نص السؤال

لماذا يُقالُ بأن الفوائدَ البنكيَّةَ ربًا، وبالتالي: يحرُمُ التعامُلُ مع البنوك، مع أن الإسلامَ لم يحرِّمْ إلا رِبا الجاهليَّة؟ أو على الأقلِّ: في المسألةِ خلافٌ فقهيٌّ.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

حكمُ الفوائدِ البنكيَّة.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

كلَّما ابتعَدَ الناسُ عن هَدْيِ النبوَّةِ وزمانِها، وقَعوا في ظُلُماتٍ ووَرَطات؛ بناءً على ما وقَعَ في حياتِهم مِن مستجِدَّاتٍ ونوازلَ.

ومِن المعلومِ مِن الدِّينِ بالضرورةِ: حرمةُ الربا؛ لما فيه مِن ظلمٍ ومفاسدَ اقتصاديَّةٍ واجتماعيَّةٍ.

ولا يغيِّرُ هذا الحكمَ ما اصطلَحَ عليه الناسُ مِن التعامُلاتِ بالمالِ الوَرَقيِّ، بدلًا مِن الذهبِ والفضَّة، خصوصًا وأن المالَ اليومَ أصبَحَ أشبَهَ بالديونِ في عالَمٍ رَقْميّ.

وأما القولُ بأن الربا لا يَجْري في تعامُلاتِ البنوكِ استدلالًا على بعضِ الظنونِ، فهو خطأٌ محضٌ، وبيانُ بطلانِ ذلك مِن وجوه:

1- تخصيصُ الربا بربا الجاهليَّةِ المتضاعِفِ غيرُ صحيح:

= كان الواجب على المجيب أن يبين أن ربا الجاهلية هو ربا الديون كما هو إجماع المفسرين وإجماع المجامع الفقهية؛ فمن المقرر عند أهل العلم أن ربا الجاهلية الذي كانت العرب تتعامل به قبل الإسلام، وهدمه الإسلام، إنما كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل؛ فأبطله الله؛ كما قاله الإمام الجصَّاص في "أحكام القرآن"، وهو عين ربا النسيئة، الذي حرمه الله، وحرمه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأجمع أهل العلم على تحريمه، وهو ربا العباس بن عبد المطلب الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت قديمه؛ كما في خطبة حجة الوداع.

وتعاملات البنوك لا تخرج عن حد الربا الذي ذكرناه؛ فقد نص الدستور على أن البنك مؤسسة لإقراض واستقراض الأموال؛ يعني: استقراض البنك الأموال من المودع، ثم إقراض البنك نفس المال لعميل آخر (المتاجرة في الديون)، وهكذا ومن أعماله أيضاً: تخليق الأموال! عن طريق فتح الاعتمادات التي يحصل منها البنك على فوائد لأموال لم يقرضها أصلاً، وإنما وضعها تحت تصرف العميل، ثم هذه البنوك تتعامل بفائدة محددة سلفاً لا تتغير بتغير الربح والخسارة، مع ضمان رأس المال؛ وهو باطل بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض - المضاربة - إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معدودة". ولهذا قد نص عامة علماء العصر المعتبرين والمجامع الفقهية والمؤتمرات الإسلامية، ومنها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في سنة 1965، الذي حضره عدد كبير من كبار علماء الأمة، ومجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، ولجان الفتوى -: على أن الفوائد البنكية هي عين الربا الذي حرمه الله ورسوله، وعلى حرمة التعامل مع البنوك الربوية بالاقتراض، والإقراض أي الإيداع.

والاستدلالُ بآيةِ:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً}

[آل عمران: 130]

خطأٌ؛ فالآيةُ ورَدتْ لبيانِ الواقعِ، لا التخصيصِ، ولو افتُرِضَ أنها عن المضاعَفةِ فحَسْبُ، فهي لا تَنْفي تحريمَ الربا المطلَقِ الثابتِ في القرآنِ الكريمِ والمتواتِرِ في الأحاديثِ؛ ومنه: قولُهُ تعالى:

{وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}

[البقرة:279]

فدَلَّ أن كلَّ زيادةٍ عليها محرَّمةٌ.

وأهلُ الجاهليَّةِ كانوا يَفعَلون المضاعَفةَ وغيرَها.

