نص السؤال

كيف يشرِّعُ النبيُّ ^ تشريعاتٍ جديدةً لم تُذكَرْ في القرآن؟ أليس القرآنُ أَوْلى بالتشريعِ وببيانِ الحلالِ مِن الحرام؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

عدمُ استقلاليَّةِ السنَّةِ بالتشريع.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

حقيقةُ هذه الشبهةِ: هي ردُّ السنَّةِ بدعوى اتِّباعِ القرآن.

ويتبيَّنُ بطلانُها مِن وجوهٍ، منها:

1- أن هذه الدعوى بلا دليلٍ، بل الدليلُ يخالِفُها:

فليس هناك نصٌّ مِن القرآنِ، ولا اقتضاءٌ للعقلِ: يَمنَعُ أن تأتِيَ السنَّةُ بتشريعٍ مستقِلّ.

بل القرآنُ أمَرَ بطاعةِ الرسولِ ﷺ، فلو لم يكن في ذلك معنًى زائدٌ عن طاعةِ اللهِ تعالى، لَمَا أمَرَ به.

2- أن عامَّةَ ما قيل فيه باستقلالِ السنَّةِ، قد استنبَطَ له العلماءُ معانيَ في القرآنِ الكريمِ تدُلُّ عليه:

وسواءٌ قَوِيَ الاستنباطُ أو لا، فورودُ الحكمِ في السنَّةِ كافٍ؛ كما سبَق.

ثم هذه الأحكامُ عامَّتُها في تكميلاتِ الأمورِ الشرعيَّةِ؛ لأن الأصولَ ظاهرةٌ في القرآنِ الكريم، وعامَّةُ هؤلاءِ الذين يُثِيرون هذه الشُّبَهَ: إما أنهم ممَّن يخالِفُ هذه الأصولَ، أو ممَّن لا يَتِمُّ لهم فقهٌ؛ إذ لا يُمكِنُ استكمالُ الفقهِ بغيرِ السنَّةِ النبويَّة.

3- مفهومُ مخالَفةِ القرآنِ الكريمِ ليس مطابِقًا لمفهومِ الاستقلالِ بالتشريع، ولا ملازِمًا له:

فإن المحذورَ في أن تأتيَ السنَّةُ بما يعارِضُ القرآنَ ويخالِفُهُ ويناقِضُه؛ لأن كلَّ ما ناقَضَ القرآنَ، فهو باطلٌ، وهذا غيرُ متحقِّقٍ في الأحاديثِ الصحيحة.

 ومَن زعَمَهُ، فهنا احتمالان:

الاحتمالُ الأوَّلُ: أن يكونَ الحديثُ موضوعًا مكذوبًا، ليس مِن كلامِ النبيِّ ^.

ولهذا كان مِن شأنِ أهلِ الحديثِ تمييزُ الباطلِ المردودِ المزيَّفِ مِن الأحاديث، مِن الصحيحِ المتَّصِلِ بنقلِ العدولِ عن النبيِّ ^.

ولما قيل للإمامِ عبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ رحمه الله: هذه الأحاديثُ المصنوعة؟ قال: «يَعِيشُ لها الجهابِذةُ»؛ رواه الخطيبُ في «الكفاية» (1/146- 147).

الاحتمالُ الثاني: أن يكونَ ذلك الزاعمُ يظُنُّ المعارَضةَ، وليست بمتحقِّقة.

ولهذا فالعلماءُ بالشريعةِ لا يَرَوْنَ معارَضةً بين السنَّةِ الصحيحةِ وبين القرآنِ الكريم، وإنما يقَعُ في ذلك بعضُ مَن نقَصَ عِلمُهم بذلك.

وليس المحذورُ في أن تأتيَ السنَّةُ بمعانٍ زائدةٍ تبيِّنُ بعضَ مواضعِ القرآنِ الكريم؛ كأن تخصِّصَ عمومَه، أو تقيِّدَ مُطلَقه؛ فهذا ليس معارَضةً؛ إذ ليس معنى موافَقةِ السنَّةِ للقرآنِ هو فقطْ أن تأتِيَ السنَّةُ بترديدِ معاني القرآنِ بألفاظِها، أو ما هو قريبٌ منها.

