نص السؤال

إننا نَكشِفُ القبرَ، ولا نجدُ فيه ملائكةً يَضرِبون الموتى بمطارقِ الحديد، ولا نجدُ ثَمَّ حيَّاتٍ أو ثعابينَ أو نيرانًا.

وكيف يُفسَحُ للميِّتِ مَدَّ بصَرِه، أو يُضيَّقُ عليه، ونحن نجدُهُ بحالِه، ومِساحَتُهُ على حالِها؟ وكيف يَتَّسِعُ ذلك اللَّحْدُ الضيِّقُ له ولمَن يُؤنِسُهُ أو يُوحِشُه؟

ونحن نرى المصلوبَ على الخشَبةِ مُدَّةً طويلةً، لا يُسْألُ ولا يُجيبُ ولا يتحرَّكُ، ولا يتوقَّدُ جسمُهُ نارًا، ومَن افترسَتْهُ السِّباعُ، ونهَشَتْهُ الطيرُ، وتفرَّقت أجزاؤُهُ في حواصلِ الطيور، وأجوافِ السِّباع، وبطونِ الحيَّات، ومدارجِ الرِّياح؛ فكيف يُسْألُ؟ وكيف يَصيرُ القبرُ على هذا رَوْضةً أو حُفْرةً؟ وكيف يتَّسِعُ قبرُهُ أو يَضِيق؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

معقوليَّةُ عذابِ القبر.

الجواب التفصيلي


1- الإيمانُ بعذابِ القبرِ هو مِن الإيمانِ بالغيب، والغيبُ هو الذي يمتازُ بالإيمانِ به المؤمِنون عن غيرِهم:

ذلك أن اللهَ سبحانه جعَلَ أمرَ الآخِرةِ، وما كان متَّصِلًا بها، غَيْبًا، وحجَبَها عن إدراكِ المكلَّفين في هذه الدار؛ وذلك مِن كمالِ حكمتِه، وليتميَّزَ المؤمِنون بالغيبِ مِن غيرِهم.

فأوَّلُ ذلك: أن الملائكةَ تَنزِلُ على المحتضَرِ، وتَجلِسُ قريبًا منه، ويشاهِدُهم عِيانًا، ويتحدَّثون عنده ومعَهمُ الأكفانُ والحَنوطُ؛ إما مِن الجَنَّةِ، وإما مِن النارِ، ويؤمِّنون على دعاءِ الحاضِرين بالخيرِ والشرِّ، وقد يسلِّمون على المحتضَر، ويرُدُّ عليهمُ السلامَ تارَةً بلفظِه، وتارَةً بإشارتِه، وتارَةً بقلبِه؛ إذا لم يتمكَّنْ مِن نطقٍ وإشارةٍ.

ويَكْفي في ذلك قولُهُ تعالى:

{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}

[الواقعة: 83- 85].

أما النارُ التي في القبرِ، فليست مِن نارِ الدنيا؛ فيشاهِدَها مَن شاهَدَ نارَ الدنيا، وإنما هي مِن نارِ الآخِرةِ، وهي أشدُّ مِن نارِ الدنيا، ولا يُحِسُّ بها أهلُ الدنيا؛ فإن اللهَ يُحْمي عليه ذلك الترابَ والحجارةَ التي عليه وتحتَه؛ حتى تكونَ أعظَمَ حَرًّا مِن حَرِّ نارِ الدنيا، ولو مسَّها أهلُ الدنيا، لم يُحِسُّوا بذلك.

وأعجَبُ مِن ذلك: أن الرجُلَيْنِ يُدفَنانِ؛ فيكونُ أحدُهما إلى جنبِ صاحبِه؛ وهذا في حُفْرةٍ مِن حُفَرِ النار، لا يَصِلُ حَرُّها إلى جارِه، وذلك في رَوْضةٍ مِن رياضِ الجنَّةِ، لا يَصِلُ نعيمُها إلى جارِه، وقدرةُ الربِّ تعالى أوسَعُ وأعجَبُ مِن ذلك، ويُفرَشُ للكافرِ لَوْحانِ مِن نارٍ يُشعَلُ عليه قبرُهُ بهما، كما يُشعَلُ التنُّورُ.

