نص السؤال

ادعاء أن القرآن يقر الإنجيل - بصورته الحالية - ويوجب على أهل الأديان جميعا الإيمان به

المؤلف: مجموعة مؤلفي بيان الإسلام

المصدر: موسوعة بيان الإسلام

الجواب التفصيلي

ادعاء أن القرآن يقر الإنجيل - بصورته الحالية - ويوجب على أهل الأديان جميعا الإيمان به(*)


مضمون الشبهة: 


يدعي بعض المتوهمين أن الإنجيل بمضمونه الحالي كتاب سماوي مقدس بشهادة القرآن؛ إذ يقول:

(وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47))

(المائدة)،

والإيمان به واجب على أهل الأديان جميعا. 


وجوه إبطال الشبهة: 


1)  القرآن إنما يقر الإنجيل الذي أنزل على عيسى قبل أن يدخله التحريف. 
2) الإنجيل بمضمونه الحالي ليس كتابا سماويا، ولو كان الإنجيل كما أنزل من عند الله لما كانت به تلك التناقضات التي لا يقبلها عقل. 
3) الإنجيل الصحيح عد القرآن كتابا سماويا خاتما ناسخا لما قبله متعبدا به دون غيره، بعد نزوله وقد بشر هذا الإنجيل بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا خاتما إلى الناس كافة. 


التفصيل: 


هذه كلمة حق أريد بها باطل، فالإنجيل ككتاب سماوي نزل على عيسى نبي الله - عليه السلام - يلقى - كغيره من الكتب السماوية - اعتبارا وإقرارا وتصديقا من القرآن الكريم، ولكن هل هذا الكلام ينطبق على الإنجيل الموجود بين أيدي الناس الآن؟


أولا. أي إنجيل يقر القرآن؟


حول نظرة القرآن الكريم للإنجيل، وحول المسيحية عموما من وجهة نظر إسلامية يحدثنا د. مراد هوفمان قائلا: إذا سمع مسلم اسم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أو قرأه في أي نص، كما في هذا الكتاب مثلا، فإنه يدعو للنبي مصليا عليه صلى الله عليه وسلم، كذلك يصلي المسلم على عيسى إن تلفظ باسمه أو سمعه. 


قد يبدو هذا غريبا مفاجئا للقراء الذين ليسوا على علم كاف بطبيعة الإسلام وفهمه لذاته، ذلك أن الإسلام لا يعد نفسه دينا جديدا في مقابل المسيحية لمجرد أنه تاريخيا جاء بعدها، بل إنه يرى نفسه مكملا للدين الداعي إلى الوحدانية المطلقة، التي وصى بها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء، ومهيمنا عليها كما نصت على ذلك آيات كثيرة بينة؛ منه

قوله سبحانه وتعالى:

(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)

(الشورى: 13)،

وقوله سبحانه وتعالى:

(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48))

(المائدة). 


من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الإسلام بصفته أقدم الديانات الداعية إلى التوحيد، وإن كان في الوقت ذاته أحدثها تاريخيا، إنه إذا غضضنا الطرف عن أخلاقياته ومبادئه الكريمة التي تدعو للتسامح، لا يزعم لنفسه الأحقية المطلقة التي تشجب غيرها من الأديان، كما تفعل الكاثوليكية بموقفها من الديانات الأخرى.

 
بل إن الأمر أبعد من هذا، فالإسلام يبني صرحه على أسس الديانتين السماويتين اللتين سبقتاه، مشيدا بأنبياء الله، معترفا ومؤكدا لجوهرهما الذي لم ينسخ بالوحي، إن الإسلام رسالة الوحي إلى الناس كافة في المعمورة كلها. ولنتدبر معا:

(قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84))

(آل عمران). 


ليست صلاحية الإسلام - إذن - ناتجة عن رفضه لليهودية والمسيحية، فالصحيح أن تلك الديانات الثلاث تربطها وشائج القربى، بحيث ترى الفروق التي تفصل فيما بينها أقل بكثير من التي تفصلها عن البوذية والهندية مثلا. 


بذا نتفهم موقف الإسلام في اعتبار عيسى - عليه السلام - نبيا من أنبياء الله، فقد أسلم لله كما يدل على ذلك المعنى الحرفي اللغوي للفظة "مسلم" بيد أنه ليس بحال من الأحوال خاتم النبيين. 
ومنطلق علم الأصول أو الدين الإسلامي أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يرد ذكره في التوراة فحسب، وإنما في الإنجيل كذلك، أي في العهدين القديم والجديد، وقد بشر عيسى نفسه بمقدم الرسول الذي تعني ترجمة اسمه "أحمد" مشتقا من الحمد:

(وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6))

(الصف)،

وقد نص في ذلك نصا على أنه آخر الأنبياء وخاتم المرسلين. 


يستقى الكثير معرفتهم عن منزلة عيسى ومريم وصورتهما في الإسلام من القرآن خاصة من سورة آل عمران وسورة مريم، ولا يعرف الكثيرون صورتهما ومنزلتهما في الأثر والسنة، حيث يهتم القرآن بالعبرة المستهدفة من إرسالهما، ومن ثم كان إخباره عنهما بشكل أقل من النمط القصصي في السرد، ومن ذلك

قوله سبحانه وتعالى:

(واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20))

(مريم)،

وقوله سبحانه وتعالى:

(قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49))

(آل عمران). 


هذه الآيات البينات تجعل المسلم يتيقن أن الله - عز وجل - خلق عيسى خلقا، لا بالتناسل المألوف:

(ما اتخذ صاحبة ولا ولدا (3))

(الجن)

(لم يلد ولم يولد (3))

(الإخلاص).

فولدته أمه العذراء مريم - مؤيدا - بروح القدس، وبالمعجزات، كما في

قوله سبحانه وتعالى:

(إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110))

(المائدة)،

ويتيقن المسلم أيضا أن عيسى نشأ في بيئة يهودية، عبدا صالحا مباركا نبيا، وأنه ليس ابنا لله - حاشا لله - وأنه ليس ذا طبيعة إلهية أو جوهرا مشابها لله، أو تجسيدا للناسوت والألوهية في شخص واحد كما يزعمون:

(قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون (68))

(يونس)،

(وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89))

(مريم). 


