نص السؤال

إن المفارَقةَ الكبيرةَ تحصُلُ عندما نجدُ الجهاتِ الإسلاميَّةَ الكثيرةَ التي تستنكِرُ حرقَ المتطرِّفين للبشَر، ثم تبشِّرُ بعذابٍ إلهيٍّ أبَديٍّ، على أخطاءٍ بشَريَّة زمانيَّة.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

معقوليَّةُ عذابِ النارِ الأبَديِّ للكافرين.

الجواب التفصيلي


يقولُ الجمهورُ الذين يقولون ببقاءِ نارِ الكافِرين إلى ما لا نهايةَ:

1- هذه الشبهةُ تنطوي على جهلٍ بكمالِ علمِ اللهِ تعالى، وحكمتِهِ ورحمتِه:

فأما الجهلُ بكمالِ علمِهِ: فإن اللهَ تعالى يَعلَمُ السرَّ وأخفى، وهو علَّامُ الغيوب، وهو عالِمٌ بحالِ هؤلاءِ الكفَّارِ الذين عاقَبَهم بعذابِ النارِ المؤبَّد.

فالخُبثُ والكُفرُ الذي انطوَتْ عليه قلوبُهم، وتمرَّدوا بسببِهِ على اللهِ، منطوِيةٌ عليه قلوبُهم أبدًا، لا يزولُ منها أبدًا؛ فكان العذابُ أبديًّا سَرْمَديًّا؛ لأن سببَ ارتكابِهِ كان في القلبِ أبديًّا سَرْمَديًّا.

والآياتُ الدالَّةُ على هذا كثيرةٌ؛ كقولِهِ تعالى عنهم أنهم لمَّا عايَنوا النارَ، ورأَوْا عذابَ الله، وعظمةَ النار، وهولَ ذلك الموقفِ، وتمنَّوُا الرجوعَ إلى دارِ الدنيا مرَّةً أخرى ليُطِيعوا الرسُلَ، ويَعُودوا إلى رضا اللهِ، وتمنَّوْا ذلك؛ فقالوا:

{يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}

[الأنعام: 27]

-: بيَّن اللهُ أن ذلك الخُبثَ الذي كان في قلوبِهم في دارِ الدنيا، لم يَزُلْ أبدًا حتى بعد الموتِ، ومعايَنةِ النارِ، ومشاهَدةِ العذاب؛ فقال - وهو أصدَقُ مَن يقولُ -:

{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

[الأنعام: 28]

؛ فهو يبيِّنُ أنهم كلما رُدُّوا إلى الدنيا، رجَعوا إلى الكفرِ، وأن أصلَ ذلك الكفرِ كامنٌ في قلوبِهم لا يزولُ.

ومما يوضِّحُهُ: قولُهُ في سورةِ الأنفال:

{وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ}

[الأنفال: 23]

، معناه: أن اللهَ لا يَعلَمُ في قلوبِهم خيرًا أبدًا في وقتٍ مِن الأوقاتِ كائنًا ما كان، ولا في زمنٍ مِن الأزمانِ، وعدمُ علمِهِ دليلُ عدمِ وجودِه.

ثم قال على الفرضِ:

{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}

[الأنفال: 23]

؛ فتبيَّن أن ذلك الشرَّ الذي عصَوْا به الرسُلَ، وتمرَّدوا به على اللهِ، دائمٌ لا يزولُ؛ فكان جزاؤُهُ دائمًا لا يزولُ؛ فتطابَقَ الجزاءُ والعملُ؛ ولذا قال تعالى:

{جَزَاءً وِفَاقًا}

[النبأ: 26]

، أي: جزاءً موافِقًا لأعمالِهم.

وأما الجهلُ بكمالِ حكمةِ اللهِ تعالى ورحمتِهِ: فإننا نستدِلُّ بما عرَفْنا مِن حكمةِ اللهِ تعالى مِن مشاهَداتٍ كثيرةٍ في خلقِهِ وتدبيرِه، وفي أحكامِهِ وشريعتِه، على ما جَهِلنا.

فرَبُّ العالَمِين: أحكَمُ الحاكِمين، والعالِمُ بكلِّ شيء، والغنيُّ عن كلِّ شيء، والقادرُ على كلِّ شيء، ومَن هذا شأنُهُ، لم تخرُجْ أفعالُهُ وأوامرُهُ قَطُّ عن الحكمةِ والرحمةِ والمصلحة.

