نص السؤال
في التاريخِ: أن بعضَ الصحابةِ قالوا آياتٍ، أو أكمَلُوها، فكُتِبَتْ كما قالوا؛ وهذا يدُلُّ على إمكانيَّةِ إتيانِ البشَرِ بمِثلِ القرآن
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
القرآنُ كلامُ اللهِ تعالى.
الصحابة.
موافَقةُ القرآنِ للصحابة
الجواب التفصيلي
إن موافَقةَ القرآنِ لبعضِ ما تكلَّم به بعضُ الناسِ مِن الكلماتِ، أو حتى الجُمَلِ، تحتاجُ أوَّلًا: إلى إثباتِ وقوعِها، وهل كان القرآنُ سابقًا لقولِ الصحابيِّ أو لاحقًا له، وثانيًا: إلى إثباتِ كونِها تشكِّلُ تشكيكًا في صحَّةِ القرآنِ الكريم، ، ومع ذلك: فلا يعني ذلك بحالٍ أن يُنسَبَ القرآنُ لذلك الشخص؛ وعلى هذا: فالجوابُ على هذه الدعوى يتبيَّنُ مما يلي:
أوَّلًا: التحقُّقُ مِن صحَّةِ تلك الحوادثِ، وكونِهم سبَقوا بتلك الكلمات:
ومِن أمثلةِ ذلك: ما يقالُ: إن أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ هو مَن قال الآيةَ الكريمةَ:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}
[آل عمران: 144]
وهذا ليس صحيحًا؛ لأن هذه الآيةَ نزَلَتْ بعدَ غزوةِ أُحُدٍ، أي: قبل وفاةِ النبيِّ ﷺ بسنواتٍ، وقد نزَلَتْ عتابًا للصحابةِ على ما أصابَهم في غزوةِ أُحُدٍ مِن خَلْخَلةٍ في الصفوف؛ ما أدَّى إلى فرارِ الكثيرِ مِن المسلِمين مِن المَعرَكةِ؛ وذلك عندما أُشِيعَ أن النبيَّ ﷺ قد قُتِلَ، وقال أناسٌ مِن المنافِقين: «إنْ كان محمَّدٌ قد قُتِلَ، فالْحَقُوا بدِينِكم الأوَّلِ»، فأنزَلَ اللهُ سبحانه هذه الآيةَ؛ ينظر: «تفسيرُ الطبَريّ» (7/ 258)؛ وذلك ليبيِّنَ للمسلِمين أن النبوَّةَ لا تعني الخلودَ، وأن مصيرَ النبيِّ ﷺ كمصيرِ بقيَّةِ الأنبياءِ قبله، وهو الموت.
وقد أُصِيبَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ وغيرُهُ بحزنٍ شديدٍ؛ بسببِ وفاةِ الرسولِ ﷺ، إلى درَجةِ أنهم لم يصدِّقوا حدوثَ الوفاة، وتوعَّد عُمَرُ بضربِ عُنُقِ مَن يقولُ ذلك، ونِسْيانُهُ لهذه الآيةِ يعُودُ إلى كونِهِ - مِثلَ باقي البشَرِ - يتأثَّرُ بالنوازلِ الشديدة، وقد يُصابُ بالغفلةِ والنِّسْيان، فلما جاء أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضيَ اللهُ عنه، وقال: «مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا ﷺ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ»، ثم تلا الآيةَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ...}، عندها قال عُمَرُ: «وَاللهِ، مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا، فَعَقِرْتُ، حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا، عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ مَاتَ». ينظر: «صحيحُ البخاريّ» (4454)، و«سيرةُ ابنِ هشام» (2/ 656).
فقولُ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه في الروايةِ: «وَاللهِ، مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا»، يدُلُّ دَلالةً واضحةً على قرآنيَّةِ الآيةِ؛ لأن معنى التلاوةِ لغةً واصطلاحًا - عند المسلِمين - قراءةُ القرآن.
ويزيدُ ما سبَقَ تأكيدًا: قولُ الراوي في الحديثِ: «وَاللهِ، لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ، حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ».
