نص السؤال

الزعم أن الشيعة هم أول من دونوا السنة

المصدر: شبهات المشككين في الإسلام

الجواب التفصيلي

الزعم أن الشيعة هم أول من دونوا السنة(*)

مضمون الشبهة:

 يزعم بعض المغالطين أن الشيعة هم أول من تقدم لجمع الآثار والأخبار وتدوين السنة، ويستندون في تقوية هذا الادعاء إلى أن الشيعة اقتدوا في ذلك بالإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي كان له كتاب عظيم مدرج وصحيفة معلقة بسيفه, كما أن أبا رافع - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أول من ألف في الأحاديث وله كتاب "السنة والأحكام والقضايا"، وقد كان - على حد زعمهم - شيعيا توفي في أول خلافة علي - رضي الله عنه - سنة خمس وثلاثين من الهجرة، فلا أقدم من أبي رافع بالضرورة. رامين من وراء ذلك إلى إبراز أن الشيعة هم المؤسسون لعلوم الإسلام٬ وأول من دونوا السنة والأخبار، وأن ما دون في كتبهم سنة صحيحة٬ وليست مكذوبة من أجل تأييد مذهبهم.

وجوه إبطال الشبهة:

1) لقد بدأ التدوين الرسمي للسنة قبل ظهور فرق الشيعة، وعلي بن أبي طالب وأبو رافع لم يكونا شيعيين، ولم يدعوا إلى التشيع، وأول من دون من الشيعة هو الكليني في كتابه "الكافي"، بعد قرابة قرنين من التدوين الرسمي لأهل السنة.

2) إذا صح خبر أبي رافع فيكون ممن دون في عصر الصحابة، وقد سبقه عبد الله بن عمرو بن العاص، وإذا صح أن كتابه كان مرتبا على الأبواب (الصلاة والصيام والحج والزكاة والقضايا)، كان لأبي رافع شرف الأولية في التأليف لا في التدوين.

3) الشيعة لا يقرون بالسنة؛ لأنها منقولة عن طريق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، الذين ارتدوا كلهم - حسب المنظور الشيعي - إلا ثلاثة: مقداد، وأبو ذر، وسلمان. فكيف ينسبون لأنفسهم شرف الأولية في تدوين السنة والمحافظة عليها، وقد جرحوا الطبقة الأولى (الصحابة) الواسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، التي إذا فقدت انقطع السند والاتصال؟!

التفصيل:

أولا. كتابة الحديث بدأت قبل ظهور الشيعة أصلا، والتدوين الرسمي للسنة كان قبل تدوين الشيعة بقرنين من الزمان على الأقل:

لقد كتب الكثير من السنة النبوية في العصر النبوي وبعده، ثم دونت بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز تدوينا رسميا، وذلك من أفواه من حفظوها عن الصحابة مباشرة، أو من الكتب التي تركها الصحابة رضي الله عنهم.

ومعنى هذا أن كتابة السنة بدأت قبل ظهور الشيعة أصلا، فإن الشيعة فرقة ظهرت في آخر عصر عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم نمت وترعرعت في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ الذي كان كلما اختلط بالناس ازدادوا إعجابا بمواهبه، وقوة دينه وعلمه، فاستغل الدعاة ذلك الإعجاب، وأخذوا ينشرون آراءهم فيه ما بين رأي فيه مغالاة، ورأي فيه اعتدال.

قال ابن تيمية رحمه الله: "لما أحدثت البدع الشيعية في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ردها"، ويقول: "وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، فلما قتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ووقعت الفتنة فاقتتل المسلمون بصفين، مرقت المارقة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:

«تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق»

[1]

وكان مروقها لـما حكم الحكمان، وافترق الناس على غير اتفاق.

وهنا حدثت أيضا بدعة التشيع للإمام علي - رضي الله عنه - وآل بيته، فمنهم من أفرط في المغالاة وادعى لعلي الألوهية، ومنهم من ادعى النص على إمامة علي رضي الله عنه، ومنهم السابون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فعاقب أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - الطائفتين: قاتل المارقين، وأمر بإحراق أولئك الذين ادعوا فيه الألوهية.

وأما السابون الذين يسبون أبا بكر وعمر، فإن عليا لما بلغه أمر السب طلب ابن السوداء الذي بلغه ذلك عنه، وقيل: إنه أراد قتله، فهرب منه إلى أرض قرقيسيا.

وأما المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فروي عنه أنه قال: لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري"[2].

هذا هو تاريخ ظهور الشيعة، فإذا علمنا أن كتابة السنة بدأت في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضع دستور المدينة، وبكتابه - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات، وكتاب سعد بن عبادة، وبكتابه - صلى الله عليه وسلم - لأهل حضرموت، وكتابه - صلى الله عليه وسلم - لأهل اليمن، والصحيفة الصادقة أو الصحيفة الصحيحة، وصحيفة جابر بن عبد الله رضي الله عنه، هذا بالإضافة إلى ما أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتب ورسائل إلى الملوك والرؤساء، وما زود به النبي - صلى الله عليه وسلم - رسله إلى قومهم بكتب تضمنت الحلال والحرام، وأمور الدين، وقد جمع أكثرها في كتاب "مكاتيب الرسول صلى الله عليه وسلم" ويضم (316) كتابا[3].

إذا علمنا ذلك تيقنا أن السنة كتبت قبل ظهور هذه الفرق الشيعية بسنوات. فإذا أضفنا إلى ذلك أن التدوين الرسمي للسنة كان في عصر عمر بن عبد العزيز أي حوالي سنة مائة هجرية، وكان أول من دون السنة من الشيعة هو الكليني في القرن الرابع الهجري، إذا علمنا ذلك، تبين لنا أن أهل السنة لا الشيعة هم أول من دونوا السنة، وحفظوها لنا من الضياع، وأن تدوين الشيعة للسنة كان قد تأخر قرابة قرنين من الزمان.

أما دعوى أن تدوين السنة بمعرفة الشيعة بدأ بصحيفة الإمام علي التي أملاها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما كان في قراب سيفه، ثم دون أبو رافع القبطي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب السنن والأحكام والقضايا، فإن هذا الادعاء مردود؛ لأن ذلك التدوين كان في عصر الصحابة، أي قبل ظهور الشيعة أصلا، كما وضحنا أن أول من دون من الشيعة هو الكليني (ت: 329هـ) في كتابه "الكافي"، ثم دون ابن بابويه (ت: 381هـ) كتاب "فقيه من لا يحضره الفقيه"، ثم دون الطوسي (ت: 460هـ) كتاب " تهذيب الأحكام"، وبعد ذلك كتاب "جامع الأخبار" للشيخ عبد اللطيف الهمذاني (ت: 1050هـ).

وأما المذهب الزيدي فمن كتبه: "أحاديث البحر الزخار" لابن بهران (ت: 957هـ)، و"المجموع الفقهي", ويضم ما رواه الإمام زيد.

والجعفرية يخلطون الحديث بالفقه، أي أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقوال أئمتهم بسبب العصمة...