2- الفرقُ بين ربا الديونِ وربا البيوعِ:

أن أكثرَ ما تُعْنَى به البنوكُ: هو ربا الديون، وهو الزيادةُ المشروطةُ التي يتقاضاها الدائنُ مِن مَدِينِهِ نظيرَ الأجَل؛ فربا الديونِ: هو مِحْوَرُ الربا في البنوك، وليس ربا الفضلِ أو النسيئةِ - الذي يظهر أن المجيب لا يعلم أن ربا الديون هو ربا النسيئة المجمع على تحريمه وصورته: أَنْظِرْني أَزِدْكَ - في مبايَعةِ ريالاتٍ بريالاتٍ مثَلًا.

وربا الديونِ محرَّمٌ بالإجماع، سواءٌ كان مِن مالٍ ورَقيٍّ أو ذهبٍ أو غيرِهما، ولا يدخُلُ في الخلافِ الجزئيِّ في تحديدِ الأصنافِ الرِّبَويَّة، وقد نقَلَ الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ، منهم ابنُ حزمٍ الذي اشتهَرَ خلافُهُ في الأصنافِ الرِّبَويَّة:

فقال: «وهو في القرضِ في كلِّ شيء؛ فلا يَحِلُّ إقراضُ شيءٍ ليُرَدَّ إليك أقلَّ ولا أكثرَ، ولا مِن نوعٍ آخَرَ أصلًا، لكنْ مِثلَ ما أقرَضْتَ في نوعِهِ ومقدارِهِ؛ ... وهذا إجماعٌ مقطوعٌ به». «المحلَّى» (7/ 402).

وكذلك ربا النسيئةِ والفضلِ، محرَّمٌ في أصنافٍ معروفة، وأكثرُ العلماءِ المعاصِرين على أن الأموالَ الورقيَّةَ ملحَقةٌ بالذهبِ والفضَّة؛ كما سيأتي:

3- بطلانُ القولِ بأن الأوراقَ الماليَّةَ عروضٌ:

الزعمُ بأن الأوراقَ الماليَّةَ عروضٌ؛ فلا تكونُ مِن الأصنافِ الرِّبَويَّةِ، خطأٌ في جهةِ التصوُّر؛ إذ العروضُ هي الأشياءُ المُعَدَّةُ للانتفاعِ بأعيانِها؛ كأثاثِ البيتِ، والرِّياشِ، والدوابِّ مثَلًا، وهذه الأوراقُ ليس لنا انتفاعٌ مقصودٌ مِن عينِها، لا في الأمورِ الضروريَّةِ، ولا الحاجيَّةِ، ولا التحسينيَّة.

ثمَّ لا معنَى لتشبيهِها بالفلوسِ القديمةِ المذكورةِ في كُتُبِ الفقهاءِ التي عُدَّتْ مِن العروضِ في بابِ الزكاةِ دون الصَّرْف، فهو تشبيهٌ غيرُ تامٍّ، وقياسٌ مع الفارقِ البيِّن؛ لأن الفلوسَ معدنٌ مِن المعادنِ الصالحةِ لأن تُصاغَ أوانيَ، فلها قيمةٌ نظرًا لما لها مِن المنفعةِ المقصودةِ باعتبارِ مثالِها - هذا الكلام قاصر جدا؛ لأن الفلوس عبارة عن المال الحقير الذي كانوا يشترون به المحقرات كحزمة بقل ونحوها، ونظرا لحقارة قيمتها الشرائية أجاز بعض الفقهاء فيها التفاضل والنساء، وعلى التسليم بصحة هذا القول فليس فيه حجة على جواز نوعي الربا في الأوراق النقدية؛ لأن القياس هنا مع الفارق وهو في غاية الظهور فتدبر! - أمَّا هذه الأوراقُ، فلا انتفاعَ يُقصَدُ بها لعينِها سوى أنها وثيقةٌ بحقٍّ، فهي في معنَى صكوكِ الدَّيْن، ولو ضَعُفَتْ ضَمانةُ الدولةِ مثَلًا، ما ساوَتْ شيئًا.