وما يَخْفى على العبادِ مِن معاني حكمتِهِ في صُنْعِهِ وإبداعِه، وأمرِهِ وشرعِه، فيَكْفيهم فيه معرفتُهُ بالوجهِ العامِّ أن تضمَّنَتْهُ حكمةٌ بالغةٌ، وإن لم يَعرِفوا تفصيلَها، وأن ذلك مِن علمِ الغيبِ الذي استأثَرَ اللهُ به؛ فيَكْفيهم في ذلك الإسنادُ إلى الحكمةِ البالغةِ العامَّةِ الشاملة.

2- الطاعنُ في هذا الاعتقادِ لا يَخْلو مِن كونِهِ أحدَ رجُلَيْن؛ فهو: إما مسلِمٌ، أو ملحِدٌ:

فإن كان مسلِمًا، فلِمَ يخالِفُ؟! وإن كان ملحِدًا، فلِمَ يخافُ؟!:

فالذي يؤمِنُ بربِّه تعالى، ويؤمِنُ بهذا الوعيد، فحَرِيٌّ به ألا يخالِفَ شَرْعَ اللهِ تعالى، وعليه أن يأتِيَ بالمأمورْ، ويترُكَ المحظورْ، ويَصبِرَ في الدنيا على المقدورْ؛ وإلا تعرَّض لوعيدِ مَن قد آمَنَ به رَبًّا، وهو يَعلَمُ أن وعيدَ اللهِ حقٌّ، وقد توعَّد ربُّه تعالى مَن مات على الكفرِ الأكبرِ، أو الردَّةِ: أنه يُخلَّدُ في نارِ جهنَّمَ أبدًا، فعليه الحذَرُ مِن ذلك، وألا يمُوتَ إلا مسلِمًا، كما أمَرهُ ربُّه تعالى.

وأما غيرُ المؤمِنِ باللهِ تعالى، فلِمَ يَخافُ مِن هذا العقابِ السَّرْمَديِّ، وهو لا يؤمِنُ أصلًا بربٍّ، ولا بجَنَّةٍ ولا نارٍ؟!

هذا؛ وإن اللهَ سبحانه وتعالى بنى أمورَ عبادِهِ على أنْ عرَّفهم معانيَ جلائلِ خلقِهِ وأمرِهِ، دون دقائقِهما وتفاصيلِهما؛ وهذا مطَّرِدٌ في الأشياءِ أصولِها وفروعِها.

فلو عجَزْنا عن إدراكِ الحكمةِ التفصيليَّةِ في تعذيبِ الكافِرين بالنار، فإننا نتمسَّكُ بما عرَفْناهُ مِن حكمةِ اللهِ تعالى ورحمتِه، ولا نُلْغي ما عرَفْناهُ بسببِ دقائقَ لم نُدرِكْ تفاصيلَها؛ فإن هذا مخالِفٌ للمنهجِ العلميِّ في الاعتمادِ على الاستقراءِ في تحصيلِ المعارفِ الصحيحة.

3- أن التحريقَ الذي قام به بعضُ المتطرِّفين المنسوبِين إلى الإسلام، لا يُعَدُّ مَثلَبةً للخطابِ الإسلاميِّ الصحيح، واستدلالُهم عليه بكلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ استدلالٌ باطلٌ؛ لأن ابنَ تيميَّةَ وغيرَهُ مِن الأئمَّةِ - كما هو معتمَدُ الشافعيَّةِ والمالكيَّةِ، وقولٌ عند الحنابلة - إنما يقولون بالتحريقِ: إذا كان على جهةِ المماثَلةِ والقِصاص؛ فمَن حرَّق يُحرَّقُ، ومَن غرَّق يُغرَّقُ، وهكذا، أما أولئك المتطرِّفون، فهم يكفِّرون بما ليس بمكفِّرٍ، ويستحِلُّون الدمَ الحرامَ بلا موجِب أو مقتضٍ.

وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (164).