ثانيًا: موافَقةُ بعضِ كلامِ الصحابةِ لبعضِ كلامِ القرآنِ الكريمِ، لا تَعْني أن كلامَهم قرآنٌ، أو أن القرآنَ احتاج إليه:
فمثَلًا: قد قال بعضُهم: إن الآيةَ الكريمةَ:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
[البقرة: 125]
مِن قولِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، وإنها أُضِيفَتْ إلى القرآن:
والردُّ على ذلك: بأن ثَمَّةَ فَرْقًا بين الآيةِ، وبين صيغةِ التمنِّي التي قالها عُمَرُ رضيَ اللهُ عنه، عندما تمنَّى أن يَتَّخِذَ المسلِمون مِن مقامِ إبراهيمَ عليه السلامُ مصلًّى، فنزَلتِ الآيةُ تأمُرُ بذلك؛ حيثُ قال عُمَرُ:
«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]»
رواه البخاري (402).
فإن عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، تمنَّى فقطْ أن تكونَ القِبْلةُ تُجاهَ البيتِ الحرامِ؛ لما رآهُ مِن رسولِ اللهِ ﷺ، مِن تمنِّي اتِّخاذِ الكعبةِ قِبْلةً للمسلِمين، بدلًا مِن بيتِ المَقدِس.
ولو تأمَّلْنا صيغةَ الأمرِ في الآيةِ: {وَاتَّخِذُوا}، لتأكَّدنا مِن أنها - ولا ريبَ - مِن عندِ اللهِ سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يستطيعُ أيُّ إنسانٍ - مهما كانت منزلتُهُ - أن يأمُرَ النبيَّ ﷺ بتشريعٍ، فينفِّذَ النبيُّ ﷺ أمرَه.
وأيضًا: فإن موافَقةَ القرآنِ لبعضِ ما تكلَّم به بعضُ الناسِ مِن الحروفِ، أو الكلماتِ، أو حتى الجُمَلِ -: لا تَعْني بحالٍ أن تُنسَبَ كلماتُ القرآنِ لذلك الشخص.
فالقرآنُ نزَلَ بلغةِ العرَبِ، وبكلماتِهم التي يستخدِمُونها، وببعضِ جُمَلِهم التي يذكُرونها، ومع هذا فقد تحدَّاهم القرآنُ أن يأتُوا بمِثْلِهِ نظمًا، وتركيبًا، وبلاغةً، وفي صحَّةِ معانيهِ ورُقِيِّها.
وقد فَهِمَ العربُ: أن المرادَ ذلك، وليس مجرَّدَ الكلماتِ، أو الجُمَلِ؛ فسلَّموا بالعجزِ؛ فقعودُ الكفَّارِ عن المعارَضةِ، كان بسببِ شعورِهم بعجزِهم عن هذه المعارَضة، واقتناعِهم بإعجازِ القرآنِ الكريم.
فعُمَرُ قال في حياتِهِ جملًا كثيرةً جِدًّا، والقرآنُ الكريمُ - مع أن اللهَ تعالى عَلِمَ ما فيه قبل خَلْقِ عُمَرَ رضيَ الله عنه - إنما تضمَّن جملةً يسيرةً مِن كلامِهِ في جزءٍ صغيرٍ مِن آيةٍ.
وكما أنه ليس كُلُّ ما حُكِيَ على لسانِ أحَدٍ مِن البَشَرِ في القرآنِ الكريمِ يُعَدُّ مِن كلامِهِ؛ بدليلِ أن اللهَ سبحانه وتعالى قد حكى كلامًا في القرآنِ على لسانِ بعضِ الكفَّارِ والمشرِكين؛ ومِن ذلك: قولُ اللهِ تعالى حكايةً عن فِرْعَوْنَ:
{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
[يونس: 90]
فهل تَصِحُّ نسبةُ هذه الآيةِ لفِرْعَوْنَ، أم أنها مِن جملةِ القرآنِ الكريمِ الذي هو كلامُ الله؟!
ولما أمسَكَ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ بعَظْمةٍ باليةٍ، ثم فرَكَها، ونثَرَها في الهواءِ، وقال: كيف يُحْيي هذه اللهُ بعد موتِها؟ ونقَلَ لنا اللهُ هذا في قولِهِ:
{قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}
[يس: 78]
ينظر: «سِيرةُ ابنِ هشام» (1/ 361)؛ فهل نُقِلَتْ هذه الآيةُ عن أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ، أم هي مِن قولِ اللهِ تعالى؟!
وكذلك قولُ اللهِ تعالى مخاطِبًا نبيَّه ﷺ:
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
[الأحزاب: 37]
وغيرُها مِن الأمثلة.
