نص السؤال
كيف نُؤمِنُ بالغيبِ، ونحنُ لم نَرَهُ؟ إذْ كيف نُؤمِنُ بشيءٍ لا نُدرِكُه؟
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
المنهجُ الحسِّيُّ التجريبيُّ، والإيمانُ بالغيبيَّات.
مشكِلاتُ المنهجِ الحسِّيِّ التجريبيّ. بطلانُ المذهبِ الحسِّيِّ التجريبيّ.
الجواب التفصيلي
يُمكِنُ إزالةُ الإشكالِ الواردِ في السؤالِ مِن خلالِ النِّقاطِ التالية: أوَّلًا: المذهبُ الحسِّيُّ التجريبيُّ، «النشأةُ والتطوُّراتُ والأساسُ الفلسفيّ»: تَمتَدُّ جذورُ «المذهبِ الحسِّيِّ» إلى عصورٍ قديمةٍ في الفكرِ الإنسانيِّ؛ فقد ظهَرَ أوَّلَ أمرِهِ في العصرِ اليونانيِّ، ومِن أقدمِ المدارسِ التي نُقِلَ عنها الأخذُ به: هي «المدرسةُ الذَّرِّيَّةُ»، التي ذهَبَتْ إلى أن الوجودَ كلَّه يَنحَلُّ إلى ذرَّاتٍ صغيرةٍ لا تَقبَلُ الانقسامَ، وقالوا: «إن الحَوَاسَّ هي المصدرُ الوحيدُ للمعرفةِ عند الإنسان، وإن كُلَّ معرفةٍ لدَيْهِ تَرجِعُ إلى الحسِّ»، وشاع هذا المذهبُ كثيرًا في العهدِ اليونانيِّ، حتى اضطُرَّ أفلاطُونُ وأَرِسْطُو إلى نقضِهِ وتقويضِ أصولِه. وما زال «المذهبُ الحسِّيُّ التجريبيُّ» يسيرُ على نسَقٍ واحدٍ عبرَ التاريخِ الفلسفيِّ الطويل، حتى بلَغَ عصرَ الفلسفةِ الحديثة، وفي هذا العصرِ: شَهِدَ المذهبُ الحسِّيُّ تطوُّرًا كبيرًا في رؤيتِهِ وأدلَّتِه، وتحوَّل إلى منظومةٍ معرفيَّةٍ واسعةِ الانتشار، وعميقةِ التأثير؛ كما هو الحالُ مع الفيلسوفِ الإنجليزيِّ: «جُون لُوك»؛ فهو يُعَدُّ المؤسِّسَ الفعليَّ للمذهبِ الحسِّيِّ في صورتِهِ الحديثة؛ ولذلك يقولُ «بِرْتْرَانْد راسِلْ» في كتابِهِ «تاريخِ الفلسفةِ الغربيَّة»: «وقد يُعتبَرُ لُوك مؤسِّسًا للتجريبيَّة، وهي النظرةُ القائلةُ بأن معرفتَنا كلَّها - مع إمكانِ استثناءِ المنطقِ والرِّياضيَّات - مستمَدَّةٌ مِن التجرِبة». ثم بعد ذلك اكتمَلَ المذهبُ الحسِّيُّ على يدِ «دِيفِيد هُيُوم»؛ فإنه أكَّد أن المعرفةَ الإنسانيَّةَ جميعَها راجعةٌ إلى المعطَياتِ الحسِّيَّةِ فقطْ، وقد أدَّى به الحالُ إلى «الشكِّ واللاأَدْرِيَّةِ المستحكِمة». وتابَعَ «لُوك» و«هُيُوم» أناسٌ كثيرون، ومذاهبُ عديدة، ومناهجُ شتَّى؛ كالمارْكِسيَّةِ، والوضعيَّةِ، والبْرَاجْماتيَّة، وكلُّها تبنَّتْ هذا المنهجَ الحسِّيَّ، ورتَّبتْ على ذلك مواقفَ دينيَّةً كثيرةً، منها ما نتناوَلُهُ في هذه الإجابةِ، وهو: «إنكارُ الغيبيَّات»؛ لأنها لا تَخضَعُ للمنهجِ «الحسِّيِّ التجريبيِّ» عندهم. ثانيًا: الإشكالاتُ المنهجيَّةُ والعلميَّةُ للمذهبِ الحسِّيّ: وسنكتفي بنقضِ المذهبِ الحسِّيِّ التجريبيِّ مِن خمسةِ أوجُهٍ: الأوَّلُ: استحالةُ إقامةِ البرهانِ على صِدْقِ الدعوى: ومعناه: أن دعوى حصرِ مصادرِ المعرفةِ في الحسِّ، مجرَّدُ دعوى مِن الدعاوى، لا بُدَّ مِن إقامةِ الدليلِ على صدقِها، ولا يخلو حالُ الحسِّيِّين مِن أمرَيْن: - إما أن يكونَ مستنَدُ علمِهم بهذه الدعوى كونَها قضيَّةً بَدَهيَّةً ضروريَّةً، وإن كان كذلك، فقد ناقَضوا أنفُسَهم؛ لأن البَدَهيَّاتِ ليست مِن الحسِّيَّات، وإن كانت تجريدًا للحسِّيَّات. - وإن كان مستنَدُهم الاستدلالَ والنظَرَ، فلا يَخْلو استدلالُهم مِن أمرَيْن: إما أن يكونَ استدلالُهم على حصرِ المعرفةِ في المنهجِ الحسِّيِّ راجعًا إلى دَلالةِ العقل؛ فقد ناقَضوا أنفُسَهم أيضًا. وإما أن يكونَ راجعًا إلى دليلِ الحسِّ ذاتِه؛ وهذا مَعِيبٌ جِدًّا، ومتضمِّنٌ لخَلَلٍ منهجيٍّ كبيرٍ، وهو: «الاستدلالُ على الشيءِ بنفسِه». ومع ذلك: فإن استدلالَهم بالحسِّ على دَعْواهم بأن الحسَّ نفسَهُ هو المصدرُ الوحيدُ للمعرِفة: - إما أن يكونَ عن طريقِ الاستقراءِ التامِّ لكلِّ الأحوالِ المعرِفيَّةِ عند الإنسان؛ وهذا أمرٌ مستحيلٌ ومتعذِّرٌ، ولا يُمكِنُ إثباتُهُ واقعًا ولا حالًا. - وإما أن يكونَ عن طريقِ الاستقراءِ الناقصِ، ولكنَّ هذا النوعَ لا يَنفَعُ في تصحيحِ مذهبِهم؛ لأن التجرِبةَ الحسِّيَّةَ تجربةٌ جزئيَّةٌ، ولا تَملِكُ القدرةَ على التعميم. وبهذا يتبيَّنُ أوَّلُ مواطنِ الفسادِ والخَلَلِ في المذهبِ الحسِّيِّ التجريبيِّ؛ وهو استحالةُ البرهنةِ على حصرِ المعرفةِ فيه. الثاني: اختزالُ المعرفةِ الإنسانيَّةِ الرَّحْبة: ومعناه: أن المذهبَ الحسِّيَّ يحصُرُ مصادرَ المعرفةِ الإنسانيَّةِ على مصدرٍ واحدٍ، وهو الحسُّ فقطْ، والحقيقةُ: أن طبيعةَ المعرفةِ الإنسانيَّةِ يستحيلُ فيها أن تقتصِرَ على مصدرٍ واحدٍ؛ وذلك أن ما يَعلَمُهُ الإنسانُ مختلِفٌ في طبيعتِهِ؛ فمنه: ما هو متعلِّقٌ بالأمورِ الوجوديَّةِ الواقعيَّة، ومنه: ما هو متعلِّقٌ بالقِيَمِ والأخلاق، ومنه: ما هو متعلِّقٌ بالأمورِ الغائبةِ عنه؛ إما في المستقبل، أو الماضي. وهذا يُثبِتُ أن المعرفةَ الإنسانيَّةَ معرفةٌ تركيبيَّةٌ تداخُليَّةٌ، تتضافَرُ في تكوينِها مصادرُ متعدِّدةٌ؛ فيشترِكُ «الحسُّ»، و«العقلُ»، و«الأخبارُ الصادقةُ»؛ في تأسيسِها وإنشائِها. فالكليَّاتُ العقليَّةُ اليقينيَّةُ ليست حسِّيَّةً، وإن