نص السؤال

يُوجَدُ تشابُهٌ كبيرٌ بين التصوُّفِ الإسلاميِّ وما نشاهِدُهُ مِن ممارَساتِ الفِرَقِ الصوفيَّةِ اليومَ، وبين الفلسَفاتِ الأخرى؛ كالفارسيَّةِ، والهنديَّةِ، واليونانيَّةِ، وغيرِها. فكيف نقولُ بعد ذلك: بأن التصوُّفَ إسلاميُّ المنشأِ، وليس متأثِّرًا بالثقافاتِ الأخرى؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

التصوُّفُ والفلسفاتُ الشرقيَّةُ والأجنبيَّة

الجواب التفصيلي



وللتفصيلِ: فـ «التصوُّفُ» ليس لفظًا شرعيًّا خالصًا، بل مصطلَحٌ مجمَلٌ أُطلِقَ على أفكارٍ وسلوكيَّاتٍ مختلِفةٍ، واختلَفَ الباحِثون في حدودِها؛ فبعضُهم يوسِّعُها، وبعضُهم يضيِّقُها، وبالتالي: فهم مختلِفون في بعضِ مفرَداتِها.

وهذه المفرَداتُ بعضُها صحيحٌ - وإن كان يُسمَّى في الشريعةِ باسمٍ آخَرَ - وبعضُها خاطئٌ، وإن فعَلَها بعضُ المسلِمين، أو أناسٌ صالِحون منهم.

فأما المعاني الصحيحةُ - ككثرةِ الذِّكْرِ المشروعِ لله، وتجنُّبِ التعلُّقِ بالمخلوقِين، وتجنُّبِ التَّرَفِ المؤثِّرِ في القلبِ، ونحوِها -: فهي معانٍ إسلاميَّةٌ، سواءٌ سُمِّيَتْ تصوًّفًا أو لا، وأما ما حصَلَ فيها مِن توافُقٍ مع ثقافاتٍ أخرى:

- فإما لأن تلك الثقافاتِ فيها بقيَّةٌ مِن إرثِ الأنبياءِ؛ وكلُّهم يبلِّغون رسالةَ الله.

- وإما لأن العقولَ الصحيحةَ تتوافَقُ عليها، ونحوِ ذلك؛ وهذا لا يخالِفُ أن الإسلامَ جاء بها مِن عندِ اللهِ تعالى.

وأما المعاني الخاطئةُ: فلا يُمكِنُ أن يُحاكَمَ الإسلامُ بها؛ كالقولِ بالحلولِ والاتِّحادِ، وتعظيمِ المقبورِين، أو أصحابِ الشطَحاتِ، وإهمالِ المصالحِ الواجبةِ للنفسِ والأهلِ، أو التعبُّدِ بالرقصِ وبإهمالِ النظافةِ، ونحوِ ذلك؛ فهي ليست مِن الإسلامِ، ولو سُمِّيَتْ بـ «التصوُّفِ الإسلاميِّ»، وكثيرٌ مِن الصُّوَرِ الخاطئةِ موجودةٌ في أديانٍ أو ثقافاتٍ أخرى.

والتصوُّفُ أصلُهُ اللغويُّ: يَرجِعُ إلى لُبْسِ الصُّوفِ، وهناك تفسيراتٌ لغويَّةٌ لـ «التصوُّفِ»، و«الصُّوفيِّ»، وغيرِهِ، هي تفسيراتٌ محتمَلةٌ بحَدٍّ ما.

ولا عَلاقةَ لكلمةِ «التصوُّفِ» بالكلمةِ اليونانيَّةِ «سُوفُس»، كما ادَّعَى بعضُهم؛ بل هي كلمةٌ عربيَّةٌ خالصةٌ، ومشتقَّةٌ مِن اللغةِ العربيَّة، والذي قال بذلك المستشرِقُ الألماني «نيلْدِكَه» نفسُهُ، وأُرِيدَ بها في البدايةِ: تصرُّفاتُ أقوامٍ مخصوصِين، ثم توسَّع الإطلاقُ بها على أفكارٍ وسلوكيَّات، وهي لفظةٌ نابعةٌ مِن الثقافةِ في تلك العصور.