وكيف يستنكِرُ مَن يَعرِفُ اللهَ سبحانه، ويُقِرُّ بقدرتِهِ: أن يُحدِثَ سبحانه تعالى حوادثَ، يَصرِفُ عنها أبصارَ خلقِه، حكمةً منه ورحمةً بهم؛ لأنهم لا يُطِيقون رؤيتَها وسماعَها، والعبدُ أضعَفُ بصرًا وسمعًا، مِن أن يثبُتَ لمشاهَدةِ عذابِ القبر، وكثيرٌ ممن أشهَدهُ اللهُ ذلك، ضَعُفَ وغُشِيَ عليه، ولم ينتفِعْ بالعيشِ زمَنًا، وبعضُهم كُشِفَ قِناعُ قلبِهِ فمات؛ فكيف يُنكَرُ في الحكمةِ الإلهيَّةِ إخفاءُ مثلِ هذا؟!

أما ما كان مِن أمرِ الآخِرةِ، فقد أُسبِلَ عليه الغطاءُ؛ ليكونَ الإقرارُ والإيمانُ به سببًا لسعادتِهم، فإذا كُشِفَ عنهمُ الغطاءُ، صار عِيانًا مشاهَدًا.

ومع ذلك فنقولُ: إنه لا يمتنِعُ أن يُطلِعَ اللهُ تعالى بعضَ عبادِهِ على شيءٍ مِن أحوالِ المَوْتى في قبورِهم، مِن نعيمٍ أو عذابٍ، ويكونَ ذلك شهادةً بالنسبةِ لهم، غيبًا بالنسبةِ لغيرِهم، وقد ورَدَت في ذلك قصصٌ كثيرةٌ ينقُلُها العلماءُ، ويذكُرونها في كُتُبِهم.

2- في الدنيا مِن المشاهَداتِ التي رآها المؤمِنون ما هو مِن جنسِ ما يستنكِرُهُ نفاةُ عذابِ القبر:

فهذا جِبرِيلُ عليه السلامُ كان يَنزِلُ على النبيِّ ^، ويتمثَّلُ له رجُلًا، فيكلِّمُهُ بكلامٍ يَسمَعُه، ومَن إلى جانبِ النبيِّ ^ لا يَرَاهُ، ولا يَسمَعُه، وكذلك غيرُهُ مِن الأنبياء، وأحيانًا يأتيهِ الوحيُ في مِثلِ صَلصَلةِ الجَرَسِ، ولا يَسمَعُهُ غيرُهُ مِن الحاضِرين.

وهؤلاءِ الجِنُّ يتحدَّثون ويتكلَّمون بالأصواتِ المرتفِعةِ بيننا، ونحنُ لا نَسمَعُهم.

وقد كانت الملائكةُ تَضرِبُ الكفَّارَ بالسِّياط، وتَضرِبُ رقابَهم، وتَصيحُ بهم، والمسلِمون معهم لا يَرَوْنَهم، ولا يَسمَعون كلامَهم.

واللهُ سبحانه قد حجَبَ بني آدمَ عن كثيرٍ مما يُحدِثُهُ في الأرضِ، وهو بينهم.

وقد كان جبريلُ يُقرِئُ النبيَّ ^، ويدارِسُهُ القرآن، والحاضِرون لا يَسمَعونه.