ومما ينفي كونَها عُروضًا: أنها إذا كانت جديدةً أو باليَةً مقطَّعةً متسِخةً، فالقِيمةُ واحدةٌ لا تنقُصُ بقيمتِها، ولا تزيدُ بحُسْنِها، والعَرْضُ بخلافِ ذلك؛ فإن قيمتَهُ تابعةٌ لأوصافِهِ - كما هو معلومٌ - وأنها إذا زُوِّرَتْ، بطَلَ التعامُلُ بها، وعُزِّرَ مِن زوَّرها بمثلٍ أو أكثرَ، مما يُعَدُّ به مزوِّرَ رسمِ العدول.

4- الأوراقُ النَّقْديَّةُ مُلحَقةٌ بالذهبِ والفضَّة:

مِن المعلومِ المتَّفَقِ عليه الواردِ في النصوصِ الكثيرةِ: قولُهُ ^:

«الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ... مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»

رواه مسلم (1587).

والحكمةُ مِن منعِ بيعِ الذهبِ والفضَّةِ بزيادةٍ إلى أجَلٍ: أن مَبْنى الاجتماعِ، وأساسَ الأديانِ: هو استعمالُ ما يُوجِبُ المحبَّةَ والأُلْفةَ؛ فيحصُلُ التناصُرُ والتعاوُن، والإنسانُ إذا كان محتاجًا، ووجَدَ مَن يُسلِفُه؛ فلا شكَّ أنَّه يتقلَّدُ مِنَّةَ مَن أسلَفَه، ويعتقِدُ محبَّتَه، ويَرَى أن نصرتَهُ وإعانتَهُ أمرٌ لازمٌ له؛ ففي منعِ بيعِ الذهبِ والفضَّةِ بزيادةٍ إلى أجَلٍ إبقاءٌ لمنفعةِ السلَف، التي هي مِن أجلِّ المقاصدِ؛ كما يقولُ الأميرُ عبدُ القادرِ الجزائريُّ في كلامٍ له نفيسٍ في هذه المسألة.

ومَن يبيعُ الذهبَ بالذهبِ والفضَّةَ بالفضَّةِ يُبْقي الذهبَ والفضَّةَ متقيِّدَيْنِ محبوسَيْنِ عنده، ويكونُ بمنزلةِ الذي كَنَزَ، وتقييدُ الحاكمِ - أو الرسولِ - الموصِّلِ الحاجاتِ إلى الغيرِ ظلمٌ؛ فلا معنَى لبيعِ الذهبِ بالذهبِ، والفضَّةِ بالفضَّةِ، إلا اتخاذُهما مقصودَيْنِ للادِّخار.

وبما أن العُمْلةَ الورقيَّةَ قد أصبَحتْ ثمَنًا، وقامت مقامَ الذهبِ والفضَّةِ في التعامُلِ بها، على الرغمِ مِن أنها ليست نائبةً عن الذهبِ والفضَّةِ، ولا عن الفضَّةِ بوجهٍ ثابتٍ ومحدَّدٍ، بمعنى: أنها ليست مربوطةً ربطًا ثابتًا بها، إلا أنها بها تُقوَّمُ الأشياءُ في هذا العصرِ - كلام لا غير صحيح اقتصاديًا ولا فائدة في التطويل فيه لعدم فائدته بل يحدث ريبا عند القارئ العامي وعلى فرض صحة الكلام، فقد تجاوزه الزمن بعشرات السنين؛ لأن العملات الورقية مستقرة استقرارا تاما من بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يوجد من يرتاب في كونها ثمنا للمثمنات، وأن قيمتها تابعة للقوة الاقتصادية للدول للهيمنة الدولية -؛ لاختفاءِ التعامُلِ بالذهبِ والفضَّة، وتطمئِنُّ النفوسُ بتموُّلِها وادِّخارِها، ويحصُلُ الوفاءُ والإبراءُ بها، رغمَ أن قيمتَها ليست في ذاتِها، وإنما في أمرٍ خارجٍ عنها، وهو حصولُ الثقةِ بها كوسيطٍ في التداوُلِ، لا فرقَ بينها وبين الذهبِ والفضَّةِ في ذلك.

ولذا فإن العُمْلةَ الورقيَّةَ نقدٌ قائمٌ بذاتِه، له حكمُ النقدَيْنِ مِن الذهبِ والفضَّةِ، فتجبُ الزكاةُ فيها، ويَجْري الرِّبا عليها بنوعَيْهِ - فَضْلًا، ونَسَاءً - كما يَجْري ذلك في النقدَيْنِ مِن الذهبِ والفضَّةِ تمامًا.