والجدير بالذكر أن صحيفة الإمام علي التي أشار إليها كتاب "الكافي" تتضمن أمورا حصرها الإمام علي - رضي الله عنه - في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم, أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال:

«العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر»

[4]

فهذه الصحيفة قد خلت من ذكر حديث الغدير الذي بني عليه الخلاف بين السنة والشيعة، وهي لا تعد من مدونات الشيعة؛ لأن مذهبهم ظهر بعد قتل الإمام علي رضي الله عنه[5].

كما أن أبا رافع قد توفي قبل ظهور الانقسامات المذهبية والفرق الإسلامية؛ فمن التعسف اعتباره شيعيا بالمفهوم المذهبي لفرقة الشيعة, فإن حبه وولاءه لأهل البيت كحب وولاء أهل السنة لهم، وهذه ترجمته كما وردت في كتب السير: "فهو أبو رافع القبطي، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقال: اسمه إبراهيم، ويقال: أسلم، ويقال: ثابت، ويقال: هرمز.

روي أنه كان عبدا للعباس بن عبد المطلب فوهبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بشره بإسلام العباس أعتقه، شهد أحدا، والخندق وما بعدهما من المشاهد، ولم يشهد بدرا وكان إسلامه قبل بدر، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عبد الله بن مسعود، قال الواقدي: مات بالمدينة بعد قتل عثمان بيسير، وقال غيره: مات قبل قتل عثمان، وقيل: مات في خلافة علي رضي الله عنهم، وروى له الجماعة"[6].

وعلى فرض أن الإمام عليا وأبا رافع رضي الله عنهما هما أول من كتبا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يعني أن الشيعة أول من دون في السنة؛ لأن الإمام عليا وكذلك أبا رافع رضي الله عنهما لم يدعوا إلى التشيع بالمعنى المذهبي الذي تعارفت عليه فرق الشيعة فيما بعد، إذ هما قد توفيا قبل ذلك.

لقد كان المسلمون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحتى خلافة الإمام علي - رضي الله عنه - لا يختلفون في أمر السنة النبوية، ثم ظهرت الفتنة بعد خروج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ومن معه، واعتراضهم علي الإمام علي رضي الله عنه، بدعوى أنه تهاون في إقامة الحد على قتلة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ولقد أشعل المنافقون نار الفتنة فنشبت الحرب بين معاوية ومن معه من جهة، وبين الإمام علي خليفة المسلمين من جهة أخرى، وعندما قبل الإمام علي - رضي الله عنه - التحكيم حقنا للدماء خرجت عليه فرقة سميت بالخوارج وحاربوه، فكان رد الفعل أن ظهرت طائفة الشيعة وتغالت في حب الإمام علي رضي الله عنه، وردت الطائفتان الأحاديث النبوية التي رويت عن غير طريق أئمتهم، وانفردت الشيعة باعتبار أقوال أئمتهم وأفعالهم وتقريرهم بأحاديث نبوية، حتى ولو لم ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهي أحاديث نبوية في ذاتها لعصمة الأئمة عندهم[7].

وبهذا العرض يتضح لنا أن الشيعة ليسوا هم أول من دون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأن السنة قد دونت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أصحابه من بعده, وأن التابعين جاءوا بعد الصحابة الكرام وتناقلوا مدوناتهم وصحائفهم حتى كان عصر التدوين الرسمي في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، ففي عصره وبأمره جمع ما عند التابعين، وهم الذين نقلوا عن الصحابة مباشرة.

ثانيا. إذا صح أن أبا رافع كتب كتابا رتبه على الأبواب، فإنه بذلك يكون من بين من كتب الحديث في عصر الصحابة:

بداية نذكر أننا لم نقف فيما بين أيدينا من مصادر على هذا الخبر؛ لنستطيع أن نحكم عليه بالقبول أو الرفض، ولسنا ندري من أين جاء به المغرضون، ولكن الثابت أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكتبون الحديث على عهده صلى الله عليه وسلم، وقد وردت أحاديث كثيرة تؤكد ذلك، بل تأمر وتحث على كتابة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يدحض ويبطل هذا الزعم القائل بأن الشيعة هم أول من دونوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الأحاديث الواردة في هذا الصدد:

1. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:

«ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب»

[8].

وهذا الحديث يشير إلى أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان أكثر الصحابة كتابة للحديث، وهذا يعني أن منهم كتابا كثيرين ولكنه يعد أكثرهم كتابة للحديث.

2. عن ابن عباس قال:

«لما اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين كتابه»

[9].

ولولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيح الكتابة ويحث عليها ما دعا إلى كتابة هذا الكتاب في أثناء مرضه[10].

وبهذا يتبين أن أبا رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس أول من كتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو واحد ممن كتبوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولكن إذا صح أن أبا رافع كتب كتاب "السنن والأحكام والقضايا"، وكان مرتبا على الأبواب: (الصلاة والصيام، والحج، والزكاة، والقضايا) - كان لأبي رافع بذلك شرف الأولية في التأليف والتصنيف لا في مجرد الكتابة والتدوين الذي يقتصرعلى جمع الأحاديث في كتاب واحد دون ترتيبها على الكتب والأبواب.

وهذا بالضرورة لا يعني أن الشيعة هم أول من دون السنة، وذلك لأن أبا رافع لم يكن شيعيا بالمعنى المذهبي لمفهوم التشيع، ولم يدع إلى التشيع، ولقد توفي - رضي الله عنه - قبل ظهور الانقسامات المذهبية، مما لا يدع مجالا للشك في زيف هذه الشبهة وبطلانها.

إذن صحة خبر أبي رافع لا تنفي ما ثبت تاريخيا من أخبار التدوين الفردية في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما تلاه؛ فقد بدأ تدوين السنة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق أن أوضحنا, وإن كان المشتهر بين عامة الناس من غير ذوى التتبع والاستقصاء أن الحديث - أو ما يطلق عليه علماء الحديث لفظ "العلم" - ظل أكثر من مائة سنة يتناقله العلماء حفظا دون أن يكتبوه، واستمر هذا الظن قرابة خمسة قرون متتابعة وهو يزداد توسعا، ويطرد قوة حتى جاء الخطيب البغدادي فتتبع مسائل هذا الموضع وجمع شتاته وألف في ذلك كتاب "تقييد العلم"، أما سبب هذا الظن فهو خطأ في تأويل ما ورد عن المحدثين في تدوين الحديث وتصنيفه، فقد ذكر هؤلاء أن أول من دون العلم ابن شهاب الزهري المتوفى سنة 124هـ أو سنة 125هـ، وذكروا أول من صنف الكتب فإذا هم جميعا ممن عاش حتى بعد سنة 143هـ تقريبا.

ولم يعط العلماء قبل الخطيب البغدادي هذه الأقوال حقها من التأويل العميق والفهم الدقيق، بل رووا هذه الأقوال بشكل يوهم بأن أول من كتب الحديث ودونه فعلا هو ابن شهاب الزهري، وأول من صنفه في الكتب أتى بعده.

