نص السؤال

لو كانت السنَّةُ واجبًا العمَلُ بها، وحجَّةً على المسلِمين، فلِمَ كان عددٌ مِن الصحابةِ وأتباعِهم يتحرَّجون مِن روايتِها وكتابتِها؟ وهل معنى ذلك فِقْدانُ شيءٍ مِن السنَّة؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

تشدُّدُ الصحابةِ في روايةِ السنَّةِ وكتابتِها

 النهيُ عن كتابةِ الحديث

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

يُمكِنُ إزالةُ الإشكالِ الواردِ في السؤالِ مِن خلالِ النِّقاطِ التالية:

أوَّلًا: نعَمْ: كان بعضُ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم يتحرَّجون مِن روايةِ الحديثِ وكتابتِه، لكنَّ دافِعَ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم في هذا، ليس لأن السنَّةَ ليست شَرْعًا كالقرآن، ولا لأنهم لم يكونوا يَعمَلون بالسنَّةِ، ولا لأنهم كانوا يقدِّمون قولَ أحدٍ على قولِ رسولِ اللهِ ﷺ؛ كما يزعُمُ المشكِّكون في السنَّةِ، المستهدِفون لإبطالِها.

وإنما تحرُّجُ بعضِ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم مِن ذلك كان خشيةَ خطئِهم في روايةِ السنَّة، أو أن تختلِطَ بالقرآنِ إذا كُتِبَتْ وكتابةُ القرآنِ لم تستقِرَّ بعدُ:

ومِن ذلك: واقعةُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ مع أبي موسى الأشعريِّ رضي اللهُ عنهم؛ فقد ثبَتَ عن أبي مُوسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه: أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ له، فَرَجَعَ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ فِي إِثْرِهِ، فَقَالَ: لِمَ رَجَعْتَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ:

«إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُجَبْ، فَلْيَرْجِعْ»، فقال له عُمَرُ: «لَتَأْتِيَنِّي على ذلك ببيِّنةٍ، أو لَأَفْعَلَنَّ بك»؛

رواه البخاري (6245، 7353)، ومسلم (2153)

وقال أيضًا: «إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَدِيدٌ»؛

رواه أبو داود (5183)

ثانيًا: قد كان مِن الصحابةِ مَن يقشعِرُّ بدنُهُ وترتعِدُ فَرائِصُهُ عندما يَرْوي حديثًا عن النبيِّ ﷺ؛ احترامًا لكلامِ النبيِّ ﷺ:

ومِن ذلك: ما رُوِيَ عن عَمْرِو بنِ مَيمُونٍ؛ أنه قال:

«مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ إِلَّا أَتَيْتُهُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ»، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ»، قَالَ: فَنَكَسَ، قَالَ: «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَهُوَ قَائِمٌ مُحَلَّلَةً أَزْرَارُ قَمِيصِهِ، قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ»، قَالَ: «أَوْ دُونَ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ»؛

رواه ابنُ ماجهْ (23)

ثالثًا: لو كانت غايةُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم إبطالَ العمَلِ بالسنَّةِ، لَمَا كان يَلزَمُهم مثلُ هذا، وما كانوا لِيَرحَلوا - بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ واستقرارِ كتابةِ المصاحفِ - لطلَبِ الحديث:

ومِن ذلك: ما قاله البخاريُّ في «صحيحِهِ» (1/ 26)، في بابِ طلَبِ العلمِ: أن الصحابيَّ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنهما رحَلَ مَسِيرةَ شَهْرٍ إلى عبدِ اللهِ بنِ أُنَيْسٍ رضيَ اللهُ عنه؛ ليأخُذَ منه حديثًا واحدًا.