3- ليس في أحوالِ الموتى التي أخبَرَ بها الرسولُ ^ ما هو مُحالٌ عقلًا:

فجميعُ ما يعترِضُ به المعترِضون على عذابِ القبرِ، لم يأتوا له بأدلَّةٍ عقليَّةٍ قاطعة، ولا يَلزَمُ مِن شيءٍ مما ذكَروهُ مِن اعتراضاتٍ انتفاءُ عذابِ القبر:

أ- فلو كان الميِّتُ بين الناسِ موضوعًا، لم يمتنِعْ أن يأتيَهُ الملَكان، فيَسْألاهُ مِن غيرِ أن يشعُرَ الحاضِرون بذلك، ويُجيبَهما مِن غيرِ أن يَسمَعوا كلامَه، ويَضرِباهُ مِن غيرِ أن يشاهِدَ الحاضِرون ضربَه، وهذا الواحدُ منا ينامُ إلى جنبِ صاحبِه، فيُعذَّبُ في النومِ ويُضرَبُ ويألَمُ، وليس عند المستيقِظِ خبرٌ مِن ذلك البتَّةَ.

ب- وأما عَصْرةُ القبرِ، حتى تختلِفَ أضلاعُ بعضِ الموتى، فلا يرُدُّهُ حسٌّ، ولا عقلٌ، ولا فطرةٌ، ولو قُدِّرَ أن أحدًا نبَشَ عن ميِّتٍ، فوجَدَ أضلاعَهُ كما هي، لم يمتنِعْ أن تكونَ قد عادت بعد اختلافِها، فضلًا عن كونِ الأصلِ في ذلك أنها مِن عالَمِ الغيب؛ فلا يحتاجُ إلى قولٍ بأنها اختلَفَتْ، ولا أنها عادت.

جـ- وغيرُ ممتنِعٍ أن تُرَدَّ الأرواحُ إلى المصلوب، والغريقِ، ونحوِهما، ونحن لا نشعُرُ بها؛ إذ ذلك الردُّ نوعٌ آخَرُ غيرُ المعهود؛ فهذا المُغْمى عليه، والمسكوتُ، والمبهوتُ، أحياءٌ، وأرواحُهم معهم، ولا نشعُرُ بحياتِهم.

د- ومَن تفرَّقَتْ أجزاؤُهُ، لا يمتنِعُ على مَن هو على كلِّ شيءٍ قديرٌ: أن يَجعَلَ للرُّوحِ اتِّصالًا بتلك الأجزاءِ، على تباعُدِ ما بينهما وقربِه، ويكونُ في تلك الأجزاءِ شعورٌ بنوعٍِ مِن الألَمِ واللَّذَّة.

4- إثباتُ عذابِ القبرِ مِن مقتضَياتِ الإيمانِ بحكمةِ الله تعالى:

فالموتُ مَعادٌ وبَعثٌ أوَّلُ؛ فإن اللهَ سبحانه جعَلَ لابنِ آدَمَ مَعادَيْنِ وبَعثَيْنِ، يَجْزي فيهما الذين أساؤوا بما عَمِلوا، ويَجْزي الذين أحسَنوا بالحسنى:

فالبعثُ الأوَّلُ: مفارَقةُ الرُّوحِ للبَدَن، ومصيرُها إلى دارِ الجزاءِ الأوَّل.

والبعثُ الثاني: يومَ يرُدُّ اللهُ الأرواحَ إلى أجسادِها، ويَبعَثُها مِن قبورِها إلى الجنَّة، أو النار؛ وهو الحشرُ الثاني.

وقد ذكَرَ اللهُ سبحانه هاتَيْنِ القيامتَيْنِ - وهما الصغرى والكبرى - في سورةِ المؤمِنين، وسورةِ الواقعة، وسورةِ القيامة، وسورةِ المطفِّفين، وسورةِ الفجر.