أما التثليث فيرفضه القرآن رفضا قاطعا:

(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75))

(المائدة).

والآيات نفسها تؤكد بشرية مريم، وترفض تقديسها إلى درجة التأليه:

(وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118))

(المائدة). 


هذا الإغراق والإفراط في تقديس مريم الذي يحلو للبعض أن يضيفه إليها يبرأ منه الإسلام، فما كانت وابنها سوى عبدين صالحين تقيين، كعباد الله الصالحين، لا أكثر ولا أقل من هذا، أو كما

يقول الحق سبحانه وتعالى:

(وجعلناها وابنها آية للعالمين (91))

(الأنبياء)،

(وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين (12))

(التحريم)،

(ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد)

(النساء: 171)،

إن القرآن يثبت رفع عيسى إلى السماء لكن ليس كما تردد في الأناجيل بعد موته المزعوم على الصليب:

(وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158))

(النساء). 


الآن وفي أيامنا هذه نتساءل: كيف ينظر الإنسان المعاصر إلى إنكار الطبيعة الإلهية للمسيح والروح القدس، اعتبار الأب والابن والروح القدس إلها واحدا كما يزعم القائلون بالتثليث؟ أما أنا شخصيا - والكلام ما زال على لسان د. مراد هوفمان - فأرى أن نظرة الإسلام التي تنكر الطبيعة الإلهية لعيسى، تلقى مؤيدين يزداد عددهم باستمرار من بين المسيحيين أنفسهم" [1].
هذه هي طبيعة نظرة القرآن للإنجيل وتقدير الإسلام المسيحية، فهل هذا ينطبق عل واقع الديانة النصرانية وكتابها "الإنجيل" اليوم؟ حتى نقول إنهما ما يزالان يتمتعان بهذا التقدير السامي من قبل الإسلام وكتابه "القرآن". 


ثانيا. هل لا يزال الإنجيل بمضمونه الحالي كتابا سماويا؟ 


تحت عنوان "ما يجب أن يكون في الكتاب الديني من صفات ليكون حجة يحدد الشيخ محمد أبو زهرة مواصفات الكتاب السماوي الصحيح، قائلا: "لأجل أن يكون الكتاب حجة - يجب الأخذ به على أنه شريعة الله ودينه، ومجموع أوامره ونواهيه، ومصدر الاعتقاد وأساس الملة - يجب أن يتوافر في هذا الكتاب أمور: 


أحدها: أن يكون الرسول الذي نسب إليه قد علم صدقه بلا ريب ولا شك، وأن يكون قد دعم ذلك الصدق بمعجزة، أي بأمر خارق للعادة قد تحدى به المنكرين والمكذبين، وأن يشتهر أمر ذلك التحدي وهذا الإعجاز، ويتوارثه الناس خلفا عن سلف، ويتواتر بينهم تواترا لا يكون للإنسان مجال لتكذيبه. 


ثانيها: ألا يكون ذلك الكتاب متناقضا مضطربا يهدم بعضه بعضا، فلا تتعارض تعليماته، ولا تتناقض أخباره، بل يكون كل جزء منه متمما للآخر ومكملا له؛ لأن ما يكون عن الله لا يختلف ولا يفترق ولا يتناقض، بل إن العقلاء في أقوالهم وفي كتبهم، يتحرون ألا يتناقض قولهم ولا يختلف تفكيرهم. 


ثالثها: أن يدعي ذلك الرسول أنه أوحى إليه به، ويدعم ذلك الادعاء بالبينات الثابتة، وهي المعجزات التي بعث بها الرسول ودعا إلى كتابه على أساسها، ويثبت ذلك الادعاء بالخبر المتواتر أو يثبت بالكتاب نفسه. 


رابعها: أن تكون نسبة الكتاب إلى الرسول الذي نسب إليه ثابتة بالطريق القطعي، بأن تثبت نسبة الكتاب إلى الرسول، بحيث يتلقاه الأخلاف عن الأسلاف جيلا بعد جيل من غير أي مظنة للانتحال. 


وأساس ذلك التواتر أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، حتى تصل إلى الرسول، بحيث يسمع كل فرد من الجمع الراوي عن الجمع الذي سبقه، والذي سبقه كذلك، حتى يصل إلى الرسول الذي أسند إليه الكتاب ونسب إليه، ونزل به الوحي عليه" [2]. 


فهل تنطبق هذه الشروط على الإنجيل الموجود بأيدينا الآن، يقول الشيخ أبو زهرة: "إن الكتب في الدين هي أساسه، فإن لم تكن مستوفية الشروط السابقة لم يكن الاطمئنان إلى صحتها كاملا وتطرق إليها الريب والظن من كل جانب، وبذلك يتهدم الدين من أساسه ويؤتى من قواعده ولا يكون شيئا مذكورا في الأديان، بل يكون طائفة من أساطير الأولين كتبها طائفة من الناس، وادعوها دينا ونسبوها لشخص معترف به، لتروج عند العامة وتدخل في أوهامهم، ويعتمدون على الزمان في تمكينها في نفوسهم وقلوبهم. 
وهل الكتب المقدسة عند النصارى سواء أكانت من كتب العهد القديم أو العهد الجديد مستوفية هذه الشروط، فتكون ملزمة للكافة؟


لا يزعم أن الذين كتبوها من بعد عيسى - عليه السلام - رسل مبعوثون بها يبشرون الناس بما فيها؛ فنبحث هل هؤلاء رسل حقسا وصدقا، قد تثبت رسالتهم بدليل لا مجال للريب فيه؟!
ولقد قلنا إن الطريق لذلك أن يدعوا هم هذه الرسالة ويثبتوها بمعجزة يجريها الله على أيديهم، ويتحدوا الناس ليدفعوهم إلى الإذعان أو ليسجلوا عليهم الكفر بعد أن يقوم الدليل عليهم. 


