نص السؤال

ادعاء التقارب بين الإسلام والنصرانية في تصور طبيعة المسيح

المؤلف: مجموعة مؤلفي بيان الإسلام

المصدر: موسوعة بيان الإسلام

الجواب التفصيلي

ادعاء التقارب بين الإسلام والنصرانية في تصور طبيعة المسيح(*)


مضمون الشبهة: 


يدعي بعض المشككين أن صورة عيسى - عليه السلام - في العقيدة الإسلامية والديانة المسيحية سواء، فهو فيهما روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، ويستدلون على ذلك

بقوله سبحانه وتعالى:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)

(النساء: 171). 



وجها إبطال الشبهة: 


1) خلق الله - عز وجل - عيسى - عليه السلام - كما خلق آدم، ولذلك خص بأنه روح منه، أي خلقه على غير عادة البشر في التناسل. 
2) بكلمة " كن " خلق عيسى عليه السلام، ولم يكن عيسى هو الكلمة، وهذا فرق ما بين الإسلام والنصرانية في هذه المسألة الكبيرة. 


التفصيل: 


أولا. وصف القرآن الكريم لعيسى - عليه السلام - بأنه روح الله: 


يصف القرآن عيسى بأنه روح الله،

قال سبحانه وتعالى:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) 

(النساء: 171).


ويفسر النصارى أن عيسى روح الله، بمعنى أنه من ذات الله، وبالتالي فهو جزء من الله، ويقولون: إن في القرآن ما يؤيد دعواهم الباطلة، ويقصدون تفسير "روح منه" بأنه جزء منه، إذ إن "من" للتبعيض كما يزعمون. 


ونحن هنا نسوق عدة حقائق تكشف دلالة هذه الصفة التي وصف بها القرآن عيسى عليه السلام: 
1.  إن ذات الله قديمة واحدة، لا تقبل الانقسام ولا التركيب، وذلك ثابت عقلا، وإن القول بأن عيسى جزء من الله يفضي إلى اتحاد الحادث بالقديم، وهو محال على الله سبحانه. 
2.    إن معنى الآية (وروح منه): 


•   نفخة منه؛ لأن عيسى - عليه السلام - قد حدث عن نفخة جبريل في جيب درع مريم [1] بأمر الله إياه بذلك، فنسب إلى أنه روح من الله، ومعنى كون عيسى روحا من الله أن روحه من الأرواح التي هي عناصر الحياة، لكنها نسبت إلى الله لأنها وصلت إلى مريم بدون تكون في نطفة، فبهذا امتاز عن بقية الأرواح، ووصف بأنه مبتدأ من جانب الله، وقيل: الروح النفخة، والعرب تسمى النفس روحا والنفخ روحا  [2].
•   خلقه، وإنما أضيفت الروح إلى الله إضافة تشريف كما أضيفت الناقة إلى الله على لسان صالح:

(هذه ناقة الله لكم آية)

(هود: ٦٤)

كما أضيف البيت إلى الله

(وطهر بيتي للطائفين)

(الحج: 26). 


3.  إن النفخ سبب ظاهري لإيجاد الروح في كل مولود،

وقد قال الله عن آدم:

(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29))

(الحجر)،

وكذلك قال عن خلق عيسى:

(والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا)

(الأنبياء: 91)،

وكان ذلك النفخ بوساطة جبريل إذا تمثل لها بشرا سويا، فنفخ في جيب درعها حتى صار الحمل بعيسى عليه السلام. 
و من المسلم به أن آدم نفخ الله فيه من روحه، وآدم لا أحد يقول بأنه جزء من ذات الله سبحانه، وكذلك عيسى روح من الله، فالحالتان متماثلتان والتفريق بينهما تعسف. 


