نص السؤال

لماذا يُمنَعُ مِن دعاءِ الأولياءِ في قبورِهم، بغيرِ قصدِ العبادة، بل لمجرَّدِ قصدِ شفاعتِهم، أو أن يَدْعُوا اللهَ لنا؟ 

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

الاستغاثةُ بالأولياءِ في قبورِهم، ليست شركًا، مع عدمِ اعتقادِ استقلالِهم بالتأثير.

الجواب التفصيلي


هذه الشبهةُ تقالُ في الدفاعِ عن اعتقادِ القبوريَّةِ المستغيثِين بغيرِ اللهِ تعالى، وتجويزِ ما هم عليه.

والجوابُ عن ذلك مِن أوجُهٍ:

الوجهُ الأوَّلُ: أن هذا مخالِفٌ لِمَا جاء في نصوصٍ كثيرةٍ؛ مِن أن المشرِكين السابِقين كانوا مُقِرِّين بوَحْدانيَّةِ اللهِ تعالى في الخلق، وأن له مُلْكَ السمواتِ والأرض، وأنه مدبِّرُ الأمرِ وحده، وأن الأصنامَ التي كانوا يعبُدونها، لم تكن عندهم سوى شُفَعاءَ يَشفَعون لهم عند الله، ولم يكن لها عندهم مِن المُلْكِ والتدبيرِ شيءٌ.

وقد تنوَّعت الدَّلالاتُ في كتابِ اللهِ في تقريرِ هذا المعنى؛ ومِن ذلك:

1) الإخبارُ عن جوابِ المشرِكين الصريحِ حين يُسْألون عن خالقِ السمواتِ والأرض، ومدبِّرِ الأمر، ومالكِ السمعِ والأبصارِ: بأنه اللهُ تعالى وحده؛ مما يدُلُّ على أن اعتقادَهم قائمٌ على إفرادِ اللهِ تعالى بهذه المعاني، ومع ذلك سمَّى اللهُ تعالى ما يَصرِفونه للأصنامِ والأوثانِ: عبادةً منهم لها.

ومِن أدلَّةِ ذلك: قولُهُ تعالى:

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}

[يونس: 31].

وقولُهُ تعالى:

{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}

[المؤمنون: 84- 89].

وقولُهُ تعالى:

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}

[العنكبوت: 61- 63].

والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ، وهي دالَّةٌ على إقرارِ المشرِكين بتفرُّدِ اللهِ تعالى بالخَلْقِ والمُلْكِ والتدبير، وأنهم لم يكونوا يعتقِدون استقلالَ أصنامِهم في التأثير، ومع ذلك سمَّاهُمُ الله تعالى: مشرِكين.

 2) الإخبارُ بتصريحِ المشرِكين أن عبادتَهم لِمَا اتَّخَذوهُ مِن دونِ اللهِ أولياءَ، إنما هو لطلبِ القُرْبى والزُّلْفى عند اللهِ تعالى، وأنهم شفعاءُ لهم عند الله، وأنهم وسائطُ لهم في قضاءِ حوائجِهم؛ مما يدُلُّ على أن عبادتَهم لها لم يصاحِبْها اعتقادُ استقلالٍ بالتأثيرِ والتدبيرِ في تلك المعبودات.

ومِن أدلَّةِ ذلك: قولُهُ تعالى:

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}

[الزمر: 3]

، وقولُهُ تعالى:

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

[يونس: 18]

، وقولُهُ تعالى:

{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}

[الأحقاف: 28].

فأيُّ فرقٍ بين المشرِكين المتقدِّمين الذين حكى اللهُ عنهم ذلك، وبين مَن وقَعَ في الشِّرْكِ مِن أهلِ زمانِنا؟! فأولئك ما أثبَتوا لهم الضرَّ والنفعَ استقلالًا، بل أثبَتوهُ لهم بالتَّبَعِ، ومع كلِّ ذلك سمَّاهم اللهُ: مشرِكين، والواقِعون في الشركِ مِن أهلِ زمانِنا يقولون: نحنُ نَعلَمُ أنهم لا يَملِكون ذلك لنا استقلالًا، بل تَبَعًا.

فإن قلتَ: «إن أولئك ما شَهِدوا لمحمَّدٍ بالرسالة، وإنْ شَهِدوا للهِ بالوَحْدانيَّة، وأما أهلُ زمانِنا، فهم يَشهَدون للرسولِ بالرسالة، كما شَهِدوا للهِ بالوَحْدانيَّة»؟:

فالجوابُ: أن رسولَ اللهِ ﷺ قال:

«مَنْ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ»؛

رواه أحمد (22484)، وابنُ حِبَّانَ (812)، والطبَرانيُّ في «الكبير» (63)

، وأهلُ زمانِنا مِن الواقِعين في الشركِ، وإن قالوا: «لا إلهَ إلا اللهُ»، لم يُخلِصوا فيها؛ لأن الإخلاصَ فيها هو أن تعتقِدَ أنه لا يَجلِبُ الخيرَ، ولا يَكشِفُ الضرَّ إلا اللهُ وحده.

ومِن تصديقِ الرسولِ ﷺ: الإيمانُ بكلِّ ما أتى به؛ فلا يُسْألُ الميِّتُ ما لا يَقدِرُ عليه إلا الله.

ولهذا لما نُبِّهَ مَن نُبِّهَ ممن يستغيثون بالصالِحين بعد موتِهم على ذلك -: تنبَّهوا، وعَلِموا أن ما كانوا عليه ليس مِن دِينِ الإسلام، بل هو مشابَهةٌ لعُبَّادِ الأصنام؛ كما يقولُ شيخُ الإسلامِ في كتابِ «الاستغاثة» (ص 248).