كما أن التفسيرَ الشرعيَّ لـ «التصوُّفِ»، والذي يدُورُ حولَ: «العنايةِ بذكرِ اللهِ تعالى، وتعظيمِ الآخِرةِ على الدنيا، واستحضارِها، وتجنُّبِ ما يُفسِدُ القلبَ، ونحوِ ذلك» -: هي معانٍ إسلاميَّةٌ، نابعةٌ مِن كتابِ اللهِ وسنَّةِ نبيِّهِ ^.

وأما غيرُ ذلك مِن الانحرافاتِ الصوفيَّةِ المتأخِّرةِ عن زمنِ النبوَّةِ، والقرونِ الثلاثةِ الأُولى -: فهي انحرافاتٌ خارجةٌ عن الإسلام، ولا يَعْنِينا الحديثُ عنها، ولا تتبُّعُ مصدرِها.

ويُمكِنُ إزالةُ الإشكالِ الواردِ في السؤالِ مِن خلالِ النِّقاطِ التالية:

أوَّلًا: «التصوُّفُ» لفظٌ عربيُّ المَولِدِ، نشأ لظروفٍ تاريخيَّةٍ ومجتمَعيَّةٍ ودينيَّةٍ في المسلِمين:

يرى الباحِثون في علمِ الألفاظِ: أن لفظةَ «التصوُّفِ» هي اسمٌ مشتَقٌّ، وليس اسمًا جامدًا، واختلَفوا في الأصلِ المشتَقِّ منه على أقوالٍ كثيرةٍ، جميعُها في اللغةِ العربيَّة:

فمنهم: مَن نسَبَهُ إلى صفاءِ القلب.

ومنهم: مَن قال: بأنه نِسْبةٌ إلى أهلِ الصُّفَّة.

وأشهرُ الأقوالِ في أصلِ الاشتقاقِ لهذه اللفظةِ: أنها نِسْبةٌ إلى لُبْسِ الصُّوف؛ نظرًا لما اعتاده بعضُ الزُّهَّادِ في ذلك الوقتِ: إما لضِيقِ ذاتِ اليد، أو موافَقةً مؤقَّتةً لفعلِ بعضِ الأنبياءِ، عليهم السلام.

وذهَبَ بعضُ المستشرِقين إلى محاوَلةِ نسبةِ «التصوُّفِ»: إلى الكلمةِ اليونانيَّةِ «سُوفُوس»، ولكنَّ هذا بعيدٌ كلَّ البعدِ عن الصواب.

وقد حسَمَ خطأَ هذا القولِ المستشرِقُ الألمانيُّ «تيودُور نيلْدِكَه» في مقالٍ مشهورٍ له، نُشِرَ في الجمعيَّةِ المشرقيَّةِ الألمانيَّةِ، سنةَ (1891م)، بيَّن فيه أن هذه الكلمةَ اليونانيَّةَ غيرُ معروفةٍ في اللغةِ الآراميَّة؛ ولهذا يصعُبُ العثورُ عليها في العربيَّةِ، نقلًا عن الآراميَّة، وأنه لا يُوجَدُ دليلٌ صحيحٌ على هذا القول، وأن نِسْبةَ كلمةِ «صُوفيٍّ» إلى «الصُّوفِ» قولٌ قويٌّ تؤيِّدُهُ قواعدُ الاشتقاقِ في اللغةِ العربيَّة.

هذا مِن ناحيةِ الأصالةِ العربيَّةِ للفظةِ «التصوُّف».

ومِن ناحيةِ الدَّلالةِ المصطلَحيَّةِ: فقد اختلَفَ العلماءُ في تأويلِ «التصوُّفِ» شرعًا، وتعدَّدتْ أقوالُهم، لكنها أيضًا كلَّها نابعةٌ مِن البيئةِ الإسلاميَّة.

والمتأمِّلُ في التعريفاتِ التي ذكَرَها علماءُ التصوُّفِ، يَجِدُها تَرجِعُ إلى: «الاتِّصافِ بالزهدِ في الدنيا، وكثرةِ استحضارِ الدارِ الآخِرة، ومراقَبةِ اللهِ تعالى، وكثرةِ الانشغالِ بذِكْرِهِ، والاستعانةِ به، وتركِ الاستعانةِ بالخَلْق»، وهي - بهذا الحدِّ - مستفادةٌ مِن الكتابِ والسنَّة؛ فكثيرًا ما كرَّر القرآنُ في آياتٍ عِدَّةٍ - وكذلك ورَدَ في أحاديثِ السنَّةِ النبويَّةِ -: أن الدنيا لَعِبٌ ولَهْو، وأن الحياةَ الحقيقيَّةَ هي حياةُ الآخِرة.