4.  أما تفسير "من" فهي لابتداء الغاية كما في

قوله سبحانه وتعالى:

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)

(الإسراء: 1)

وليست للتبعيض كما يدعي النصارى، وقد ذكر الألوسي في "روح المعاني" قصة مفادها: أن طبيبا نصرانيا كان عند هارون الرشيد، فدخل عليه أحد العلماء ذات يوم فقال النصراني: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى جزء من الله تعالى وقرأ: (وروح منه)فرد عليه العالم

بقوله سبحانه وتعالى:

(وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه)

(الجاثية: 13)،


وقال: إذن يلزم أن تكون جميع الأشياء منه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فانقطع النصراني وأسلم، وفرح الرشيد بذلك وكافأ العالم. 
وقال بعض الفضلاء: "نفخ الله تعالى في عيسى - عليه السلام - روحا من أرواحه، أي جميع أرواح الحيوان أرواحه، وأما تخصيص عيسى - عليه السلام - بالذكر فللتنبيه على شرف عيسى - عليه السلام - وعلو منزلته". 
وقيل: الروح اسم للريح الذي بين الخافقين، يقال لها ريح وروح، وهما لغتان وكذلك في الجمع رياح وأرواح، واسم لجبريل - عليه السلام - وهو المسمى بروح القدس، والروح اسم النفس المقومة للجسم. 


وقيل:أن معنى الروح المذكورة في القرآن الكريم في حق عيسى - عليه السلام - هو الروح الذي بمعنى النفس المقوم
 لبدن الإنسان، ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى ـعليه السلام - من روحه، أنه خلق روحا نفخها فيه، فإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله. 

يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59))

(آل عمران)،

ويقول:

(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83))

(يس). 


فكلمة الله وسره وقولته "كن" وهذا ما يتسق ونظرية الإسلام في تفسيرها، وليس أعرف بها من المسلمين الذين وكل لهم تفسير النصوص التي جاءت بلغتهم، ولا يضر أننا لا نقبل تفسيرات كان من ورائها غرض لم تأذن بها قواعد اللغة التي نزل بها القرآن وهي العربية. 


ولو كانت هذه الآية دليلا على معتقدات النصارى في عيسى لكان آدم إلها؛ لأنه ورد في حقه مثل ما ورد في حق عيسى بأن

قال الله سبحانه وتعالى:

(ونفخت فيه من روحي)

(الحجر: 29)

بل ولكان الناس جميعا كذلك؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان ثم سواه ونفخ فيه من روحه، ولما كان ذلك باطلا فالاستدلال بها على عقيدة النصارى في المسيح باطل أيضا، وتفسيرها هي وكلمة "كلمة منه" على الوجه الذي يذكره هؤلاء المدعون لا وجه له في لغة العرب ولا في طريقة القرآن في التعبير.

 
يضاف إلى ذلك أن اختصاص عيسى بأنه: روح الله في

قوله تعالى:

(وروح منه)

(النساء: 171)

(بكلمة منه)

(آل عمران: 45)،

وإن كان جميع البشر كذلك لمجيء عيسى بلا سبب معتاد لدى الناس، فجاء آية للناس تدل على أنه نفاذ لكلمة (وروح منه) أظهر أمامهم. 


ثانيا. معنى كلمة الله في حق عيسى - عليه السلام - في القرآن: 


صرح القرآن الكريم بأن عيسى كلمة الله،

قال سبحانه وتعالى:

(إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم)

(آل عمران: 45)

وقال أيضا:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم)  

(النساء: 171).


وقد فسر النصارى الكلمة بأنها جزء من الذات، فقالوا: وكلمة الله من ذات الله كما يقال: هذه الخرقة من هذا الثوب!! ولهم تفسيرات عجيبة متناقضة في كيفية اتحاد الكلمة بعيسى حتى أصبح إلها كله وإنسانا كله!!


ونسوق في رد هذا الزعم عدة حقائق: 
1.  من الثابت عقلا أن الله قديم، لا يجوز عليه الحدوث، كما ثبت أنه - عز وجل - واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فذاته ليست مركبة من أجزاء، ولاتقبل الانقسام وإن القول بأن الكلمة جزء من الذات يوصل إلى القول بالتركيب، وهو من صفات الحوادث. 


2.                    وبناء على ذلك فلا يجوز تفسير أن عيسى كلمة الله بمعنى أنه جزء من ذات الله. 