3) الإخبارُ عن لجوءِ المشرِكين في الدعاءِ حالَ الضرَّاءِ إلى اللهِ تعالى وحده، ونَبْذِهم كلَّ ما كانوا يعبُدون مِن دونِه؛ مما يدُلُّ على ما تقرَّر في قلوبِهم مِن تفرُّدِ اللهِ تعالى وحده بالنفعِ والضُّرّ، وأن تلك الآلهةَ التي كانوا يَدْعون ويعبُدون ما كانت إلا وسائطَ وشفعاءَ جعَلوها وسيلةً لحصولِ مطلوبِهم عند ربِّهم.

والأدلَّةُ على ذلك كثيرةٌ:

منها: قولُهُ تعالى:

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}

[يونس: 22].

ومنها: قولُهُ تعالى:

{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}

[الإسراء: 67- 69].

وقولُهُ تعالى:

{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}

[العنكبوت: 65].

وقولُهُ تعالى:

{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}

[لقمان: 32].

الوجهُ الثاني: أن القولَ بأن مَنَاطَ (علَّةَ) الشركِ أو التكفيرِ في مسألةِ الاستغاثةِ، هو اعتقادُ الربوبيَّةِ في المستغاثِ به، يَلزَمُ عليه لوازمُ فاسدةٌ كثيرةٌ؛ فمِن تلك اللوازم:

أوَّلًا: أن يكونَ قومُ موسى لمَّا اتخَذوا العِجلَ، وقالوا:

{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}

[طه: 88]

: أنهم كانوا يعتقِدون أن هذا العِجلَ خالقٌ، رازقٌ، مستقِلٌّ بالتدبير، وكذلك لمَّا طلَبوا إلهًا - كما قَصَّ اللهُ تعالى عنهم بقولِهِ:

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}

[الأعراف: 138]

-: أنهم كانوا يريدون مَن يعتقِدون فيه الخلقَ والتدبيرَ غيرَ اللهِ تعالى، وقد حاجَّهم اللهُ تعالى بما يَعلَمونه يقينًا مِن حالِ العِجلِ، وأنه لا يَملِكُ لهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا غيرَ ذلك مِن معاني الربوبيَّة؛ فقال تعالى:

{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}

[طه: 89].

ثانيًا: أن ذلك يقتضي ألا يكونَ هناك أقوالٌ ولا أعمالٌ شِرْكيَّة مكفِّرةٌ، ولا يُحكَمُ على أحدٍ بشركٍ إن اقترَفَهُ؛ ما لم يَظهَرْ ما يُضمِرُهُ مِن اعتقادِ استقلالِ الخلقِ والتدبيرِ فيمَن يَصرِفُ إليه أقوالَهُ وأعمالَه، التي هي مِن أعمالِ المشرِكين وأقوالِهم؛ فدعاءُ غيرِ اللهِ تعالى، والسجودُ له، والركوعُ له، والذبحُ والنذرُ له، على هذا -: ليس مِن الشركِ في شيءٍ، ولا يكفُرُ فاعلُها.

وهذا اللازمُ يخالِفُ إجماعَ المسلِمينَ على وقوعِ الردَّةِ بدونِ هذا الاعتقاد، ومنها إجماعُ الصحابةِ على قتالِ المرتدِّين، ولم تكن رِدَّتُهم باعتقادِ ربٍّ آخَرَ.

وكذلك: فإن هذا اللازمَ يخالِفُ ما في مدوَّناتِ جميعِ المذاهبِ الفقهيَّةِ؛ مِن ذكرِ التكفيرِ بهذه الأفعالِ بدونِ اشتراطِ الاعتقاد؛ وهذا كثيرٌ في كُتُبِهم، ولا بأسَ مِن ذِكرِ شيءٍ مِن نصوصِهم:

قال إمامُ الحرَمَيْنِ الجُوَيْنيُّ في «نهايةِ المَطلَبِ» (17/162): «الأفعالُ إذا دلَّت على الكفرِ، كانت كالأقوالِ؛ وذلك إذا رأَيْنا مَن كُنَّا نَعرِفُهُ مسلِمًا في بيتِ الأصنام، وهو يتواضَعُ لها تواضُعَ العبادةِ، فهذه عبادةُ كفرٍ، وقد يُجْري الأصوليُّون الأفعالَ المتضمِّنةَ استهانةً عظيمةً مُجْرى عبادةِ الأصنام؛ كطرحِ المصحفِ في الأماكنِ القَذِرة، وما في معناهُ، والقولُ في ذلك يطُولُ؛ وهو مِن صناعةِ الأصول».

وقال الغَزَاليُّ في «الوسيطِ» (6/425): «وأما نفسُ الردَّةِ، فهو: نطقٌ بكلمةِ الكفرِ؛ استهزاءً، أو اعتقادًا، أو عِنادًا، ومِن الأفعالِ: عِبادةُ الصنَم، والسجودُ للشمس، وكذلك إلقاءُ المُصحَفِ في القاذُورات، وكلُّ فِعلٍ هو صريحٌ في الاستهزاءِ بالدِّينِ، وكذلك الساحرُ يُقتَلُ إن كان ما سحَرَ به كُفْرًا، بأن كان فيه عبادةُ شمسٍ، أو ما يُضاهيه».

وقال في «الوجيز»: «الردَّةُ: وهي عبارةٌ عن قطعِ الإسلامِ مِن مكلَّفٍ: إما بفعلٍ؛ كالسجودِ للصنَمِ، وعبادةِ الشمسِ، وإلقاءِ المُصحَفِ في القاذُوراتِ، وكلِّ فِعلٍ صريحٍ في الاستهزاءِ، وإما بقولٍ؛ عنادًا، أو استهزاءً، أو اعتقادًا؛ فكلُّ ذلك ردَّةٌ مِن المكلَّف». «العزيز، شرح الوجيز»، المعروفُ بـ «الشرحِ الكبير» للرافعي (11/ 97).

وقال النوَويُّ في «الرَّوْضة» (10/64) في «كتابِ الردَّةِ»: «هي قطعُ الإسلام، ويحصُلُ ذلك تارَةً: بالقولِ الذي هو كفرٌ، وتارَةً: بالفعلِ، والأفعالُ الموجِبةُ للكفرِ: هي التي تصدُرُ عن تعمُّدٍ واستهزاءٍ بالدِّينِ صريحٍ؛ كالسجودِ للصنَم، أو للشمس، وإلقاءِ المُصحَفِ في القاذُورات، والسِّحْرِ الذي فيه عبادةُ الشمسِ ونحوِها».

وقال في «منهاجِ الطالبين» (ص 293): «والفعلُ المكفِّرُ: ما تعمَّدهُ؛ استهزاءً صريحًا بالدِّين، أو جحودًا له؛ كإلقاءِ مُصحَفٍ بقاذُورةٍ، وسجودِ لصنَمٍ أو شمسٍ».

وقال الشيخُ زكريَّا الأنصاريُّ في «منهجِ الطلَّاب» (ص 158): «الردَّةُ: هي قطعُ مَن يَصِحُّ طلاقُهُ الإسلامَ بكفرٍ عزمًا، أو قولًا، أو فعلًا؛ استهزاءً، أو عنادًا، أو اعتقادًا؛ كنَفْيِ الصانعِ (الخالق)، أو نبيٍّ، أو تكذيبِهِ، أو جَحْدِ مُجمَعٍ عليه معلومٍ مِن الدِّينِ ضرورةً بلا عذرٍ، أو تردُّدٍ في كفرٍ، أو إلقاءِ مُصحَفٍ بقاذورةٍ، أو سجودٍ لمخلوقٍ».

وقال في «فتحِ الوهَّاب» (2/188) في شرحِ قولِهِ: «أو سجودٍ لمخلوقٍ»: «كصنَمٍ، وشمسٍ، فتعبيري بـ «مخلوقٍ» أعَمُّ مِن قولِهِ - أي: النوَويِّ في «المِنْهاجِ» -: «لصنَمٍ، أو شمسٍ».

وقال ابنُ المُقْري في «الإرشادِ» (إرشادِ الغاوي) (ص 262): «الردَّةُ: كفرُ مسلِمٍ مكلَّفٍ؛ بنِيَّةٍ، أو فعلٍ، أو قولٍ؛ باعتقادٍ، أو عنادٍ، أو استهزاءٍ ظاهرٍ؛ كطَرْحِ مُصحَفٍ بقَذَرٍ، وسجودٍ لمخلوقٍ، وجحدِ مُجمَعٍ، وقذفِ نبيٍّ»، قال ابنُ حجَرٍ الهَيتَميُّ في «فتحِ الجَوَادِ» (3/353): «ولو نبيًّا، وإنْ أنكَرَ الاستحقاقَ، أو لم يطابِقْ قولُهُ جوارحَهُ؛ لأن ظاهرَ حالِهِ يكذِّبُه».

ونقَلَ الرافعيُّ في «الشرحِ الكبيرِ» (11/ 98)، عن الحنفيَّةِ: «كُفْرَ مَن عظَّم الصنَمَ بالسجودِ له، أو التقرُّبِ إليه بالذبحِ باسمِه»، وأقرَّه النوَويُّ في «الرَّوْضة» (10/65).

ونقَل النوَويُّ في «الرَّوْضةِ» (10/71)، عن «الشِّفا» للقاضي عِياضٍ (2/ 611) قولَهُ: «وكذا نكفِّرُ مَن فعَلَ فعلًا أجمَعَ المسلِمون أنه لا يصدُرُ إلا مِن كافرٍ، وإنْ كان صاحبُهُ مصرِّحًا بالإسلامِ مع فِعلِهِ؛ كالسجودِ للصليبِ، أو النار».

وما سبَقَ هي أمثلةٌ لبعضِ الفقهاءِ ممن يعظِّمُهُ مُثِيرو هذه الشبهة، ولها نظائرُ في كتبِ المذاهبِ الأخرى، ممَّن ذكَروا الوقوعَ في الكفرِ بمجرَّدِ السجودِ للصنَمِ، دون اشتراطِ اعتقادِ فاعلِهِ استقلالَ الصنَمِ بالربوبيَّة؛ ويوضِّحُ ذلك:

الوجهُ الثالثُ: وهو أن اعتقادَ الربوبيَّةِ في غيرِ اللهِ تعالى، هو شِركٌ في نفسِه، سواءٌ صاحَبهُ قولٌ أو عملٌ أم لا؛ فمَن لم يُقِرَّ للهِ تعالى بوحدانيَّتِهِ في ربوبيَّتِهِ، فهو مشرِكٌ ضالٌّ، حتى لو لم يَصرِفْ شيئًا مِن العباداتِ لغيرِ اللهِ تعالى.

وعليه: فحملُ النصوصِ، وكلامِ أهلِ العلمِ الدالِّ على التكفيرِ ببعضِ الأقوالِ والأفعالِ، على ذلك الاعتقادِ، فيه تعطيلُ ما تعلَّق بتلك الأقوالِ والأفعالِ مِن حُكمٍ، وصار ذِكرُها وعدمُهُ سواءً؛ إذْ لا أثرَ لها في الحكم، بل يكفي أن يُنَصَّ على التكفيرِ باعتقادِ الربوبيَّةِ والاستقلالِ بالتأثير.