فمثلًا: السنَّةُ في قولِهِ ^:

«أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنِ ائْتَمَنَكَ»

رواه التِّرمِذيُّ (1264)

هي موافِقةٌ للقرآنِ الكريم؛ فاللهُ تعالى يقولُ:

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

[النساء: 58].

لكنَّ الموافَقةَ لا تقتصِرُ على موافَقةِ اللفظِ؛ فالسنَّةُ النبويَّةُ التي بيَّنتْ صفةَ الصلاةِ، وذكَرتْ أشياءَ لم تُذكَرْ صريحةً في القرآنِ -: هي أيضًا موافِقةٌ للقرآنِ الكريم.

أما القولُ بأن استقلالَ السنَّةِ بالتشريعِ مِن قبيلِ المخالَفةِ للقرآنِ، فهذا تضييقٌ لمفهومِ الموافَقة، وتوسيعٌ لمفهومِ المخالَفة؛ وهو يُوقِعُ في محاذيرَ لا نهايةَ لها؛ لأن موافَقةَ الأحاديثِ للقرآنِ في اللفظِ والمعنى معًا، أمرٌ نادرُ الوقوع، والتمسُّكُ به فقطْ في امتثالِ أمرِ اللهِ تعالى بطاعةِ رسولِهِ ^، يؤدِّي إلى أن الأمرَ باتِّباعِ السنَّةِ أمرٌ بما لا زيادةَ فيه، ولا توضيحَ، ولا بيانَ؛ وهذا احتمالٌ مرجوحٌ مِن جهةِ كونِ التأسيسِ والتقريرِ أَوْلى مِن التوكيدِ والتَّكْرار.

4- أن إجماعَ الأمَّةِ انعقَدَ على الأخذِ بالسنَّةِ المستقِلَّةِ عن القرآنِ الكريم؛ وإجماعُ الأُمَّةِ معصومٌ:

وسواءٌ قيل: «إنه كان استقلالًا مطلَقًا»، أي: ليس هناك دَلالةٌ مِن القرآنِ عليه، أو «كان استقلالًا نسبيًّا»، أي: دَلالةُ القرآنِ فيه دَلالةٌ خفيَّةٌ، ولكنَّ السنَّةَ هي التي دلَّت عليه؛ فمَرَدُّ الأمرِ إلى العمَلِ بالسنَّةِ الصحيحةِ؛ كما يُعمَلُ بالقرآن.

ومِن أشهرِ الأمثلةِ على الأحكامِ الشرعيَّةِ التي أُخِذَتْ مِن السنَّةِ المخصِّصةِ لعمومِ القرآن:

أ- مِن بابِ الطهارةِ: قولُهُ تعالى:

{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}

[المائدة: 6]

 ظاهرُ الآيةِ: أن الأمرَ بغَسْلِ الرِّجْلِ عامٌّ لجميعِ المتوضِّئين، ودلَّت السنَّةُ على أن الذي يَلبَسُ الخُفَّ لا يدخُلُ في ذلك.

ب- ومِن بابِ البُيوعِ: قولُهُ تعالى:

{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}

[البقرة: 257]

، ظاهرُ الآيةِ: أن جميعَ البيوعِ مباحةٌ، ودلَّت السنَّةُ على أن بعضَ البيوعِ لا تدخُلُ في ذلك؛ كبيعِ الغَرَرِ، أو لتفصيلِ بعضِ الصُّوَرِ التي لا تدخُلُ في الربا الظاهرِ؛ كبيعِ الذهَبِ بالذهَبِ إلا مِثلًا بمِثل.

ج- ومِن بابِ الأطعمةِ: قولُهُ تعالى:

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

[الأنعام: 145]

 ظاهرُ الآيةِ: أن ما سِوى المطعوماتِ المذكورةِ حلالٌ، ودلَّتِ السنَّةُ على تحريمِ مطعوماتٍ لم تُذكَرْ في هذه الآية، ككُلِّ ذي نابٍ مِن السِّباع، ودلَّت على حِلِّيَّةِ أنواعٍ مِن المَيْتةِ، وهما نوعان: السمَكُ، والجَرَاد.