وغلبت هذه الفكرة على أصحاب الكتب الجامعة: كأبي طالب المكي، والإمام الذهبي، والحافظ ابن حجر، والمقريزي، وصاحب أبجد العلوم وغيرهم، فكانوا يؤيدونها رغم أنهم كانوا يجدون لها نقيضا، وذلك أنهم يذكرون أن من جاء بعد الصحابة والتابعين كانوا يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة كتبت في عصر الصحابة والتابعين.

إذن؛ فقد كان ثمة تدوين قبل عصر الإمام الزهري الذي يعد من طبقة صغار التابعين.

وقد أثبت الخطيب أن تقييد العلم كان موجودا في حياته - صلى الله عليه وسلم - وفي عصر الصحابة والتابعين كذلك، فجمع الأحاديث والأخبار التي لها صلة بنشأة تقييد العلم، وخرج بالنتائج التالية:

1. أنه لم يصح حديث في النهي عن كتابة الحديث سوى حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم، مع اختلاف بين البخاري ومسلم في رفعه ووقفه[11].

2. أن الامر استقر في حياته - صلى الله عليه وسلم - على إباحة الكتابة، بل هناك أدلة تدل على الحث على الكتابة.

3.  أن التدوين بمعناه الواسع - وهو الجمع - قد بدأ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

4. أن امتناع من امتنع من الصحابة والتابعين عن كتابة الحديث ليس للنهي الوارد في حديث أبي سعيد الخدري، ولكن هذا الامتناع معلل بأسباب أخر، منها: خوف انكباب الناس على الكتب وانشغالهم بها عن القرآن، وقد أورد الخطيب عن السلف النصوص الكثيرة المصرحة بذلك[12]، ومنها الحفاظ على ملكة الحفظ عند المسلمين؛ إذ الاتكال على الكتابة يضعفها، ولذلك كان بعضهم يكتب ثم يمحو ما كتب، ولو كان النهي عن الكتابة مستقرا عندهم لما كتبوا ابتداء[13].

5. ولكي نؤكد على صحة أن الصحابة كانوا يدونون السنة بالمفهوم الواسع لهذا المصطلح - نذكر جهودهم - رضي الله عنهم - في تدوين السنة، حتى يتضح أن أبا رافع - إن صح الخبر السابق عنه - لم يكن وحده الذي كان يدون السنة، كما لا ينفي أن غيره من الصحابة كانوا يدونون ما يحفظون من الحديث، فقد كان بعضهم يكتب السنة لبعض، ومن أمثلة ذلك:

·   كتب أسيد بن حضير الأنصاري - رضي الله عنه - بعض الأحاديث النبوية، ودون أقضية أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وأرسل ذلك كله إلى مروان بن الحكم[14].

·   وكتب جابر بن سمرة - رضي الله عنه - بعض أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعث بها إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص؛ بناء على طلبه ذلك منه[15].

·   وكتب زيد بن أرقم - رضي الله عنه - بعض الأحاديث النبوية وأرسل بها إلى أنس بن مالك رضي الله عنه.

·   وكتب زيد بن ثابت في أمر الجد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك بناء على طلب عمر نفسه [16].

·   وجمع سمرة بن جندب ما عنده من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعث به إلى ابنه سليمان، وقد أثنى الإمام محمد بن سيرين على هذه الرسالة، فقال: في رسالة سمرة إلى ابنه علم كثير[17].

·   وكتب عبد الله بن أبي أوفى بأحاديث رسول الله إلى عمر بن عبيد الله[18].

وهذا كله يدل دلالة واضحة على أن تدوين السنة كان بأقلام الصحابة رضي الله عنهم، لا بأقلام الشيعة كما زعموا، فأي دليل أنصع من هذا حتى يكف هؤلاء عن ادعاءاتهم الباطلة؟!

ثالثا. الشيعة لا يقرون بالسنة أصلا، فكيف يزعمون أنهم أول من دونها؟!

إن الشيعة يقولون: إن السنة النبوية منقولة عن طريق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإن أصحابه ارتدوا كلهم بما فيهم سادة بني هاشم، وغيرهم من الأنصار والمهاجرين إلا ثلاثة: المقداد، وأبو ذر، وسلمان، وهؤلاء لم يرو عنهم إلا القليل، وأما البقية فلا يطمئن إليهم، ولا إلى مروياتهم؛ لانقلابهم على أعقابهم إلى الكفر، بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعتمد عليهم ولا يوثق بأخبارهم ويعتبرونها ساقطة، مكذوبة، موضوعة - حسب المنظور الشيعي - نعوذ بالله من ذلك، ونستغفر الله من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، والافتراء على أصحابه رضي الله عنهم.

فكل حديث أو خبر نقل عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ورد في سنده من ينتهج منهجهم، ويتبع خطاهم - يسقط من الاعتبار، فهذه قاعدة محكمة متينة في مصطلح الحديث عند الشيعة، حتى أقر بذلك أحدهم؛ إذ قال: "إن الشيعة لا يعتبرون بشيء من السنة، أعني الأحاديث النبوية، إلا ما صح لهم عن طريق أهل البيت عن جدهم - يعني ما رواه جعفر الصادق - عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن الحسين السبط عن رسول الله سلام الله عليهم جميعا، أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب، ومروان بن الحكم، وعمران بن حطان الخارجي، وعمرو بن العاص ونظائرهم، فليس له عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة، وأمرهم أشهر من أن يذكر"[19].

فعمن دون الشيعة السنة إذن، إذا كانوا لا ينقلون عن جل الصحابة بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟!

إن فقدان الثقة في صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدان لما نقلوه قرآنا وسنة، فكيف يسلم لهم بذلك؟

ويقول أحد رموزهم[20] في القرن العاشر الهجري: "وقد جازف أهل السنة كل المجازفة، بل وصلوا إلى حد المخارفة فحكموا بعدالة الصحابة من لابس منهم الفتن، ومن لم يلابس، وقد كان فيهم المقهورون على الإسلام، والداخلون على غير البصيرة، والشكاك، كما وقع من فلتات ألسنتهم الكثير، بل كان فيهم المنافقون، وكان فيهم شاربو الخمر، وقاتلو النفس، وفاعلو الفسق والمناكير كما نقلوه عنهم، وما نقلنا نحن بعضه فيما سبق من صحاحهم من الأحاديث المتكثرة المتواترة المعنى يدل على ارتدادهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن فسقهم"[21].

فإذا كان هذا حال الصحابة - رضي الله عنهم - عند الشيعة، فعمن نقلوا، وفيمن وثقوا، وأي شيء دونوا؟! وقد أسقطوا أهم حلقة في سلسلة السند التي تربط الأمة بنبيها - صلى الله عليه وسلم - وهم طبقة الصحابة الذين أخذ عنهم الدين قرآنا وسنة، ناهيك عن أنهم أولى الناس بشرحهما واستنباط الأحكام منهم لمعايشتهم الوقائع والأحداث وأسباب الورود إضافة إلى أنهم أقوى الأمة إيمانا وأعمقهم فهما وأعرفهم لسانا.