ومِن ذلك: رَفْضُ أبي بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ اللهُ عنه أن يُعطِيَ فاطمةَ بنتَ النبيِّ ﷺ ورضيَ اللهُ عنها مِيراثَها؛ عملًا بحديثِ النبيِّ ﷺ:

«إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ»؛

رواه أحمد (16/ 47 رقم 9972)، والنَّسائي في «الكبرى» (6275)

رابعًا: كان الصحابةُ يجتهِدون في تعليمِ التابِعين سنَّةَ النبيِّ ﷺ، فكانوا يكتُبون لهم أحاديثَ النبيِّ ﷺ في كُتُبٍ ويَبعَثونها لهم، ويخطُبون فيهم على مِنْبَرِ رسولِ اللهِ ﷺ، ويُخبِرونهم بأحاديثِه:

ومِن ذلك: قولُ عُمَرَ رضيَ الله عنه:

«لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ، أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ»؛

رواه البخاري (6829)، ومسلم (1691)

خامسًا: كان التابِعون رضوانُ اللهِ عليهم يلازِمون أصحابَ النبيِّ ﷺ، ويَضبِطون عنهم الأحاديثَ:

ومِن شواهدِ عنايةِ التابِعين رضيَ اللهُ عنهم بسنَّةِ النبيِّ ﷺ: قولُ التابعيِّ الفقيهِ عُرْوةَ بنِ الزُّبَيرِ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي قَبْلَ مَوْتِ عَائِشَةَ بِأَرْبَعِ حِجَجٍ - يعني: سِنِينَ - وَأَنَا أَقُوْلُ، لَوْ مَاتَتِ اليَوْمَ، مَا نَدِمْتُ عَلَى حَدِيثٍ عِنْدَهَا إِلَّا وَقَدْ وَعَيْتُهُ، وَلَقَدْ كَانَ يَبْلُغُنِي عَنِ الصَّحَابِيِّ الحَدِيثُ، فَآتِيهِ، فَأَجِدُهُ قَدْ قَالَ، فَأَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ، ثُمَّ أَسْأَلُهُ عَنْهُ». «سِيَرُ أعلام النبلاء» (4/ 424).

وهكذا كان يَفعَلُ أتباعُ التابِعين مع التابِعين، وظَلَّ هذا الأمرُ هكذا حتى جاء عصرُ التدوينِ الشاملِ للسنَّة، وكتابةِ الكُتُبِ الصِّحاحِ والمسانيدِ وأمَّهاتِ كُتُبِ السنَّة.

سادسًا: أمرٌ آخَرُ يُذكَرُ في سياقِ تحرُّجِ الصحابةِ - وخاصَّةً الخلفاءَ الراشِدين - مِن روايةِ الحديثِ في الصدرِ الأوَّلِ للإسلام: أنه قد يقَعُ في بعضِ أحاديثِ الرُّخَصِ؛ خشيةَ أن تضعُفَ هِمَمُ المسلِمين، ويَركَنَ إليها الناس.

وكذلك أيضًا في الأحاديثِ التي قد يكونُ فيها شيءٌ يصعُبُ فهمُهُ على عامَّةِ الناس؛ إذْ لم تكن هناك كُتُبٌ لشرحِ السنَّةِ؛ كما ظهَرَ فيما بعدُ.

فالروايةُ هي الأصلُ، والتحرُّجُ عارِضٌ.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

كان للصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم عنايةٌ خاصَّةٌ بسنَّةِ النبيِّ ﷺ في حياتِهِ وبعد مماتِه، وكانوا يتثبَّتون ويحتاطون في روايتِها والتحديثِ بها، وكانوا يتحرَّجون في بادئِ الأمرِ مِن تدوينِها خشيةَ أن تختلِطَ السنَّةُ بالقرآن، فلما زال هذا المانعُ، واستقَرَّتْ كتابةُ المصاحفِ، بدَأتْ عمليَّةُ تدوينِ السنَّةِ وتحريرِها، واجتهَدَ في ذلك الصحابةُ والتابِعون المانِعون لكتابتِها في أوَّلِ الأمر.

والمتتبِّعُ للأقوالِ التي أُثِرَتْ عن الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم في المنعِ مِن كتابةِ السنَّة، أو التحرُّجِ مِن روايتِها أوَّلَ الأمرِ -: يَجِدُها تدُلُّ دَلَالةً واضحةً على التثبُّتِ والحرصِ في نَقْلِها دون تحريفٍ، وليس لأن السنَّةَ ليست شَرْعًا كالقرآن، ولا لأنهم لم يكونوا يَعمَلون بالسنَّةِ، ولا لأنهم كانوا يقدِّمون قولَ أحدٍ على قولِ رسولِ اللهِ ﷺ؛ كما يزعُمُ المشكِّكون في السنَّةِ، المستهدِفون لإبطالِها.