د- ومِن بابِ النكاحِ: قولُهُ تعالى بعد أن ذكَرَ المحرَّماتِ مِن النساءِ:

{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}

[النساء: 24]

ظاهرُ الآيةِ: أن مَن سِوى النساءِ المذكوراتِ حلالٌ نكاحُهُنَّ، ودلَّت السنَّةُ على تحريمِ نساءٍ لم يُذكَرْنَ؛ كعَمَّةِ الزوجةِ وخالتِها.

هـ- ومِن بابِ الفرائضِ: قولُهُ تعالى:

{يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}

[النساء: 11]

ثم ذكَرَ اللهُ المستحِقِّين للمِيراثِ، ونصيبَ كلٍّ منهم، وظاهرُ الآيةِ: أن كلَّ مَن صدَقَ عليه اسمُ الولَدِ يَرِثُ، قاتِلًا كان أو كافِرًا، ودلَّتِ السنَّةُ على أنه لا مِيراثَ لقاتِلٍ، ولا لمختلِفَيْنِ في الدِّين.

و- ومِن بابِ الحدودِ: قولُهُ تعالى:

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

[المائدة: 38]

ظاهرُ الآيةِ: أن الأمرَ بقطعِ يَدِ السارقِ يَشمَلُ جميعَ السارِقين، ودلَّت السنَّةُ على أنه لا تُقطَعُ يدُ سارقٍ إلا مَن بلَغَتْ سرقتُهُ رُبُعَ دِينارٍ فصاعدًا.

وإنما أنكَرَ السنَّةَ التشريعيَّةَ المستقِلَّةَ مَن أنكَرَ المسحَ على الخُفَّيْنِ، ومَن أنكَرَ الرَّجْمَ، وأباح أن تُنكَحَ المرأةُ على عمَّتِها وعلى خالتِها، وأباح للمطلَّقةِ ثلاثًا الرجوعَ إلى الزوجِ الأوَّلِ؛ إذا نكَحَها الثاني، ولم يدخُلْ بها، وأسقَطَ الجَلْدَ عمَّن قذَفَ محصَنًا مِن الرجالِ؛ وهذا كلُّه مخالِفٌ للإجماع، موافقٌ لمقالاتِ أهلِ البِدَع. قال أهلُ العلمِ: «وإذا ثبَتَ الشيءُ بالسنَّةِ، وجَبَ الأخذُ به، ولم يكن لأحدٍ عُذْرٌ في تركِه، ولا التخلُّفِ عنه».

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

خلاصةُ هذه الشبهةِ: أن السنَّةَ غيرُ صالحةٍ لتشريعِ ما لم يَرِدْ في القرآن، بل هي بيانٌ للقرآنِ وكفى. فمِن وجهةِ نظرِ السائلِ: كلُّ حُكمٍ تشريعيٍّ كانت السنَّةُ هي الدليلَ عليه، هو حُكمٌ مخالِفٌ للقرآن، وما يخالِفُ القرآنَ يكونُ باطلًا.

مختصَرُ الإجابة:

إن القرآنَ والسنَّةَ كلَيْهما وحيٌ مِن عندِ اللهِ تعالى، والإيمانُ بأنهما وحيٌ يقتضي التصديقَ بكلِّ ما جاء فيهما مِن أخبارٍ، والعملَ بكلِّ ما جاء فيهما مِن أوامرَ، وعلى هذا إجماعُ الأمَّةِ في الأخذِ بالأحكامِ الشرعيَّة؛ سواءٌ استقَلَّتْ بها السنَّةُ، أو جاءت في القرآنِ والسنَّةِ معًا.

وإنْ كان الأمرُ أو الخبَرُ قد جاء في السنَّةِ استقلالًا، فهذا لا يَعْني أنه قد خالَفَ القرآنَ، ففرقٌ بين المخالَفةِ وبين تبيينِ المجمَلِ، وتقييدِ المطلَقِ، وتخصيصِ العامِّ، بل لا يُوجَدُ في السنَّةِ الصحيحةِ شيءٌ مخالِفٌ للقرآن البَتَّةَ، وإنما المخالَفةُ تكونُ بين الموضوعاتِ والمكذوبات، وبين القرآن، أو يكونُ الإنسانُ توهَّم المعارَضةَ بين نصٍّ مِن الكتابِ، ونصٍّ مِن السنَّةِ الصحيحة، وهناك وجهٌ للجمعِ بين ما تُوُهِّمَ تعارُضُهُ مِن النصوص.