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

صاحبُ هذا السؤالِ يرى تناقُضًا في الخطابِ الإسلاميِّ بين إيمانِهِ بعذابِ النار، وبين استنكارِهِ لقيامِ بعض المتطرِّفين بحرقِ بعضِ البشَرِ وهم أحياءٌ؛ حيثُ يريدُ أن يقولَ: إن إلصاقَ فكرةِ العذابِ الأبديِّ على أخطاءٍ زمانيَّةٍ، لإلهٍ لا يَفتَأُ المسلِمون يتغَنَّوْنَ برحمتِهِ ورحمانيَّتِه، مع نزعِ صفةِ الرحمةِ عن بشَرٍ يمارِسون العذابَ ذاتَهُ لمرَّةٍ واحدةٍ أو أكثرَ في عالَمِ الفناءِ والزمانِ على خطأٍ زمانيٍّ -: سيضَعُ العقليَّةَ الإسلاميَّةَ - مِن أعماقِها إلى ذُرَاها - في مأزِقٍ مَعرِفيٍّ كبير.

مختصَرُ الإجابة:

في جوابِ هذا الشبهةِ اتِّجاهانِ لأهلِ العلم:

فمنهم: مَن ذهَبَ إلى القولِ ببقاءِ نارِ الكافِرينَ أبدَ الآباد، وبلا نهايةٍ، وأنها باقيةٌ ببقاءِ اللهِ؛ كالجنَّة؛ كما في سؤالِ السائل؛ وهو قولُ أكثَرِ العلماءِ وجمهورُهم.

ومنهم: مَن يرى أن الصوابَ القولُ بفناءِ النار، وأن عذابَ الكفَّارِ فيها مؤقَّتٌ أيضًا، وإن كان عذابًا طويلًا وعظيمًا، وقالوا: إن هذا مقتضَى عدلِ اللهِ ورحمتِهِ وحكمتِه، وقد سبَقتْ رحمتُهُ غضَبَهُ، وذكَروا وجوهًا وأدلَّةً أخرى كثيرةً لهذا.

وعلى هذا القولِ: فلا سؤالَ هنا؛ فالعذابُ مؤقَّتٌ على عصيانٍ وكفرٍ مؤقَّتٍ.

وأما الجمهورُ: فإنهم يُجِيبون: بأن للهِ تعالى الحكمةَ البالغةَ في خلقِهِ وفي أمرِه، ونحن - وإنْ جَهِلْنا حكمةَ الله تعالى في بعضِ أفعالِه - فليس ذلك بموجِبٍ لنفيِ الحكمةِ والرحمةِ والعدلِ عنه، ولا إلى ردِّ النصوصِ الدالَّةِ على ما يُتوهَّمُ منافاتُهُ للحكمةِ والرحمة، ولا إلى تأويلِها التأويلاتِ الباطنيَّةَ.

ومع ذلك يُقالُ في بيانِ الحكمةِ مِن تعذيبِ الكافِرين العذابَ الأبديَّ: إن الكافِرين إنما عُوقِبوا بعذابٍ سَرمَديٍّ دائمٍ؛ لأن سببَ عذابِهم - وهو الكُفْرُ - سرمديٌّ دائمٌ؛ كما أخبَرَ اللهُ تعالى عنهم في كتابِهِ بقولِهِ:

{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

[الأنعام: 28]

؛ وذلك جارٍ على قواعدِ المجازاةِ بالعدل.

وعلى كلا القولَيْنِ: فاللهُ تعالى ليس بظالِمٍ لخلقِه، بل مِن كمالِهِ سبحانه أنه يعامِلُ عبادَهُ بالفضلِ أو العدلِ، وأنه لا يَظلِمُ أحدًا شيئًا، بل إن رحمتَهُ تَسبِقُ غضَبَه، ويُجازي على الحسَنةِ عشَرةَ أمثالِها، إلى سبعِ مئةِ ضعفٍ، ولا يُجازي على السيِّئةِ إلا مِثلَها.

فالعاقلُ مَن يَسْعى للجنَّة، ويبتعِدُ عن النار - والعياذُ باللهِ منها - لا مَن يدَّعي أن مِن حقِّه أن يَفعَلَ ما يشاء، وقتَما يشاء، ثم لا يريدَ محاسَبةً على أيِّ شيء.