وبذلك تأخُذُ العملةُ الورقيَّةُ أحكامَ النقودِ في كلِّ الالتزاماتِ التي تَفرِضُها الشريعةُ فيها.

ولما كانت حقيقةُ الفوائدِ البنكيَّةِ أنها بيعُ الأوراقِ النقديَّةِ نسيئةً بزيادةٍ، كانت محرَّمةً؛ كتحريمِ بيعِ الذهبِ والفضَّةِ نسيئةً بزيادة. - هذا التوصف خطأ كما سبق بيانه؛ فحققية المعاملات البنكية قرض جر نفع، أو قرض بفائدة محددة وهو تعريف عمل البنك في دساتير العالم وفي أعمال البنوك -.

وهذا ما أفتَتْ به المجامعُ الفقهيَّةُ اليومَ، وكثيرٌ مِن كبارِ فقهاءِ هذا العصر. - إن كان يقصد أفتت أنه بيع الأوراق النقدية نسيئة.. فخطأ ظاهر؛ لأن قرارات مجمع الفقه الإسلامي أنه قرض مع اشتراظ فائدة يعنتي ربا النسيئة!-.

ولا فرقَ اليومَ بين العملةِ النقديَّةِ، وبين الذهبِ والفضَّة؛ مِن حيثُ كونُ الأوراقِ النقديَّةِ والذهبِ والفضَّةِ لا غرَضَ فيها، وهي وسيلةٌ إلى كلِّ غرضٍ، وإذا كان الذهبُ والفضَّةُ مِن الأصنافِ الرِّبَويَّةِ بنصِّ الشارع، فالنقودُ مِن الأصنافِ الربويَّةِ قياسًا. والفوائدُ البنكيَّةُ حقيقتُها: أنها بيعٌ للأوراقِ النقديَّةِ نسيئةً بزيادة؛ ولذلك كانت محرَّمةً. خطأ كما في مرّ.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يشكِّكُ السائلُ في تحريمِ ما تقومُ به البنوكُ مِن أخذِ الزيادةِ على قروضِها للأفرادِ والمؤسَّسات؛ إما لكونِ المحرَّمِ عنده: هو ما كان مِن رِبا الجاهليَّةِ الذي يتضاعَفُ مرارًا، أو لأن الرِّبا لا يَجْري عنده في الأوراقِ النقديَّةِ؛ على الخلافِ الفقهيِّ المشهور.

مختصَرُ الإجابة:

أغلَبُ ربا البنوكِ هو مِن ربا الديون، وهو الزيادةُ المشروطةُ التي يتقاضاها الدائنُ مِن مَدِينِهِ نظيرَ الأجل، وهو محرَّمٌ بالإجماع - وقد نقَلهُ ابنُ حزمٍ، وغيرُه - ولا يدخُلُ في الخلاف.

ولا فرقَ إن تضاعَفَ مرارًا أو مرَّةً واحدةً؛ فكلُّه مِن الرِّبا، والنصوصُ جاءت بتحريمِ هذا وهذا.

وإنما جرى قولٌ لبعضِ الفقهاءِ في كونِ الأوراقِ النقديَّةِ: هل تُعامَلُ كالذهبِ؛ فيَجْري فيها ربا البيوعِ مِن ربا الفضلِ والنسيئة؟ أو يجوزُ؛ كأن يبيعَهُ عشَرةً بتسعةٍ مِن نفسِ الجنسِ، أو يبيعَهُ اليومَ ويأخُذَهُ غدًا.

والصوابُ: جريانُ الربا في ذلك أيضًا، ولعلَّ بعضَهم كان يقولُ بذلك قبل أن تَظهَرَ أهمِّيَّةُ الأوراقِ النقديَّة، وقيامُها مَقامَ الذهبِ قبل في الثمَنيَّةِ بين الناس. هذا القول عجب العجاب؛ لأن قياس الأوراق النقدية على النقدين من الأمور بجامع الثمنية من البدهيات، ولكن جواب المجيب يشعر القارئ أن في المسألة خلافًا! وهو وهم لأن أصحاب هذا القول شواذ ولا يعتبر كلامهم، لأنه يخالف البداهة العقلية، ولهذا فإجماع جميع المجامع الفقهية ولجان الفتوى على أن الأوراق النقدية بديل صحيح عن الذهب والفضة، وأنها يجري فيهما ربا الفضل وربا الديون(النسيئة).