على أن عامَّةَ ما قيل فيه باستقلالِ السنَّةِ، قد استنبَطَ له العلماءُ معانيَ في القرآنِ الكريمِ تدُلُّ عليه، سواءٌ قَوِيَ الاستنباطُ أو لا؛ فورودُ الحكمِ في السنَّةِ كافٍ؛ كما سبَق.

ثم هذه الأحكامُ عامَّتُها في تكميلاتِ الأمورِ الشرعيَّةِ؛ لأن الأصولَ ظاهرةٌ في القرآنِ الكريم، وعامَّةُ هؤلاءِ الذين يُثِيرون هذه الشُّبَهَ: إما أنهم ممَّن يخالِفُ هذه الأصولَ، أو ممَّن لا يَتِمُّ لهم فقهٌ؛ إذ لا يُمكِنُ استكمالُ الفقهِ بغيرِ السنَّةِ النبويَّة.

وأخيرًا: فإن إجماعَ الأمَّةِ منعقِدٌ على الأخذِ بالسنَّةِ المستقِلَّةِ عن القرآنِ الكريم؛ فالمسألةُ إجماعيَّةٌ، وإجماعُ الأُمَّةِ معصومٌ.

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:

وأخيرًا: فسنَّتُهُ ^ وحيٌ مِن عندِ اللهِ كالقرآن، إلا أنه لا يُتعبَّدُ بتلاوتِها، وقد كان جبريلُ يَنزِلُ علي النبيِّ ^ بالسنَّةِ، كما كان يَنزِلُ عليه بالقرآن. ودلائلُ ذلك كثيرةٌ جدًّا؛ قال تعالى:

{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}

[النجم: 3- 4]

 فالشرعُ: هو ما نزَلَ به الوحيُ، واللهُ تعالى إن شاء، أوحاهُ بالقرآن، أو أوحاهُ بالسنَّة، وجميعُ الأدلَّةِ الدالَّةِ على حجِّيَّةِ السنَّةِ النبويَّةِ تَشمَلُ ما استقَلَّتْ فيه السنَّةُ بتشريعٍ، وما لم يكن كذلك. 

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

خلاصةُ هذه الشبهةِ: أن السنَّةَ غيرُ صالحةٍ لتشريعِ ما لم يَرِدْ في القرآن، بل هي بيانٌ للقرآنِ وكفى. فمِن وجهةِ نظرِ السائلِ: كلُّ حُكمٍ تشريعيٍّ كانت السنَّةُ هي الدليلَ عليه، هو حُكمٌ مخالِفٌ للقرآن، وما يخالِفُ القرآنَ يكونُ باطلًا.

مختصَرُ الإجابة:

إن القرآنَ والسنَّةَ كلَيْهما وحيٌ مِن عندِ اللهِ تعالى، والإيمانُ بأنهما وحيٌ يقتضي التصديقَ بكلِّ ما جاء فيهما مِن أخبارٍ، والعملَ بكلِّ ما جاء فيهما مِن أوامرَ، وعلى هذا إجماعُ الأمَّةِ في الأخذِ بالأحكامِ الشرعيَّة؛ سواءٌ استقَلَّتْ بها السنَّةُ، أو جاءت في القرآنِ والسنَّةِ معًا.

وإنْ كان الأمرُ أو الخبَرُ قد جاء في السنَّةِ استقلالًا، فهذا لا يَعْني أنه قد خالَفَ القرآنَ، ففرقٌ بين المخالَفةِ وبين تبيينِ المجمَلِ، وتقييدِ المطلَقِ، وتخصيصِ العامِّ، بل لا يُوجَدُ في السنَّةِ الصحيحةِ شيءٌ مخالِفٌ للقرآن البَتَّةَ، وإنما المخالَفةُ تكونُ بين الموضوعاتِ والمكذوبات، وبين القرآن، أو يكونُ الإنسانُ توهَّم المعارَضةَ بين نصٍّ مِن الكتابِ، ونصٍّ مِن السنَّةِ الصحيحة، وهناك وجهٌ للجمعِ بين ما تُوُهِّمَ تعارُضُهُ مِن النصوص.