أما التحريقُ الذي قام به بعضُ المنسوبين إلى الخطابِ الإسلاميِّ، فهو لا يشكِّلُ أيَّ مَثلَبةٍ للخطابِ الإسلاميِّ الصحيح؛ لأن أولئك قد شارَكوا الخوارجَ في كثيرٍ مِن الصفات، ومنها تكفيرُ المسلِمين بما ليس بمكفِّرٍ، وسفكُ دمائِهم بغيرِ مقتضٍ.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

صاحبُ هذا السؤالِ يرى تناقُضًا في الخطابِ الإسلاميِّ بين إيمانِهِ بعذابِ النار، وبين استنكارِهِ لقيامِ بعض المتطرِّفين بحرقِ بعضِ البشَرِ وهم أحياءٌ؛ حيثُ يريدُ أن يقولَ: إن إلصاقَ فكرةِ العذابِ الأبديِّ على أخطاءٍ زمانيَّةٍ، لإلهٍ لا يَفتَأُ المسلِمون يتغَنَّوْنَ برحمتِهِ ورحمانيَّتِه، مع نزعِ صفةِ الرحمةِ عن بشَرٍ يمارِسون العذابَ ذاتَهُ لمرَّةٍ واحدةٍ أو أكثرَ في عالَمِ الفناءِ والزمانِ على خطأٍ زمانيٍّ -: سيضَعُ العقليَّةَ الإسلاميَّةَ - مِن أعماقِها إلى ذُرَاها - في مأزِقٍ مَعرِفيٍّ كبير.

مختصَرُ الإجابة:

في جوابِ هذا الشبهةِ اتِّجاهانِ لأهلِ العلم:

فمنهم: مَن ذهَبَ إلى القولِ ببقاءِ نارِ الكافِرينَ أبدَ الآباد، وبلا نهايةٍ، وأنها باقيةٌ ببقاءِ اللهِ؛ كالجنَّة؛ كما في سؤالِ السائل؛ وهو قولُ أكثَرِ العلماءِ وجمهورُهم.

ومنهم: مَن يرى أن الصوابَ القولُ بفناءِ النار، وأن عذابَ الكفَّارِ فيها مؤقَّتٌ أيضًا، وإن كان عذابًا طويلًا وعظيمًا، وقالوا: إن هذا مقتضَى عدلِ اللهِ ورحمتِهِ وحكمتِه، وقد سبَقتْ رحمتُهُ غضَبَهُ، وذكَروا وجوهًا وأدلَّةً أخرى كثيرةً لهذا.

وعلى هذا القولِ: فلا سؤالَ هنا؛ فالعذابُ مؤقَّتٌ على عصيانٍ وكفرٍ مؤقَّتٍ.

وأما الجمهورُ: فإنهم يُجِيبون: بأن للهِ تعالى الحكمةَ البالغةَ في خلقِهِ وفي أمرِه، ونحن - وإنْ جَهِلْنا حكمةَ الله تعالى في بعضِ أفعالِه - فليس ذلك بموجِبٍ لنفيِ الحكمةِ والرحمةِ والعدلِ عنه، ولا إلى ردِّ النصوصِ الدالَّةِ على ما يُتوهَّمُ منافاتُهُ للحكمةِ والرحمة، ولا إلى تأويلِها التأويلاتِ الباطنيَّةَ.

ومع ذلك يُقالُ في بيانِ الحكمةِ مِن تعذيبِ الكافِرين العذابَ الأبديَّ: إن الكافِرين إنما عُوقِبوا بعذابٍ سَرمَديٍّ دائمٍ؛ لأن سببَ عذابِهم - وهو الكُفْرُ - سرمديٌّ دائمٌ؛ كما أخبَرَ اللهُ تعالى عنهم في كتابِهِ بقولِهِ:

{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

[الأنعام: 28]

؛ وذلك جارٍ على قواعدِ المجازاةِ بالعدل.

وعلى كلا القولَيْنِ: فاللهُ تعالى ليس بظالِمٍ لخلقِه، بل مِن كمالِهِ سبحانه أنه يعامِلُ عبادَهُ بالفضلِ أو العدلِ، وأنه لا يَظلِمُ أحدًا شيئًا، بل إن رحمتَهُ تَسبِقُ غضَبَه، ويُجازي على الحسَنةِ عشَرةَ أمثالِها، إلى سبعِ مئةِ ضعفٍ، ولا يُجازي على السيِّئةِ إلا مِثلَها.