وقد اقتضى عدلُهُ وحكمَتُهُ: أن تنعيمَ الأبدانِ والأرواحِ لأوليائِه؛ فلا بدَّ أن يُذِيقَ بدنَ المطيعِ ورُوحَهُ مِن النعيمِ واللذَّةِ ما يَليقُ به، وأن تعذيبَ الأبدانِ والأرواحِ لأعدائِه؛ فلا بدَّ أن يُذيقُ بدنَ الفاجرِ العاصي له ورُوحَهُ مِن الألمِ والعقوبةِ ما يستحِقُّه؛ هذا مُوجَبُ عدلِهِ وحكمتِهِ، وكرمِهِ وقدرتِه.

 ولمَّا كانت «هذه الدارُ» دارَ تكليفٍ وامتحان، لا دارَ جزاءٍ، لم يَظهَرْ فيها ذلك.

وأما «البَرزَخُ»: فهو أوَّلُ دارِ الجزاء، فظهَرَ فيها مِن ذلك ما يَليقُ بتلك الدار، وتقتضي الحكمةُ إظهارَه، فإذا كان يومُ القيامةِ الكبرى، وفَّى أهلَ الطاعةِ وأهلَ المعصيةِ ما يستحِقُّونه مِن نعيمِ الأبدانِ والأرواحِ وعذابِهما:

فعذابُ البَرزَخِ ونعيمُهُ أوَّلُ عذابِ الآخِرةِ ونعيمِها، وهو مشتَقٌّ منه، وواصلٌ إلى أهلِ البَرزَخِ مِن هناك؛ كما دلَّ عليه القرآنُ والسنَّةُ الصحيحةُ الصريحةُ في غيرِ موضع؛ كقولِهِ:

«فيُفتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَنَعِيمِهَا»، وفي الفاجر: «فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا»؛

رواه أحمد (18534)، وأبو داود (4753).

ومعلومٌ قطعًا: أن البدَنَ يأخُذُ حظَّه مِن هذا الباب، كما تأخُذُ الرُّوحُ حظَّها، فإذا كان يومُ القيامةِ، دخَلَ مِن ذلك البابِ إلى مَقعَدِهِ الذي هو داخِلُه.

وهذانِ البابانِ يصلُ منهما إلى العبدِ في هذه الدارِ أثرٌ خفيٌّ محجوبٌ بالشواغلِ والعوارضِ، ولكنْ يُحِسُّ به كثيرٌ مِن الناس، وإن لم يَعرِفْ سببَهُ، ولا يُحسِنُ التعبيرَ عنه؛ فوجودُ الشيءِ غيرُ الاحساسِ به، والتعبيرِ عنه؛ فإذا مات، كان وصولُ ذلك الأثَرِ إليه مِن ذَيْنِكَ البابَيْنِ أكمَلَ، فإذا بُعِثَ، كَمُلَ وصولُ ذلك الأثَرِ إليه؛ فحكمةُ الربِّ تعالى منتظِمةٌ لذلك أكمَلَ انتظامٍ في الدُّورِ الثلاث.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

صاحبُ هذا السؤالِ يَرَى أن أحوالَ المَوْتى في قبورِهم التي جاء ذِكرُها في كثيرٍ مِن الأحاديثِ، معارِضةٌ لما يَرَاهُ مشاهَدًا محسوسًا مِن وجهةِ نظرِه؛ ولذلك فهو يرُدُّ تلك الأحاديثَ بدعوى مخالَفتِها للعقل.

مختصَرُ الإجابة:

إن جميعَ ما أخبَرَ به النبيُّ ^ لا يعارِضُ العقولَ، وعذابُ القبرِ مِن ذلك.

وما يراهُ مُنكِرو عذابِ القبرِ بعيدًا أو مُحالًا عقلًا، ليس كذلك؛ فإن كثيرًا مِن الأمورِ في الدنيا حجَبَها اللهُ عنَّا، ونحنُ نؤمِنُ بها، ونصدِّقُ بها، مع عدمِ شعورِنا بها في الدنيا.