على أن عامَّةَ ما قيل فيه باستقلالِ السنَّةِ، قد استنبَطَ له العلماءُ معانيَ في القرآنِ الكريمِ تدُلُّ عليه، سواءٌ قَوِيَ الاستنباطُ أو لا؛ فورودُ الحكمِ في السنَّةِ كافٍ؛ كما سبَق.

ثم هذه الأحكامُ عامَّتُها في تكميلاتِ الأمورِ الشرعيَّةِ؛ لأن الأصولَ ظاهرةٌ في القرآنِ الكريم، وعامَّةُ هؤلاءِ الذين يُثِيرون هذه الشُّبَهَ: إما أنهم ممَّن يخالِفُ هذه الأصولَ، أو ممَّن لا يَتِمُّ لهم فقهٌ؛ إذ لا يُمكِنُ استكمالُ الفقهِ بغيرِ السنَّةِ النبويَّة.

وأخيرًا: فإن إجماعَ الأمَّةِ منعقِدٌ على الأخذِ بالسنَّةِ المستقِلَّةِ عن القرآنِ الكريم؛ فالمسألةُ إجماعيَّةٌ، وإجماعُ الأُمَّةِ معصومٌ.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

حقيقةُ هذه الشبهةِ: هي ردُّ السنَّةِ بدعوى اتِّباعِ القرآن.

ويتبيَّنُ بطلانُها مِن وجوهٍ، منها:

1- أن هذه الدعوى بلا دليلٍ، بل الدليلُ يخالِفُها:

فليس هناك نصٌّ مِن القرآنِ، ولا اقتضاءٌ للعقلِ: يَمنَعُ أن تأتِيَ السنَّةُ بتشريعٍ مستقِلّ.

بل القرآنُ أمَرَ بطاعةِ الرسولِ ﷺ، فلو لم يكن في ذلك معنًى زائدٌ عن طاعةِ اللهِ تعالى، لَمَا أمَرَ به.

2- أن عامَّةَ ما قيل فيه باستقلالِ السنَّةِ، قد استنبَطَ له العلماءُ معانيَ في القرآنِ الكريمِ تدُلُّ عليه:

وسواءٌ قَوِيَ الاستنباطُ أو لا، فورودُ الحكمِ في السنَّةِ كافٍ؛ كما سبَق.

ثم هذه الأحكامُ عامَّتُها في تكميلاتِ الأمورِ الشرعيَّةِ؛ لأن الأصولَ ظاهرةٌ في القرآنِ الكريم، وعامَّةُ هؤلاءِ الذين يُثِيرون هذه الشُّبَهَ: إما أنهم ممَّن يخالِفُ هذه الأصولَ، أو ممَّن لا يَتِمُّ لهم فقهٌ؛ إذ لا يُمكِنُ استكمالُ الفقهِ بغيرِ السنَّةِ النبويَّة.

3- مفهومُ مخالَفةِ القرآنِ الكريمِ ليس مطابِقًا لمفهومِ الاستقلالِ بالتشريع، ولا ملازِمًا له:

فإن المحذورَ في أن تأتيَ السنَّةُ بما يعارِضُ القرآنَ ويخالِفُهُ ويناقِضُه؛ لأن كلَّ ما ناقَضَ القرآنَ، فهو باطلٌ، وهذا غيرُ متحقِّقٍ في الأحاديثِ الصحيحة.

 ومَن زعَمَهُ، فهنا احتمالان:

الاحتمالُ الأوَّلُ: أن يكونَ الحديثُ موضوعًا مكذوبًا، ليس مِن كلامِ النبيِّ ^.

ولهذا كان مِن شأنِ أهلِ الحديثِ تمييزُ الباطلِ المردودِ المزيَّفِ مِن الأحاديث، مِن الصحيحِ المتَّصِلِ بنقلِ العدولِ عن النبيِّ ^.

ولما قيل للإمامِ عبدِ اللهِ بنِ المبارَكِ رحمه الله: هذه الأحاديثُ المصنوعة؟ قال: «يَعِيشُ لها الجهابِذةُ»؛ رواه الخطيبُ في «الكفاية» (1/146- 147).

الاحتمالُ الثاني: أن يكونَ ذلك الزاعمُ يظُنُّ المعارَضةَ، وليست بمتحقِّقة.