فالعاقلُ مَن يَسْعى للجنَّة، ويبتعِدُ عن النار - والعياذُ باللهِ منها - لا مَن يدَّعي أن مِن حقِّه أن يَفعَلَ ما يشاء، وقتَما يشاء، ثم لا يريدَ محاسَبةً على أيِّ شيء.

أما التحريقُ الذي قام به بعضُ المنسوبين إلى الخطابِ الإسلاميِّ، فهو لا يشكِّلُ أيَّ مَثلَبةٍ للخطابِ الإسلاميِّ الصحيح؛ لأن أولئك قد شارَكوا الخوارجَ في كثيرٍ مِن الصفات، ومنها تكفيرُ المسلِمين بما ليس بمكفِّرٍ، وسفكُ دمائِهم بغيرِ مقتضٍ.

الجواب التفصيلي


يقولُ الجمهورُ الذين يقولون ببقاءِ نارِ الكافِرين إلى ما لا نهايةَ:

1- هذه الشبهةُ تنطوي على جهلٍ بكمالِ علمِ اللهِ تعالى، وحكمتِهِ ورحمتِه:

فأما الجهلُ بكمالِ علمِهِ: فإن اللهَ تعالى يَعلَمُ السرَّ وأخفى، وهو علَّامُ الغيوب، وهو عالِمٌ بحالِ هؤلاءِ الكفَّارِ الذين عاقَبَهم بعذابِ النارِ المؤبَّد.

فالخُبثُ والكُفرُ الذي انطوَتْ عليه قلوبُهم، وتمرَّدوا بسببِهِ على اللهِ، منطوِيةٌ عليه قلوبُهم أبدًا، لا يزولُ منها أبدًا؛ فكان العذابُ أبديًّا سَرْمَديًّا؛ لأن سببَ ارتكابِهِ كان في القلبِ أبديًّا سَرْمَديًّا.

والآياتُ الدالَّةُ على هذا كثيرةٌ؛ كقولِهِ تعالى عنهم أنهم لمَّا عايَنوا النارَ، ورأَوْا عذابَ الله، وعظمةَ النار، وهولَ ذلك الموقفِ، وتمنَّوُا الرجوعَ إلى دارِ الدنيا مرَّةً أخرى ليُطِيعوا الرسُلَ، ويَعُودوا إلى رضا اللهِ، وتمنَّوْا ذلك؛ فقالوا:

{يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}

[الأنعام: 27]

-: بيَّن اللهُ أن ذلك الخُبثَ الذي كان في قلوبِهم في دارِ الدنيا، لم يَزُلْ أبدًا حتى بعد الموتِ، ومعايَنةِ النارِ، ومشاهَدةِ العذاب؛ فقال - وهو أصدَقُ مَن يقولُ -:

{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

[الأنعام: 28]

؛ فهو يبيِّنُ أنهم كلما رُدُّوا إلى الدنيا، رجَعوا إلى الكفرِ، وأن أصلَ ذلك الكفرِ كامنٌ في قلوبِهم لا يزولُ.

ومما يوضِّحُهُ: قولُهُ في سورةِ الأنفال:

{وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ}

[الأنفال: 23]

، معناه: أن اللهَ لا يَعلَمُ في قلوبِهم خيرًا أبدًا في وقتٍ مِن الأوقاتِ كائنًا ما كان، ولا في زمنٍ مِن الأزمانِ، وعدمُ علمِهِ دليلُ عدمِ وجودِه.

ثم قال على الفرضِ:

{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}

[الأنفال: 23]

؛ فتبيَّن أن ذلك الشرَّ الذي عصَوْا به الرسُلَ، وتمرَّدوا به على اللهِ، دائمٌ لا يزولُ؛ فكان جزاؤُهُ دائمًا لا يزولُ؛ فتطابَقَ الجزاءُ والعملُ؛ ولذا قال تعالى:

{جَزَاءً وِفَاقًا}

[النبأ: 26]

، أي: جزاءً موافِقًا لأعمالِهم.

وأما الجهلُ بكمالِ حكمةِ اللهِ تعالى ورحمتِهِ: فإننا نستدِلُّ بما عرَفْنا مِن حكمةِ اللهِ تعالى مِن مشاهَداتٍ كثيرةٍ في خلقِهِ وتدبيرِه، وفي أحكامِهِ وشريعتِه، على ما جَهِلنا.