إننا نبحث في مراجعهم فلا نجد مرجعا صحيحا قرر أن هؤلاء ادعوا مثل هذه الرسالة، ودعوا الناس إلى الإيمان بها ومعهم البرهان عليها والدليل القائم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. نعم قد نجد في رسالة أعمال الرسل ذكرا لأخبار تلاميذ المسيح وأن روح القدس تجلى عليهم، وأنهم كانوا يأتون بأمور خارقة للعادة، وسماهم كاتب تلك الرسالة رسلا، ففيها يذكر أن عدد الأصحاب بعد المسيح أحد عشر وهم: بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وفيلب وتوما وبرثولماس ومتى ويعقوب بن حلفى، وسمعان الغيور، ويهوذا أخو يعقوب، وأن بطرس وقف وألقى في وسط التلاميذ الذين بلغوا نحو عشرين ومائة - خطبة، وأنهم امتلأوا جميعا بروح القدس، وتكلموا بألسنة غير ألسنتهم. ثم يذكر أن بطرس شفي أعرج من عرجه، ومات من كذب عليه، بعد أن كشف كذبه واختلاسه هو وامرأته. 


ذكر سفر الأعمال هذا وذكر عجائب أتى بها بولس - في زعمه - في آخر ذلك السفر أيضا، وكذلك نجد في إنجيل لوقا أنه يذكر أن المسيح أرسل سبعين رجلا ليبشروا باسمه، وأنهم عادوا يقولون له: "يارب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك! فقال لهم: «رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء. ولكن لا تفرحوا بهذا: أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات»". (لوقا 9: 17 - 20). 


ونريد أن نناقش أعمال الرسل وإنجيل لوقا في هذا المقام، لنعرف منه من هم هؤلاء الرسل، لم يذكر سفر الأعمال أسماء العشرين والمائة الذين ملئوا من روح القدس، نعم إنه ذكر أسماء الحواريين الأحد عشر، وليس منهم من ينسب إليه كتب أو رسائل، سوى متى وبطرس ويوحنا ويعقوب ويهوذا.. وقد علمت بعض ما في نسبة إنجيل متى ويوحنا إليهما من شك، وأما بطرس والباقون فلهم رسائل، ولم يكن معترفا بصحتها إلى سنة 364، حتى إن مجمع نيقية لم يعترف بصحة نسبتها إلى أصحابها، وقد كان سنة 325. 


وإذا كان سفر الأعمال لم يذكر أسماء العشرين والمائة، ولم يذكر كذلك إنجيل لوقا أسماءهم، فكيف تؤمن برسالة رسل لم تعرف أسماؤهم، نعم كانت تذكر بعد ذلك أسماء أشخاص، ويوصفون بأنهم رسل، ولكن لم يذكر أنهم من العشرين والمائة، ومن المؤكد أن بولس لم يكن في العدد الذي ذكر في الأعمال، ولا في العدد الذي ذكر في إنجيل لوقا. ‍
إذن لا مقنع فيما جاء في سفر الأعمال، ولا في إنجيل لوقا؛ لأنه لم يذكر أسماء هؤلاء معنيين [3] بالاسم، ثم من هو مؤلف سفر الأعمال؟ قالوا إنه لوقا صاحب الإنجيل. 
إذن فالمصدر هو لوقا في الاثنين، ولوقا قد بينا أنه طبيب وقيل إنه مصور، أو هو طبيب مصور، فهل كان من تلاميذ المسيح، أو كان من تلاميذ تلاميذه. لم يثبت شيء من ذلك. 


وكل ما ثبت من صلته برجال المسيحية أنه كان من أصحاب أو تلاميذ بولس، وإذن فروايته عن هؤلاء وعن المسيح ليست برواية من شاهد وعاين، وعلى ذلك يكون السند غير متصل بين لوقا والمسيح أو تلاميذ المسيح. 
لم نعرف إذن حقيقة هؤلاء الرسل ومن هم بسند صحيح، فضلا عن أن يكون السند قطعيا، وإذا كنا لا نعرف من هم، فكيف نؤمن لهم بمعجزات؟ إن المصدر الذي ذكر المعجزات هو نفس المصدر الذي ذكر الرسل من غير أن يبين من هم، وهو راو لم يعاين ولم يشاهد، وعلى ذلك يكون الكلام في الإلهام وأنهم رسل ملهمون، لم يثبت بسند يصح الاعتماد عليه والاطمئنان إليه وبناء عقيدة تشرق وتغرب على أساسه. 


ولكنا لا نكاد ننتهي إلى هذه النتيجة حتى نجد من مجادلي القوم والمناظرين عنهم، من يزعمون أن لوقا نفسه صاحب سفر الأعمال وصاحب الإنجيل، كان من الرسل الملهمين فهو لا يحتاج إلى سند؛ لأن كل كلامه من الروح القدس الذي ملأه كما ملأ إخوانه الرسل. ولكن أين معجزته التي تثبت إلهامه حتى نصدق كل ما جاء في كتابيه، ويؤمن مؤمن "يحترم الإيمان" بكل ما اشتملا عليه، لم يرد عندهم أي شيء يدل على إلهام لوقا، وأنه كان في العشرين والمائة الذين ألقى فيهم بطرس خطبته وامتلأوا بروح القدس في زعمهم، ولم يكن من السبعين الذين أرسلهم المسيح - كما ذكر في إنجيله - وأخضعوا الأرواح، وأخبرهم أن أسماءهم كتبت في السماء. 


ولسنا في ذلك إلا مطالبين بأن يثبتوا إلهام لوقا، لنصدق بإخباره عن الرسل وأعمالهم وعن إلهامهم وامتلائهم بالروح القدس وإعجازهم، لا يوجد أمامنا أي دليل يثبتون به إلهام لوقا فيما كتب، حتى كنا نصدقه في كلامه عن الرسل الذين تجلى عليهم الروح القدس وامتلأوا به، وإن كنا لا نعرف أشخاصهم ولا شيئا عن أسمائهم وأعمالهم. 