ولهذا فالعلماءُ بالشريعةِ لا يَرَوْنَ معارَضةً بين السنَّةِ الصحيحةِ وبين القرآنِ الكريم، وإنما يقَعُ في ذلك بعضُ مَن نقَصَ عِلمُهم بذلك.

وليس المحذورُ في أن تأتيَ السنَّةُ بمعانٍ زائدةٍ تبيِّنُ بعضَ مواضعِ القرآنِ الكريم؛ كأن تخصِّصَ عمومَه، أو تقيِّدَ مُطلَقه؛ فهذا ليس معارَضةً؛ إذ ليس معنى موافَقةِ السنَّةِ للقرآنِ هو فقطْ أن تأتِيَ السنَّةُ بترديدِ معاني القرآنِ بألفاظِها، أو ما هو قريبٌ منها.

فمثلًا: السنَّةُ في قولِهِ ^:

«أَدِّ الْأَمَانَةَ لِمَنِ ائْتَمَنَكَ»

رواه التِّرمِذيُّ (1264)

هي موافِقةٌ للقرآنِ الكريم؛ فاللهُ تعالى يقولُ:

{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

[النساء: 58].

لكنَّ الموافَقةَ لا تقتصِرُ على موافَقةِ اللفظِ؛ فالسنَّةُ النبويَّةُ التي بيَّنتْ صفةَ الصلاةِ، وذكَرتْ أشياءَ لم تُذكَرْ صريحةً في القرآنِ -: هي أيضًا موافِقةٌ للقرآنِ الكريم.

أما القولُ بأن استقلالَ السنَّةِ بالتشريعِ مِن قبيلِ المخالَفةِ للقرآنِ، فهذا تضييقٌ لمفهومِ الموافَقة، وتوسيعٌ لمفهومِ المخالَفة؛ وهو يُوقِعُ في محاذيرَ لا نهايةَ لها؛ لأن موافَقةَ الأحاديثِ للقرآنِ في اللفظِ والمعنى معًا، أمرٌ نادرُ الوقوع، والتمسُّكُ به فقطْ في امتثالِ أمرِ اللهِ تعالى بطاعةِ رسولِهِ ^، يؤدِّي إلى أن الأمرَ باتِّباعِ السنَّةِ أمرٌ بما لا زيادةَ فيه، ولا توضيحَ، ولا بيانَ؛ وهذا احتمالٌ مرجوحٌ مِن جهةِ كونِ التأسيسِ والتقريرِ أَوْلى مِن التوكيدِ والتَّكْرار.

4- أن إجماعَ الأمَّةِ انعقَدَ على الأخذِ بالسنَّةِ المستقِلَّةِ عن القرآنِ الكريم؛ وإجماعُ الأُمَّةِ معصومٌ:

وسواءٌ قيل: «إنه كان استقلالًا مطلَقًا»، أي: ليس هناك دَلالةٌ مِن القرآنِ عليه، أو «كان استقلالًا نسبيًّا»، أي: دَلالةُ القرآنِ فيه دَلالةٌ خفيَّةٌ، ولكنَّ السنَّةَ هي التي دلَّت عليه؛ فمَرَدُّ الأمرِ إلى العمَلِ بالسنَّةِ الصحيحةِ؛ كما يُعمَلُ بالقرآن.

ومِن أشهرِ الأمثلةِ على الأحكامِ الشرعيَّةِ التي أُخِذَتْ مِن السنَّةِ المخصِّصةِ لعمومِ القرآن:

أ- مِن بابِ الطهارةِ: قولُهُ تعالى:

{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}

[المائدة: 6]

 ظاهرُ الآيةِ: أن الأمرَ بغَسْلِ الرِّجْلِ عامٌّ لجميعِ المتوضِّئين، ودلَّت السنَّةُ على أن الذي يَلبَسُ الخُفَّ لا يدخُلُ في ذلك.

ب- ومِن بابِ البُيوعِ: قولُهُ تعالى:

{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}

[البقرة: 257]

، ظاهرُ الآيةِ: أن جميعَ البيوعِ مباحةٌ، ودلَّت السنَّةُ على أن بعضَ البيوعِ لا تدخُلُ في ذلك؛ كبيعِ الغَرَرِ، أو لتفصيلِ بعضِ الصُّوَرِ التي لا تدخُلُ في الربا الظاهرِ؛ كبيعِ الذهَبِ بالذهَبِ إلا مِثلًا بمِثل.