الوجهُ الرابعُ: أن كثيرًا منهم - وإن زعَموا أنهم لم يَفعَلوا ذلك إلا توسُّلًا وتشفُّعًا عند اللهِ تعالى، دون أن يكونَ في بواطِنهم اعتقادُ التدبيرِ والتصرُّفِ في الكونِ في هؤلاءِ الأمواتِ وغيرِهم - فلم يصدُقُوا في ذلك:

فمع ما تقدَّم - مِن بيانِ بطلانِ هذا القيدِ الذي جعَلوهُ في تعريفِهم للعبادة - فلا يُسلَّمُ لهم الأمرُ على ما يريدون؛ فقد نطَقَتْ أحوالُ وأقوالُ كثيرٍ ممَّن يَدْعون الأمواتَ، ويستغيثون بهم، بما يُكِنُّونه في صدورِهم؛ مِن تقريرِ أن هؤلاءِ الأمواتَ لهم تصرُّفٌ في الكونِ، وتدبيرٌ لأمورِه، بل لهم القدرةُ على الإحياءِ والإماتة، والإفقارِ والإغناء، ونحوِ ذلك مِن الأمورِ التي هي مِن أفعالِ اللهِ تعالى وحدَهُ، ومِن معاني ربوبيَّتِهِ عزَّ وجلَّ، حتى صار منهم مَن يعتقِدُ أن مِن الأولياءِ مَن يُعْطَى كلمةَ التصريفِ: «كُنْ فيَكُون».

وقد نطَقَ بهذا مَن يُعَدُّون أهلَ نظَرٍ وعِلمٍ فيهم؛ فكيف بعوامِّهِمُ الذين هم في عَمَايةِ جَهْلِهم غارقون؟! ولذلك تَرَاهم كلَّما ازدادت بهم شدَّةٌ، وضاقت عليهم حالٌ، زاد توجُّهُهم إلى أولئك الأولياء، وما ذاك إلا بدافعِ ما يعتقِدونه فيهم مِن جلبِ النفعِ، ودفعِ الضرِّ، وكشفِ الكَرْبِ، بخلافِ ما كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ الأُولى؛ إذْ كانوا يعتقِدون في آلهتِهم مجرَّدَ الوساطةِ والشفاعةِ، دون التصرُّفِ في الكون، وأن ذلك بيدِ اللهِ تعالى وحدَه؛ فلذلك كان إذا أصاب أهلَ الجاهليَّةِ الضُّرُّ، لَجَؤوا إلى مَن يعتقِدون أن بيدِهِ تصريفَ الأمورِ وتدبيرَها وحدَه، وهو اللهُ سبحانه وتعالى.

ومَن تأمَّل كتبَ المبتدِعةِ مِن الصوفيَّةِ وأمثالِهم، يجدُ هذا الأمرَ تنطِقُ به ألسنتُهم، وتَحْكِيهِ أحوالُهم، حتى جعَلوا للأولياءِ مراتبَ يقتسِمون فيها التأثيرَ والتصرُّفَ في هذا الكون، كلٌّ بحسَبِ رُتْبَتِه.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

إن السائلَ لا يَرَى مانعًا شرعيًّا مِن دعاءِ الأولياءِ في قبورِهم، بغيرِ قصدِ العبادة، وحقيقةُ ما يريدُهُ: هو أن التكفيرَ في مسألةِ الاستغاثةِ بالأنبياءِ والأولياءِ في قبورِهم، إنما يكونُ محصورًا بالإتيانِ بأقصى غايةِ الخضوع قَلْبًا؛ باعتقادِ ربوبيَّةِ المخضوعِ له، واستقلالِهِ بالخلقِ والتأثير، أو قالَبًا مع ذلك الاعتقاد؛ بالسجودِ مثَلًا؛ فإن انتفى ذلك الاعتقادُ، لم يكن ما أتى به مِن الخضوعِ الظاهريِّ مِن العبادةِ، وليس شِرْكًا في كثيرٍ ولا قليلٍ؛ بحسَبِ ما يزعُمُ السائل، بل ربما أجازوا ذلك مهما كان المأتيُّ به، ولو كان سجودًا.

مختصَرُ الإجابة:

إن مَناطَ الشركِ أو الكفرِ للمستغيثِ بغيرِ اللهِ تعالى، ليس اعتقادَهُ ربوبيَّةَ المستغاثِ به، واستقلالَهُ بالتأثيرِ، بل هذا الاعتقادُ كفرٌ مستقِلٌّ، ولو انحصَرَ التكفيرُ به، لَمَا كان لذكرِ الفقهاءِ للمكفِّراتِ القوليَّةِ والعمليَّةِ معنًى، بل مناطُ الكفرِ والشركِ هنا: عبادتُهم غيرَ اللهِ تعالى.

ثم إنه قولٌ مناقِضٌ للقرآنِ الكريم؛ لأن القرآنَ الكريمَ دَلَّ على كفرِ أقوامٍ عبَدوا غيرَ اللهِ تعالى، مع عدمِ اعتقادِهم ذلك الاعتقادَ (الاستقلالَ بالتأثيرِ) فيمَن يعبُدونه.

وعلى التسليمِ الجَدَليِّ بأن اعتقادَ الربوبيَّةِ هو مَناطُ التكفيرِ في المسألة؛ فإننا لا نسلِّمُ لصاحبِ السؤالِ دَعْواهُ بأن القبوريَّةَ - الذين غيَّر المَناطَ الشرعيَّ في المسألةِ مِن أجلِ الدفاعِ عنهم، وتبرئتِهم مِن الكفرِ - لا نسلِّمُ له أنهم لا يعتقِدون فيمَن يستغيثون به التصرُّفَ في الكون، بل يعتقِدون ذلك، وغيرَهُ مِن معاني الربوبيَّة.

خاتمة الجواب

على المسلِمِ - بل على كلِّ عاقلٍ - أن يَعرِفَ عظَمةَ اللهِ تعالى، وأن يتحرَّزَ غايةَ التحرُّزِ مِن أن يقَعَ فيما يُغضِبُه، ومِن أعظمِ ذلك: الشركُ؛ فعليه أن يعظِّمَ مسألةَ التوحيدِ؛ لأنها رأسُ الأمرِ ومَدَارُه، وهي الكلمةُ العظيمةُ التي قامت عليها السمواتُ والأرض: «لا إلهَ إلا الله»

. وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (247).