فهل يعقل بعد هذا أن يقال إن الشيعة هم أول من دونوا السنة؟!

وبهذا يظهر أنهم لا يؤمنون بالأصل الثاني من أصول الشريعة الإسلامية وهي السنة، يقول إحسان إلهي ظهير: "ولا تغتر بأنهم يدعون ذلك - أي الإيمان بالسنة - فدعواهم في هذا لا تختلف عن دعواهم في الإيمان بالقرآن؛ لأن ما روي بطرقهم عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزر يسير جدا، وما روي عن جعفر عن باقر بن زين العابدين عن الحسين عن علي فهو أقل القليل، وصحاحهم الأربعة وكتبهم في الحديث الأخرى تشهد على ما قلناه.

وكذلك ما روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين لم يرتدوا من بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعين - حسب زعمهم، أي: المقداد وأبي ذر وسلمان رضي الله عنهم - فلم يرووا عنهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم إلا ما يعد على الأنامل.

أضف إلى ذلك أن جل المرويات - بل كلها - عن علي - رضي الله عنه - وعن هؤلاء الأصحاب الثلاثة ليست من قسم المتواتر، بل هي أخبار آحاد، والآحاد لا توجب العلم عند الشيعة قاطبة، ولا العمل عند جمهورهم، وهو الرأي الراجح عند الشيعة"[22].

بهذا يتبين أن الشيعة لا تعترف بالسنة أصلا، فكيف يقبل الزعم بأنهم أول من دونها؟!

الخلاصة:

·   إن كان الإمام علي - رضي الله عنه - من عظماء الصحابة الذين كتبوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له كتاب عظيم مدرج وصحيفة معلقة بسيفه، فإن هذا لا يعني انفراده بكتابة السنة، فقد كان الكثير من الصحابة كابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وغيرهم كثير - رضي الله عنهم - يكتبون مثل ذلك، ولهم صحف مشهورة.

·   لو افترضنا - جدلا - أن الإمام عليا - رضي الله عنه - هو أول من دون في السنة، فهذا لا يعني سبق الشيعة في مجال تدوين السنة؛ لأن الإمام عليا قدوة لأهل السنة قبل الشيعة، وحبهم له وآل بيته من الدين، وهو داخل في صميم حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

·   إن الإمام عليا - رضي الله عنه - لم يدع إلى التشيع، ولم يرد عنه ذلك حتى فيما روي عنه من كتب وصحف؛ بل إنه ما ورد عنه هي أمور أخرى بعيدة عما يعتقده الشيعة من آراء وأفكار، ولهذا لا يصح أن يقال: إنه إمامهم وحدهم دون سائر المسلمين.

·   إذا صح لأبي رافع كتاب "السنن والأحكام والقضايا"، فهذا لا يعني أكثر من أن يكون لأبي رافع شرف الأولية في التأليف لا في التدوين، ولا ينفي ما ثبت تاريخيا من أخبار التدوين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده، كما أن التشيع بالمفهوم المذهبي لكلمة شيعة لم يكن قد عرف بعد؛ إذ إن أبا رافع قد توفي قبل ظهور الانقسامات المذهبية في أول خلافة علي - رضي الله عنه - كما أنه لم يرد عنه أي أفكار تحض على التشيع المذهبي.

·   إن التدوين الرسمي العام للسنة بدأ عام (99هـ) عندما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، وأما قبله، فكان التدوين بطريقة فردية منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك كان قبل بدء تدوين الشيعة، فأما كتب الشيعة ومدوناتهم فقد بدأت بكتاب "الكافي" للكليني (ت: 329هـ).

·   لا يقال إذن: إن الشيعة هم أول من دون السنة؛ لأنه عند بداية تدوين أهل السنة للحديث لم يكن لهؤلاء الشيعة كتب أو روايات بالأساس.

·   إذا كان الشيعة لا يقرون بالسنة أصلا كمصدر ثان للتشريع، وأن جل مروياتهم - بل كلها - عن طريق علي - رضي الله عنه - وعن هؤلاء الأصحاب الثلاثة - ليست من قسم المتواتر، بل هي أخبار آحاد، والآحاد لا توجب العلم عند الشيعة قاطبة، ولا العمل عند جمهورهم، فكيف يقال إنهم أول من دون السنة؟ وأي شيء دونوا إذن؟

 المراجع:


(*) السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م. تأسيس الشيعة لعلوم الشريعة القرآنية, حسن الصدر، شركة الطباعة والنشر, بغداد, 1951م.

[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم، (4/ 1695)، رقم (2419).

[2]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (1/ 208، 209).

[3]. انظر: السنة المفترى عليها، سالم البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1413هـ/ 1992م، ص57: 62.

[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 246)، رقم (111).

[5]. السنة المفترى عليها، سالم البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1413هـ/ 1992م، ص55، 56.

[6]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (33/ 301، 302).

[7]. السنة المفترى عليها، سالم البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1413هـ/ 1992م، ص95، 96.

[8]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 249)، رقم (113).

[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم, باب: كتابة العلم، (1/ 251)، رقم (114).

[10]. تدوين وتوثيق السنة النبوية في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة، د. جمال محمود خلف، مكتبة الإيمان، مصر، 2007م، ص108.

[11]. وقد اتفق العلماء على نسخه، بل ونسخ كل أحاديث النهي عن الكتابة بأحاديث أباحتها.

[12]. تدوين السنة النبوية: نشأته وتطوره، د. محمد بن مطر الزهراني، مكتبة الصديق، السعودية، ط1، 1412هـ، ص65: 73 بتصرف.

[13]. تقييد العلم، الخطيب البغدادي، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م، ص58 بتصرف.

[14]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: البيوع، باب: الرجل يبيع السلعة فيستحقها مستحق، (1/ 759)، رقم (4697). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (4680).

[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، (7/ 2867)، رقم (4630).

[16]. أخرجه البيهقي في السنن الكبري، كتاب: الفرائض، باب: من ورث الإخوة للأب والأم، (6/ 247)، رقم (12208).

[17]. تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت، ط1، 1404هـ/ 1984م، (4/ 207).

[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجهاد، باب: الصبر عند القتال، (6/ 54)، رقم (2833).

[19]. أصل الشيعة وأصولها، محمد الحسين آل كاشف الغطاء، ص79، نقلا عن: بين الشيعة وأهل السنة، إحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، باكستان، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص104، 105.

[20]. وهو: الحسين بن عبد الصمد العاملي (ت: 984هـ).

[21]. بين الشيعة وأهل السنة، إحسان ظهير، إدارة ترجمان السنة، باكستان، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص105، 106.

[22]. بين الشيعة وأهل السنة، إحسان ظهير، إدارة ترجمان السنة، باكستان، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص108.