بل لقد وجدنا من كتاب القوم الباحثين من يصرح بأن لوقا لم يكن من الملهمين وأن إنجيله لم يكن إلهاميا، وبالأولى رسالته لم تكن بإلهام؛ فقد قال من المحدثين واطسن في المجلد الرابع من كتاب الإلهام ما ترجمته: إن عدم كون تحرير لوقا إلهاميا يظهر مما كتب في ديباجة إنجيله، ونصها: "إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المستيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به". ومثل هذا القول من أن ما كتب لوقا ليس بإلهام قاله العلماء الأقدمون من المسيحيين، فيقول أرينوس: إن الأشياء تعلمها من بلغها إلينا. 


لم يكن إذن لوقا ملهما؛ لأنه لا يوجد دليل يثبت إلهامه، ولأن مقدمة إنجيله كمقدمة رسالته تدل على أنه لم يكن ملهما؛ ولأن الثقات من العلماء الأقدمين والمحدثين يقررون أنه لم يكن ملهما فيما كتب، بل كتب ما تعلم ولقن، لا ما أوحى إليه به وألهم. 


وإذا كانت رسالة الأعمال هي المصدر المثبت لإلهام الرسل وامتلائهم بالروح القدس، فيكون ذلك المصدر قد فقد صلاحيته؛ لأنه لم يكن متصل السند بين لوقا والتلاميذ والمسيح؛ ولأن لوقا لم يكن ملهما، وهذا كله على فرض صحة نسبة ما أسند إلى لوقا، وفي تلك الصحة كلام سنثبته في موضعه. 


 ليس عندنا إذن دليل نقلي عنهم يثبت رسالة من يسمونهم رسلا، ويثبت أنهم كتبوا بالإلهام، حتى يعتبر كلامهم وحيا أوحي به، ويجب تصديقه وقبوله، ولا نجد من الكتب ما يؤيد هذه الدعوى ويثبتها، بل إن راجعنا هذه الكتابات لا نجد أن كتابها يدعون لأنفسهم أنهم رسل، ولا من تلاميذه العشرين والمائة، ولا من السبعين الذين ذكرهم لوقا. 


وقد رأينا بطرس في رسالتيه يقدمهما بأنه رسول يسوع المسيح، ولم يذكر لنفسه وصف الرسالة المطلقة عن الله، ولا نجد في عباراتهم ما يدل على أنهم كتبوا بالإلهام إلا رسائل بولس، فهو الذي يذكر في رسالته أنه يتكلم عن الله، وأحيانا يقول إنه يتكلم من نفسه. 


وإذن نقول إن أصحاب هذه الكتب والرسائل لا يدعون لأنفسهم الرسالة والإلهام، إلا بولس الذي كانت صلته بالمسيحية على ما علمتم، وليس في كتبها ما يشهد له بالرسالة والإلهام إلا سفر الأعمال، وقد علمت قوة الاستدلال به، والاعتماد عليه في الاحتجاج والإثبات" [4]. 
وبعد أن يعرض المؤلف الإنجيل على محك المقاييس التي سبق وضعها للكتاب السماوي الصحيح، كعدم التضارب، وعدم انقطاع السند، وهو ما ثبت لديه عكسه - يقول مجملا القضية ": هذه كلمتنا في كتبهم، تحرينا فيها أن نكتبها كما كتبها المسيحيون، ونوجه من النقد ما وجهوا، وذلك لكي ننصف القوم. 


ولقد ألقينا عليها نظرة فاحصة لنوائم [5] بين أخبارها المختلفة ونجمع بين الأقوال المتضاربة، ونشير إلى حكم العقل المستقيم عليها، أهي صالحة لأن تكون مصدر دين يتدين به ألوف الألوف من البشر وأهل العلم؟ أم غير صالحة؟ إن كتاب كل دين هو الأصل والدعامة والأساس، فإذا كان غير صحيح السند أو غير مقبول لدى العقول كان ثبوت الدين فيه نظر، بل إنه انهار، وفقد أصله ولم يعد شيئا في الأديان مذكورا" [6].


أفدين كتابه المقدس بهذه الحالة من جهالة أحوال من يدعون رسله وافتقادهم للوحي والإلهام والإعجاز، وانقطاع سنده واضطراب متنه، وتناقض أقواله، وهزال [7] بعض أفكاره وسخافة بعضها الآخر - خاصة فيما يتعلق بمقام الألوهية والنبوة - كأنها هلاوس بشر بنصف عقل، فهل دين بهذه الأوصاف يستحق أن يتعبد به بعض الناس، فضلا عن أن يوجب على المؤمنين من أهل الأديان جميعا أن يقرءوا كتابه ويؤمنوا به بوضعه الحالي، ومضمونه المحرف المتهافت؟‍ 
إذن بنينا موقفنا الرافض لهذا الطلب، المتمثل في الدعوة إلى قراءة الإنجيل الحالي والإيمان به، على أنه محرف وليس باقيا على أصله السماوي الصحيح. 


فما مفهوم التحريف وأنواعه وأدلة وقوعه وعوامل ذلك؟
تجيبنا عن هذه الأسئلة، مؤلفة كتاب "موقف ابن تيمية من النصرانية"؛ إذ تقول: "يتهم ابن تيمية النصارى بالتبديل والتحريف لكتبهم، ولا يخص بذلك الأناجيل فقط، ولكنه يضم إليها أسفار التوراة باعتبارها العهد القديم لكتابهم المقدس - عندهم - فيثبت فيها وقوع التحريف على أيدي اليهود، وكأنه يريد أن يقول: إن كتب النصارى سواء منها القديم والجديد قد وقع فيها التحريف.. فالتحريف: انحراف الشيء عن جهته، وميله عنها إلى غيرها، وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق، والمراد به هنا: إخراج الوحي والشريعة، عما جاءت به بالتغيير والتبديل في الألفاظ أو بالكتمان والتأويل الفاسد والتفسير الباطل. 

المراجع

  1. (*) مواجهة صريحة بين الإسلام وخصومه، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2005م. [1]. الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، د. م، ط1، 1993م، ص51: 54.
  2.  [2]. محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، د. ت، ص71، 72. 
  3.  [3]. معنيين: مقصودين. 
  4.  [4]. محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، د. ت، ص71 وما بعدها.
  5.  [5]. نوائم: نوفق. 
  6.  [6]. محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، د. ت، ص90. 
  7.  [7]. الهزال: الضعف.