وكذلك: فإن أحوالَ البَرْزَخِ ليست كأحوالِ الدنيا، ولتلك الدارِ أحكامٌ خاصَّةٌ في تعلُّقاتِ الرُّوحِ بالبدَن، ليست كأحكامِ تلك التعلُّقاتِ في دارِ الدنيا.

خاتمة الجواب

عذابُ القبرِ مِن عالَمِ الغيبِ لا الشهادة؛ فالاعتراضُ عليه بأننا لا نشاهِدُهُ أو نُحِسُّهُ مخالِفٌ لحقيقةِ عالَمِه؛ فهو مبنيٌّ على أنه مما يُشهَدُ في الدنيا، وهو ليس كذلك؛ إذْ إنه مِن عالَمٍ غيرِ هذا العالَمِ؛ فهو مشهودٌ هناك.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

صاحبُ هذا السؤالِ يَرَى أن أحوالَ المَوْتى في قبورِهم التي جاء ذِكرُها في كثيرٍ مِن الأحاديثِ، معارِضةٌ لما يَرَاهُ مشاهَدًا محسوسًا مِن وجهةِ نظرِه؛ ولذلك فهو يرُدُّ تلك الأحاديثَ بدعوى مخالَفتِها للعقل.

مختصَرُ الإجابة:

إن جميعَ ما أخبَرَ به النبيُّ ^ لا يعارِضُ العقولَ، وعذابُ القبرِ مِن ذلك.

وما يراهُ مُنكِرو عذابِ القبرِ بعيدًا أو مُحالًا عقلًا، ليس كذلك؛ فإن كثيرًا مِن الأمورِ في الدنيا حجَبَها اللهُ عنَّا، ونحنُ نؤمِنُ بها، ونصدِّقُ بها، مع عدمِ شعورِنا بها في الدنيا.

وكذلك: فإن أحوالَ البَرْزَخِ ليست كأحوالِ الدنيا، ولتلك الدارِ أحكامٌ خاصَّةٌ في تعلُّقاتِ الرُّوحِ بالبدَن، ليست كأحكامِ تلك التعلُّقاتِ في دارِ الدنيا.

الجواب التفصيلي


1- الإيمانُ بعذابِ القبرِ هو مِن الإيمانِ بالغيب، والغيبُ هو الذي يمتازُ بالإيمانِ به المؤمِنون عن غيرِهم:

ذلك أن اللهَ سبحانه جعَلَ أمرَ الآخِرةِ، وما كان متَّصِلًا بها، غَيْبًا، وحجَبَها عن إدراكِ المكلَّفين في هذه الدار؛ وذلك مِن كمالِ حكمتِه، وليتميَّزَ المؤمِنون بالغيبِ مِن غيرِهم.

فأوَّلُ ذلك: أن الملائكةَ تَنزِلُ على المحتضَرِ، وتَجلِسُ قريبًا منه، ويشاهِدُهم عِيانًا، ويتحدَّثون عنده ومعَهمُ الأكفانُ والحَنوطُ؛ إما مِن الجَنَّةِ، وإما مِن النارِ، ويؤمِّنون على دعاءِ الحاضِرين بالخيرِ والشرِّ، وقد يسلِّمون على المحتضَر، ويرُدُّ عليهمُ السلامَ تارَةً بلفظِه، وتارَةً بإشارتِه، وتارَةً بقلبِه؛ إذا لم يتمكَّنْ مِن نطقٍ وإشارةٍ.

ويَكْفي في ذلك قولُهُ تعالى:

{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}

[الواقعة: 83- 85].

أما النارُ التي في القبرِ، فليست مِن نارِ الدنيا؛ فيشاهِدَها مَن شاهَدَ نارَ الدنيا، وإنما هي مِن نارِ الآخِرةِ، وهي أشدُّ مِن نارِ الدنيا، ولا يُحِسُّ بها أهلُ الدنيا؛ فإن اللهَ يُحْمي عليه ذلك الترابَ والحجارةَ التي عليه وتحتَه؛ حتى تكونَ أعظَمَ حَرًّا مِن حَرِّ نارِ الدنيا، ولو مسَّها أهلُ الدنيا، لم يُحِسُّوا بذلك.