3.  خلق الله عيسى ابن مريم بالكلمة التي أرسل بها جبريل - عليه السلام - إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى بإذن الله، فعيسى إنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها "كن" فكان، وفي ذلك يقول ابن كثير في تفسيره: "ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى". 


4.  قد تكون الكلمة بمعنى الآية، كما قال تعالى عن مريم:

(وصدقت بكلمات ربها)

(التحريم: 12)

أي إنها صدقت بآياته،

وقال سبحانه وتعالى:

(ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات)

(لقمان: 27).

أي آياته الدالة عليه. 
وفي هذا الإطار يكون معنى أن "عيسى كلمة الله" هو آية دالة على قدرة الله، ويؤيد هذا المعنى

قوله سبحانه وتعالى:

(وجعلنا ابن مريم وأمه آية)

(المؤمنون: 50)،

وقوله سبحانه وتعالى:

(ولنجعله آية للناس)

(مريم: 21)،

وتخصيصه بذلك لتشريفه وعلو منزلته". 
5.  يحمل بعض العلماء معنى الكلمة على سبيل الاستعارة، ذلك أن عيسى - عليه السلام - لما فقد في حقه سبب من الأسباب المادية المتعارف عليها في التوالد من الذكر والأنثى، أضيف حدوثه إلى الكلمة، فكأنه جعل الكلمة نفسها، كما يقال على من غلب عليه الكرم: إنه محض الجود، وباعتبار أن كل مولود له سببان أحدهما قريب وهو "المني" والآخر بعيد وهو

قوله سبحانه وتعالى:

(كن)

(النحل: 40)

، ويؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى:

(وكلمته ألقاها إلى مريم)

(النساء: 171)،

أي أوصلها إليها وحصلها فيها. 


وعلى كل الاحتمالات فإن تفسير الكلمة بأنها جزء من الذات لا يجوز عقلا، ولا تساعد عليه اللغة وسياق الآية القرآنية وجملة ما يرشد إليه القرآن من حقائق في شأن عيسى عليه السلام. 
يقول الطاهر ابن عاشور في تفسيره: "فإن قلت: ما حكمة وقوع هذين الوصفين - يعني الكلمة والروح - هنا على ما فيهما من شبهة ضلت بها النصارى. وهلا وصف المسيح في جملة "بشر مثلكم يوحى إلي"، فكان أصرح في بيان العبودية وأتقى للضلال. 


قلت: الحكمة في ذلك أن هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل أو في كلام الحواريين وصفا لعيسى - عليه السلام - وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذ، فلما تغيرت أساليب اللغات، وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرب الضلال إلى النصارى في سوء وضعهما، فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل، أي أن قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله، وليس في شيء من ذلك ما يؤدي إلى اعتقاد أنه ابن الله وأنه إله"  [3].


الخلاصة: 


•   محال أن يكون الروح والكلمة على ما تزعمه النصارى، فذلك ما يخالف جوهر العقيدة الإسلامية في شأن عيسى عليه السلام، وهي صريحة في إثبات بشريته وعبوديته له عز وجل. 
•   معنى الروح في القرآن في حق عيسى - عليه السلام - هي بمعنى النفس المقومة للجسم وهي اسم لجبريل - عليه السلام - ومعنى نفخ الله في عيسى - عليه السلام - من روحه أنه خلق روحا نفخها فيه، فإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله. 
•   وأما الكلمة فمعناها أن الله - عز وجل - إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فما من موجود إلا وهو منسوب إلى كلمة كن، فلما أوجد الله عيسى - عليه السلام - قال له كن في بطن أمه فكان، وأما تخصيصه بذلك فهو للتشريف وعلو المنزلة. 

المراجع

  1. (*)الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، القرافي، تحقيق: د. بكر زكي عوض، دار ابن الجوزي، القاهرة، 2004م. [1]. جيب درعها: فرجها. 
  2.  [2]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، ج6، ص52. 
  3.  [3]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، ص53.


الجواب التفصيلي

ادعاء التقارب بين الإسلام والنصرانية في تصور طبيعة المسيح(*)


مضمون الشبهة: 


يدعي بعض المشككين أن صورة عيسى - عليه السلام - في العقيدة الإسلامية والديانة المسيحية سواء، فهو فيهما روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، ويستدلون على ذلك

بقوله سبحانه وتعالى:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)

(النساء: 171). 



وجها إبطال الشبهة: 


1) خلق الله - عز وجل - عيسى - عليه السلام - كما خلق آدم، ولذلك خص بأنه روح منه، أي خلقه على غير عادة البشر في التناسل. 
2) بكلمة " كن " خلق عيسى عليه السلام، ولم يكن عيسى هو الكلمة، وهذا فرق ما بين الإسلام والنصرانية في هذه المسألة الكبيرة. 


التفصيل: 


أولا. وصف القرآن الكريم لعيسى - عليه السلام - بأنه روح الله: 


يصف القرآن عيسى بأنه روح الله،

قال سبحانه وتعالى:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) 

(النساء: 171).


ويفسر النصارى أن عيسى روح الله، بمعنى أنه من ذات الله، وبالتالي فهو جزء من الله، ويقولون: إن في القرآن ما يؤيد دعواهم الباطلة، ويقصدون تفسير "روح منه" بأنه جزء منه، إذ إن "من" للتبعيض كما يزعمون. 


ونحن هنا نسوق عدة حقائق تكشف دلالة هذه الصفة التي وصف بها القرآن عيسى عليه السلام: 
1.  إن ذات الله قديمة واحدة، لا تقبل الانقسام ولا التركيب، وذلك ثابت عقلا، وإن القول بأن عيسى جزء من الله يفضي إلى اتحاد الحادث بالقديم، وهو محال على الله سبحانه. 
2.    إن معنى الآية (وروح منه): 


•   نفخة منه؛ لأن عيسى - عليه السلام - قد حدث عن نفخة جبريل في جيب درع مريم [1] بأمر الله إياه بذلك، فنسب إلى أنه روح من الله، ومعنى كون عيسى روحا من الله أن روحه من الأرواح التي هي عناصر الحياة، لكنها نسبت إلى الله لأنها وصلت إلى مريم بدون تكون في نطفة، فبهذا امتاز عن بقية الأرواح، ووصف بأنه مبتدأ من جانب الله، وقيل: الروح النفخة، والعرب تسمى النفس روحا والنفخ روحا  [2].
•   خلقه، وإنما أضيفت الروح إلى الله إضافة تشريف كما أضيفت الناقة إلى الله على لسان صالح:

(هذه ناقة الله لكم آية)

(هود: ٦٤)

كما أضيف البيت إلى الله

(وطهر بيتي للطائفين)

(الحج: 26). 


3.  إن النفخ سبب ظاهري لإيجاد الروح في كل مولود،

وقد قال الله عن آدم:

(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (29))

(الحجر)،

وكذلك قال عن خلق عيسى:

(والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا)

(الأنبياء: 91)،

وكان ذلك النفخ بوساطة جبريل إذا تمثل لها بشرا سويا، فنفخ في جيب درعها حتى صار الحمل بعيسى عليه السلام. 
و من المسلم به أن آدم نفخ الله فيه من روحه، وآدم لا أحد يقول بأنه جزء من ذات الله سبحانه، وكذلك عيسى روح من الله، فالحالتان متماثلتان والتفريق بينهما تعسف. 