ج- ومِن بابِ الأطعمةِ: قولُهُ تعالى:

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

[الأنعام: 145]

 ظاهرُ الآيةِ: أن ما سِوى المطعوماتِ المذكورةِ حلالٌ، ودلَّتِ السنَّةُ على تحريمِ مطعوماتٍ لم تُذكَرْ في هذه الآية، ككُلِّ ذي نابٍ مِن السِّباع، ودلَّت على حِلِّيَّةِ أنواعٍ مِن المَيْتةِ، وهما نوعان: السمَكُ، والجَرَاد.

د- ومِن بابِ النكاحِ: قولُهُ تعالى بعد أن ذكَرَ المحرَّماتِ مِن النساءِ:

{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}

[النساء: 24]

ظاهرُ الآيةِ: أن مَن سِوى النساءِ المذكوراتِ حلالٌ نكاحُهُنَّ، ودلَّت السنَّةُ على تحريمِ نساءٍ لم يُذكَرْنَ؛ كعَمَّةِ الزوجةِ وخالتِها.

هـ- ومِن بابِ الفرائضِ: قولُهُ تعالى:

{يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}

[النساء: 11]

ثم ذكَرَ اللهُ المستحِقِّين للمِيراثِ، ونصيبَ كلٍّ منهم، وظاهرُ الآيةِ: أن كلَّ مَن صدَقَ عليه اسمُ الولَدِ يَرِثُ، قاتِلًا كان أو كافِرًا، ودلَّتِ السنَّةُ على أنه لا مِيراثَ لقاتِلٍ، ولا لمختلِفَيْنِ في الدِّين.

و- ومِن بابِ الحدودِ: قولُهُ تعالى:

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

[المائدة: 38]

ظاهرُ الآيةِ: أن الأمرَ بقطعِ يَدِ السارقِ يَشمَلُ جميعَ السارِقين، ودلَّت السنَّةُ على أنه لا تُقطَعُ يدُ سارقٍ إلا مَن بلَغَتْ سرقتُهُ رُبُعَ دِينارٍ فصاعدًا.

وإنما أنكَرَ السنَّةَ التشريعيَّةَ المستقِلَّةَ مَن أنكَرَ المسحَ على الخُفَّيْنِ، ومَن أنكَرَ الرَّجْمَ، وأباح أن تُنكَحَ المرأةُ على عمَّتِها وعلى خالتِها، وأباح للمطلَّقةِ ثلاثًا الرجوعَ إلى الزوجِ الأوَّلِ؛ إذا نكَحَها الثاني، ولم يدخُلْ بها، وأسقَطَ الجَلْدَ عمَّن قذَفَ محصَنًا مِن الرجالِ؛ وهذا كلُّه مخالِفٌ للإجماع، موافقٌ لمقالاتِ أهلِ البِدَع. قال أهلُ العلمِ: «وإذا ثبَتَ الشيءُ بالسنَّةِ، وجَبَ الأخذُ به، ولم يكن لأحدٍ عُذْرٌ في تركِه، ولا التخلُّفِ عنه».

خاتمة الجواب

خاتِمةُ الجواب - توصية:

وأخيرًا: فسنَّتُهُ ^ وحيٌ مِن عندِ اللهِ كالقرآن، إلا أنه لا يُتعبَّدُ بتلاوتِها، وقد كان جبريلُ يَنزِلُ علي النبيِّ ^ بالسنَّةِ، كما كان يَنزِلُ عليه بالقرآن. ودلائلُ ذلك كثيرةٌ جدًّا؛ قال تعالى:

{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}

[النجم: 3- 4]

 فالشرعُ: هو ما نزَلَ به الوحيُ، واللهُ تعالى إن شاء، أوحاهُ بالقرآن، أو أوحاهُ بالسنَّة، وجميعُ الأدلَّةِ الدالَّةِ على حجِّيَّةِ السنَّةِ النبويَّةِ تَشمَلُ ما استقَلَّتْ فيه السنَّةُ بتشريعٍ، وما لم يكن كذلك.