وقد كان الصالِحون في القرونِ الأُولى في زهدِهم وتصوُّفِهم، ملتزِمين بنصِّ الوحيِ مِن قرآنٍ وسنَّة، ولم يكن تصوُّفُهم محضَ ابتداعٍ في دينِ اللهِ تعالى، ولم يخرُجْ فعلُهم عن جنسِ زهدِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم؛ ولذلك يقولُ الإمامُ الجُنَيدُ - وهو مِن أعلامِ المتصوِّفة -: «مذهبُنا مقيَّدٌ بأصولِ الكتابِ والسنَّة».

 فلما تتابَعَ الزمانُ، وبدأ الناسُ في الإقبالِ على الدنيا والتمسُّكِ بها، وتركِ الزهدِ -: انبَرَى جماعةٌ مِن الناسِ مقبِلين على العبادةِ والذِّكْرِ وتركِ التعلُّقِ بالدنيا، كما كان عليه الجِيلُ الأوَّلُ مِن الصحابة، ولما غَلَبَتْ عليهم بعضُ المظاهرِ، ومنها لُبْسُ الصوفِ، أُطلِقَ عليهم: «المتصوِّفةُ»، أو «الصُّوفيَّة».

ثانيًا: «التصوُّفُ الفلسفيُّ»، و«الانحرافاتُ الصوفيَّةُ المتأخِّرةُ»:

فشا في القرونِ المتأخِّرةِ انحرافاتٌ في التصوُّف، ونشأَتْ فِرَقٌ كثيرة، وكُلُّ فرقةٍ ابتدَعَتْ لها أورادًا خاصَّةً، وطريقةً مختلِفةً في التعبُّد، بما لم يكن عليه الجِيلُ الأوَّلُ مِن المسلِمين، وبالَغَ قومٌ في الانحراف، فادَّعَوْا أنهم يَنزِلُ عليهم وحيٌ مِن السماء، وأنهم يُمكِنُهم أن يَصِلوا إلى مرحلةٍ مِن المراحلِ في العبادة، لا يَلحَقُهم إثمٌ بَعْدَها، وتسقُطُ عنهم التكاليفُ، وأنهم عارِفون بالله، مختصُّون بمعرفةِ أسرارِهِ وغيبِه، إلى آخِرِ ذلك؛ مِن مظاهرِ التدهوُرِ والانحرافِ والرِّياءِ، والقولِ على اللهِ تعالى بغيرِ علمٍ، وادِّعاءِ الوَلايةِ مِن اللهِ تعالى، وهذه الانحرافاتُ كان يتبرَّأُ منها المتصوِّفةُ الأوائلُ، ويتبرَّأُ منها كلُّ متصوِّفٍ سُنِّيٍّ ملتزِمٍ بأصولِ الكتابِ والسنَّة.

وتأثَّر أقوامٌ بالأفكارِ الدخيلةِ على الإسلامِ مِن الفلسفاتِ الأجنبيَّةِ واليونانيَّة، فانحرَفوا بعيدًا عن الكتابِ والسنَّة، وظهَرَ ما يُمكِنُ القولُ بأنه: «تصوُّفٌ فلسفيٌّ»، مزَجَ فيه أصحابُ هذا التصوُّفِ بين الحكمةِ المشرقيَّةِ القديمةِ - أي: تراثِ الهندِ وبلادِ فارسٍ - وبين الفلسفةِ اليونانيَّةِ والأفلاطونيَّةِ والعقائدِ المسيحيَّةِ واليهوديَّة.

فعُرِفَ حينها ما يُسمَّى بـ «مذهبِ الحلولِ والاتِّحادِ» على يدِ «الحَلَّاجِ» المقتولِ سنةَ (309 هـ)، ومعناه: أن اللهَ يحُلُّ في مخلوقاتِه، وظهَرَ «مذهبُ الإشراقِ» على يدِ «شهابِ الدِّينِ السُّهْرَوَرْديِّ» المقتولِ ما بين (586هـ)، و(588هـ)، والذي مزَجَ فيه بين الأفلاطونيَّةِ المحدَثةِ وحكمةِ فارسٍ والهندِ، وكذلك مِن أمثالِ المتصوِّفةِ المنحرِفين: «ابنُ عربيِّ (637هـ)»، و«ابنُ سبعينَ (669هـ)»، وغيرُهم مِن أصحابِ «مذهبِ وَحْدةِ الوجودِ»، وأصحابِهم مِن القائلين بمذهبِ «الفَنَاءِ»، ويَعْنون به «فناءَ الذاتِ الإنسانيَّةِ في الذاتِ الإلهيَّة»؛ وهو ما يُشبِهُ عند النصارى: «فناءَ الناسوتِ في اللاهوت».