الجواب التفصيلي

ادعاء أن القرآن يقر الإنجيل - بصورته الحالية - ويوجب على أهل الأديان جميعا الإيمان به(*)


مضمون الشبهة: 


يدعي بعض المتوهمين أن الإنجيل بمضمونه الحالي كتاب سماوي مقدس بشهادة القرآن؛ إذ يقول:

(وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47))

(المائدة)،

والإيمان به واجب على أهل الأديان جميعا. 


وجوه إبطال الشبهة: 


1)  القرآن إنما يقر الإنجيل الذي أنزل على عيسى قبل أن يدخله التحريف. 
2) الإنجيل بمضمونه الحالي ليس كتابا سماويا، ولو كان الإنجيل كما أنزل من عند الله لما كانت به تلك التناقضات التي لا يقبلها عقل. 
3) الإنجيل الصحيح عد القرآن كتابا سماويا خاتما ناسخا لما قبله متعبدا به دون غيره، بعد نزوله وقد بشر هذا الإنجيل بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ورسولا خاتما إلى الناس كافة. 


التفصيل: 


هذه كلمة حق أريد بها باطل، فالإنجيل ككتاب سماوي نزل على عيسى نبي الله - عليه السلام - يلقى - كغيره من الكتب السماوية - اعتبارا وإقرارا وتصديقا من القرآن الكريم، ولكن هل هذا الكلام ينطبق على الإنجيل الموجود بين أيدي الناس الآن؟


أولا. أي إنجيل يقر القرآن؟


حول نظرة القرآن الكريم للإنجيل، وحول المسيحية عموما من وجهة نظر إسلامية يحدثنا د. مراد هوفمان قائلا: إذا سمع مسلم اسم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أو قرأه في أي نص، كما في هذا الكتاب مثلا، فإنه يدعو للنبي مصليا عليه صلى الله عليه وسلم، كذلك يصلي المسلم على عيسى إن تلفظ باسمه أو سمعه. 


قد يبدو هذا غريبا مفاجئا للقراء الذين ليسوا على علم كاف بطبيعة الإسلام وفهمه لذاته، ذلك أن الإسلام لا يعد نفسه دينا جديدا في مقابل المسيحية لمجرد أنه تاريخيا جاء بعدها، بل إنه يرى نفسه مكملا للدين الداعي إلى الوحدانية المطلقة، التي وصى بها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء، ومهيمنا عليها كما نصت على ذلك آيات كثيرة بينة؛ منه

قوله سبحانه وتعالى:

(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)

(الشورى: 13)،

وقوله سبحانه وتعالى:

(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48))

(المائدة). 


من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الإسلام بصفته أقدم الديانات الداعية إلى التوحيد، وإن كان في الوقت ذاته أحدثها تاريخيا، إنه إذا غضضنا الطرف عن أخلاقياته ومبادئه الكريمة التي تدعو للتسامح، لا يزعم لنفسه الأحقية المطلقة التي تشجب غيرها من الأديان، كما تفعل الكاثوليكية بموقفها من الديانات الأخرى.

 
بل إن الأمر أبعد من هذا، فالإسلام يبني صرحه على أسس الديانتين السماويتين اللتين سبقتاه، مشيدا بأنبياء الله، معترفا ومؤكدا لجوهرهما الذي لم ينسخ بالوحي، إن الإسلام رسالة الوحي إلى الناس كافة في المعمورة كلها. ولنتدبر معا:

(قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84))

(آل عمران). 


ليست صلاحية الإسلام - إذن - ناتجة عن رفضه لليهودية والمسيحية، فالصحيح أن تلك الديانات الثلاث تربطها وشائج القربى، بحيث ترى الفروق التي تفصل فيما بينها أقل بكثير من التي تفصلها عن البوذية والهندية مثلا. 


بذا نتفهم موقف الإسلام في اعتبار عيسى - عليه السلام - نبيا من أنبياء الله، فقد أسلم لله كما يدل على ذلك المعنى الحرفي اللغوي للفظة "مسلم" بيد أنه ليس بحال من الأحوال خاتم النبيين. 
ومنطلق علم الأصول أو الدين الإسلامي أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يرد ذكره في التوراة فحسب، وإنما في الإنجيل كذلك، أي في العهدين القديم والجديد، وقد بشر عيسى نفسه بمقدم الرسول الذي تعني ترجمة اسمه "أحمد" مشتقا من الحمد:

(وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6))

(الصف)،

وقد نص في ذلك نصا على أنه آخر الأنبياء وخاتم المرسلين. 


يستقى الكثير معرفتهم عن منزلة عيسى ومريم وصورتهما في الإسلام من القرآن خاصة من سورة آل عمران وسورة مريم، ولا يعرف الكثيرون صورتهما ومنزلتهما في الأثر والسنة، حيث يهتم القرآن بالعبرة المستهدفة من إرسالهما، ومن ثم كان إخباره عنهما بشكل أقل من النمط القصصي في السرد، ومن ذلك

قوله سبحانه وتعالى:

(واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20))

(مريم)،

وقوله سبحانه وتعالى:

(قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49))

(آل عمران). 


هذه الآيات البينات تجعل المسلم يتيقن أن الله - عز وجل - خلق عيسى خلقا، لا بالتناسل المألوف:

(ما اتخذ صاحبة ولا ولدا (3))

(الجن)

(لم يلد ولم يولد (3))

(الإخلاص).

فولدته أمه العذراء مريم - مؤيدا - بروح القدس، وبالمعجزات، كما في

قوله سبحانه وتعالى:

(إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110))

(المائدة)،

ويتيقن المسلم أيضا أن عيسى نشأ في بيئة يهودية، عبدا صالحا مباركا نبيا، وأنه ليس ابنا لله - حاشا لله - وأنه ليس ذا طبيعة إلهية أو جوهرا مشابها لله، أو تجسيدا للناسوت والألوهية في شخص واحد كما يزعمون:

(قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون (68))

(يونس)،

(وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89))

(مريم). 


أما التثليث فيرفضه القرآن رفضا قاطعا:

(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75))

(المائدة).