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

إن السائلَ لا يَرَى مانعًا شرعيًّا مِن دعاءِ الأولياءِ في قبورِهم، بغيرِ قصدِ العبادة، وحقيقةُ ما يريدُهُ: هو أن التكفيرَ في مسألةِ الاستغاثةِ بالأنبياءِ والأولياءِ في قبورِهم، إنما يكونُ محصورًا بالإتيانِ بأقصى غايةِ الخضوع قَلْبًا؛ باعتقادِ ربوبيَّةِ المخضوعِ له، واستقلالِهِ بالخلقِ والتأثير، أو قالَبًا مع ذلك الاعتقاد؛ بالسجودِ مثَلًا؛ فإن انتفى ذلك الاعتقادُ، لم يكن ما أتى به مِن الخضوعِ الظاهريِّ مِن العبادةِ، وليس شِرْكًا في كثيرٍ ولا قليلٍ؛ بحسَبِ ما يزعُمُ السائل، بل ربما أجازوا ذلك مهما كان المأتيُّ به، ولو كان سجودًا.

مختصَرُ الإجابة:

إن مَناطَ الشركِ أو الكفرِ للمستغيثِ بغيرِ اللهِ تعالى، ليس اعتقادَهُ ربوبيَّةَ المستغاثِ به، واستقلالَهُ بالتأثيرِ، بل هذا الاعتقادُ كفرٌ مستقِلٌّ، ولو انحصَرَ التكفيرُ به، لَمَا كان لذكرِ الفقهاءِ للمكفِّراتِ القوليَّةِ والعمليَّةِ معنًى، بل مناطُ الكفرِ والشركِ هنا: عبادتُهم غيرَ اللهِ تعالى.

ثم إنه قولٌ مناقِضٌ للقرآنِ الكريم؛ لأن القرآنَ الكريمَ دَلَّ على كفرِ أقوامٍ عبَدوا غيرَ اللهِ تعالى، مع عدمِ اعتقادِهم ذلك الاعتقادَ (الاستقلالَ بالتأثيرِ) فيمَن يعبُدونه.

وعلى التسليمِ الجَدَليِّ بأن اعتقادَ الربوبيَّةِ هو مَناطُ التكفيرِ في المسألة؛ فإننا لا نسلِّمُ لصاحبِ السؤالِ دَعْواهُ بأن القبوريَّةَ - الذين غيَّر المَناطَ الشرعيَّ في المسألةِ مِن أجلِ الدفاعِ عنهم، وتبرئتِهم مِن الكفرِ - لا نسلِّمُ له أنهم لا يعتقِدون فيمَن يستغيثون به التصرُّفَ في الكون، بل يعتقِدون ذلك، وغيرَهُ مِن معاني الربوبيَّة.

الجواب التفصيلي


هذه الشبهةُ تقالُ في الدفاعِ عن اعتقادِ القبوريَّةِ المستغيثِين بغيرِ اللهِ تعالى، وتجويزِ ما هم عليه.

والجوابُ عن ذلك مِن أوجُهٍ:

الوجهُ الأوَّلُ: أن هذا مخالِفٌ لِمَا جاء في نصوصٍ كثيرةٍ؛ مِن أن المشرِكين السابِقين كانوا مُقِرِّين بوَحْدانيَّةِ اللهِ تعالى في الخلق، وأن له مُلْكَ السمواتِ والأرض، وأنه مدبِّرُ الأمرِ وحده، وأن الأصنامَ التي كانوا يعبُدونها، لم تكن عندهم سوى شُفَعاءَ يَشفَعون لهم عند الله، ولم يكن لها عندهم مِن المُلْكِ والتدبيرِ شيءٌ.

وقد تنوَّعت الدَّلالاتُ في كتابِ اللهِ في تقريرِ هذا المعنى؛ ومِن ذلك:

1) الإخبارُ عن جوابِ المشرِكين الصريحِ حين يُسْألون عن خالقِ السمواتِ والأرض، ومدبِّرِ الأمر، ومالكِ السمعِ والأبصارِ: بأنه اللهُ تعالى وحده؛ مما يدُلُّ على أن اعتقادَهم قائمٌ على إفرادِ اللهِ تعالى بهذه المعاني، ومع ذلك سمَّى اللهُ تعالى ما يَصرِفونه للأصنامِ والأوثانِ: عبادةً منهم لها.

ومِن أدلَّةِ ذلك: قولُهُ تعالى:

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ}

[يونس: 31].

وقولُهُ تعالى:

{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}

[المؤمنون: 84- 89].

وقولُهُ تعالى:

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}

[العنكبوت: 61- 63].

والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ، وهي دالَّةٌ على إقرارِ المشرِكين بتفرُّدِ اللهِ تعالى بالخَلْقِ والمُلْكِ والتدبير، وأنهم لم يكونوا يعتقِدون استقلالَ أصنامِهم في التأثير، ومع ذلك سمَّاهُمُ الله تعالى: مشرِكين.

 2) الإخبارُ بتصريحِ المشرِكين أن عبادتَهم لِمَا اتَّخَذوهُ مِن دونِ اللهِ أولياءَ، إنما هو لطلبِ القُرْبى والزُّلْفى عند اللهِ تعالى، وأنهم شفعاءُ لهم عند الله، وأنهم وسائطُ لهم في قضاءِ حوائجِهم؛ مما يدُلُّ على أن عبادتَهم لها لم يصاحِبْها اعتقادُ استقلالٍ بالتأثيرِ والتدبيرِ في تلك المعبودات.