فهذا هو التصوُّفُ الفلسفيُّ الذي يَصِحُّ أن يُقالَ عنه: «إنه دخيلٌ على الإسلام»، ونحن نُقِرُّ بذلك ولا نُنكِرُه؛ بل نهاجِمُهُ ونبيِّنُ خطَرَهُ وفسادَه.

وعليه: فإن موطنَ الخَلَلِ عند المستشرِقين: هو الخلطُ بين مفاهيمَ أُطلِقَ عليها اسمُ «التصوُّفِ»، وغيرِه، والزعمِ بأن الإسلامَ خالٍ مِن الحياةِ الرُّوحيَّةِ، وقِيَمِ الزهدِ والتنسُّكِ، وأن هذه المعانيَ الرُّوحانيَّةَ هي داخلةٌ عليه، وناتجةٌ مِن تأثُّرِ المسلِمينَ بغيرِهم مِن الثقافاتِ الأخرى، ومحاوَلةُ تجريدِ الإسلامِ عن معاني الأصالةِ والانفرادِ؛ وهذا ما نقولُ بفسادِه.

فالوحيُ نفسُهُ يذُمُّ أصحابَ هذه المذاهبِ والأفكارِ المبتدَعة، ويذُمُّ رهبانيَّةَ أهلِ الكتابِ كالنصارى، وعلماءُ الإسلامِ أنفُسُهم يذُمُّون أصحابَ التصوُّفِ البِدْعيِّ الفلسفيّ، ويتبرَّؤون منه، ويحكُمون على مقالاتِهم بحسَبِ بُعْدِها عن الإسلام؛ فبعضُها مخالَفةٌ يسيرةٌ، وبعضُها مخالَفاتٌ خطيرةٌ تصلُ إلى البدعة، أو ربما تَصِلُ إلى الإلحادِ والكفرِ المُبِين.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

الطعنُ في الإسلامِ واتِّهامُهُ بأنه مسروقٌ مِن أديانٍ أخرى بدليلِ التصوُّف.

مختصَرُ الإجابة:

كلمةُ «التصوُّفِ» كلمةٌ مجمَلةٌ تحتمِلُ تفسيراتٍ مختلِفةً؛ ولهذا لا يُطلَقُ الجوابُ في إثباتِ شيءٍ منها أو تصويبِه، ولا في نفيِ شيءٍ منها أو تخطئتِه؛ حتى يُبيَّنَ المعنى.

فإن «التصوُّفَ» يُطلَقُ على جملةِ أوصافٍ وأفعالٍ، والعلماءُ مختلِفون في وضعِ حدودِهِ؛ ولهذا فننظُرُ:

- فإن كان التصوُّفُ - أقوالُهُ، أو أفعالُهُ - ثابتًا في شريعةِ الإسلامِ، فهو حقٌّ؛ سواءٌ وافَقَ أديانًا أخرى أو لا.

- وإذا كان مخالِفًا لشريعةِ الإسلامِ، فهو باطلٌ، وليس مِن الإسلام؛ سواءٌ وافَقَ أديانًا أخرى أو لا.

والإسلامُ جاء بكمالِ أعمالِ القلبِ والجوارحِ، وهو دِينٌ جاء مِن عندِ اللهِ تعالى، ولا يَمنَعُ أن يكونَ ذلك متوافِقًا مع أيِّ صوابٍ جاء مِن دِينٍ قبله، أو فطرةٍ سليمة.

فاللهُ تعالى هو الذي شرَعَ كلَّ حقٍّ في هذا الدِّينِ، أو في دِينِ الأنبياءِ مِن قبلُ.