والآيات نفسها تؤكد بشرية مريم، وترفض تقديسها إلى درجة التأليه:

(وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد (117) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118))

(المائدة). 


هذا الإغراق والإفراط في تقديس مريم الذي يحلو للبعض أن يضيفه إليها يبرأ منه الإسلام، فما كانت وابنها سوى عبدين صالحين تقيين، كعباد الله الصالحين، لا أكثر ولا أقل من هذا، أو كما

يقول الحق سبحانه وتعالى:

(وجعلناها وابنها آية للعالمين (91))

(الأنبياء)،

(وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين (12))

(التحريم)،

(ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد)

(النساء: 171)،

إن القرآن يثبت رفع عيسى إلى السماء لكن ليس كما تردد في الأناجيل بعد موته المزعوم على الصليب:

(وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158))

(النساء). 


الآن وفي أيامنا هذه نتساءل: كيف ينظر الإنسان المعاصر إلى إنكار الطبيعة الإلهية للمسيح والروح القدس، اعتبار الأب والابن والروح القدس إلها واحدا كما يزعم القائلون بالتثليث؟ أما أنا شخصيا - والكلام ما زال على لسان د. مراد هوفمان - فأرى أن نظرة الإسلام التي تنكر الطبيعة الإلهية لعيسى، تلقى مؤيدين يزداد عددهم باستمرار من بين المسيحيين أنفسهم" [1].
هذه هي طبيعة نظرة القرآن للإنجيل وتقدير الإسلام المسيحية، فهل هذا ينطبق عل واقع الديانة النصرانية وكتابها "الإنجيل" اليوم؟ حتى نقول إنهما ما يزالان يتمتعان بهذا التقدير السامي من قبل الإسلام وكتابه "القرآن". 


ثانيا. هل لا يزال الإنجيل بمضمونه الحالي كتابا سماويا؟ 


تحت عنوان "ما يجب أن يكون في الكتاب الديني من صفات ليكون حجة يحدد الشيخ محمد أبو زهرة مواصفات الكتاب السماوي الصحيح، قائلا: "لأجل أن يكون الكتاب حجة - يجب الأخذ به على أنه شريعة الله ودينه، ومجموع أوامره ونواهيه، ومصدر الاعتقاد وأساس الملة - يجب أن يتوافر في هذا الكتاب أمور: 


أحدها: أن يكون الرسول الذي نسب إليه قد علم صدقه بلا ريب ولا شك، وأن يكون قد دعم ذلك الصدق بمعجزة، أي بأمر خارق للعادة قد تحدى به المنكرين والمكذبين، وأن يشتهر أمر ذلك التحدي وهذا الإعجاز، ويتوارثه الناس خلفا عن سلف، ويتواتر بينهم تواترا لا يكون للإنسان مجال لتكذيبه. 


ثانيها: ألا يكون ذلك الكتاب متناقضا مضطربا يهدم بعضه بعضا، فلا تتعارض تعليماته، ولا تتناقض أخباره، بل يكون كل جزء منه متمما للآخر ومكملا له؛ لأن ما يكون عن الله لا يختلف ولا يفترق ولا يتناقض، بل إن العقلاء في أقوالهم وفي كتبهم، يتحرون ألا يتناقض قولهم ولا يختلف تفكيرهم. 


ثالثها: أن يدعي ذلك الرسول أنه أوحى إليه به، ويدعم ذلك الادعاء بالبينات الثابتة، وهي المعجزات التي بعث بها الرسول ودعا إلى كتابه على أساسها، ويثبت ذلك الادعاء بالخبر المتواتر أو يثبت بالكتاب نفسه. 


رابعها: أن تكون نسبة الكتاب إلى الرسول الذي نسب إليه ثابتة بالطريق القطعي، بأن تثبت نسبة الكتاب إلى الرسول، بحيث يتلقاه الأخلاف عن الأسلاف جيلا بعد جيل من غير أي مظنة للانتحال. 


وأساس ذلك التواتر أن يرويه جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب، حتى تصل إلى الرسول، بحيث يسمع كل فرد من الجمع الراوي عن الجمع الذي سبقه، والذي سبقه كذلك، حتى يصل إلى الرسول الذي أسند إليه الكتاب ونسب إليه، ونزل به الوحي عليه" [2]. 


فهل تنطبق هذه الشروط على الإنجيل الموجود بأيدينا الآن، يقول الشيخ أبو زهرة: "إن الكتب في الدين هي أساسه، فإن لم تكن مستوفية الشروط السابقة لم يكن الاطمئنان إلى صحتها كاملا وتطرق إليها الريب والظن من كل جانب، وبذلك يتهدم الدين من أساسه ويؤتى من قواعده ولا يكون شيئا مذكورا في الأديان، بل يكون طائفة من أساطير الأولين كتبها طائفة من الناس، وادعوها دينا ونسبوها لشخص معترف به، لتروج عند العامة وتدخل في أوهامهم، ويعتمدون على الزمان في تمكينها في نفوسهم وقلوبهم. 
وهل الكتب المقدسة عند النصارى سواء أكانت من كتب العهد القديم أو العهد الجديد مستوفية هذه الشروط، فتكون ملزمة للكافة؟


لا يزعم أن الذين كتبوها من بعد عيسى - عليه السلام - رسل مبعوثون بها يبشرون الناس بما فيها؛ فنبحث هل هؤلاء رسل حقسا وصدقا، قد تثبت رسالتهم بدليل لا مجال للريب فيه؟!
ولقد قلنا إن الطريق لذلك أن يدعوا هم هذه الرسالة ويثبتوها بمعجزة يجريها الله على أيديهم، ويتحدوا الناس ليدفعوهم إلى الإذعان أو ليسجلوا عليهم الكفر بعد أن يقوم الدليل عليهم. 