الجواب التفصيلي

الزعم أن الشيعة هم أول من دونوا السنة(*)

مضمون الشبهة:

 يزعم بعض المغالطين أن الشيعة هم أول من تقدم لجمع الآثار والأخبار وتدوين السنة، ويستندون في تقوية هذا الادعاء إلى أن الشيعة اقتدوا في ذلك بالإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي كان له كتاب عظيم مدرج وصحيفة معلقة بسيفه, كما أن أبا رافع - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أول من ألف في الأحاديث وله كتاب "السنة والأحكام والقضايا"، وقد كان - على حد زعمهم - شيعيا توفي في أول خلافة علي - رضي الله عنه - سنة خمس وثلاثين من الهجرة، فلا أقدم من أبي رافع بالضرورة. رامين من وراء ذلك إلى إبراز أن الشيعة هم المؤسسون لعلوم الإسلام٬ وأول من دونوا السنة والأخبار، وأن ما دون في كتبهم سنة صحيحة٬ وليست مكذوبة من أجل تأييد مذهبهم.

وجوه إبطال الشبهة:

1) لقد بدأ التدوين الرسمي للسنة قبل ظهور فرق الشيعة، وعلي بن أبي طالب وأبو رافع لم يكونا شيعيين، ولم يدعوا إلى التشيع، وأول من دون من الشيعة هو الكليني في كتابه "الكافي"، بعد قرابة قرنين من التدوين الرسمي لأهل السنة.

2) إذا صح خبر أبي رافع فيكون ممن دون في عصر الصحابة، وقد سبقه عبد الله بن عمرو بن العاص، وإذا صح أن كتابه كان مرتبا على الأبواب (الصلاة والصيام والحج والزكاة والقضايا)، كان لأبي رافع شرف الأولية في التأليف لا في التدوين.

3) الشيعة لا يقرون بالسنة؛ لأنها منقولة عن طريق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، الذين ارتدوا كلهم - حسب المنظور الشيعي - إلا ثلاثة: مقداد، وأبو ذر، وسلمان. فكيف ينسبون لأنفسهم شرف الأولية في تدوين السنة والمحافظة عليها، وقد جرحوا الطبقة الأولى (الصحابة) الواسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، التي إذا فقدت انقطع السند والاتصال؟!

التفصيل:

أولا. كتابة الحديث بدأت قبل ظهور الشيعة أصلا، والتدوين الرسمي للسنة كان قبل تدوين الشيعة بقرنين من الزمان على الأقل:

لقد كتب الكثير من السنة النبوية في العصر النبوي وبعده، ثم دونت بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز تدوينا رسميا، وذلك من أفواه من حفظوها عن الصحابة مباشرة، أو من الكتب التي تركها الصحابة رضي الله عنهم.

ومعنى هذا أن كتابة السنة بدأت قبل ظهور الشيعة أصلا، فإن الشيعة فرقة ظهرت في آخر عصر عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم نمت وترعرعت في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ الذي كان كلما اختلط بالناس ازدادوا إعجابا بمواهبه، وقوة دينه وعلمه، فاستغل الدعاة ذلك الإعجاب، وأخذوا ينشرون آراءهم فيه ما بين رأي فيه مغالاة، ورأي فيه اعتدال.

قال ابن تيمية رحمه الله: "لما أحدثت البدع الشيعية في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ردها"، ويقول: "وكان المسلمون على ما بعث الله به رسوله من الهدى ودين الحق الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، فلما قتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ووقعت الفتنة فاقتتل المسلمون بصفين، مرقت المارقة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:

«تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق»

[1]

وكان مروقها لـما حكم الحكمان، وافترق الناس على غير اتفاق.

وهنا حدثت أيضا بدعة التشيع للإمام علي - رضي الله عنه - وآل بيته، فمنهم من أفرط في المغالاة وادعى لعلي الألوهية، ومنهم من ادعى النص على إمامة علي رضي الله عنه، ومنهم السابون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فعاقب أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - الطائفتين: قاتل المارقين، وأمر بإحراق أولئك الذين ادعوا فيه الألوهية.

وأما السابون الذين يسبون أبا بكر وعمر، فإن عليا لما بلغه أمر السب طلب ابن السوداء الذي بلغه ذلك عنه، وقيل: إنه أراد قتله، فهرب منه إلى أرض قرقيسيا.

وأما المفضلة الذين يفضلونه على أبي بكر وعمر، فروي عنه أنه قال: لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري"[2].

هذا هو تاريخ ظهور الشيعة، فإذا علمنا أن كتابة السنة بدأت في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضع دستور المدينة، وبكتابه - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات، وكتاب سعد بن عبادة، وبكتابه - صلى الله عليه وسلم - لأهل حضرموت، وكتابه - صلى الله عليه وسلم - لأهل اليمن، والصحيفة الصادقة أو الصحيفة الصحيحة، وصحيفة جابر بن عبد الله رضي الله عنه، هذا بالإضافة إلى ما أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتب ورسائل إلى الملوك والرؤساء، وما زود به النبي - صلى الله عليه وسلم - رسله إلى قومهم بكتب تضمنت الحلال والحرام، وأمور الدين، وقد جمع أكثرها في كتاب "مكاتيب الرسول صلى الله عليه وسلم" ويضم (316) كتابا[3].

إذا علمنا ذلك تيقنا أن السنة كتبت قبل ظهور هذه الفرق الشيعية بسنوات. فإذا أضفنا إلى ذلك أن التدوين الرسمي للسنة كان في عصر عمر بن عبد العزيز أي حوالي سنة مائة هجرية، وكان أول من دون السنة من الشيعة هو الكليني في القرن الرابع الهجري، إذا علمنا ذلك، تبين لنا أن أهل السنة لا الشيعة هم أول من دونوا السنة، وحفظوها لنا من الضياع، وأن تدوين الشيعة للسنة كان قد تأخر قرابة قرنين من الزمان.

أما دعوى أن تدوين السنة بمعرفة الشيعة بدأ بصحيفة الإمام علي التي أملاها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما كان في قراب سيفه، ثم دون أبو رافع القبطي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب السنن والأحكام والقضايا، فإن هذا الادعاء مردود؛ لأن ذلك التدوين كان في عصر الصحابة، أي قبل ظهور الشيعة أصلا، كما وضحنا أن أول من دون من الشيعة هو الكليني (ت: 329هـ) في كتابه "الكافي"، ثم دون ابن بابويه (ت: 381هـ) كتاب "فقيه من لا يحضره الفقيه"، ثم دون الطوسي (ت: 460هـ) كتاب " تهذيب الأحكام"، وبعد ذلك كتاب "جامع الأخبار" للشيخ عبد اللطيف الهمذاني (ت: 1050هـ).

وأما المذهب الزيدي فمن كتبه: "أحاديث البحر الزخار" لابن بهران (ت: 957هـ)، و"المجموع الفقهي", ويضم ما رواه الإمام زيد.

والجعفرية يخلطون الحديث بالفقه، أي أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقوال أئمتهم بسبب العصمة...