و«التصوُّفُ» لفظٌ عربيُّ المَولِدِ، نشأ لظروفٍ تاريخيَّةٍ ومجتمَعيَّةٍ ودينيَّةٍ في المسلِمين، وقد ظهَرتِ الانحرافاتُ الصوفيَّةُ المتأخِّرةُ، مع اتِّصالِ التصوُّفِ بالفلسفةِ؛ فدخَلَ في التصوُّفِ القولُ بالحلولِ والاتِّحادِ، وفناءِ الناسوتِ في اللاهوتِ، ووَحْدةِ الوجودِ، وظهَرَ مذهبُ الإشراقِ، وسيَطَرتِ المذاهبُ الفلسفيَّةُ على التصوُّفِ والمتصوِّفة.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

الطعنُ في الإسلامِ واتِّهامُهُ بأنه مسروقٌ مِن أديانٍ أخرى بدليلِ التصوُّف.

مختصَرُ الإجابة:

كلمةُ «التصوُّفِ» كلمةٌ مجمَلةٌ تحتمِلُ تفسيراتٍ مختلِفةً؛ ولهذا لا يُطلَقُ الجوابُ في إثباتِ شيءٍ منها أو تصويبِه، ولا في نفيِ شيءٍ منها أو تخطئتِه؛ حتى يُبيَّنَ المعنى.

فإن «التصوُّفَ» يُطلَقُ على جملةِ أوصافٍ وأفعالٍ، والعلماءُ مختلِفون في وضعِ حدودِهِ؛ ولهذا فننظُرُ:

- فإن كان التصوُّفُ - أقوالُهُ، أو أفعالُهُ - ثابتًا في شريعةِ الإسلامِ، فهو حقٌّ؛ سواءٌ وافَقَ أديانًا أخرى أو لا.

- وإذا كان مخالِفًا لشريعةِ الإسلامِ، فهو باطلٌ، وليس مِن الإسلام؛ سواءٌ وافَقَ أديانًا أخرى أو لا.

والإسلامُ جاء بكمالِ أعمالِ القلبِ والجوارحِ، وهو دِينٌ جاء مِن عندِ اللهِ تعالى، ولا يَمنَعُ أن يكونَ ذلك متوافِقًا مع أيِّ صوابٍ جاء مِن دِينٍ قبله، أو فطرةٍ سليمة.

فاللهُ تعالى هو الذي شرَعَ كلَّ حقٍّ في هذا الدِّينِ، أو في دِينِ الأنبياءِ مِن قبلُ.

و«التصوُّفُ» لفظٌ عربيُّ المَولِدِ، نشأ لظروفٍ تاريخيَّةٍ ومجتمَعيَّةٍ ودينيَّةٍ في المسلِمين، وقد ظهَرتِ الانحرافاتُ الصوفيَّةُ المتأخِّرةُ، مع اتِّصالِ التصوُّفِ بالفلسفةِ؛ فدخَلَ في التصوُّفِ القولُ بالحلولِ والاتِّحادِ، وفناءِ الناسوتِ في اللاهوتِ، ووَحْدةِ الوجودِ، وظهَرَ مذهبُ الإشراقِ، وسيَطَرتِ المذاهبُ الفلسفيَّةُ على التصوُّفِ والمتصوِّفة.

الجواب التفصيلي



وللتفصيلِ: فـ «التصوُّفُ» ليس لفظًا شرعيًّا خالصًا، بل مصطلَحٌ مجمَلٌ أُطلِقَ على أفكارٍ وسلوكيَّاتٍ مختلِفةٍ، واختلَفَ الباحِثون في حدودِها؛ فبعضُهم يوسِّعُها، وبعضُهم يضيِّقُها، وبالتالي: فهم مختلِفون في بعضِ مفرَداتِها.

وهذه المفرَداتُ بعضُها صحيحٌ - وإن كان يُسمَّى في الشريعةِ باسمٍ آخَرَ - وبعضُها خاطئٌ، وإن فعَلَها بعضُ المسلِمين، أو أناسٌ صالِحون منهم.

فأما المعاني الصحيحةُ - ككثرةِ الذِّكْرِ المشروعِ لله، وتجنُّبِ التعلُّقِ بالمخلوقِين، وتجنُّبِ التَّرَفِ المؤثِّرِ في القلبِ، ونحوِها -: فهي معانٍ إسلاميَّةٌ، سواءٌ سُمِّيَتْ تصوًّفًا أو لا، وأما ما حصَلَ فيها مِن توافُقٍ مع ثقافاتٍ أخرى:

- فإما لأن تلك الثقافاتِ فيها بقيَّةٌ مِن إرثِ الأنبياءِ؛ وكلُّهم يبلِّغون رسالةَ الله.