ومِن أدلَّةِ ذلك: قولُهُ تعالى:

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}

[الزمر: 3]

، وقولُهُ تعالى:

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

[يونس: 18]

، وقولُهُ تعالى:

{فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}

[الأحقاف: 28].

فأيُّ فرقٍ بين المشرِكين المتقدِّمين الذين حكى اللهُ عنهم ذلك، وبين مَن وقَعَ في الشِّرْكِ مِن أهلِ زمانِنا؟! فأولئك ما أثبَتوا لهم الضرَّ والنفعَ استقلالًا، بل أثبَتوهُ لهم بالتَّبَعِ، ومع كلِّ ذلك سمَّاهم اللهُ: مشرِكين، والواقِعون في الشركِ مِن أهلِ زمانِنا يقولون: نحنُ نَعلَمُ أنهم لا يَملِكون ذلك لنا استقلالًا، بل تَبَعًا.

فإن قلتَ: «إن أولئك ما شَهِدوا لمحمَّدٍ بالرسالة، وإنْ شَهِدوا للهِ بالوَحْدانيَّة، وأما أهلُ زمانِنا، فهم يَشهَدون للرسولِ بالرسالة، كما شَهِدوا للهِ بالوَحْدانيَّة»؟:

فالجوابُ: أن رسولَ اللهِ ﷺ قال:

«مَنْ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ»؛

رواه أحمد (22484)، وابنُ حِبَّانَ (812)، والطبَرانيُّ في «الكبير» (63)

، وأهلُ زمانِنا مِن الواقِعين في الشركِ، وإن قالوا: «لا إلهَ إلا اللهُ»، لم يُخلِصوا فيها؛ لأن الإخلاصَ فيها هو أن تعتقِدَ أنه لا يَجلِبُ الخيرَ، ولا يَكشِفُ الضرَّ إلا اللهُ وحده.

ومِن تصديقِ الرسولِ ﷺ: الإيمانُ بكلِّ ما أتى به؛ فلا يُسْألُ الميِّتُ ما لا يَقدِرُ عليه إلا الله.

ولهذا لما نُبِّهَ مَن نُبِّهَ ممن يستغيثون بالصالِحين بعد موتِهم على ذلك -: تنبَّهوا، وعَلِموا أن ما كانوا عليه ليس مِن دِينِ الإسلام، بل هو مشابَهةٌ لعُبَّادِ الأصنام؛ كما يقولُ شيخُ الإسلامِ في كتابِ «الاستغاثة» (ص 248).

3) الإخبارُ عن لجوءِ المشرِكين في الدعاءِ حالَ الضرَّاءِ إلى اللهِ تعالى وحده، ونَبْذِهم كلَّ ما كانوا يعبُدون مِن دونِه؛ مما يدُلُّ على ما تقرَّر في قلوبِهم مِن تفرُّدِ اللهِ تعالى وحده بالنفعِ والضُّرّ، وأن تلك الآلهةَ التي كانوا يَدْعون ويعبُدون ما كانت إلا وسائطَ وشفعاءَ جعَلوها وسيلةً لحصولِ مطلوبِهم عند ربِّهم.

والأدلَّةُ على ذلك كثيرةٌ:

منها: قولُهُ تعالى:

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}

[يونس: 22].

ومنها: قولُهُ تعالى:

{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}

[الإسراء: 67- 69].

وقولُهُ تعالى:

{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}

[العنكبوت: 65].

وقولُهُ تعالى:

{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}

[لقمان: 32].

الوجهُ الثاني: أن القولَ بأن مَنَاطَ (علَّةَ) الشركِ أو التكفيرِ في مسألةِ الاستغاثةِ، هو اعتقادُ الربوبيَّةِ في المستغاثِ به، يَلزَمُ عليه لوازمُ فاسدةٌ كثيرةٌ؛ فمِن تلك اللوازم:

أوَّلًا: أن يكونَ قومُ موسى لمَّا اتخَذوا العِجلَ، وقالوا:

{هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}

[طه: 88]

: أنهم كانوا يعتقِدون أن هذا العِجلَ خالقٌ، رازقٌ، مستقِلٌّ بالتدبير، وكذلك لمَّا طلَبوا إلهًا - كما قَصَّ اللهُ تعالى عنهم بقولِهِ:

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}

[الأعراف: 138]

-: أنهم كانوا يريدون مَن يعتقِدون فيه الخلقَ والتدبيرَ غيرَ اللهِ تعالى، وقد حاجَّهم اللهُ تعالى بما يَعلَمونه يقينًا مِن حالِ العِجلِ، وأنه لا يَملِكُ لهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا غيرَ ذلك مِن معاني الربوبيَّة؛ فقال تعالى:

{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}

[طه: 89].

ثانيًا: أن ذلك يقتضي ألا يكونَ هناك أقوالٌ ولا أعمالٌ شِرْكيَّة مكفِّرةٌ، ولا يُحكَمُ على أحدٍ بشركٍ إن اقترَفَهُ؛ ما لم يَظهَرْ ما يُضمِرُهُ مِن اعتقادِ استقلالِ الخلقِ والتدبيرِ فيمَن يَصرِفُ إليه أقوالَهُ وأعمالَه، التي هي مِن أعمالِ المشرِكين وأقوالِهم؛ فدعاءُ غيرِ اللهِ تعالى، والسجودُ له، والركوعُ له، والذبحُ والنذرُ له، على هذا -: ليس مِن الشركِ في شيءٍ، ولا يكفُرُ فاعلُها.

وهذا اللازمُ يخالِفُ إجماعَ المسلِمينَ على وقوعِ الردَّةِ بدونِ هذا الاعتقاد، ومنها إجماعُ الصحابةِ على قتالِ المرتدِّين، ولم تكن رِدَّتُهم باعتقادِ ربٍّ آخَرَ.