والجدير بالذكر أن صحيفة الإمام علي التي أشار إليها كتاب "الكافي" تتضمن أمورا حصرها الإمام علي - رضي الله عنه - في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله أو فهم أعطيه رجل مسلم, أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال:

«العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر»

[4]

فهذه الصحيفة قد خلت من ذكر حديث الغدير الذي بني عليه الخلاف بين السنة والشيعة، وهي لا تعد من مدونات الشيعة؛ لأن مذهبهم ظهر بعد قتل الإمام علي رضي الله عنه[5].

كما أن أبا رافع قد توفي قبل ظهور الانقسامات المذهبية والفرق الإسلامية؛ فمن التعسف اعتباره شيعيا بالمفهوم المذهبي لفرقة الشيعة, فإن حبه وولاءه لأهل البيت كحب وولاء أهل السنة لهم، وهذه ترجمته كما وردت في كتب السير: "فهو أبو رافع القبطي، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقال: اسمه إبراهيم، ويقال: أسلم، ويقال: ثابت، ويقال: هرمز.

روي أنه كان عبدا للعباس بن عبد المطلب فوهبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بشره بإسلام العباس أعتقه، شهد أحدا، والخندق وما بعدهما من المشاهد، ولم يشهد بدرا وكان إسلامه قبل بدر، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عبد الله بن مسعود، قال الواقدي: مات بالمدينة بعد قتل عثمان بيسير، وقال غيره: مات قبل قتل عثمان، وقيل: مات في خلافة علي رضي الله عنهم، وروى له الجماعة"[6].

وعلى فرض أن الإمام عليا وأبا رافع رضي الله عنهما هما أول من كتبا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يعني أن الشيعة أول من دون في السنة؛ لأن الإمام عليا وكذلك أبا رافع رضي الله عنهما لم يدعوا إلى التشيع بالمعنى المذهبي الذي تعارفت عليه فرق الشيعة فيما بعد، إذ هما قد توفيا قبل ذلك.

لقد كان المسلمون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحتى خلافة الإمام علي - رضي الله عنه - لا يختلفون في أمر السنة النبوية، ثم ظهرت الفتنة بعد خروج معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ومن معه، واعتراضهم علي الإمام علي رضي الله عنه، بدعوى أنه تهاون في إقامة الحد على قتلة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه.

ولقد أشعل المنافقون نار الفتنة فنشبت الحرب بين معاوية ومن معه من جهة، وبين الإمام علي خليفة المسلمين من جهة أخرى، وعندما قبل الإمام علي - رضي الله عنه - التحكيم حقنا للدماء خرجت عليه فرقة سميت بالخوارج وحاربوه، فكان رد الفعل أن ظهرت طائفة الشيعة وتغالت في حب الإمام علي رضي الله عنه، وردت الطائفتان الأحاديث النبوية التي رويت عن غير طريق أئمتهم، وانفردت الشيعة باعتبار أقوال أئمتهم وأفعالهم وتقريرهم بأحاديث نبوية، حتى ولو لم ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهي أحاديث نبوية في ذاتها لعصمة الأئمة عندهم[7].

وبهذا العرض يتضح لنا أن الشيعة ليسوا هم أول من دون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأن السنة قد دونت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أصحابه من بعده, وأن التابعين جاءوا بعد الصحابة الكرام وتناقلوا مدوناتهم وصحائفهم حتى كان عصر التدوين الرسمي في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، ففي عصره وبأمره جمع ما عند التابعين، وهم الذين نقلوا عن الصحابة مباشرة.

ثانيا. إذا صح أن أبا رافع كتب كتابا رتبه على الأبواب، فإنه بذلك يكون من بين من كتب الحديث في عصر الصحابة:

بداية نذكر أننا لم نقف فيما بين أيدينا من مصادر على هذا الخبر؛ لنستطيع أن نحكم عليه بالقبول أو الرفض، ولسنا ندري من أين جاء به المغرضون، ولكن الثابت أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكتبون الحديث على عهده صلى الله عليه وسلم، وقد وردت أحاديث كثيرة تؤكد ذلك، بل تأمر وتحث على كتابة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يدحض ويبطل هذا الزعم القائل بأن الشيعة هم أول من دونوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الأحاديث الواردة في هذا الصدد:

1. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:

«ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب»

[8].

وهذا الحديث يشير إلى أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان أكثر الصحابة كتابة للحديث، وهذا يعني أن منهم كتابا كثيرين ولكنه يعد أكثرهم كتابة للحديث.

2. عن ابن عباس قال:

«لما اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، قال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع، فخرج ابن عباس يقول: إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين كتابه»

[9].

ولولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيح الكتابة ويحث عليها ما دعا إلى كتابة هذا الكتاب في أثناء مرضه[10].

وبهذا يتبين أن أبا رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس أول من كتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو واحد ممن كتبوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولكن إذا صح أن أبا رافع كتب كتاب "السنن والأحكام والقضايا"، وكان مرتبا على الأبواب: (الصلاة والصيام، والحج، والزكاة، والقضايا) - كان لأبي رافع بذلك شرف الأولية في التأليف والتصنيف لا في مجرد الكتابة والتدوين الذي يقتصرعلى جمع الأحاديث في كتاب واحد دون ترتيبها على الكتب والأبواب.

وهذا بالضرورة لا يعني أن الشيعة هم أول من دون السنة، وذلك لأن أبا رافع لم يكن شيعيا بالمعنى المذهبي لمفهوم التشيع، ولم يدع إلى التشيع، ولقد توفي - رضي الله عنه - قبل ظهور الانقسامات المذهبية، مما لا يدع مجالا للشك في زيف هذه الشبهة وبطلانها.

إذن صحة خبر أبي رافع لا تنفي ما ثبت تاريخيا من أخبار التدوين الفردية في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما تلاه؛ فقد بدأ تدوين السنة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سبق أن أوضحنا, وإن كان المشتهر بين عامة الناس من غير ذوى التتبع والاستقصاء أن الحديث - أو ما يطلق عليه علماء الحديث لفظ "العلم" - ظل أكثر من مائة سنة يتناقله العلماء حفظا دون أن يكتبوه، واستمر هذا الظن قرابة خمسة قرون متتابعة وهو يزداد توسعا، ويطرد قوة حتى جاء الخطيب البغدادي فتتبع مسائل هذا الموضع وجمع شتاته وألف في ذلك كتاب "تقييد العلم"، أما سبب هذا الظن فهو خطأ في تأويل ما ورد عن المحدثين في تدوين الحديث وتصنيفه، فقد ذكر هؤلاء أن أول من دون العلم ابن شهاب الزهري المتوفى سنة 124هـ أو سنة 125هـ، وذكروا أول من صنف الكتب فإذا هم جميعا ممن عاش حتى بعد سنة 143هـ تقريبا.

ولم يعط العلماء قبل الخطيب البغدادي هذه الأقوال حقها من التأويل العميق والفهم الدقيق، بل رووا هذه الأقوال بشكل يوهم بأن أول من كتب الحديث ودونه فعلا هو ابن شهاب الزهري، وأول من صنفه في الكتب أتى بعده.