- وإما لأن العقولَ الصحيحةَ تتوافَقُ عليها، ونحوِ ذلك؛ وهذا لا يخالِفُ أن الإسلامَ جاء بها مِن عندِ اللهِ تعالى.

وأما المعاني الخاطئةُ: فلا يُمكِنُ أن يُحاكَمَ الإسلامُ بها؛ كالقولِ بالحلولِ والاتِّحادِ، وتعظيمِ المقبورِين، أو أصحابِ الشطَحاتِ، وإهمالِ المصالحِ الواجبةِ للنفسِ والأهلِ، أو التعبُّدِ بالرقصِ وبإهمالِ النظافةِ، ونحوِ ذلك؛ فهي ليست مِن الإسلامِ، ولو سُمِّيَتْ بـ «التصوُّفِ الإسلاميِّ»، وكثيرٌ مِن الصُّوَرِ الخاطئةِ موجودةٌ في أديانٍ أو ثقافاتٍ أخرى.

والتصوُّفُ أصلُهُ اللغويُّ: يَرجِعُ إلى لُبْسِ الصُّوفِ، وهناك تفسيراتٌ لغويَّةٌ لـ «التصوُّفِ»، و«الصُّوفيِّ»، وغيرِهِ، هي تفسيراتٌ محتمَلةٌ بحَدٍّ ما.

ولا عَلاقةَ لكلمةِ «التصوُّفِ» بالكلمةِ اليونانيَّةِ «سُوفُس»، كما ادَّعَى بعضُهم؛ بل هي كلمةٌ عربيَّةٌ خالصةٌ، ومشتقَّةٌ مِن اللغةِ العربيَّة، والذي قال بذلك المستشرِقُ الألماني «نيلْدِكَه» نفسُهُ، وأُرِيدَ بها في البدايةِ: تصرُّفاتُ أقوامٍ مخصوصِين، ثم توسَّع الإطلاقُ بها على أفكارٍ وسلوكيَّات، وهي لفظةٌ نابعةٌ مِن الثقافةِ في تلك العصور.

كما أن التفسيرَ الشرعيَّ لـ «التصوُّفِ»، والذي يدُورُ حولَ: «العنايةِ بذكرِ اللهِ تعالى، وتعظيمِ الآخِرةِ على الدنيا، واستحضارِها، وتجنُّبِ ما يُفسِدُ القلبَ، ونحوِ ذلك» -: هي معانٍ إسلاميَّةٌ، نابعةٌ مِن كتابِ اللهِ وسنَّةِ نبيِّهِ ^.

وأما غيرُ ذلك مِن الانحرافاتِ الصوفيَّةِ المتأخِّرةِ عن زمنِ النبوَّةِ، والقرونِ الثلاثةِ الأُولى -: فهي انحرافاتٌ خارجةٌ عن الإسلام، ولا يَعْنِينا الحديثُ عنها، ولا تتبُّعُ مصدرِها.

ويُمكِنُ إزالةُ الإشكالِ الواردِ في السؤالِ مِن خلالِ النِّقاطِ التالية:

أوَّلًا: «التصوُّفُ» لفظٌ عربيُّ المَولِدِ، نشأ لظروفٍ تاريخيَّةٍ ومجتمَعيَّةٍ ودينيَّةٍ في المسلِمين:

يرى الباحِثون في علمِ الألفاظِ: أن لفظةَ «التصوُّفِ» هي اسمٌ مشتَقٌّ، وليس اسمًا جامدًا، واختلَفوا في الأصلِ المشتَقِّ منه على أقوالٍ كثيرةٍ، جميعُها في اللغةِ العربيَّة:

فمنهم: مَن نسَبَهُ إلى صفاءِ القلب.

ومنهم: مَن قال: بأنه نِسْبةٌ إلى أهلِ الصُّفَّة.

وأشهرُ الأقوالِ في أصلِ الاشتقاقِ لهذه اللفظةِ: أنها نِسْبةٌ إلى لُبْسِ الصُّوف؛ نظرًا لما اعتاده بعضُ الزُّهَّادِ في ذلك الوقتِ: إما لضِيقِ ذاتِ اليد، أو موافَقةً مؤقَّتةً لفعلِ بعضِ الأنبياءِ، عليهم السلام.

وذهَبَ بعضُ المستشرِقين إلى محاوَلةِ نسبةِ «التصوُّفِ»: إلى الكلمةِ اليونانيَّةِ «سُوفُوس»، ولكنَّ هذا بعيدٌ كلَّ البعدِ عن الصواب.