والحاصلُ: أن القرآنَ جاء بالأسلوبِ الرائعِ الخلَّابِ الذي اشتمَلَ على الخصائصِ العليا التي لم تجتمِعْ في غيرِهِ، بل لم تُوجَدْ في كلامٍ آخَرَ؛ مما أعجَزَ أساطينَ الفصحاءْ، ومقالاتِ البلغاءْ، وأخرَسَ أَلسِنةَ فحولِ البيانْ، مِن أهلِ صناعةِ اللسانْ.
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
يَبحَثُ السؤالُ حولَ ورودِ رواياتٍ تاريخيَّةٍ لموافَقةِ القرآنِ الكريمِ لبعضِ مَقُولاتِ الصحابة؛ فما مَدَى صحَّةِ ذلك مِن جهةٍ، ومدى دَلَالتِهِ مِن جهةٍ أخرى؟
مختصَرُ الإجابة:
موافَقةُ القرآنِ لبعضِ ما تكلَّم به بعضُ الناسِ مِن الكلماتِ، أو حتى الجُمَلِ، تحتاجُ أوَّلًا: إلى إثباتِ وقوعِها، وهل كان القرآنُ سابقًا لقولِ الصحابيِّ أو لاحقًا له، وثانيًا: إلى إثباتِ كونِها تشكِّلُ تشكيكًا في صحَّةِ القرآنِ الكريم، ومع ذلك: فلا يعني ذلك بحالٍ أن يُنسَبَ القرآنُ لذلك الشخص؛ وعلى هذا: فجوابُ هذه الدعوى مِن وجوه:
أوَّلًا: لابدَّ مِن التحقُّقِ مِن صحَّةِ تلك الحوادثِ، وكونِهم سبَقوا بتلك الكلمات؛ فإن ما ثبَتَ مِن ذلك، لا يشكِّكُ في منزلةِ القرآنِ؛ فالمنقولُ يسيرٌ جدًّا، وهو لا يستوفي شيئًا ذا بالٍ وقَعَ فيه التحدِّي.
ثانيًا: القرآنُ عربيٌّ، وهو يختارُ مِن كلامِ العرَبِ ما وافَقَ الكمالَ، وتضمينُ كلامِ الآخَرينَ لا يَنْفي نسبةَ الكلامِ للمضمِّن، ولا يَعْني أن كلامَهم قرآنٌ، أو أن القرآنَ احتاج إليه. ثالثًا: في بعضِ هذه الرواياتِ اختلافٌ واضحٌ بين المنقولِ عن الصحابةِ، وبين صيغةِ الآيةِ التي جاءت
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
يَبحَثُ السؤالُ حولَ ورودِ رواياتٍ تاريخيَّةٍ لموافَقةِ القرآنِ الكريمِ لبعضِ مَقُولاتِ الصحابة؛ فما مَدَى صحَّةِ ذلك مِن جهةٍ، ومدى دَلَالتِهِ مِن جهةٍ أخرى؟
مختصَرُ الإجابة:
موافَقةُ القرآنِ لبعضِ ما تكلَّم به بعضُ الناسِ مِن الكلماتِ، أو حتى الجُمَلِ، تحتاجُ أوَّلًا: إلى إثباتِ وقوعِها، وهل كان القرآنُ سابقًا لقولِ الصحابيِّ أو لاحقًا له، وثانيًا: إلى إثباتِ كونِها تشكِّلُ تشكيكًا في صحَّةِ القرآنِ الكريم، ومع ذلك: فلا يعني ذلك بحالٍ أن يُنسَبَ القرآنُ لذلك الشخص؛ وعلى هذا: فجوابُ هذه الدعوى مِن وجوه:
أوَّلًا: لابدَّ مِن التحقُّقِ مِن صحَّةِ تلك الحوادثِ، وكونِهم سبَقوا بتلك الكلمات؛ فإن ما ثبَتَ مِن ذلك، لا يشكِّكُ في منزلةِ القرآنِ؛ فالمنقولُ يسيرٌ جدًّا، وهو لا يستوفي شيئًا ذا بالٍ وقَعَ فيه التحدِّي.