إننا نبحث في مراجعهم فلا نجد مرجعا صحيحا قرر أن هؤلاء ادعوا مثل هذه الرسالة، ودعوا الناس إلى الإيمان بها ومعهم البرهان عليها والدليل القائم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. نعم قد نجد في رسالة أعمال الرسل ذكرا لأخبار تلاميذ المسيح وأن روح القدس تجلى عليهم، وأنهم كانوا يأتون بأمور خارقة للعادة، وسماهم كاتب تلك الرسالة رسلا، ففيها يذكر أن عدد الأصحاب بعد المسيح أحد عشر وهم: بطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وفيلب وتوما وبرثولماس ومتى ويعقوب بن حلفى، وسمعان الغيور، ويهوذا أخو يعقوب، وأن بطرس وقف وألقى في وسط التلاميذ الذين بلغوا نحو عشرين ومائة - خطبة، وأنهم امتلأوا جميعا بروح القدس، وتكلموا بألسنة غير ألسنتهم. ثم يذكر أن بطرس شفي أعرج من عرجه، ومات من كذب عليه، بعد أن كشف كذبه واختلاسه هو وامرأته. 


ذكر سفر الأعمال هذا وذكر عجائب أتى بها بولس - في زعمه - في آخر ذلك السفر أيضا، وكذلك نجد في إنجيل لوقا أنه يذكر أن المسيح أرسل سبعين رجلا ليبشروا باسمه، وأنهم عادوا يقولون له: "يارب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك! فقال لهم: «رأيت الشيطان ساقطا مثل البرق من السماء. ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء. ولكن لا تفرحوا بهذا: أن الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات»". (لوقا 9: 17 - 20). 


ونريد أن نناقش أعمال الرسل وإنجيل لوقا في هذا المقام، لنعرف منه من هم هؤلاء الرسل، لم يذكر سفر الأعمال أسماء العشرين والمائة الذين ملئوا من روح القدس، نعم إنه ذكر أسماء الحواريين الأحد عشر، وليس منهم من ينسب إليه كتب أو رسائل، سوى متى وبطرس ويوحنا ويعقوب ويهوذا.. وقد علمت بعض ما في نسبة إنجيل متى ويوحنا إليهما من شك، وأما بطرس والباقون فلهم رسائل، ولم يكن معترفا بصحتها إلى سنة 364، حتى إن مجمع نيقية لم يعترف بصحة نسبتها إلى أصحابها، وقد كان سنة 325. 


وإذا كان سفر الأعمال لم يذكر أسماء العشرين والمائة، ولم يذكر كذلك إنجيل لوقا أسماءهم، فكيف تؤمن برسالة رسل لم تعرف أسماؤهم، نعم كانت تذكر بعد ذلك أسماء أشخاص، ويوصفون بأنهم رسل، ولكن لم يذكر أنهم من العشرين والمائة، ومن المؤكد أن بولس لم يكن في العدد الذي ذكر في الأعمال، ولا في العدد الذي ذكر في إنجيل لوقا. ‍
إذن لا مقنع فيما جاء في سفر الأعمال، ولا في إنجيل لوقا؛ لأنه لم يذكر أسماء هؤلاء معنيين [3] بالاسم، ثم من هو مؤلف سفر الأعمال؟ قالوا إنه لوقا صاحب الإنجيل. 
إذن فالمصدر هو لوقا في الاثنين، ولوقا قد بينا أنه طبيب وقيل إنه مصور، أو هو طبيب مصور، فهل كان من تلاميذ المسيح، أو كان من تلاميذ تلاميذه. لم يثبت شيء من ذلك. 


وكل ما ثبت من صلته برجال المسيحية أنه كان من أصحاب أو تلاميذ بولس، وإذن فروايته عن هؤلاء وعن المسيح ليست برواية من شاهد وعاين، وعلى ذلك يكون السند غير متصل بين لوقا والمسيح أو تلاميذ المسيح. 
لم نعرف إذن حقيقة هؤلاء الرسل ومن هم بسند صحيح، فضلا عن أن يكون السند قطعيا، وإذا كنا لا نعرف من هم، فكيف نؤمن لهم بمعجزات؟ إن المصدر الذي ذكر المعجزات هو نفس المصدر الذي ذكر الرسل من غير أن يبين من هم، وهو راو لم يعاين ولم يشاهد، وعلى ذلك يكون الكلام في الإلهام وأنهم رسل ملهمون، لم يثبت بسند يصح الاعتماد عليه والاطمئنان إليه وبناء عقيدة تشرق وتغرب على أساسه. 


ولكنا لا نكاد ننتهي إلى هذه النتيجة حتى نجد من مجادلي القوم والمناظرين عنهم، من يزعمون أن لوقا نفسه صاحب سفر الأعمال وصاحب الإنجيل، كان من الرسل الملهمين فهو لا يحتاج إلى سند؛ لأن كل كلامه من الروح القدس الذي ملأه كما ملأ إخوانه الرسل. ولكن أين معجزته التي تثبت إلهامه حتى نصدق كل ما جاء في كتابيه، ويؤمن مؤمن "يحترم الإيمان" بكل ما اشتملا عليه، لم يرد عندهم أي شيء يدل على إلهام لوقا، وأنه كان في العشرين والمائة الذين ألقى فيهم بطرس خطبته وامتلأوا بروح القدس في زعمهم، ولم يكن من السبعين الذين أرسلهم المسيح - كما ذكر في إنجيله - وأخضعوا الأرواح، وأخبرهم أن أسماءهم كتبت في السماء. 


ولسنا في ذلك إلا مطالبين بأن يثبتوا إلهام لوقا، لنصدق بإخباره عن الرسل وأعمالهم وعن إلهامهم وامتلائهم بالروح القدس وإعجازهم، لا يوجد أمامنا أي دليل يثبتون به إلهام لوقا فيما كتب، حتى كنا نصدقه في كلامه عن الرسل الذين تجلى عليهم الروح القدس وامتلأوا به، وإن كنا لا نعرف أشخاصهم ولا شيئا عن أسمائهم وأعمالهم. 


بل لقد وجدنا من كتاب القوم الباحثين من يصرح بأن لوقا لم يكن من الملهمين وأن إنجيله لم يكن إلهاميا، وبالأولى رسالته لم تكن بإلهام؛ فقد قال من المحدثين واطسن في المجلد الرابع من كتاب الإلهام ما ترجمته: إن عدم كون تحرير لوقا إلهاميا يظهر مما كتب في ديباجة إنجيله، ونصها: "إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المستيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به". ومثل هذا القول من أن ما كتب لوقا ليس بإلهام قاله العلماء الأقدمون من المسيحيين، فيقول أرينوس: إن الأشياء تعلمها من بلغها إلينا. 