وقد حسَمَ خطأَ هذا القولِ المستشرِقُ الألمانيُّ «تيودُور نيلْدِكَه» في مقالٍ مشهورٍ له، نُشِرَ في الجمعيَّةِ المشرقيَّةِ الألمانيَّةِ، سنةَ (1891م)، بيَّن فيه أن هذه الكلمةَ اليونانيَّةَ غيرُ معروفةٍ في اللغةِ الآراميَّة؛ ولهذا يصعُبُ العثورُ عليها في العربيَّةِ، نقلًا عن الآراميَّة، وأنه لا يُوجَدُ دليلٌ صحيحٌ على هذا القول، وأن نِسْبةَ كلمةِ «صُوفيٍّ» إلى «الصُّوفِ» قولٌ قويٌّ تؤيِّدُهُ قواعدُ الاشتقاقِ في اللغةِ العربيَّة.

هذا مِن ناحيةِ الأصالةِ العربيَّةِ للفظةِ «التصوُّف».

ومِن ناحيةِ الدَّلالةِ المصطلَحيَّةِ: فقد اختلَفَ العلماءُ في تأويلِ «التصوُّفِ» شرعًا، وتعدَّدتْ أقوالُهم، لكنها أيضًا كلَّها نابعةٌ مِن البيئةِ الإسلاميَّة.

والمتأمِّلُ في التعريفاتِ التي ذكَرَها علماءُ التصوُّفِ، يَجِدُها تَرجِعُ إلى: «الاتِّصافِ بالزهدِ في الدنيا، وكثرةِ استحضارِ الدارِ الآخِرة، ومراقَبةِ اللهِ تعالى، وكثرةِ الانشغالِ بذِكْرِهِ، والاستعانةِ به، وتركِ الاستعانةِ بالخَلْق»، وهي - بهذا الحدِّ - مستفادةٌ مِن الكتابِ والسنَّة؛ فكثيرًا ما كرَّر القرآنُ في آياتٍ عِدَّةٍ - وكذلك ورَدَ في أحاديثِ السنَّةِ النبويَّةِ -: أن الدنيا لَعِبٌ ولَهْو، وأن الحياةَ الحقيقيَّةَ هي حياةُ الآخِرة.

وقد كان الصالِحون في القرونِ الأُولى في زهدِهم وتصوُّفِهم، ملتزِمين بنصِّ الوحيِ مِن قرآنٍ وسنَّة، ولم يكن تصوُّفُهم محضَ ابتداعٍ في دينِ اللهِ تعالى، ولم يخرُجْ فعلُهم عن جنسِ زهدِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم؛ ولذلك يقولُ الإمامُ الجُنَيدُ - وهو مِن أعلامِ المتصوِّفة -: «مذهبُنا مقيَّدٌ بأصولِ الكتابِ والسنَّة».

 فلما تتابَعَ الزمانُ، وبدأ الناسُ في الإقبالِ على الدنيا والتمسُّكِ بها، وتركِ الزهدِ -: انبَرَى جماعةٌ مِن الناسِ مقبِلين على العبادةِ والذِّكْرِ وتركِ التعلُّقِ بالدنيا، كما كان عليه الجِيلُ الأوَّلُ مِن الصحابة، ولما غَلَبَتْ عليهم بعضُ المظاهرِ، ومنها لُبْسُ الصوفِ، أُطلِقَ عليهم: «المتصوِّفةُ»، أو «الصُّوفيَّة».

ثانيًا: «التصوُّفُ الفلسفيُّ»، و«الانحرافاتُ الصوفيَّةُ المتأخِّرةُ»:

فشا في القرونِ المتأخِّرةِ انحرافاتٌ في التصوُّف، ونشأَتْ فِرَقٌ كثيرة، وكُلُّ فرقةٍ ابتدَعَتْ لها أورادًا خاصَّةً، وطريقةً مختلِفةً في التعبُّد، بما لم يكن عليه الجِيلُ الأوَّلُ مِن المسلِمين، وبالَغَ قومٌ في الانحراف، فادَّعَوْا أنهم يَنزِلُ عليهم وحيٌ مِن السماء، وأنهم يُمكِنُهم أن يَصِلوا إلى مرحلةٍ مِن المراحلِ في العبادة، لا يَلحَقُهم إثمٌ بَعْدَها، وتسقُطُ عنهم التكاليفُ، وأنهم عارِفون بالله، مختصُّون بمعرفةِ أسرارِهِ وغيبِه، إلى آخِرِ ذلك؛ مِن مظاهرِ التدهوُرِ والانحرافِ والرِّياءِ، والقولِ على اللهِ تعالى بغيرِ علمٍ، وادِّعاءِ الوَلايةِ مِن اللهِ تعالى، وهذه الانحرافاتُ كان يتبرَّأُ منها المتصوِّفةُ الأوائلُ، ويتبرَّأُ منها كلُّ متصوِّفٍ سُنِّيٍّ ملتزِمٍ بأصولِ الكتابِ والسنَّة.