وغلبت هذه الفكرة على أصحاب الكتب الجامعة: كأبي طالب المكي، والإمام الذهبي، والحافظ ابن حجر، والمقريزي، وصاحب أبجد العلوم وغيرهم، فكانوا يؤيدونها رغم أنهم كانوا يجدون لها نقيضا، وذلك أنهم يذكرون أن من جاء بعد الصحابة والتابعين كانوا يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة كتبت في عصر الصحابة والتابعين.

إذن؛ فقد كان ثمة تدوين قبل عصر الإمام الزهري الذي يعد من طبقة صغار التابعين.

وقد أثبت الخطيب أن تقييد العلم كان موجودا في حياته - صلى الله عليه وسلم - وفي عصر الصحابة والتابعين كذلك، فجمع الأحاديث والأخبار التي لها صلة بنشأة تقييد العلم، وخرج بالنتائج التالية:

1. أنه لم يصح حديث في النهي عن كتابة الحديث سوى حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم، مع اختلاف بين البخاري ومسلم في رفعه ووقفه[11].

2. أن الامر استقر في حياته - صلى الله عليه وسلم - على إباحة الكتابة، بل هناك أدلة تدل على الحث على الكتابة.

3.  أن التدوين بمعناه الواسع - وهو الجمع - قد بدأ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

4. أن امتناع من امتنع من الصحابة والتابعين عن كتابة الحديث ليس للنهي الوارد في حديث أبي سعيد الخدري، ولكن هذا الامتناع معلل بأسباب أخر، منها: خوف انكباب الناس على الكتب وانشغالهم بها عن القرآن، وقد أورد الخطيب عن السلف النصوص الكثيرة المصرحة بذلك[12]، ومنها الحفاظ على ملكة الحفظ عند المسلمين؛ إذ الاتكال على الكتابة يضعفها، ولذلك كان بعضهم يكتب ثم يمحو ما كتب، ولو كان النهي عن الكتابة مستقرا عندهم لما كتبوا ابتداء[13].

5. ولكي نؤكد على صحة أن الصحابة كانوا يدونون السنة بالمفهوم الواسع لهذا المصطلح - نذكر جهودهم - رضي الله عنهم - في تدوين السنة، حتى يتضح أن أبا رافع - إن صح الخبر السابق عنه - لم يكن وحده الذي كان يدون السنة، كما لا ينفي أن غيره من الصحابة كانوا يدونون ما يحفظون من الحديث، فقد كان بعضهم يكتب السنة لبعض، ومن أمثلة ذلك:

·   كتب أسيد بن حضير الأنصاري - رضي الله عنه - بعض الأحاديث النبوية، ودون أقضية أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وأرسل ذلك كله إلى مروان بن الحكم[14].

·   وكتب جابر بن سمرة - رضي الله عنه - بعض أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعث بها إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص؛ بناء على طلبه ذلك منه[15].

·   وكتب زيد بن أرقم - رضي الله عنه - بعض الأحاديث النبوية وأرسل بها إلى أنس بن مالك رضي الله عنه.

·   وكتب زيد بن ثابت في أمر الجد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك بناء على طلب عمر نفسه [16].

·   وجمع سمرة بن جندب ما عنده من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعث به إلى ابنه سليمان، وقد أثنى الإمام محمد بن سيرين على هذه الرسالة، فقال: في رسالة سمرة إلى ابنه علم كثير[17].

·   وكتب عبد الله بن أبي أوفى بأحاديث رسول الله إلى عمر بن عبيد الله[18].

وهذا كله يدل دلالة واضحة على أن تدوين السنة كان بأقلام الصحابة رضي الله عنهم، لا بأقلام الشيعة كما زعموا، فأي دليل أنصع من هذا حتى يكف هؤلاء عن ادعاءاتهم الباطلة؟!

ثالثا. الشيعة لا يقرون بالسنة أصلا، فكيف يزعمون أنهم أول من دونها؟!

إن الشيعة يقولون: إن السنة النبوية منقولة عن طريق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإن أصحابه ارتدوا كلهم بما فيهم سادة بني هاشم، وغيرهم من الأنصار والمهاجرين إلا ثلاثة: المقداد، وأبو ذر، وسلمان، وهؤلاء لم يرو عنهم إلا القليل، وأما البقية فلا يطمئن إليهم، ولا إلى مروياتهم؛ لانقلابهم على أعقابهم إلى الكفر، بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعتمد عليهم ولا يوثق بأخبارهم ويعتبرونها ساقطة، مكذوبة، موضوعة - حسب المنظور الشيعي - نعوذ بالله من ذلك، ونستغفر الله من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، والافتراء على أصحابه رضي الله عنهم.

فكل حديث أو خبر نقل عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ورد في سنده من ينتهج منهجهم، ويتبع خطاهم - يسقط من الاعتبار، فهذه قاعدة محكمة متينة في مصطلح الحديث عند الشيعة، حتى أقر بذلك أحدهم؛ إذ قال: "إن الشيعة لا يعتبرون بشيء من السنة، أعني الأحاديث النبوية، إلا ما صح لهم عن طريق أهل البيت عن جدهم - يعني ما رواه جعفر الصادق - عن أبيه الباقر عن أبيه زين العابدين عن الحسين السبط عن رسول الله سلام الله عليهم جميعا، أما ما يرويه مثل أبي هريرة وسمرة بن جندب، ومروان بن الحكم، وعمران بن حطان الخارجي، وعمرو بن العاص ونظائرهم، فليس له عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة، وأمرهم أشهر من أن يذكر"[19].

فعمن دون الشيعة السنة إذن، إذا كانوا لا ينقلون عن جل الصحابة بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟!

إن فقدان الثقة في صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدان لما نقلوه قرآنا وسنة، فكيف يسلم لهم بذلك؟

ويقول أحد رموزهم[20] في القرن العاشر الهجري: "وقد جازف أهل السنة كل المجازفة، بل وصلوا إلى حد المخارفة فحكموا بعدالة الصحابة من لابس منهم الفتن، ومن لم يلابس، وقد كان فيهم المقهورون على الإسلام، والداخلون على غير البصيرة، والشكاك، كما وقع من فلتات ألسنتهم الكثير، بل كان فيهم المنافقون، وكان فيهم شاربو الخمر، وقاتلو النفس، وفاعلو الفسق والمناكير كما نقلوه عنهم، وما نقلنا نحن بعضه فيما سبق من صحاحهم من الأحاديث المتكثرة المتواترة المعنى يدل على ارتدادهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن فسقهم"[21].

فإذا كان هذا حال الصحابة - رضي الله عنهم - عند الشيعة، فعمن نقلوا، وفيمن وثقوا، وأي شيء دونوا؟! وقد أسقطوا أهم حلقة في سلسلة السند التي تربط الأمة بنبيها - صلى الله عليه وسلم - وهم طبقة الصحابة الذين أخذ عنهم الدين قرآنا وسنة، ناهيك عن أنهم أولى الناس بشرحهما واستنباط الأحكام منهم لمعايشتهم الوقائع والأحداث وأسباب الورود إضافة إلى أنهم أقوى الأمة إيمانا وأعمقهم فهما وأعرفهم لسانا.