بل كان مِن الصحابةِ مَن يقشعِرُّ بدنُهُ وترتعِدُ فَرائِصُهُ عندما يَرْوي حديثًا عن النبيِّ ﷺ؛ احترامًا لكلامِ النبيِّ ﷺ.

ولو كانت غايةُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم إبطالَ العمَلِ بالسنَّةِ، لَما كانوا لِيَرحَلوا - بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ، واستقرارِ كتابةِ المصاحفِ - لطلَبِ الحديث.

وكان الصحابةُ يجتهِدون في تعليمِ التابِعين سنَّةَ النبيِّ ﷺ، فكانوا يكتُبون لهم أحاديثَ النبيِّ ﷺ في كُتُبٍ ويَبعَثونها لهم، ويخطُبون فيهم على مِنْبَرِ رسولِ اللهِ ﷺ، ويُخبِرونهم بأحاديثِه.

وكان التابِعون رضوانُ اللهِ عليهم يلازِمون أصحابَ النبيِّ ﷺ، ويَضبِطون عنهم الأحاديثَ، وهكذا كان يَفعَلُ أتباعُ التابِعين مع التابِعين، وظَلَّ هذا الأمرُ هكذا حتى جاء عصرُ التدوينِ الشاملِ للسنَّة، وكتابةِ الكُتُبِ الصِّحاحِ والمسانيدِ وأمَّهاتِ كُتُبِ السنَّة.

خاتمة الجواب

خاتِمةٌ:

وبهذا نكونُ قد بيَّنَّا جملةً مِن الأغراضِ التي بنى عليها الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم تحرُّجَهم في روايةِ السنَّةِ أو كتابتِها. ومَن أراد معرفةَ الحقيقةِ، فعليه أن يَجمَعَ أطرافَها؛ وبذلك تتبيَّنُ له حقيقةُ الكلماتِ أو المواقفِ الجزئيَّة.

مختصر الجواب

مختصَرُ الإجابة:

كان للصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم عنايةٌ خاصَّةٌ بسنَّةِ النبيِّ ﷺ في حياتِهِ وبعد مماتِه، وكانوا يتثبَّتون ويحتاطون في روايتِها والتحديثِ بها، وكانوا يتحرَّجون في بادئِ الأمرِ مِن تدوينِها خشيةَ أن تختلِطَ السنَّةُ بالقرآن، فلما زال هذا المانعُ، واستقَرَّتْ كتابةُ المصاحفِ، بدَأتْ عمليَّةُ تدوينِ السنَّةِ وتحريرِها، واجتهَدَ في ذلك الصحابةُ والتابِعون المانِعون لكتابتِها في أوَّلِ الأمر.

والمتتبِّعُ للأقوالِ التي أُثِرَتْ عن الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم في المنعِ مِن كتابةِ السنَّة، أو التحرُّجِ مِن روايتِها أوَّلَ الأمرِ -: يَجِدُها تدُلُّ دَلَالةً واضحةً على التثبُّتِ والحرصِ في نَقْلِها دون تحريفٍ، وليس لأن السنَّةَ ليست شَرْعًا كالقرآن، ولا لأنهم لم يكونوا يَعمَلون بالسنَّةِ، ولا لأنهم كانوا يقدِّمون قولَ أحدٍ على قولِ رسولِ اللهِ ﷺ؛ كما يزعُمُ المشكِّكون في السنَّةِ، المستهدِفون لإبطالِها.

بل كان مِن الصحابةِ مَن يقشعِرُّ بدنُهُ وترتعِدُ فَرائِصُهُ عندما يَرْوي حديثًا عن النبيِّ ﷺ؛ احترامًا لكلامِ النبيِّ ﷺ.

ولو كانت غايةُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم إبطالَ العمَلِ بالسنَّةِ، لَما كانوا لِيَرحَلوا - بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ، واستقرارِ كتابةِ المصاحفِ - لطلَبِ الحديث.