لم يكن إذن لوقا ملهما؛ لأنه لا يوجد دليل يثبت إلهامه، ولأن مقدمة إنجيله كمقدمة رسالته تدل على أنه لم يكن ملهما؛ ولأن الثقات من العلماء الأقدمين والمحدثين يقررون أنه لم يكن ملهما فيما كتب، بل كتب ما تعلم ولقن، لا ما أوحى إليه به وألهم. 


وإذا كانت رسالة الأعمال هي المصدر المثبت لإلهام الرسل وامتلائهم بالروح القدس، فيكون ذلك المصدر قد فقد صلاحيته؛ لأنه لم يكن متصل السند بين لوقا والتلاميذ والمسيح؛ ولأن لوقا لم يكن ملهما، وهذا كله على فرض صحة نسبة ما أسند إلى لوقا، وفي تلك الصحة كلام سنثبته في موضعه. 


 ليس عندنا إذن دليل نقلي عنهم يثبت رسالة من يسمونهم رسلا، ويثبت أنهم كتبوا بالإلهام، حتى يعتبر كلامهم وحيا أوحي به، ويجب تصديقه وقبوله، ولا نجد من الكتب ما يؤيد هذه الدعوى ويثبتها، بل إن راجعنا هذه الكتابات لا نجد أن كتابها يدعون لأنفسهم أنهم رسل، ولا من تلاميذه العشرين والمائة، ولا من السبعين الذين ذكرهم لوقا. 


وقد رأينا بطرس في رسالتيه يقدمهما بأنه رسول يسوع المسيح، ولم يذكر لنفسه وصف الرسالة المطلقة عن الله، ولا نجد في عباراتهم ما يدل على أنهم كتبوا بالإلهام إلا رسائل بولس، فهو الذي يذكر في رسالته أنه يتكلم عن الله، وأحيانا يقول إنه يتكلم من نفسه. 


وإذن نقول إن أصحاب هذه الكتب والرسائل لا يدعون لأنفسهم الرسالة والإلهام، إلا بولس الذي كانت صلته بالمسيحية على ما علمتم، وليس في كتبها ما يشهد له بالرسالة والإلهام إلا سفر الأعمال، وقد علمت قوة الاستدلال به، والاعتماد عليه في الاحتجاج والإثبات" [4]. 
وبعد أن يعرض المؤلف الإنجيل على محك المقاييس التي سبق وضعها للكتاب السماوي الصحيح، كعدم التضارب، وعدم انقطاع السند، وهو ما ثبت لديه عكسه - يقول مجملا القضية ": هذه كلمتنا في كتبهم، تحرينا فيها أن نكتبها كما كتبها المسيحيون، ونوجه من النقد ما وجهوا، وذلك لكي ننصف القوم. 


ولقد ألقينا عليها نظرة فاحصة لنوائم [5] بين أخبارها المختلفة ونجمع بين الأقوال المتضاربة، ونشير إلى حكم العقل المستقيم عليها، أهي صالحة لأن تكون مصدر دين يتدين به ألوف الألوف من البشر وأهل العلم؟ أم غير صالحة؟ إن كتاب كل دين هو الأصل والدعامة والأساس، فإذا كان غير صحيح السند أو غير مقبول لدى العقول كان ثبوت الدين فيه نظر، بل إنه انهار، وفقد أصله ولم يعد شيئا في الأديان مذكورا" [6].


أفدين كتابه المقدس بهذه الحالة من جهالة أحوال من يدعون رسله وافتقادهم للوحي والإلهام والإعجاز، وانقطاع سنده واضطراب متنه، وتناقض أقواله، وهزال [7] بعض أفكاره وسخافة بعضها الآخر - خاصة فيما يتعلق بمقام الألوهية والنبوة - كأنها هلاوس بشر بنصف عقل، فهل دين بهذه الأوصاف يستحق أن يتعبد به بعض الناس، فضلا عن أن يوجب على المؤمنين من أهل الأديان جميعا أن يقرءوا كتابه ويؤمنوا به بوضعه الحالي، ومضمونه المحرف المتهافت؟‍ 
إذن بنينا موقفنا الرافض لهذا الطلب، المتمثل في الدعوة إلى قراءة الإنجيل الحالي والإيمان به، على أنه محرف وليس باقيا على أصله السماوي الصحيح. 


فما مفهوم التحريف وأنواعه وأدلة وقوعه وعوامل ذلك؟
تجيبنا عن هذه الأسئلة، مؤلفة كتاب "موقف ابن تيمية من النصرانية"؛ إذ تقول: "يتهم ابن تيمية النصارى بالتبديل والتحريف لكتبهم، ولا يخص بذلك الأناجيل فقط، ولكنه يضم إليها أسفار التوراة باعتبارها العهد القديم لكتابهم المقدس - عندهم - فيثبت فيها وقوع التحريف على أيدي اليهود، وكأنه يريد أن يقول: إن كتب النصارى سواء منها القديم والجديد قد وقع فيها التحريف.. فالتحريف: انحراف الشيء عن جهته، وميله عنها إلى غيرها، وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق، والمراد به هنا: إخراج الوحي والشريعة، عما جاءت به بالتغيير والتبديل في الألفاظ أو بالكتمان والتأويل الفاسد والتفسير الباطل. 

المراجع

  1. (*) مواجهة صريحة بين الإسلام وخصومه، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2005م. [1]. الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، د. م، ط1، 1993م، ص51: 54.
  2.  [2]. محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، د. ت، ص71، 72. 
  3.  [3]. معنيين: مقصودين. 
  4.  [4]. محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، د. ت، ص71 وما بعدها.
  5.  [5]. نوائم: نوفق. 
  6.  [6]. محاضرات في النصرانية، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، د. ت، ص90. 
  7.  [7]. الهزال: الضعف.