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يشكِّكُ السائلُ في تحريمِ ما تقومُ به البنوكُ مِن أخذِ الزيادةِ على قروضِها للأفرادِ والمؤسَّسات؛ إما لكونِ المحرَّمِ عنده: هو ما كان مِن رِبا الجاهليَّةِ الذي يتضاعَفُ مرارًا، أو لأن الرِّبا لا يَجْري عنده في الأوراقِ النقديَّةِ؛ على الخلافِ الفقهيِّ المشهور.

مختصَرُ الإجابة:

أغلَبُ ربا البنوكِ هو مِن ربا الديون، وهو الزيادةُ المشروطةُ التي يتقاضاها الدائنُ مِن مَدِينِهِ نظيرَ الأجل، وهو محرَّمٌ بالإجماع - وقد نقَلهُ ابنُ حزمٍ، وغيرُه - ولا يدخُلُ في الخلاف.

ولا فرقَ إن تضاعَفَ مرارًا أو مرَّةً واحدةً؛ فكلُّه مِن الرِّبا، والنصوصُ جاءت بتحريمِ هذا وهذا.

وإنما جرى قولٌ لبعضِ الفقهاءِ في كونِ الأوراقِ النقديَّةِ: هل تُعامَلُ كالذهبِ؛ فيَجْري فيها ربا البيوعِ مِن ربا الفضلِ والنسيئة؟ أو يجوزُ؛ كأن يبيعَهُ عشَرةً بتسعةٍ مِن نفسِ الجنسِ، أو يبيعَهُ اليومَ ويأخُذَهُ غدًا.

والصوابُ: جريانُ الربا في ذلك أيضًا، ولعلَّ بعضَهم كان يقولُ بذلك قبل أن تَظهَرَ أهمِّيَّةُ الأوراقِ النقديَّة، وقيامُها مَقامَ الذهبِ قبل في الثمَنيَّةِ بين الناس. هذا القول عجب العجاب؛ لأن قياس الأوراق النقدية على النقدين من الأمور بجامع الثمنية من البدهيات، ولكن جواب المجيب يشعر القارئ أن في المسألة خلافًا! وهو وهم لأن أصحاب هذا القول شواذ ولا يعتبر كلامهم، لأنه يخالف البداهة العقلية، ولهذا فإجماع جميع المجامع الفقهية ولجان الفتوى على أن الأوراق النقدية بديل صحيح عن الذهب والفضة، وأنها يجري فيهما ربا الفضل وربا الديون(النسيئة).

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

كلَّما ابتعَدَ الناسُ عن هَدْيِ النبوَّةِ وزمانِها، وقَعوا في ظُلُماتٍ ووَرَطات؛ بناءً على ما وقَعَ في حياتِهم مِن مستجِدَّاتٍ ونوازلَ.

ومِن المعلومِ مِن الدِّينِ بالضرورةِ: حرمةُ الربا؛ لما فيه مِن ظلمٍ ومفاسدَ اقتصاديَّةٍ واجتماعيَّةٍ.

ولا يغيِّرُ هذا الحكمَ ما اصطلَحَ عليه الناسُ مِن التعامُلاتِ بالمالِ الوَرَقيِّ، بدلًا مِن الذهبِ والفضَّة، خصوصًا وأن المالَ اليومَ أصبَحَ أشبَهَ بالديونِ في عالَمٍ رَقْميّ.

وأما القولُ بأن الربا لا يَجْري في تعامُلاتِ البنوكِ استدلالًا على بعضِ الظنونِ، فهو خطأٌ محضٌ، وبيانُ بطلانِ ذلك مِن وجوه:

1- تخصيصُ الربا بربا الجاهليَّةِ المتضاعِفِ غيرُ صحيح:

= كان الواجب على المجيب أن يبين أن ربا الجاهلية هو ربا الديون كما هو إجماع المفسرين وإجماع المجامع الفقهية؛ فمن المقرر عند أهل العلم أن ربا الجاهلية الذي كانت العرب تتعامل به قبل الإسلام، وهدمه الإسلام، إنما كان قرضاً مؤجلاً بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلاً من الأجل؛ فأبطله الله؛ كما قاله الإمام الجصَّاص في "أحكام القرآن"، وهو عين ربا النسيئة، الذي حرمه الله، وحرمه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأجمع أهل العلم على تحريمه، وهو ربا العباس بن عبد المطلب الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت قديمه؛ كما في خطبة حجة الوداع.