وتأثَّر أقوامٌ بالأفكارِ الدخيلةِ على الإسلامِ مِن الفلسفاتِ الأجنبيَّةِ واليونانيَّة، فانحرَفوا بعيدًا عن الكتابِ والسنَّة، وظهَرَ ما يُمكِنُ القولُ بأنه: «تصوُّفٌ فلسفيٌّ»، مزَجَ فيه أصحابُ هذا التصوُّفِ بين الحكمةِ المشرقيَّةِ القديمةِ - أي: تراثِ الهندِ وبلادِ فارسٍ - وبين الفلسفةِ اليونانيَّةِ والأفلاطونيَّةِ والعقائدِ المسيحيَّةِ واليهوديَّة.

فعُرِفَ حينها ما يُسمَّى بـ «مذهبِ الحلولِ والاتِّحادِ» على يدِ «الحَلَّاجِ» المقتولِ سنةَ (309 هـ)، ومعناه: أن اللهَ يحُلُّ في مخلوقاتِه، وظهَرَ «مذهبُ الإشراقِ» على يدِ «شهابِ الدِّينِ السُّهْرَوَرْديِّ» المقتولِ ما بين (586هـ)، و(588هـ)، والذي مزَجَ فيه بين الأفلاطونيَّةِ المحدَثةِ وحكمةِ فارسٍ والهندِ، وكذلك مِن أمثالِ المتصوِّفةِ المنحرِفين: «ابنُ عربيِّ (637هـ)»، و«ابنُ سبعينَ (669هـ)»، وغيرُهم مِن أصحابِ «مذهبِ وَحْدةِ الوجودِ»، وأصحابِهم مِن القائلين بمذهبِ «الفَنَاءِ»، ويَعْنون به «فناءَ الذاتِ الإنسانيَّةِ في الذاتِ الإلهيَّة»؛ وهو ما يُشبِهُ عند النصارى: «فناءَ الناسوتِ في اللاهوت».

فهذا هو التصوُّفُ الفلسفيُّ الذي يَصِحُّ أن يُقالَ عنه: «إنه دخيلٌ على الإسلام»، ونحن نُقِرُّ بذلك ولا نُنكِرُه؛ بل نهاجِمُهُ ونبيِّنُ خطَرَهُ وفسادَه.

وعليه: فإن موطنَ الخَلَلِ عند المستشرِقين: هو الخلطُ بين مفاهيمَ أُطلِقَ عليها اسمُ «التصوُّفِ»، وغيرِه، والزعمِ بأن الإسلامَ خالٍ مِن الحياةِ الرُّوحيَّةِ، وقِيَمِ الزهدِ والتنسُّكِ، وأن هذه المعانيَ الرُّوحانيَّةَ هي داخلةٌ عليه، وناتجةٌ مِن تأثُّرِ المسلِمينَ بغيرِهم مِن الثقافاتِ الأخرى، ومحاوَلةُ تجريدِ الإسلامِ عن معاني الأصالةِ والانفرادِ؛ وهذا ما نقولُ بفسادِه.

فالوحيُ نفسُهُ يذُمُّ أصحابَ هذه المذاهبِ والأفكارِ المبتدَعة، ويذُمُّ رهبانيَّةَ أهلِ الكتابِ كالنصارى، وعلماءُ الإسلامِ أنفُسُهم يذُمُّون أصحابَ التصوُّفِ البِدْعيِّ الفلسفيّ، ويتبرَّؤون منه، ويحكُمون على مقالاتِهم بحسَبِ بُعْدِها عن الإسلام؛ فبعضُها مخالَفةٌ يسيرةٌ، وبعضُها مخالَفاتٌ خطيرةٌ تصلُ إلى البدعة، أو ربما تَصِلُ إلى الإلحادِ والكفرِ المُبِين.