَهم تتمثَّلُ في الانحلالِ مِن العبوديَّةِ للهِ والإيمانِ به، والتمرُّدِ على أوامرِه، والوقوعِ في مَناهيه -: واقِعون في عبوديَّةِ الشيطانِ؛ اتِّباعًا لأهوائِهم وشهَواتِهم؛ فتقيُّدُ الإنسانِ بمفهومٍ، هو أمرٌ لازم، فحتى «مفهومُ الحرِّيَّةِ» أصبَحَ منظومةً مِن الأفكارِ يتقيَّدُ بها كثيرٌ مِن الناسِ، وهم لها أَرِقَّاءُ، وصدَقَ فيهم قولُ القائل:
هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فَبُلُوا بِرِقَّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ
الجواب التفصيلي
لا شكَّ أن الحرِّيَّةَ مِن المطالبِ العزيزةِ للإنسان، لكنَّ الإشكالَ إنما يقَعُ في مفهومِ هذه الحرِّيَّة؛ فقد وقَعَ الخلطُ في مفهومِ هذا المصطلَحِ عند كثيرٍ مِن الناس.
والمشكِلةُ الأكبرُ حين تُعارَضُ بها حقائقُ ثابتةٌ؛ فتُضرَبُ الحقائقُ بعضُها ببعض، ولا يُفهَمُ بعضُها في ضوءِ بعض.
ويُمكِنُ أن نشيرَ في ذلك إلى ما يلي:
1- الحقيقةُ تثبُتُ بالأدلَّة، ولا يُمكِنُ معارَضتُها بمخالَفتِها بعضَ الرغَباتِ الإنسانيَّة:
كما أن طلوعَ الشمسِ في النهارِ حقيقةٌ، ولو كان هذا لا يناسِبُ بعضَ الناس.
فاللهُ تعالى ثبَتَ وجودُهُ بالأدلَّةِ القطعيَّةِ المتنوِّعة؛ وعلى ذلك فينبغي فهمُ الحرِّيَّةِ وإنزالُها منزلتَها بما لا يخالِفُ هذه الحقيقةَ؛ فإن الحقائقَ لا تتعارَضُ.
2- هناك قيودٌ لا ينفكُّ عنها الإنسانُ اضطرارًا أو اختيارًا:
فالإنسانُ له حدودٌ بسببِ محدوديَّةِ قوَّتِهِ أو ملكِهِ؛ فهو لا يُمكِنُ أن يطيرَ بمجرَّدِ يدَيْه، أو يعيشَ بغيرِ أكلٍ وشرب.
وكذلك هناك القيودُ القانونيَّةُ والاجتماعيَّةُ وغيرُها، والتي لا تستقيمُ حياةُ الإنسانِ إلا بها، ومهما كانت هناك مِن قوانينَ خاطئةٍ؛ فهناك قوانينُ ضروريَّةٌ تَحفَظُ حياةَ الناسِ وأموالَهم.
والعبوديَّةُ للهِ تعالى هي أسمى مِن تلك بما لا يُقارَن.
3- تصوَّر بعضُهم: أن الحرِّيَّةَ هي عدمُ التقيُّدِ بأيِّ قيدٍ، سواءٌ كان شرعًا أو عقلًا، أو عرفًا أو فطرةً:
وهو مفهومٌ ناقصٌ، ويؤدِّي إلى أن يصيرَ الناسُ أشبَهَ بالبهائم - مع أن الحيواناتِ أيضًا قد تقيِّدُ حرِّيَّتَها بنفسِها طلبًا لمصالِحِها - فلا بدَّ مِن قيودٍ، والشأنُ هو في نوعِ القيدِ، وسببِ الالتزامِ به.
4- كثيرٌ مِن دعَواتِ الحرِّيَّةِ قائمةٌ على التعامُلِ مع الإنسانِ على أنه مجرَّدُ كائنٍ أرضيٍّ بَحْتٍ:
فلا يرتفِعُ بمشاعرِهِ وعواطفِهِ عن عالَمِ الأرض، وقد أغفَلتْ هذه الدعَواتُ البُعْدَ الرُّوحيَّ والدينيَّ الذي فُطِرَ عليه كلُّ البشَر، غيرَ معطِيةٍ للحياةِ الأخرويَّةِ أيَّ اعتبارٍ في تقريرِ المصالحِ والمفاسد، وإنما تَسْعى في تحقيقِ ما تراهُ يحقِّقُ سعادةً دنيويَّةً مَحْضةً.