وأعجَبُ مِن ذلك: أن الرجُلَيْنِ يُدفَنانِ؛ فيكونُ أحدُهما إلى جنبِ صاحبِه؛ وهذا في حُفْرةٍ مِن حُفَرِ النار، لا يَصِلُ حَرُّها إلى جارِه، وذلك في رَوْضةٍ مِن رياضِ الجنَّةِ، لا يَصِلُ نعيمُها إلى جارِه، وقدرةُ الربِّ تعالى أوسَعُ وأعجَبُ مِن ذلك، ويُفرَشُ للكافرِ لَوْحانِ مِن نارٍ يُشعَلُ عليه قبرُهُ بهما، كما يُشعَلُ التنُّورُ.

وكيف يستنكِرُ مَن يَعرِفُ اللهَ سبحانه، ويُقِرُّ بقدرتِهِ: أن يُحدِثَ سبحانه تعالى حوادثَ، يَصرِفُ عنها أبصارَ خلقِه، حكمةً منه ورحمةً بهم؛ لأنهم لا يُطِيقون رؤيتَها وسماعَها، والعبدُ أضعَفُ بصرًا وسمعًا، مِن أن يثبُتَ لمشاهَدةِ عذابِ القبر، وكثيرٌ ممن أشهَدهُ اللهُ ذلك، ضَعُفَ وغُشِيَ عليه، ولم ينتفِعْ بالعيشِ زمَنًا، وبعضُهم كُشِفَ قِناعُ قلبِهِ فمات؛ فكيف يُنكَرُ في الحكمةِ الإلهيَّةِ إخفاءُ مثلِ هذا؟!

أما ما كان مِن أمرِ الآخِرةِ، فقد أُسبِلَ عليه الغطاءُ؛ ليكونَ الإقرارُ والإيمانُ به سببًا لسعادتِهم، فإذا كُشِفَ عنهمُ الغطاءُ، صار عِيانًا مشاهَدًا.

ومع ذلك فنقولُ: إنه لا يمتنِعُ أن يُطلِعَ اللهُ تعالى بعضَ عبادِهِ على شيءٍ مِن أحوالِ المَوْتى في قبورِهم، مِن نعيمٍ أو عذابٍ، ويكونَ ذلك شهادةً بالنسبةِ لهم، غيبًا بالنسبةِ لغيرِهم، وقد ورَدَت في ذلك قصصٌ كثيرةٌ ينقُلُها العلماءُ، ويذكُرونها في كُتُبِهم.

2- في الدنيا مِن المشاهَداتِ التي رآها المؤمِنون ما هو مِن جنسِ ما يستنكِرُهُ نفاةُ عذابِ القبر:

فهذا جِبرِيلُ عليه السلامُ كان يَنزِلُ على النبيِّ ^، ويتمثَّلُ له رجُلًا، فيكلِّمُهُ بكلامٍ يَسمَعُه، ومَن إلى جانبِ النبيِّ ^ لا يَرَاهُ، ولا يَسمَعُه، وكذلك غيرُهُ مِن الأنبياء، وأحيانًا يأتيهِ الوحيُ في مِثلِ صَلصَلةِ الجَرَسِ، ولا يَسمَعُهُ غيرُهُ مِن الحاضِرين.

وهؤلاءِ الجِنُّ يتحدَّثون ويتكلَّمون بالأصواتِ المرتفِعةِ بيننا، ونحنُ لا نَسمَعُهم.

وقد كانت الملائكةُ تَضرِبُ الكفَّارَ بالسِّياط، وتَضرِبُ رقابَهم، وتَصيحُ بهم، والمسلِمون معهم لا يَرَوْنَهم، ولا يَسمَعون كلامَهم.