وكان الصحابةُ يجتهِدون في تعليمِ التابِعين سنَّةَ النبيِّ ﷺ، فكانوا يكتُبون لهم أحاديثَ النبيِّ ﷺ في كُتُبٍ ويَبعَثونها لهم، ويخطُبون فيهم على مِنْبَرِ رسولِ اللهِ ﷺ، ويُخبِرونهم بأحاديثِه.

وكان التابِعون رضوانُ اللهِ عليهم يلازِمون أصحابَ النبيِّ ﷺ، ويَضبِطون عنهم الأحاديثَ، وهكذا كان يَفعَلُ أتباعُ التابِعين مع التابِعين، وظَلَّ هذا الأمرُ هكذا حتى جاء عصرُ التدوينِ الشاملِ للسنَّة، وكتابةِ الكُتُبِ الصِّحاحِ والمسانيدِ وأمَّهاتِ كُتُبِ السنَّة.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

يُمكِنُ إزالةُ الإشكالِ الواردِ في السؤالِ مِن خلالِ النِّقاطِ التالية:

أوَّلًا: نعَمْ: كان بعضُ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم يتحرَّجون مِن روايةِ الحديثِ وكتابتِه، لكنَّ دافِعَ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم في هذا، ليس لأن السنَّةَ ليست شَرْعًا كالقرآن، ولا لأنهم لم يكونوا يَعمَلون بالسنَّةِ، ولا لأنهم كانوا يقدِّمون قولَ أحدٍ على قولِ رسولِ اللهِ ﷺ؛ كما يزعُمُ المشكِّكون في السنَّةِ، المستهدِفون لإبطالِها.

وإنما تحرُّجُ بعضِ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم مِن ذلك كان خشيةَ خطئِهم في روايةِ السنَّة، أو أن تختلِطَ بالقرآنِ إذا كُتِبَتْ وكتابةُ القرآنِ لم تستقِرَّ بعدُ:

ومِن ذلك: واقعةُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ مع أبي موسى الأشعريِّ رضي اللهُ عنهم؛ فقد ثبَتَ عن أبي مُوسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنه: أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُؤْذَنْ له، فَرَجَعَ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ فِي إِثْرِهِ، فَقَالَ: لِمَ رَجَعْتَ، قَالَ أَبُو مُوسَى: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ:

«إِذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا، فَلَمْ يُجَبْ، فَلْيَرْجِعْ»، فقال له عُمَرُ: «لَتَأْتِيَنِّي على ذلك ببيِّنةٍ، أو لَأَفْعَلَنَّ بك»؛

رواه البخاري (6245، 7353)، ومسلم (2153)

وقال أيضًا: «إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ شَدِيدٌ»؛

رواه أبو داود (5183)

ثانيًا: قد كان مِن الصحابةِ مَن يقشعِرُّ بدنُهُ وترتعِدُ فَرائِصُهُ عندما يَرْوي حديثًا عن النبيِّ ﷺ؛ احترامًا لكلامِ النبيِّ ﷺ:

ومِن ذلك: ما رُوِيَ عن عَمْرِو بنِ مَيمُونٍ؛ أنه قال:

«مَا أَخْطَأَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ إِلَّا أَتَيْتُهُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ»، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ»، قَالَ: فَنَكَسَ، قَالَ: «فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَهُوَ قَائِمٌ مُحَلَّلَةً أَزْرَارُ قَمِيصِهِ، قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ»، قَالَ: «أَوْ دُونَ ذَلِكَ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ»؛

رواه ابنُ ماجهْ (23)

ثالثًا: لو كانت غايةُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم إبطالَ العمَلِ بالسنَّةِ، لَمَا كان يَلزَمُهم مثلُ هذا، وما كانوا لِيَرحَلوا - بعد وفاةِ النبيِّ ﷺ واستقرارِ كتابةِ المصاحفِ - لطلَبِ الحديث:

ومِن ذلك: ما قاله البخاريُّ في «صحيحِهِ» (1/ 26)، في بابِ طلَبِ العلمِ: أن الصحابيَّ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنهما رحَلَ مَسِيرةَ شَهْرٍ إلى عبدِ اللهِ بنِ أُنَيْسٍ رضيَ اللهُ عنه؛ ليأخُذَ منه حديثًا واحدًا.