4.  أما تفسير "من" فهي لابتداء الغاية كما في

قوله سبحانه وتعالى:

(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)

(الإسراء: 1)

وليست للتبعيض كما يدعي النصارى، وقد ذكر الألوسي في "روح المعاني" قصة مفادها: أن طبيبا نصرانيا كان عند هارون الرشيد، فدخل عليه أحد العلماء ذات يوم فقال النصراني: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى جزء من الله تعالى وقرأ: (وروح منه)فرد عليه العالم

بقوله سبحانه وتعالى:

(وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه)

(الجاثية: 13)،


وقال: إذن يلزم أن تكون جميع الأشياء منه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فانقطع النصراني وأسلم، وفرح الرشيد بذلك وكافأ العالم. 
وقال بعض الفضلاء: "نفخ الله تعالى في عيسى - عليه السلام - روحا من أرواحه، أي جميع أرواح الحيوان أرواحه، وأما تخصيص عيسى - عليه السلام - بالذكر فللتنبيه على شرف عيسى - عليه السلام - وعلو منزلته". 
وقيل: الروح اسم للريح الذي بين الخافقين، يقال لها ريح وروح، وهما لغتان وكذلك في الجمع رياح وأرواح، واسم لجبريل - عليه السلام - وهو المسمى بروح القدس، والروح اسم النفس المقومة للجسم. 


وقيل:أن معنى الروح المذكورة في القرآن الكريم في حق عيسى - عليه السلام - هو الروح الذي بمعنى النفس المقوم
 لبدن الإنسان، ومعنى نفخ الله تعالى في عيسى ـعليه السلام - من روحه، أنه خلق روحا نفخها فيه، فإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله. 

يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59))

(آل عمران)،

ويقول:

(إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83))

(يس). 


فكلمة الله وسره وقولته "كن" وهذا ما يتسق ونظرية الإسلام في تفسيرها، وليس أعرف بها من المسلمين الذين وكل لهم تفسير النصوص التي جاءت بلغتهم، ولا يضر أننا لا نقبل تفسيرات كان من ورائها غرض لم تأذن بها قواعد اللغة التي نزل بها القرآن وهي العربية. 


ولو كانت هذه الآية دليلا على معتقدات النصارى في عيسى لكان آدم إلها؛ لأنه ورد في حقه مثل ما ورد في حق عيسى بأن

قال الله سبحانه وتعالى:

(ونفخت فيه من روحي)

(الحجر: 29)

بل ولكان الناس جميعا كذلك؛ لأن الله تعالى خلق الإنسان ثم سواه ونفخ فيه من روحه، ولما كان ذلك باطلا فالاستدلال بها على عقيدة النصارى في المسيح باطل أيضا، وتفسيرها هي وكلمة "كلمة منه" على الوجه الذي يذكره هؤلاء المدعون لا وجه له في لغة العرب ولا في طريقة القرآن في التعبير.

 
يضاف إلى ذلك أن اختصاص عيسى بأنه: روح الله في

قوله تعالى:

(وروح منه)

(النساء: 171)

(بكلمة منه)

(آل عمران: 45)،

وإن كان جميع البشر كذلك لمجيء عيسى بلا سبب معتاد لدى الناس، فجاء آية للناس تدل على أنه نفاذ لكلمة (وروح منه) أظهر أمامهم. 


ثانيا. معنى كلمة الله في حق عيسى - عليه السلام - في القرآن: 


صرح القرآن الكريم بأن عيسى كلمة الله،

قال سبحانه وتعالى:

(إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم)

(آل عمران: 45)

وقال أيضا:

(إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم)  

(النساء: 171).


وقد فسر النصارى الكلمة بأنها جزء من الذات، فقالوا: وكلمة الله من ذات الله كما يقال: هذه الخرقة من هذا الثوب!! ولهم تفسيرات عجيبة متناقضة في كيفية اتحاد الكلمة بعيسى حتى أصبح إلها كله وإنسانا كله!!


ونسوق في رد هذا الزعم عدة حقائق: 
1.  من الثابت عقلا أن الله قديم، لا يجوز عليه الحدوث، كما ثبت أنه - عز وجل - واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فذاته ليست مركبة من أجزاء، ولاتقبل الانقسام وإن القول بأن الكلمة جزء من الذات يوصل إلى القول بالتركيب، وهو من صفات الحوادث. 


2.                    وبناء على ذلك فلا يجوز تفسير أن عيسى كلمة الله بمعنى أنه جزء من ذات الله. 