واللهُ سبحانه قد حجَبَ بني آدمَ عن كثيرٍ مما يُحدِثُهُ في الأرضِ، وهو بينهم.

وقد كان جبريلُ يُقرِئُ النبيَّ ^، ويدارِسُهُ القرآن، والحاضِرون لا يَسمَعونه.

3- ليس في أحوالِ الموتى التي أخبَرَ بها الرسولُ ^ ما هو مُحالٌ عقلًا:

فجميعُ ما يعترِضُ به المعترِضون على عذابِ القبرِ، لم يأتوا له بأدلَّةٍ عقليَّةٍ قاطعة، ولا يَلزَمُ مِن شيءٍ مما ذكَروهُ مِن اعتراضاتٍ انتفاءُ عذابِ القبر:

أ- فلو كان الميِّتُ بين الناسِ موضوعًا، لم يمتنِعْ أن يأتيَهُ الملَكان، فيَسْألاهُ مِن غيرِ أن يشعُرَ الحاضِرون بذلك، ويُجيبَهما مِن غيرِ أن يَسمَعوا كلامَه، ويَضرِباهُ مِن غيرِ أن يشاهِدَ الحاضِرون ضربَه، وهذا الواحدُ منا ينامُ إلى جنبِ صاحبِه، فيُعذَّبُ في النومِ ويُضرَبُ ويألَمُ، وليس عند المستيقِظِ خبرٌ مِن ذلك البتَّةَ.

ب- وأما عَصْرةُ القبرِ، حتى تختلِفَ أضلاعُ بعضِ الموتى، فلا يرُدُّهُ حسٌّ، ولا عقلٌ، ولا فطرةٌ، ولو قُدِّرَ أن أحدًا نبَشَ عن ميِّتٍ، فوجَدَ أضلاعَهُ كما هي، لم يمتنِعْ أن تكونَ قد عادت بعد اختلافِها، فضلًا عن كونِ الأصلِ في ذلك أنها مِن عالَمِ الغيب؛ فلا يحتاجُ إلى قولٍ بأنها اختلَفَتْ، ولا أنها عادت.

جـ- وغيرُ ممتنِعٍ أن تُرَدَّ الأرواحُ إلى المصلوب، والغريقِ، ونحوِهما، ونحن لا نشعُرُ بها؛ إذ ذلك الردُّ نوعٌ آخَرُ غيرُ المعهود؛ فهذا المُغْمى عليه، والمسكوتُ، والمبهوتُ، أحياءٌ، وأرواحُهم معهم، ولا نشعُرُ بحياتِهم.

د- ومَن تفرَّقَتْ أجزاؤُهُ، لا يمتنِعُ على مَن هو على كلِّ شيءٍ قديرٌ: أن يَجعَلَ للرُّوحِ اتِّصالًا بتلك الأجزاءِ، على تباعُدِ ما بينهما وقربِه، ويكونُ في تلك الأجزاءِ شعورٌ بنوعٍِ مِن الألَمِ واللَّذَّة.

4- إثباتُ عذابِ القبرِ مِن مقتضَياتِ الإيمانِ بحكمةِ الله تعالى:

فالموتُ مَعادٌ وبَعثٌ أوَّلُ؛ فإن اللهَ سبحانه جعَلَ لابنِ آدَمَ مَعادَيْنِ وبَعثَيْنِ، يَجْزي فيهما الذين أساؤوا بما عَمِلوا، ويَجْزي الذين أحسَنوا بالحسنى:

فالبعثُ الأوَّلُ: مفارَقةُ الرُّوحِ للبَدَن، ومصيرُها إلى دارِ الجزاءِ الأوَّل.

والبعثُ الثاني: يومَ يرُدُّ اللهُ الأرواحَ إلى أجسادِها، ويَبعَثُها مِن قبورِها إلى الجنَّة، أو النار؛ وهو الحشرُ الثاني.