وتعاملات البنوك لا تخرج عن حد الربا الذي ذكرناه؛ فقد نص الدستور على أن البنك مؤسسة لإقراض واستقراض الأموال؛ يعني: استقراض البنك الأموال من المودع، ثم إقراض البنك نفس المال لعميل آخر (المتاجرة في الديون)، وهكذا ومن أعماله أيضاً: تخليق الأموال! عن طريق فتح الاعتمادات التي يحصل منها البنك على فوائد لأموال لم يقرضها أصلاً، وإنما وضعها تحت تصرف العميل، ثم هذه البنوك تتعامل بفائدة محددة سلفاً لا تتغير بتغير الربح والخسارة، مع ضمان رأس المال؛ وهو باطل بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إبطال القراض - المضاربة - إذا شرط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معدودة". ولهذا قد نص عامة علماء العصر المعتبرين والمجامع الفقهية والمؤتمرات الإسلامية، ومنها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في سنة 1965، الذي حضره عدد كبير من كبار علماء الأمة، ومجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، ولجان الفتوى -: على أن الفوائد البنكية هي عين الربا الذي حرمه الله ورسوله، وعلى حرمة التعامل مع البنوك الربوية بالاقتراض، والإقراض أي الإيداع.

والاستدلالُ بآيةِ:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً}

[آل عمران: 130]

خطأٌ؛ فالآيةُ ورَدتْ لبيانِ الواقعِ، لا التخصيصِ، ولو افتُرِضَ أنها عن المضاعَفةِ فحَسْبُ، فهي لا تَنْفي تحريمَ الربا المطلَقِ الثابتِ في القرآنِ الكريمِ والمتواتِرِ في الأحاديثِ؛ ومنه: قولُهُ تعالى:

{وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}

[البقرة:279]

فدَلَّ أن كلَّ زيادةٍ عليها محرَّمةٌ.

وأهلُ الجاهليَّةِ كانوا يَفعَلون المضاعَفةَ وغيرَها.

2- الفرقُ بين ربا الديونِ وربا البيوعِ:

أن أكثرَ ما تُعْنَى به البنوكُ: هو ربا الديون، وهو الزيادةُ المشروطةُ التي يتقاضاها الدائنُ مِن مَدِينِهِ نظيرَ الأجَل؛ فربا الديونِ: هو مِحْوَرُ الربا في البنوك، وليس ربا الفضلِ أو النسيئةِ - الذي يظهر أن المجيب لا يعلم أن ربا الديون هو ربا النسيئة المجمع على تحريمه وصورته: أَنْظِرْني أَزِدْكَ - في مبايَعةِ ريالاتٍ بريالاتٍ مثَلًا.

وربا الديونِ محرَّمٌ بالإجماع، سواءٌ كان مِن مالٍ ورَقيٍّ أو ذهبٍ أو غيرِهما، ولا يدخُلُ في الخلافِ الجزئيِّ في تحديدِ الأصنافِ الرِّبَويَّة، وقد نقَلَ الإجماعَ على ذلك غيرُ واحدٍ، منهم ابنُ حزمٍ الذي اشتهَرَ خلافُهُ في الأصنافِ الرِّبَويَّة:

فقال: «وهو في القرضِ في كلِّ شيء؛ فلا يَحِلُّ إقراضُ شيءٍ ليُرَدَّ إليك أقلَّ ولا أكثرَ، ولا مِن نوعٍ آخَرَ أصلًا، لكنْ مِثلَ ما أقرَضْتَ في نوعِهِ ومقدارِهِ؛ ... وهذا إجماعٌ مقطوعٌ به». «المحلَّى» (7/ 402).