5- اللهُ تعالى هو الذي خلَقَ الإنسانَ، فأوجَدهُ وأمَدَّهُ بالقُوى والأسباب، وأنعَمَ عليه بالنِّعَمِ الظاهرةِ والباطنة:
فأَمْرُ اللهِ تعالى لخلقِهِ بأوامرَ يُطِيقونها، ولهم فيها مصالحُ أيضًا، ولهم فوق ذلك أجرٌ في الدنيا والآخِرة -: كلُّ ذلك مما لا يُمكِنُ أن يقالَ: «إنه يناقِضُ الحرِّيَّةَ».
6- تقيُّدُ الإنسانِ بمفهومٍ، هو أمرٌ لازم، وحتى مفهومُ الحرِّيَّةِ أصبَحَ منظومةً مِن الأفكارِ يتقيَّدُ بها كثيرٌ مِن الناس:
والعبوديَّةُ للهِ تبارَكَ وتعالى هي الحرِّيَّةُ الحقيقيَّةُ:
فإذا قال رجلٌ: «أنا حُرٌّ»، وأراد أنه حُرٌّ مِن رِقِّ الخَلْقِ، فنعَمْ؛ هو حرٌّ مِن رِقِّ الخلق.
وأما إن أراد أنه حُرٌّ مِن تَبِعاتِ العبوديَّةِ للهِ تبارَكَ وتعالى، وأنه بإنكارِهِ لوجودِ اللهِ، وعدمِ الإيمانِ به، فقد ذاق طعمَ الحرِّيَّة -: فهذا لم يَعرِفْ معنى الحرِّيَّة؛ لأن العبوديَّةَ لغيرِ اللهِ هي الرِّقُّ، أما عبوديَّةُ المرءِ لربِّهِ عزَّ وجلَّ فهي الحرِّيَّة؛ فإنه إن لم يَذِلَّ للهِ، ذَلَّ لغيرِ الله، فيكونُ هنا خادعًا لنفسِهِ إذا قال: «إنه حُرٌّ»، يعني: أنه متجرِّدٌ مِن طاعةِ اللهِ، ولن يقومَ بها.
والإنسانُ مفطورٌ بطبعِهِ على العبادةِ؛ لأنه ناقصٌ مفتقِرٌ بالذات؛ فما مِن إنسانٍ إلا وهو عبدٌ: إما أن يكونَ عبدًا لهواهْ، وإما أن يكونَ عبدًا لمولاهْ؛ فنَرَى أن هؤلاءِ الذين يُريدون أن يكونَ الناسُ في فَوْضَى، مُدَّعِين أن هذه هي الحرِّيَّةُ، قد ابتُلُوا بالرِّقِّ؛ لأن الشيطانَ استرَقَّهم، وجعَلَهم عبيدًا له.
وفي الحديثِ عن النبيِّ ﷺ عن ربِّ العزَّةِ:
«إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا»؛
رواه مسلم (2865).
وقد لخَّص رِبْعِيُّ بنُ عامرٍ دعوةَ الإسلامِ في كلماتٍ قليلة؛ حيثُ قال: «إِنَّ اللهَ ابْتَعَثْنَا؛ لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سَعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ»؛ ينظر: «البدايةُ والنهايةُ» لابنِ كَثِيرٍ (9/ 622).
فدعوةُ الإسلامِ تمثِّلُ إنقاذًا للإنسانِ مِن الوقوعِ تحت وَطْأةِ الشركِ، وذُلِّ العبوديَّةِ لغيرِ الله، وتخليصًا له مِن قهرِ الأرباب، ورِبْقةِ الأهواءِ والشهَواتِ والغرائز، وتكريمًا له بأن يكونَ عبدًا للهِ وحدَه، وهنا يكمُنُ كمالُ المخلوقِ وكرامتُهُ وعِزُّه. وعليه: فما دُمْتَ مؤمِنًا بوجودِ ربٍّ خالقٍ مالِكٍ مدبِّرٍ لهذا الكونِ العظيم، له الكمالُ المطلَقُ مِن الأسماءِ والصفاتِ والأفعال، وهو وحده سبحانه المستحِقُّ للعبادةِ، وأنك واقفٌ بين يدَيْهِ في يومٍ آتٍ لا محالةَ -: فالأَوْلى لك أن تلتزِمَ ما أمَرَ به، ونَهَى عنه، وأن تختارَ الدخولَ في كَنَفِهِ وسلطانِه، لا أن تتمرَّدَ عليه بُغْيةَ اتِّباعِ الهَوَى ونزَغاتِ الشيطان
خاتمة الجواب
قال اللهُ تعالى:
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}
[مريم: 93].
إن كمالَ المخلوقِ في تحقيقِ عبوديَّتِهِ لله، وكلَّما ازداد العبدُ تحقيقًا للعبوديَّة، ازداد كمالُه، وعلَتْ درَجتُه.