ثانيًا: القرآنُ عربيٌّ، وهو يختارُ مِن كلامِ العرَبِ ما وافَقَ الكمالَ، وتضمينُ كلامِ الآخَرينَ لا يَنْفي نسبةَ الكلامِ للمضمِّن، ولا يَعْني أن كلامَهم قرآنٌ، أو أن القرآنَ احتاج إليه. ثالثًا: في بعضِ هذه الرواياتِ اختلافٌ واضحٌ بين المنقولِ عن الصحابةِ، وبين صيغةِ الآيةِ التي جاءت
الجواب التفصيلي
إن موافَقةَ القرآنِ لبعضِ ما تكلَّم به بعضُ الناسِ مِن الكلماتِ، أو حتى الجُمَلِ، تحتاجُ أوَّلًا: إلى إثباتِ وقوعِها، وهل كان القرآنُ سابقًا لقولِ الصحابيِّ أو لاحقًا له، وثانيًا: إلى إثباتِ كونِها تشكِّلُ تشكيكًا في صحَّةِ القرآنِ الكريم، ، ومع ذلك: فلا يعني ذلك بحالٍ أن يُنسَبَ القرآنُ لذلك الشخص؛ وعلى هذا: فالجوابُ على هذه الدعوى يتبيَّنُ مما يلي:
أوَّلًا: التحقُّقُ مِن صحَّةِ تلك الحوادثِ، وكونِهم سبَقوا بتلك الكلمات:
ومِن أمثلةِ ذلك: ما يقالُ: إن أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ هو مَن قال الآيةَ الكريمةَ:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}
[آل عمران: 144]
وهذا ليس صحيحًا؛ لأن هذه الآيةَ نزَلَتْ بعدَ غزوةِ أُحُدٍ، أي: قبل وفاةِ النبيِّ ﷺ بسنواتٍ، وقد نزَلَتْ عتابًا للصحابةِ على ما أصابَهم في غزوةِ أُحُدٍ مِن خَلْخَلةٍ في الصفوف؛ ما أدَّى إلى فرارِ الكثيرِ مِن المسلِمين مِن المَعرَكةِ؛ وذلك عندما أُشِيعَ أن النبيَّ ﷺ قد قُتِلَ، وقال أناسٌ مِن المنافِقين: «إنْ كان محمَّدٌ قد قُتِلَ، فالْحَقُوا بدِينِكم الأوَّلِ»، فأنزَلَ اللهُ سبحانه هذه الآيةَ؛ ينظر: «تفسيرُ الطبَريّ» (7/ 258)؛ وذلك ليبيِّنَ للمسلِمين أن النبوَّةَ لا تعني الخلودَ، وأن مصيرَ النبيِّ ﷺ كمصيرِ بقيَّةِ الأنبياءِ قبله، وهو الموت.
وقد أُصِيبَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ وغيرُهُ بحزنٍ شديدٍ؛ بسببِ وفاةِ الرسولِ ﷺ، إلى درَجةِ أنهم لم يصدِّقوا حدوثَ الوفاة، وتوعَّد عُمَرُ بضربِ عُنُقِ مَن يقولُ ذلك، ونِسْيانُهُ لهذه الآيةِ يعُودُ إلى كونِهِ - مِثلَ باقي البشَرِ - يتأثَّرُ بالنوازلِ الشديدة، وقد يُصابُ بالغفلةِ والنِّسْيان، فلما جاء أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضيَ اللهُ عنه، وقال: «مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا ﷺ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ، فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ»، ثم تلا الآيةَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ...}، عندها قال عُمَرُ: «وَاللهِ، مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا، فَعَقِرْتُ، حَتَّى مَا تُقِلُّنِي رِجْلَايَ، وَحَتَّى أَهْوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا، عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ مَاتَ». ينظر: «صحيحُ البخاريّ» (4454)، و«سيرةُ ابنِ هشام» (2/ 656).
فقولُ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه في الروايةِ: «وَاللهِ، مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا»، يدُلُّ دَلالةً واضحةً على قرآنيَّةِ الآيةِ؛ لأن معنى التلاوةِ لغةً واصطلاحًا - عند المسلِمين - قراءةُ القرآن.
ويزيدُ ما سبَقَ تأكيدًا: قولُ الراوي في الحديثِ: «وَاللهِ، لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ، حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ».
ثانيًا: موافَقةُ بعضِ كلامِ الصحابةِ لبعضِ كلامِ القرآنِ الكريمِ، لا تَعْني أن كلامَهم قرآنٌ، أو أن القرآنَ احتاج إليه:
فمثَلًا: قد قال بعضُهم: إن الآيةَ الكريمةَ:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
[البقرة: 125]
مِن قولِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، وإنها أُضِيفَتْ إلى القرآن:
والردُّ على ذلك: بأن ثَمَّةَ فَرْقًا بين الآيةِ، وبين صيغةِ التمنِّي التي قالها عُمَرُ رضيَ اللهُ عنه، عندما تمنَّى أن يَتَّخِذَ المسلِمون مِن مقامِ إبراهيمَ عليه السلامُ مصلًّى، فنزَلتِ الآيةُ تأمُرُ بذلك؛ حيثُ قال عُمَرُ:
«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]»
رواه البخاري (402).