فهل يعقل بعد هذا أن يقال إن الشيعة هم أول من دونوا السنة؟!

وبهذا يظهر أنهم لا يؤمنون بالأصل الثاني من أصول الشريعة الإسلامية وهي السنة، يقول إحسان إلهي ظهير: "ولا تغتر بأنهم يدعون ذلك - أي الإيمان بالسنة - فدعواهم في هذا لا تختلف عن دعواهم في الإيمان بالقرآن؛ لأن ما روي بطرقهم عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزر يسير جدا، وما روي عن جعفر عن باقر بن زين العابدين عن الحسين عن علي فهو أقل القليل، وصحاحهم الأربعة وكتبهم في الحديث الأخرى تشهد على ما قلناه.

وكذلك ما روي عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين لم يرتدوا من بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجمعين - حسب زعمهم، أي: المقداد وأبي ذر وسلمان رضي الله عنهم - فلم يرووا عنهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم إلا ما يعد على الأنامل.

أضف إلى ذلك أن جل المرويات - بل كلها - عن علي - رضي الله عنه - وعن هؤلاء الأصحاب الثلاثة ليست من قسم المتواتر، بل هي أخبار آحاد، والآحاد لا توجب العلم عند الشيعة قاطبة، ولا العمل عند جمهورهم، وهو الرأي الراجح عند الشيعة"[22].

بهذا يتبين أن الشيعة لا تعترف بالسنة أصلا، فكيف يقبل الزعم بأنهم أول من دونها؟!

الخلاصة:

·   إن كان الإمام علي - رضي الله عنه - من عظماء الصحابة الذين كتبوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له كتاب عظيم مدرج وصحيفة معلقة بسيفه، فإن هذا لا يعني انفراده بكتابة السنة، فقد كان الكثير من الصحابة كابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وغيرهم كثير - رضي الله عنهم - يكتبون مثل ذلك، ولهم صحف مشهورة.

·   لو افترضنا - جدلا - أن الإمام عليا - رضي الله عنه - هو أول من دون في السنة، فهذا لا يعني سبق الشيعة في مجال تدوين السنة؛ لأن الإمام عليا قدوة لأهل السنة قبل الشيعة، وحبهم له وآل بيته من الدين، وهو داخل في صميم حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

·   إن الإمام عليا - رضي الله عنه - لم يدع إلى التشيع، ولم يرد عنه ذلك حتى فيما روي عنه من كتب وصحف؛ بل إنه ما ورد عنه هي أمور أخرى بعيدة عما يعتقده الشيعة من آراء وأفكار، ولهذا لا يصح أن يقال: إنه إمامهم وحدهم دون سائر المسلمين.

·   إذا صح لأبي رافع كتاب "السنن والأحكام والقضايا"، فهذا لا يعني أكثر من أن يكون لأبي رافع شرف الأولية في التأليف لا في التدوين، ولا ينفي ما ثبت تاريخيا من أخبار التدوين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده، كما أن التشيع بالمفهوم المذهبي لكلمة شيعة لم يكن قد عرف بعد؛ إذ إن أبا رافع قد توفي قبل ظهور الانقسامات المذهبية في أول خلافة علي - رضي الله عنه - كما أنه لم يرد عنه أي أفكار تحض على التشيع المذهبي.

·   إن التدوين الرسمي العام للسنة بدأ عام (99هـ) عندما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، وأما قبله، فكان التدوين بطريقة فردية منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك كان قبل بدء تدوين الشيعة، فأما كتب الشيعة ومدوناتهم فقد بدأت بكتاب "الكافي" للكليني (ت: 329هـ).

·   لا يقال إذن: إن الشيعة هم أول من دون السنة؛ لأنه عند بداية تدوين أهل السنة للحديث لم يكن لهؤلاء الشيعة كتب أو روايات بالأساس.

·   إذا كان الشيعة لا يقرون بالسنة أصلا كمصدر ثان للتشريع، وأن جل مروياتهم - بل كلها - عن طريق علي - رضي الله عنه - وعن هؤلاء الأصحاب الثلاثة - ليست من قسم المتواتر، بل هي أخبار آحاد، والآحاد لا توجب العلم عند الشيعة قاطبة، ولا العمل عند جمهورهم، فكيف يقال إنهم أول من دون السنة؟ وأي شيء دونوا إذن؟

 المراجع:


(*) السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م. تأسيس الشيعة لعلوم الشريعة القرآنية, حسن الصدر، شركة الطباعة والنشر, بغداد, 1951م.

[1]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفاتهم، (4/ 1695)، رقم (2419).

[2]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (1/ 208، 209).

[3]. انظر: السنة المفترى عليها، سالم البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1413هـ/ 1992م، ص57: 62.

[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 246)، رقم (111).

[5]. السنة المفترى عليها، سالم البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1413هـ/ 1992م، ص55، 56.

[6]. تهذيب الكمال في أسماء الرجال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (33/ 301، 302).

[7]. السنة المفترى عليها، سالم البهنساوي، دار الوفاء، مصر، ط1، 1413هـ/ 1992م، ص95، 96.

[8]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (1/ 249)، رقم (113).

[9]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم, باب: كتابة العلم، (1/ 251)، رقم (114).

[10]. تدوين وتوثيق السنة النبوية في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة، د. جمال محمود خلف، مكتبة الإيمان، مصر، 2007م، ص108.

[11]. وقد اتفق العلماء على نسخه، بل ونسخ كل أحاديث النهي عن الكتابة بأحاديث أباحتها.

[12]. تدوين السنة النبوية: نشأته وتطوره، د. محمد بن مطر الزهراني، مكتبة الصديق، السعودية، ط1، 1412هـ، ص65: 73 بتصرف.

[13]. تقييد العلم، الخطيب البغدادي، تحقيق: يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية، بيروت، ط2، 1974م، ص58 بتصرف.

[14]. صحيح: أخرجه النسائي في سننه، كتاب: البيوع، باب: الرجل يبيع السلعة فيستحقها مستحق، (1/ 759)، رقم (4697). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن النسائي برقم (4680).

[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، (7/ 2867)، رقم (4630).

[16]. أخرجه البيهقي في السنن الكبري، كتاب: الفرائض، باب: من ورث الإخوة للأب والأم، (6/ 247)، رقم (12208).

[17]. تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت، ط1، 1404هـ/ 1984م، (4/ 207).

[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجهاد، باب: الصبر عند القتال، (6/ 54)، رقم (2833).

[19]. أصل الشيعة وأصولها، محمد الحسين آل كاشف الغطاء، ص79، نقلا عن: بين الشيعة وأهل السنة، إحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، باكستان، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص104، 105.

[20]. وهو: الحسين بن عبد الصمد العاملي (ت: 984هـ).

[21]. بين الشيعة وأهل السنة، إحسان ظهير، إدارة ترجمان السنة، باكستان، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص105، 106.

[22]. بين الشيعة وأهل السنة، إحسان ظهير، إدارة ترجمان السنة، باكستان، ط1، 1405هـ/ 1985م، ص108.