3.  خلق الله عيسى ابن مريم بالكلمة التي أرسل بها جبريل - عليه السلام - إلى مريم، فنفخ فيها بإذن الله، فكان عيسى بإذن الله، فعيسى إنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها "كن" فكان، وفي ذلك يقول ابن كثير في تفسيره: "ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى". 


4.  قد تكون الكلمة بمعنى الآية، كما قال تعالى عن مريم:

(وصدقت بكلمات ربها)

(التحريم: 12)

أي إنها صدقت بآياته،

وقال سبحانه وتعالى:

(ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات)

(لقمان: 27).

أي آياته الدالة عليه. 
وفي هذا الإطار يكون معنى أن "عيسى كلمة الله" هو آية دالة على قدرة الله، ويؤيد هذا المعنى

قوله سبحانه وتعالى:

(وجعلنا ابن مريم وأمه آية)

(المؤمنون: 50)،

وقوله سبحانه وتعالى:

(ولنجعله آية للناس)

(مريم: 21)،

وتخصيصه بذلك لتشريفه وعلو منزلته". 
5.  يحمل بعض العلماء معنى الكلمة على سبيل الاستعارة، ذلك أن عيسى - عليه السلام - لما فقد في حقه سبب من الأسباب المادية المتعارف عليها في التوالد من الذكر والأنثى، أضيف حدوثه إلى الكلمة، فكأنه جعل الكلمة نفسها، كما يقال على من غلب عليه الكرم: إنه محض الجود، وباعتبار أن كل مولود له سببان أحدهما قريب وهو "المني" والآخر بعيد وهو

قوله سبحانه وتعالى:

(كن)

(النحل: 40)

، ويؤيد هذا قوله سبحانه وتعالى:

(وكلمته ألقاها إلى مريم)

(النساء: 171)،

أي أوصلها إليها وحصلها فيها. 


وعلى كل الاحتمالات فإن تفسير الكلمة بأنها جزء من الذات لا يجوز عقلا، ولا تساعد عليه اللغة وسياق الآية القرآنية وجملة ما يرشد إليه القرآن من حقائق في شأن عيسى عليه السلام. 
يقول الطاهر ابن عاشور في تفسيره: "فإن قلت: ما حكمة وقوع هذين الوصفين - يعني الكلمة والروح - هنا على ما فيهما من شبهة ضلت بها النصارى. وهلا وصف المسيح في جملة "بشر مثلكم يوحى إلي"، فكان أصرح في بيان العبودية وأتقى للضلال. 


قلت: الحكمة في ذلك أن هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل أو في كلام الحواريين وصفا لعيسى - عليه السلام - وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذ، فلما تغيرت أساليب اللغات، وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرب الضلال إلى النصارى في سوء وضعهما، فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل، أي أن قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله، وليس في شيء من ذلك ما يؤدي إلى اعتقاد أنه ابن الله وأنه إله"  [3].


الخلاصة: 


•   محال أن يكون الروح والكلمة على ما تزعمه النصارى، فذلك ما يخالف جوهر العقيدة الإسلامية في شأن عيسى عليه السلام، وهي صريحة في إثبات بشريته وعبوديته له عز وجل. 
•   معنى الروح في القرآن في حق عيسى - عليه السلام - هي بمعنى النفس المقومة للجسم وهي اسم لجبريل - عليه السلام - ومعنى نفخ الله في عيسى - عليه السلام - من روحه أنه خلق روحا نفخها فيه، فإن جميع أرواح الناس يصدق أنها روح الله. 
•   وأما الكلمة فمعناها أن الله - عز وجل - إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فما من موجود إلا وهو منسوب إلى كلمة كن، فلما أوجد الله عيسى - عليه السلام - قال له كن في بطن أمه فكان، وأما تخصيصه بذلك فهو للتشريف وعلو المنزلة. 

المراجع

  1. (*)الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، القرافي، تحقيق: د. بكر زكي عوض، دار ابن الجوزي، القاهرة، 2004م. [1]. جيب درعها: فرجها. 
  2.  [2]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، ج6، ص52. 
  3.  [3]. التحرير والتنوير، ابن عاشور، دار سحنون، تونس، ص53.