فإن عُمَرَ رضيَ اللهُ عنه، تمنَّى فقطْ أن تكونَ القِبْلةُ تُجاهَ البيتِ الحرامِ؛ لما رآهُ مِن رسولِ اللهِ ﷺ، مِن تمنِّي اتِّخاذِ الكعبةِ قِبْلةً للمسلِمين، بدلًا مِن بيتِ المَقدِس.
ولو تأمَّلْنا صيغةَ الأمرِ في الآيةِ: {وَاتَّخِذُوا}، لتأكَّدنا مِن أنها - ولا ريبَ - مِن عندِ اللهِ سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يستطيعُ أيُّ إنسانٍ - مهما كانت منزلتُهُ - أن يأمُرَ النبيَّ ﷺ بتشريعٍ، فينفِّذَ النبيُّ ﷺ أمرَه.
وأيضًا: فإن موافَقةَ القرآنِ لبعضِ ما تكلَّم به بعضُ الناسِ مِن الحروفِ، أو الكلماتِ، أو حتى الجُمَلِ -: لا تَعْني بحالٍ أن تُنسَبَ كلماتُ القرآنِ لذلك الشخص.
فالقرآنُ نزَلَ بلغةِ العرَبِ، وبكلماتِهم التي يستخدِمُونها، وببعضِ جُمَلِهم التي يذكُرونها، ومع هذا فقد تحدَّاهم القرآنُ أن يأتُوا بمِثْلِهِ نظمًا، وتركيبًا، وبلاغةً، وفي صحَّةِ معانيهِ ورُقِيِّها.
وقد فَهِمَ العربُ: أن المرادَ ذلك، وليس مجرَّدَ الكلماتِ، أو الجُمَلِ؛ فسلَّموا بالعجزِ؛ فقعودُ الكفَّارِ عن المعارَضةِ، كان بسببِ شعورِهم بعجزِهم عن هذه المعارَضة، واقتناعِهم بإعجازِ القرآنِ الكريم.
فعُمَرُ قال في حياتِهِ جملًا كثيرةً جِدًّا، والقرآنُ الكريمُ - مع أن اللهَ تعالى عَلِمَ ما فيه قبل خَلْقِ عُمَرَ رضيَ الله عنه - إنما تضمَّن جملةً يسيرةً مِن كلامِهِ في جزءٍ صغيرٍ مِن آيةٍ.
وكما أنه ليس كُلُّ ما حُكِيَ على لسانِ أحَدٍ مِن البَشَرِ في القرآنِ الكريمِ يُعَدُّ مِن كلامِهِ؛ بدليلِ أن اللهَ سبحانه وتعالى قد حكى كلامًا في القرآنِ على لسانِ بعضِ الكفَّارِ والمشرِكين؛ ومِن ذلك: قولُ اللهِ تعالى حكايةً عن فِرْعَوْنَ:
{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
[يونس: 90]
فهل تَصِحُّ نسبةُ هذه الآيةِ لفِرْعَوْنَ، أم أنها مِن جملةِ القرآنِ الكريمِ الذي هو كلامُ الله؟!
ولما أمسَكَ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ بعَظْمةٍ باليةٍ، ثم فرَكَها، ونثَرَها في الهواءِ، وقال: كيف يُحْيي هذه اللهُ بعد موتِها؟ ونقَلَ لنا اللهُ هذا في قولِهِ:
{قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}
[يس: 78]
ينظر: «سِيرةُ ابنِ هشام» (1/ 361)؛ فهل نُقِلَتْ هذه الآيةُ عن أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ، أم هي مِن قولِ اللهِ تعالى؟!
وكذلك قولُ اللهِ تعالى مخاطِبًا نبيَّه ﷺ:
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
[الأحزاب: 37]
وغيرُها مِن الأمثلة.
والحاصلُ: أن القرآنَ جاء بالأسلوبِ الرائعِ الخلَّابِ الذي اشتمَلَ على الخصائصِ العليا التي لم تجتمِعْ في غيرِهِ، بل لم تُوجَدْ في كلامٍ آخَرَ؛ مما أعجَزَ أساطينَ الفصحاءْ، ومقالاتِ البلغاءْ، وأخرَسَ أَلسِنةَ فحولِ البيانْ، مِن أهلِ صناعةِ اللسانْ.