وكذلك ربا النسيئةِ والفضلِ، محرَّمٌ في أصنافٍ معروفة، وأكثرُ العلماءِ المعاصِرين على أن الأموالَ الورقيَّةَ ملحَقةٌ بالذهبِ والفضَّة؛ كما سيأتي:

3- بطلانُ القولِ بأن الأوراقَ الماليَّةَ عروضٌ:

الزعمُ بأن الأوراقَ الماليَّةَ عروضٌ؛ فلا تكونُ مِن الأصنافِ الرِّبَويَّةِ، خطأٌ في جهةِ التصوُّر؛ إذ العروضُ هي الأشياءُ المُعَدَّةُ للانتفاعِ بأعيانِها؛ كأثاثِ البيتِ، والرِّياشِ، والدوابِّ مثَلًا، وهذه الأوراقُ ليس لنا انتفاعٌ مقصودٌ مِن عينِها، لا في الأمورِ الضروريَّةِ، ولا الحاجيَّةِ، ولا التحسينيَّة.

ثمَّ لا معنَى لتشبيهِها بالفلوسِ القديمةِ المذكورةِ في كُتُبِ الفقهاءِ التي عُدَّتْ مِن العروضِ في بابِ الزكاةِ دون الصَّرْف، فهو تشبيهٌ غيرُ تامٍّ، وقياسٌ مع الفارقِ البيِّن؛ لأن الفلوسَ معدنٌ مِن المعادنِ الصالحةِ لأن تُصاغَ أوانيَ، فلها قيمةٌ نظرًا لما لها مِن المنفعةِ المقصودةِ باعتبارِ مثالِها - هذا الكلام قاصر جدا؛ لأن الفلوس عبارة عن المال الحقير الذي كانوا يشترون به المحقرات كحزمة بقل ونحوها، ونظرا لحقارة قيمتها الشرائية أجاز بعض الفقهاء فيها التفاضل والنساء، وعلى التسليم بصحة هذا القول فليس فيه حجة على جواز نوعي الربا في الأوراق النقدية؛ لأن القياس هنا مع الفارق وهو في غاية الظهور فتدبر! - أمَّا هذه الأوراقُ، فلا انتفاعَ يُقصَدُ بها لعينِها سوى أنها وثيقةٌ بحقٍّ، فهي في معنَى صكوكِ الدَّيْن، ولو ضَعُفَتْ ضَمانةُ الدولةِ مثَلًا، ما ساوَتْ شيئًا.

ومما ينفي كونَها عُروضًا: أنها إذا كانت جديدةً أو باليَةً مقطَّعةً متسِخةً، فالقِيمةُ واحدةٌ لا تنقُصُ بقيمتِها، ولا تزيدُ بحُسْنِها، والعَرْضُ بخلافِ ذلك؛ فإن قيمتَهُ تابعةٌ لأوصافِهِ - كما هو معلومٌ - وأنها إذا زُوِّرَتْ، بطَلَ التعامُلُ بها، وعُزِّرَ مِن زوَّرها بمثلٍ أو أكثرَ، مما يُعَدُّ به مزوِّرَ رسمِ العدول.

4- الأوراقُ النَّقْديَّةُ مُلحَقةٌ بالذهبِ والفضَّة:

مِن المعلومِ المتَّفَقِ عليه الواردِ في النصوصِ الكثيرةِ: قولُهُ ^:

«الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ... مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»

رواه مسلم (1587).

والحكمةُ مِن منعِ بيعِ الذهبِ والفضَّةِ بزيادةٍ إلى أجَلٍ: أن مَبْنى الاجتماعِ، وأساسَ الأديانِ: هو استعمالُ ما يُوجِبُ المحبَّةَ والأُلْفةَ؛ فيحصُلُ التناصُرُ والتعاوُن، والإنسانُ إذا كان محتاجًا، ووجَدَ مَن يُسلِفُه؛ فلا شكَّ أنَّه يتقلَّدُ مِنَّةَ مَن أسلَفَه، ويعتقِدُ محبَّتَه، ويَرَى أن نصرتَهُ وإعانتَهُ أمرٌ لازمٌ له؛ ففي منعِ بيعِ الذهبِ والفضَّةِ بزيادةٍ إلى أجَلٍ إبقاءٌ لمنفعةِ السلَف، التي هي مِن أجلِّ المقاصدِ؛ كما يقولُ الأميرُ عبدُ القادرِ الجزائريُّ في كلامٍ له نفيسٍ في هذه المسألة.