وكذلك: فإن هذا اللازمَ يخالِفُ ما في مدوَّناتِ جميعِ المذاهبِ الفقهيَّةِ؛ مِن ذكرِ التكفيرِ بهذه الأفعالِ بدونِ اشتراطِ الاعتقاد؛ وهذا كثيرٌ في كُتُبِهم، ولا بأسَ مِن ذِكرِ شيءٍ مِن نصوصِهم:

قال إمامُ الحرَمَيْنِ الجُوَيْنيُّ في «نهايةِ المَطلَبِ» (17/162): «الأفعالُ إذا دلَّت على الكفرِ، كانت كالأقوالِ؛ وذلك إذا رأَيْنا مَن كُنَّا نَعرِفُهُ مسلِمًا في بيتِ الأصنام، وهو يتواضَعُ لها تواضُعَ العبادةِ، فهذه عبادةُ كفرٍ، وقد يُجْري الأصوليُّون الأفعالَ المتضمِّنةَ استهانةً عظيمةً مُجْرى عبادةِ الأصنام؛ كطرحِ المصحفِ في الأماكنِ القَذِرة، وما في معناهُ، والقولُ في ذلك يطُولُ؛ وهو مِن صناعةِ الأصول».

وقال الغَزَاليُّ في «الوسيطِ» (6/425): «وأما نفسُ الردَّةِ، فهو: نطقٌ بكلمةِ الكفرِ؛ استهزاءً، أو اعتقادًا، أو عِنادًا، ومِن الأفعالِ: عِبادةُ الصنَم، والسجودُ للشمس، وكذلك إلقاءُ المُصحَفِ في القاذُورات، وكلُّ فِعلٍ هو صريحٌ في الاستهزاءِ بالدِّينِ، وكذلك الساحرُ يُقتَلُ إن كان ما سحَرَ به كُفْرًا، بأن كان فيه عبادةُ شمسٍ، أو ما يُضاهيه».

وقال في «الوجيز»: «الردَّةُ: وهي عبارةٌ عن قطعِ الإسلامِ مِن مكلَّفٍ: إما بفعلٍ؛ كالسجودِ للصنَمِ، وعبادةِ الشمسِ، وإلقاءِ المُصحَفِ في القاذُوراتِ، وكلِّ فِعلٍ صريحٍ في الاستهزاءِ، وإما بقولٍ؛ عنادًا، أو استهزاءً، أو اعتقادًا؛ فكلُّ ذلك ردَّةٌ مِن المكلَّف». «العزيز، شرح الوجيز»، المعروفُ بـ «الشرحِ الكبير» للرافعي (11/ 97).

وقال النوَويُّ في «الرَّوْضة» (10/64) في «كتابِ الردَّةِ»: «هي قطعُ الإسلام، ويحصُلُ ذلك تارَةً: بالقولِ الذي هو كفرٌ، وتارَةً: بالفعلِ، والأفعالُ الموجِبةُ للكفرِ: هي التي تصدُرُ عن تعمُّدٍ واستهزاءٍ بالدِّينِ صريحٍ؛ كالسجودِ للصنَم، أو للشمس، وإلقاءِ المُصحَفِ في القاذُورات، والسِّحْرِ الذي فيه عبادةُ الشمسِ ونحوِها».

وقال في «منهاجِ الطالبين» (ص 293): «والفعلُ المكفِّرُ: ما تعمَّدهُ؛ استهزاءً صريحًا بالدِّين، أو جحودًا له؛ كإلقاءِ مُصحَفٍ بقاذُورةٍ، وسجودِ لصنَمٍ أو شمسٍ».

وقال الشيخُ زكريَّا الأنصاريُّ في «منهجِ الطلَّاب» (ص 158): «الردَّةُ: هي قطعُ مَن يَصِحُّ طلاقُهُ الإسلامَ بكفرٍ عزمًا، أو قولًا، أو فعلًا؛ استهزاءً، أو عنادًا، أو اعتقادًا؛ كنَفْيِ الصانعِ (الخالق)، أو نبيٍّ، أو تكذيبِهِ، أو جَحْدِ مُجمَعٍ عليه معلومٍ مِن الدِّينِ ضرورةً بلا عذرٍ، أو تردُّدٍ في كفرٍ، أو إلقاءِ مُصحَفٍ بقاذورةٍ، أو سجودٍ لمخلوقٍ».

وقال في «فتحِ الوهَّاب» (2/188) في شرحِ قولِهِ: «أو سجودٍ لمخلوقٍ»: «كصنَمٍ، وشمسٍ، فتعبيري بـ «مخلوقٍ» أعَمُّ مِن قولِهِ - أي: النوَويِّ في «المِنْهاجِ» -: «لصنَمٍ، أو شمسٍ».

وقال ابنُ المُقْري في «الإرشادِ» (إرشادِ الغاوي) (ص 262): «الردَّةُ: كفرُ مسلِمٍ مكلَّفٍ؛ بنِيَّةٍ، أو فعلٍ، أو قولٍ؛ باعتقادٍ، أو عنادٍ، أو استهزاءٍ ظاهرٍ؛ كطَرْحِ مُصحَفٍ بقَذَرٍ، وسجودٍ لمخلوقٍ، وجحدِ مُجمَعٍ، وقذفِ نبيٍّ»، قال ابنُ حجَرٍ الهَيتَميُّ في «فتحِ الجَوَادِ» (3/353): «ولو نبيًّا، وإنْ أنكَرَ الاستحقاقَ، أو لم يطابِقْ قولُهُ جوارحَهُ؛ لأن ظاهرَ حالِهِ يكذِّبُه».

ونقَلَ الرافعيُّ في «الشرحِ الكبيرِ» (11/ 98)، عن الحنفيَّةِ: «كُفْرَ مَن عظَّم الصنَمَ بالسجودِ له، أو التقرُّبِ إليه بالذبحِ باسمِه»، وأقرَّه النوَويُّ في «الرَّوْضة» (10/65).