وقد ذكَرَ اللهُ سبحانه هاتَيْنِ القيامتَيْنِ - وهما الصغرى والكبرى - في سورةِ المؤمِنين، وسورةِ الواقعة، وسورةِ القيامة، وسورةِ المطفِّفين، وسورةِ الفجر.

وقد اقتضى عدلُهُ وحكمَتُهُ: أن تنعيمَ الأبدانِ والأرواحِ لأوليائِه؛ فلا بدَّ أن يُذِيقَ بدنَ المطيعِ ورُوحَهُ مِن النعيمِ واللذَّةِ ما يَليقُ به، وأن تعذيبَ الأبدانِ والأرواحِ لأعدائِه؛ فلا بدَّ أن يُذيقُ بدنَ الفاجرِ العاصي له ورُوحَهُ مِن الألمِ والعقوبةِ ما يستحِقُّه؛ هذا مُوجَبُ عدلِهِ وحكمتِهِ، وكرمِهِ وقدرتِه.

 ولمَّا كانت «هذه الدارُ» دارَ تكليفٍ وامتحان، لا دارَ جزاءٍ، لم يَظهَرْ فيها ذلك.

وأما «البَرزَخُ»: فهو أوَّلُ دارِ الجزاء، فظهَرَ فيها مِن ذلك ما يَليقُ بتلك الدار، وتقتضي الحكمةُ إظهارَه، فإذا كان يومُ القيامةِ الكبرى، وفَّى أهلَ الطاعةِ وأهلَ المعصيةِ ما يستحِقُّونه مِن نعيمِ الأبدانِ والأرواحِ وعذابِهما:

فعذابُ البَرزَخِ ونعيمُهُ أوَّلُ عذابِ الآخِرةِ ونعيمِها، وهو مشتَقٌّ منه، وواصلٌ إلى أهلِ البَرزَخِ مِن هناك؛ كما دلَّ عليه القرآنُ والسنَّةُ الصحيحةُ الصريحةُ في غيرِ موضع؛ كقولِهِ:

«فيُفتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَنَعِيمِهَا»، وفي الفاجر: «فَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا»؛

رواه أحمد (18534)، وأبو داود (4753).

ومعلومٌ قطعًا: أن البدَنَ يأخُذُ حظَّه مِن هذا الباب، كما تأخُذُ الرُّوحُ حظَّها، فإذا كان يومُ القيامةِ، دخَلَ مِن ذلك البابِ إلى مَقعَدِهِ الذي هو داخِلُه.

وهذانِ البابانِ يصلُ منهما إلى العبدِ في هذه الدارِ أثرٌ خفيٌّ محجوبٌ بالشواغلِ والعوارضِ، ولكنْ يُحِسُّ به كثيرٌ مِن الناس، وإن لم يَعرِفْ سببَهُ، ولا يُحسِنُ التعبيرَ عنه؛ فوجودُ الشيءِ غيرُ الاحساسِ به، والتعبيرِ عنه؛ فإذا مات، كان وصولُ ذلك الأثَرِ إليه مِن ذَيْنِكَ البابَيْنِ أكمَلَ، فإذا بُعِثَ، كَمُلَ وصولُ ذلك الأثَرِ إليه؛ فحكمةُ الربِّ تعالى منتظِمةٌ لذلك أكمَلَ انتظامٍ في الدُّورِ الثلاث.

خاتمة الجواب

عذابُ القبرِ مِن عالَمِ الغيبِ لا الشهادة؛ فالاعتراضُ عليه بأننا لا نشاهِدُهُ أو نُحِسُّهُ مخالِفٌ لحقيقةِ عالَمِه؛ فهو مبنيٌّ على أنه مما يُشهَدُ في الدنيا، وهو ليس كذلك؛ إذْ إنه مِن عالَمٍ غيرِ هذا العالَمِ؛ فهو مشهودٌ هناك.