ومَن يبيعُ الذهبَ بالذهبِ والفضَّةَ بالفضَّةِ يُبْقي الذهبَ والفضَّةَ متقيِّدَيْنِ محبوسَيْنِ عنده، ويكونُ بمنزلةِ الذي كَنَزَ، وتقييدُ الحاكمِ - أو الرسولِ - الموصِّلِ الحاجاتِ إلى الغيرِ ظلمٌ؛ فلا معنَى لبيعِ الذهبِ بالذهبِ، والفضَّةِ بالفضَّةِ، إلا اتخاذُهما مقصودَيْنِ للادِّخار.

وبما أن العُمْلةَ الورقيَّةَ قد أصبَحتْ ثمَنًا، وقامت مقامَ الذهبِ والفضَّةِ في التعامُلِ بها، على الرغمِ مِن أنها ليست نائبةً عن الذهبِ والفضَّةِ، ولا عن الفضَّةِ بوجهٍ ثابتٍ ومحدَّدٍ، بمعنى: أنها ليست مربوطةً ربطًا ثابتًا بها، إلا أنها بها تُقوَّمُ الأشياءُ في هذا العصرِ - كلام لا غير صحيح اقتصاديًا ولا فائدة في التطويل فيه لعدم فائدته بل يحدث ريبا عند القارئ العامي وعلى فرض صحة الكلام، فقد تجاوزه الزمن بعشرات السنين؛ لأن العملات الورقية مستقرة استقرارا تاما من بعد الحرب العالمية الثانية، ولا يوجد من يرتاب في كونها ثمنا للمثمنات، وأن قيمتها تابعة للقوة الاقتصادية للدول للهيمنة الدولية -؛ لاختفاءِ التعامُلِ بالذهبِ والفضَّة، وتطمئِنُّ النفوسُ بتموُّلِها وادِّخارِها، ويحصُلُ الوفاءُ والإبراءُ بها، رغمَ أن قيمتَها ليست في ذاتِها، وإنما في أمرٍ خارجٍ عنها، وهو حصولُ الثقةِ بها كوسيطٍ في التداوُلِ، لا فرقَ بينها وبين الذهبِ والفضَّةِ في ذلك.

ولذا فإن العُمْلةَ الورقيَّةَ نقدٌ قائمٌ بذاتِه، له حكمُ النقدَيْنِ مِن الذهبِ والفضَّةِ، فتجبُ الزكاةُ فيها، ويَجْري الرِّبا عليها بنوعَيْهِ - فَضْلًا، ونَسَاءً - كما يَجْري ذلك في النقدَيْنِ مِن الذهبِ والفضَّةِ تمامًا.

وبذلك تأخُذُ العملةُ الورقيَّةُ أحكامَ النقودِ في كلِّ الالتزاماتِ التي تَفرِضُها الشريعةُ فيها.

ولما كانت حقيقةُ الفوائدِ البنكيَّةِ أنها بيعُ الأوراقِ النقديَّةِ نسيئةً بزيادةٍ، كانت محرَّمةً؛ كتحريمِ بيعِ الذهبِ والفضَّةِ نسيئةً بزيادة. - هذا التوصف خطأ كما سبق بيانه؛ فحققية المعاملات البنكية قرض جر نفع، أو قرض بفائدة محددة وهو تعريف عمل البنك في دساتير العالم وفي أعمال البنوك -.

وهذا ما أفتَتْ به المجامعُ الفقهيَّةُ اليومَ، وكثيرٌ مِن كبارِ فقهاءِ هذا العصر. - إن كان يقصد أفتت أنه بيع الأوراق النقدية نسيئة.. فخطأ ظاهر؛ لأن قرارات مجمع الفقه الإسلامي أنه قرض مع اشتراظ فائدة يعنتي ربا النسيئة!-.

ولا فرقَ اليومَ بين العملةِ النقديَّةِ، وبين الذهبِ والفضَّة؛ مِن حيثُ كونُ الأوراقِ النقديَّةِ والذهبِ والفضَّةِ لا غرَضَ فيها، وهي وسيلةٌ إلى كلِّ غرضٍ، وإذا كان الذهبُ والفضَّةُ مِن الأصنافِ الرِّبَويَّةِ بنصِّ الشارع، فالنقودُ مِن الأصنافِ الربويَّةِ قياسًا. والفوائدُ البنكيَّةُ حقيقتُها: أنها بيعٌ للأوراقِ النقديَّةِ نسيئةً بزيادة؛ ولذلك كانت محرَّمةً. خطأ كما في مرّ.