ونقَل النوَويُّ في «الرَّوْضةِ» (10/71)، عن «الشِّفا» للقاضي عِياضٍ (2/ 611) قولَهُ: «وكذا نكفِّرُ مَن فعَلَ فعلًا أجمَعَ المسلِمون أنه لا يصدُرُ إلا مِن كافرٍ، وإنْ كان صاحبُهُ مصرِّحًا بالإسلامِ مع فِعلِهِ؛ كالسجودِ للصليبِ، أو النار».

وما سبَقَ هي أمثلةٌ لبعضِ الفقهاءِ ممن يعظِّمُهُ مُثِيرو هذه الشبهة، ولها نظائرُ في كتبِ المذاهبِ الأخرى، ممَّن ذكَروا الوقوعَ في الكفرِ بمجرَّدِ السجودِ للصنَمِ، دون اشتراطِ اعتقادِ فاعلِهِ استقلالَ الصنَمِ بالربوبيَّة؛ ويوضِّحُ ذلك:

الوجهُ الثالثُ: وهو أن اعتقادَ الربوبيَّةِ في غيرِ اللهِ تعالى، هو شِركٌ في نفسِه، سواءٌ صاحَبهُ قولٌ أو عملٌ أم لا؛ فمَن لم يُقِرَّ للهِ تعالى بوحدانيَّتِهِ في ربوبيَّتِهِ، فهو مشرِكٌ ضالٌّ، حتى لو لم يَصرِفْ شيئًا مِن العباداتِ لغيرِ اللهِ تعالى.

وعليه: فحملُ النصوصِ، وكلامِ أهلِ العلمِ الدالِّ على التكفيرِ ببعضِ الأقوالِ والأفعالِ، على ذلك الاعتقادِ، فيه تعطيلُ ما تعلَّق بتلك الأقوالِ والأفعالِ مِن حُكمٍ، وصار ذِكرُها وعدمُهُ سواءً؛ إذْ لا أثرَ لها في الحكم، بل يكفي أن يُنَصَّ على التكفيرِ باعتقادِ الربوبيَّةِ والاستقلالِ بالتأثير.

الوجهُ الرابعُ: أن كثيرًا منهم - وإن زعَموا أنهم لم يَفعَلوا ذلك إلا توسُّلًا وتشفُّعًا عند اللهِ تعالى، دون أن يكونَ في بواطِنهم اعتقادُ التدبيرِ والتصرُّفِ في الكونِ في هؤلاءِ الأمواتِ وغيرِهم - فلم يصدُقُوا في ذلك:

فمع ما تقدَّم - مِن بيانِ بطلانِ هذا القيدِ الذي جعَلوهُ في تعريفِهم للعبادة - فلا يُسلَّمُ لهم الأمرُ على ما يريدون؛ فقد نطَقَتْ أحوالُ وأقوالُ كثيرٍ ممَّن يَدْعون الأمواتَ، ويستغيثون بهم، بما يُكِنُّونه في صدورِهم؛ مِن تقريرِ أن هؤلاءِ الأمواتَ لهم تصرُّفٌ في الكونِ، وتدبيرٌ لأمورِه، بل لهم القدرةُ على الإحياءِ والإماتة، والإفقارِ والإغناء، ونحوِ ذلك مِن الأمورِ التي هي مِن أفعالِ اللهِ تعالى وحدَهُ، ومِن معاني ربوبيَّتِهِ عزَّ وجلَّ، حتى صار منهم مَن يعتقِدُ أن مِن الأولياءِ مَن يُعْطَى كلمةَ التصريفِ: «كُنْ فيَكُون».

وقد نطَقَ بهذا مَن يُعَدُّون أهلَ نظَرٍ وعِلمٍ فيهم؛ فكيف بعوامِّهِمُ الذين هم في عَمَايةِ جَهْلِهم غارقون؟! ولذلك تَرَاهم كلَّما ازدادت بهم شدَّةٌ، وضاقت عليهم حالٌ، زاد توجُّهُهم إلى أولئك الأولياء، وما ذاك إلا بدافعِ ما يعتقِدونه فيهم مِن جلبِ النفعِ، ودفعِ الضرِّ، وكشفِ الكَرْبِ، بخلافِ ما كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ الأُولى؛ إذْ كانوا يعتقِدون في آلهتِهم مجرَّدَ الوساطةِ والشفاعةِ، دون التصرُّفِ في الكون، وأن ذلك بيدِ اللهِ تعالى وحدَه؛ فلذلك كان إذا أصاب أهلَ الجاهليَّةِ الضُّرُّ، لَجَؤوا إلى مَن يعتقِدون أن بيدِهِ تصريفَ الأمورِ وتدبيرَها وحدَه، وهو اللهُ سبحانه وتعالى.

ومَن تأمَّل كتبَ المبتدِعةِ مِن الصوفيَّةِ وأمثالِهم، يجدُ هذا الأمرَ تنطِقُ به ألسنتُهم، وتَحْكِيهِ أحوالُهم، حتى جعَلوا للأولياءِ مراتبَ يقتسِمون فيها التأثيرَ والتصرُّفَ في هذا الكون، كلٌّ بحسَبِ رُتْبَتِه.

خاتمة الجواب

على المسلِمِ - بل على كلِّ عاقلٍ - أن يَعرِفَ عظَمةَ اللهِ تعالى، وأن يتحرَّزَ غايةَ التحرُّزِ مِن أن يقَعَ فيما يُغضِبُه، ومِن أعظمِ ذلك: الشركُ؛ فعليه أن يعظِّمَ مسألةَ التوحيدِ؛ لأنها رأسُ الأمرِ ومَدَارُه، وهي الكلمةُ العظيمةُ التي قامت عليها السمواتُ والأرض: «لا إلهَ إلا الله»

. وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (247).