ومِن ذلك: رَفْضُ أبي بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ اللهُ عنه أن يُعطِيَ فاطمةَ بنتَ النبيِّ ﷺ ورضيَ اللهُ عنها مِيراثَها؛ عملًا بحديثِ النبيِّ ﷺ:

«إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ»؛

رواه أحمد (16/ 47 رقم 9972)، والنَّسائي في «الكبرى» (6275)

رابعًا: كان الصحابةُ يجتهِدون في تعليمِ التابِعين سنَّةَ النبيِّ ﷺ، فكانوا يكتُبون لهم أحاديثَ النبيِّ ﷺ في كُتُبٍ ويَبعَثونها لهم، ويخطُبون فيهم على مِنْبَرِ رسولِ اللهِ ﷺ، ويُخبِرونهم بأحاديثِه:

ومِن ذلك: قولُ عُمَرَ رضيَ الله عنه:

«لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ، حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ، إِذَا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ، أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ»؛

رواه البخاري (6829)، ومسلم (1691)

خامسًا: كان التابِعون رضوانُ اللهِ عليهم يلازِمون أصحابَ النبيِّ ﷺ، ويَضبِطون عنهم الأحاديثَ:

ومِن شواهدِ عنايةِ التابِعين رضيَ اللهُ عنهم بسنَّةِ النبيِّ ﷺ: قولُ التابعيِّ الفقيهِ عُرْوةَ بنِ الزُّبَيرِ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي قَبْلَ مَوْتِ عَائِشَةَ بِأَرْبَعِ حِجَجٍ - يعني: سِنِينَ - وَأَنَا أَقُوْلُ، لَوْ مَاتَتِ اليَوْمَ، مَا نَدِمْتُ عَلَى حَدِيثٍ عِنْدَهَا إِلَّا وَقَدْ وَعَيْتُهُ، وَلَقَدْ كَانَ يَبْلُغُنِي عَنِ الصَّحَابِيِّ الحَدِيثُ، فَآتِيهِ، فَأَجِدُهُ قَدْ قَالَ، فَأَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ، ثُمَّ أَسْأَلُهُ عَنْهُ». «سِيَرُ أعلام النبلاء» (4/ 424).

وهكذا كان يَفعَلُ أتباعُ التابِعين مع التابِعين، وظَلَّ هذا الأمرُ هكذا حتى جاء عصرُ التدوينِ الشاملِ للسنَّة، وكتابةِ الكُتُبِ الصِّحاحِ والمسانيدِ وأمَّهاتِ كُتُبِ السنَّة.

سادسًا: أمرٌ آخَرُ يُذكَرُ في سياقِ تحرُّجِ الصحابةِ - وخاصَّةً الخلفاءَ الراشِدين - مِن روايةِ الحديثِ في الصدرِ الأوَّلِ للإسلام: أنه قد يقَعُ في بعضِ أحاديثِ الرُّخَصِ؛ خشيةَ أن تضعُفَ هِمَمُ المسلِمين، ويَركَنَ إليها الناس.

وكذلك أيضًا في الأحاديثِ التي قد يكونُ فيها شيءٌ يصعُبُ فهمُهُ على عامَّةِ الناس؛ إذْ لم تكن هناك كُتُبٌ لشرحِ السنَّةِ؛ كما ظهَرَ فيما بعدُ.

فالروايةُ هي الأصلُ، والتحرُّجُ عارِضٌ.

خاتمة الجواب

خاتِمةٌ:

وبهذا نكونُ قد بيَّنَّا جملةً مِن الأغراضِ التي بنى عليها الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم تحرُّجَهم في روايةِ السنَّةِ أو كتابتِها. ومَن أراد معرفةَ الحقيقةِ، فعليه أن يَجمَعَ أطرافَها؛ وبذلك تتبيَّنُ له حقيقةُ الكلماتِ أو المواقفِ الجزئيَّة.