فرَبُّ العالَمِين: أحكَمُ الحاكِمين، والعالِمُ بكلِّ شيء، والغنيُّ عن كلِّ شيء، والقادرُ على كلِّ شيء، ومَن هذا شأنُهُ، لم تخرُجْ أفعالُهُ وأوامرُهُ قَطُّ عن الحكمةِ والرحمةِ والمصلحة.

وما يَخْفى على العبادِ مِن معاني حكمتِهِ في صُنْعِهِ وإبداعِه، وأمرِهِ وشرعِه، فيَكْفيهم فيه معرفتُهُ بالوجهِ العامِّ أن تضمَّنَتْهُ حكمةٌ بالغةٌ، وإن لم يَعرِفوا تفصيلَها، وأن ذلك مِن علمِ الغيبِ الذي استأثَرَ اللهُ به؛ فيَكْفيهم في ذلك الإسنادُ إلى الحكمةِ البالغةِ العامَّةِ الشاملة.

2- الطاعنُ في هذا الاعتقادِ لا يَخْلو مِن كونِهِ أحدَ رجُلَيْن؛ فهو: إما مسلِمٌ، أو ملحِدٌ:

فإن كان مسلِمًا، فلِمَ يخالِفُ؟! وإن كان ملحِدًا، فلِمَ يخافُ؟!:

فالذي يؤمِنُ بربِّه تعالى، ويؤمِنُ بهذا الوعيد، فحَرِيٌّ به ألا يخالِفَ شَرْعَ اللهِ تعالى، وعليه أن يأتِيَ بالمأمورْ، ويترُكَ المحظورْ، ويَصبِرَ في الدنيا على المقدورْ؛ وإلا تعرَّض لوعيدِ مَن قد آمَنَ به رَبًّا، وهو يَعلَمُ أن وعيدَ اللهِ حقٌّ، وقد توعَّد ربُّه تعالى مَن مات على الكفرِ الأكبرِ، أو الردَّةِ: أنه يُخلَّدُ في نارِ جهنَّمَ أبدًا، فعليه الحذَرُ مِن ذلك، وألا يمُوتَ إلا مسلِمًا، كما أمَرهُ ربُّه تعالى.

وأما غيرُ المؤمِنِ باللهِ تعالى، فلِمَ يَخافُ مِن هذا العقابِ السَّرْمَديِّ، وهو لا يؤمِنُ أصلًا بربٍّ، ولا بجَنَّةٍ ولا نارٍ؟!

هذا؛ وإن اللهَ سبحانه وتعالى بنى أمورَ عبادِهِ على أنْ عرَّفهم معانيَ جلائلِ خلقِهِ وأمرِهِ، دون دقائقِهما وتفاصيلِهما؛ وهذا مطَّرِدٌ في الأشياءِ أصولِها وفروعِها.

فلو عجَزْنا عن إدراكِ الحكمةِ التفصيليَّةِ في تعذيبِ الكافِرين بالنار، فإننا نتمسَّكُ بما عرَفْناهُ مِن حكمةِ اللهِ تعالى ورحمتِه، ولا نُلْغي ما عرَفْناهُ بسببِ دقائقَ لم نُدرِكْ تفاصيلَها؛ فإن هذا مخالِفٌ للمنهجِ العلميِّ في الاعتمادِ على الاستقراءِ في تحصيلِ المعارفِ الصحيحة.

3- أن التحريقَ الذي قام به بعضُ المتطرِّفين المنسوبِين إلى الإسلام، لا يُعَدُّ مَثلَبةً للخطابِ الإسلاميِّ الصحيح، واستدلالُهم عليه بكلامِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ استدلالٌ باطلٌ؛ لأن ابنَ تيميَّةَ وغيرَهُ مِن الأئمَّةِ - كما هو معتمَدُ الشافعيَّةِ والمالكيَّةِ، وقولٌ عند الحنابلة - إنما يقولون بالتحريقِ: إذا كان على جهةِ المماثَلةِ والقِصاص؛ فمَن حرَّق يُحرَّقُ، ومَن غرَّق يُغرَّقُ، وهكذا، أما أولئك المتطرِّفون، فهم يكفِّرون بما ليس بمكفِّرٍ، ويستحِلُّون الدمَ الحرامَ بلا موجِب أو مقتضٍ.

وراجِعْ: جوابَ السؤال رقم: (164).