كانت مجرَّدةً مِن الحسِّيَّات، ومنتزَعةً منها. وإلا فما هو مصدرُ معرفتِنا اليقينيَّةِ: بأن الشيءَ لا يكونُ قديمًا ومحدَثًا، وأن الشخصَ لا يكونُ حيًّا وميِّتًا في حالٍ واحدٍ، وأنَّ كلَّ فعلٍ لا بُدَّ له مِن فاعلٍ، وغيرِ ذلك مِن المبادئِ العقليَّةِ الضروريَّةِ التي يَعلَمُها الطِّفلُ في نفسِهِ بَدَاهةً وإن كانت اعتمادًا وقياسًا على تجريبٍ سابقٍ، مُدرَكٍ بالحِسّ؟! الثالثُ: إرباكُ المعرفةِ الإنسانيَّة: وذلك أن المعرفةَ الإنسانيَّةَ تستنِدُ بشكلٍ كبيرٍ إلى فكرةِ الاستحالة؛ ولكنَّ «المذهبَ الحسِّيَّ» يؤدِّي بالضرورةِ إلى إنكارِ هذه الفكرة، ووجهُ ذلك: أن حقيقةَ الاستحالةِ تَرجِعُ إلى «الحُكْمِ بعدمِ إمكانِ وجودِ الشيء»، وإثباتُ ذلك ليس مما يدخُلُ في قدرةِ الحسِّ؛ لأن قُصارَى ما يُمكِنُ أن يدُلَّ عليه الحسُّ: إدراكُ عدمِ وجودِ أشياءَ معيَّنةٍ ومحدَّدةٍ، ولكنَّ الحُكْمَ بعدمِ وجودِ الشيءِ المعيَّنِ المحدَّدِ لا يستلزِمُ الحكمَ باستحالةِ وجودِهِ بالضرورة؛ لأن الحكمَ بالاستحالةِ أمرٌ عقليٌّ كلِّيٌّ، وهو قَدْرٌ زائدٌ على الحكمِ بعدمِ الوجود؛ فالأشياءُ التي لم يتحقَّقْ وجودُها في الخارجِ نوعان: منها: ما لم يتحقَّقْ وجودُهُ؛ لكونِهِ مستحيلَ التحقُّق؛ مِثلُ وجودِ مثلَّثٍ له أربعةُ أضلاع. ومنها: ما لم يتحقَّقْ وجودُهُ، مع كونِهِ ممكِنَ الوجودِ والتحقُّقِ؛ لكونِهِ مما لم يُوجَدْ ما يُوجِبُ وجودَهُ؛ كوجودِ بحرٍ مِن زِئبَقٍ. والمذهبُ الحسِّيُّ عاجزٌ عن التفريقِ بين النوعَيْنِ؛ لأن غايةَ ما يصلُ إليه إدراكُ الحسِّ: عدمُ الوجود، وليس لدَيْهِ القدرةُ على إدراكِ ما وراء ذلك مِن المعاني الموجِبةِ لعدمِ تحقُّقِ الوجودِ الخارجيّ. وبناءً على ما سبَقَ: فإن لأتباعِ المنهجِ الحسِّيِّ مِن هذه القضيَّةِ أحدَ خيارَيْنِ لا ثالثَ لهما: - إما أن يُقِرُّوا باستحالةِ بعضِ الأمورِ المعدومة؛ كاستحالةِ مثلَّثٍ له أربعةُ أضلاعٍ، واستحالةِ وجودِ الشيءِ في مكانَيْنِ في آنٍ واحد، فإنْ فعَلوا ذلك، وهذا أمرٌ غيرُ مدرَكٍ بالحسِّ والتجريب؛ فقد ناقَضوا أصلَ فكرةِ مذهبِهم، وحكَموا عليها بالبطلان؛ وهو أن الحسَّ هو مصدرُ المعرفةِ الوحيد. - وإما أن يُنكِروا مفهومَ الاستحالة، ويَذهَبوا إلى أنه لا يُوجَدُ أيُّ شيءٍ مستحيلِ الوجودِ في الواقع؛ استنادًا إلى هذه المعرفةِ الحسِّيَّةِ الجزئيَّةِ، وهي هنا معرفةٌ سلبيَّةٌ؛ فهذا إرباكٌ للمعرفةِ الإنسانيَّة، وإدخالٌ لها في مَتَاهاتٍ مِن الشكِّ والاضطراب؛ لأن إسقاطَ «مفهومِ الاستحالةِ»، يستلزِمُ بالضرورةِ إسقاطَ «مفهومِ التناقُض»، ومعنى هذا الإسقاطِ: تجويزُ وقوعِ كلِّ شيءٍ في الوجود، ومثلُ هذه النتيجةِ تؤدِّي حتمًا إلى انهيارِ المعرفةِ الإنسانيَّةِ، وتهشُّمِ بُنْيانِها. بل إنها تؤدِّي إلى انهيارِ المذهبِ الحسِّيِّ ذاتِه؛ لأنه - مع تجويزِ التناقُضِ - لم يَعُدْ في قدرةِ الحسِّيِّين إثباتُ صحَّةِ مذهبِهم، والدفاعُ عنه، أي: إزاحةُ الشكِّ والتردُّدِ حوله، ولم يَعُدْ للإنسانِ خيارٌ إلى الارتماءِ في مَتَاهاتِ الشكوكِ والأوهام. الرابعُ: إبطالُ الاستدلالِ المعرفيّ: وذلك أن النظامَ المعرفيَّ قائمٌ على الاستدلال؛ لأن إدراكَ الإنسانِ بنفسِهِ لكلِّ التفاصيلِ الحياتيَّةِ متعذِّرٌ ومستحيل؛ فليس هناك مِن سبيلٍ إلى نقلِ الحكمِ مِن الأشياءِ المدرَكةِ إلى الأشياءِ غيرِ المدرَكةِ إلا بالاستدلالِ - الذي هو الاعتبارُ، أو القياسُ - فقطْ، والاستدلالُ عمليَّةٌ قائمةٌ على التلازُمِ والترابُطِ بين الأمور، والتلازُمُ معنًى عقليٌّ ليس مما يُدرَكُ بالحسِّ، أو مما يقَعُ تحت الحسِّ - وإن كان معتمِدًا على الحسِّ، ومقيسًا عليه - لأن غايةَ ما يُدرِكُهُ الحسُّ أمورٌ جزئيَّةٌ مفرَدةٌ، فلو اقتصَرْنا على ما يُدرِكُهُ الحسُّ، لبَطَلَ الاستدلالُ حينئذٍ، ولأَصبَحتِ المعرفةُ الإنسانيَّةُ عبارةً عن أجزاءٍ منفصِلةٍ، لا عَلاقةَ بينها في شيء، ولا تركيبَ فيما بينها، وفي كلِّ ذلك إفسادٌ لجوهرِ المعرفةِ ورُوحِها. وبطلانُ الاستدلالِ يؤدِّي - بالضرورةِ - إلى بطلانِ المذهبِ الحسِّيِّ نفسِه؛ لأن أتباعَهُ سيكونون عاجِزين - بالضرورةِ - عن إقامةِ الدليلِ على صحَّةِ مبدئِهم. الخامسُ: إبطالُ التنبُّؤِ العلميّ: وهذا الأمرُ - في الحقيقةِ - مندرِجٌ ضِمنَ الأمرِ السابق، ولكنَّنا فَصَلْناهُ؛ لأنه بإظهارِهِ ينجلي الإشكالُ المنهجيُّ المترتِّبُ على المذهبِ الحسِّيِّ بصورتِهِ الحقيقيَّة. فالأساسُ الفلسفيُّ للمذهبِ الحسِّيِّ يستلزِمُ بالضرورةِ إبطالَ الاستدلالِ على الأمورِ المستقبليَّةِ، والتنبُّؤِ بمجرَياتِها؛ لأن الاستدلالَ على الأمورِ المستقبليَّةِ مبنيٌّ على التسليمِ بثباتِ خصائصِ الأشياء، والتسليمِ بقانونِ اطِّرادِ الأحداثِ واتِّساقِ مَسيرتِها، ولكنَّ الحسَّ لا يُدرِكُ هذا القانونَ؛ لكونِهِ معنًى عقليًّا يُدرَكُ بالعقل، ولا وجودَ له في المدرَكاتِ الحسِّيَّة - وإن كانت كلُّ القوانينِ منتزَعةً بواسطةِ العقلِ مِن المدرَكاتِ الحسِّيَّةِ الجزئيَّة، انتزاعَ الكلِّيَّاتِ مِن الجزئيَّات - ولأجلِ هذا توارَدَ أتباعُ المذهبِ الحسِّيِّ على إنكارِ «مبدأِ السببيَّةِ»، و«مبدأِ الاطِّراد». فوقَعَ الحسِّيُّون بسببِ ذلك في مأزِقٍ معرفيٍّ شديدِ التعقيد؛ وذلك أنهم مِن أكثرِ مَن نادى بالاعتمادِ على المنهجِ الاستقرائيِّ، وعوَّلوا عليه وحده في بناءِ المعرفة، وادَّعَوْا أنه المنهجُ العلميُّ الوحيدُ، ولكنَّهم - في الوقتِ نفسِهِ - يؤمِنون بأصولٍ فلسفيَّةٍ تَقْضي على مبرِّراتِ ذلك المنهج، وتَنسِفُ قواعدَهُ التي يقومُ عليها مِن أساسِها. وعليه: فإن إنكارَ الغيبيَّاتِ اعتمادًا على مذهبٍ باطلٍ في أساسِه، وباطلٍ في بنائِه - وهو أنه لا مصدرَ للمعرفةِ إلا الحسُّ -: أمرٌ باطلٌ؛ لأن ما بُنِيَ على باطلٍ، فهو باطلٌ مِثْلُه. والحاصلُ: أنه لا بُدَّ أن يُقِرَّ الإنسانُ: أن عَقْلَهُ وقُدُراتِهِ قاصرةٌ عن الإحاطةِ بالموجودات، وأن تفاصيلَ أمورِ الغيبِ فوق مدارِكِه، وأنه أُمِرَ بالإيمانِ بها؛ وهذا أحدُ أركانِ الإيمانِ الذي لا يَصِحُّ إيمانُ العبدِ إلا به؛ لأنه نابعٌ مِن الإيمانِ بقدرةِ اللهِ المطلَقة. وأخيرًا: فإننا نقولُ: إننا لو سلَّمنا أن مصدرَ المعرفةِ الوحيدَ هو الحسُّ؛ كما يقولُ أصحابُ هذا المذهبِ، فإن عالَمَ الغيبِ مما يُمكِنُ الإحساسُ به، بل هو محسوسٌ بالفعلِ؛ فإنه قد أُحِسَّ به في الدنيا، وسيُعلَمُ بالحواسِّ أيضًا في الآخرةِ، فإن الصوابَ: أنَّ ما لا يُمكِنُ الإحساسُ به، فهو معدومٌ، لا موجودٌ: قال ابنُ تيميَّةَ في «الصفَديَّة» (2/ 284): «وأما ما أخبَرتْ به الرسُلُ مِن الغَيْبِ، فليس هو معقولًا مجرَّدًا في النَّفْسِ [أي: كما يقولُ الفلاسفة]، ولا هو موجودٌ في الخارجِ لا يُحَسُّ به بحالٍ [أي: كما يقولُ المتكلِّمون]، بل هو مما يُحَسُّ به كما أخبَرتْ بالملائكةِ والجنِّ وغيرِ ذلك، وكلُّ ذلك مما يجُوزُ رؤيتُهُ والإحساسُ به، وكذلك: ما أخبَرتْ به [الرسُلُ] مِن الجَنَّةِ والنارِ: هو مما يُحَسُّ به، وكذلك: الربُّ تبارَكَ وتعالى وتقدَّس وتعظَّم، تجُوزُ رؤيتُه، بل يُرَى بالأبصارِ في الآخرةِ؛ في عَرَصاتِ القيامةِ، وفي الجَنَّةِ؛ كما تواتَرتْ بذلك النصوصُ عن النبيِّ ^، واتفَقَ عليه سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها - مِن الصحابةِ والتابِعين لهم بإحسانٍ - وأئمَّةُ المسلِمين. ولهذا فرَّقتِ الرسُلُ بين هذا وذاك؛ بأن هذا شهادةٌ، أي: مشهودٌ لنا محسوسٌ الآنَ، وذاك غيبٌ، أي: غائبٌ عنا الآنَ لا نَشهَدُهُ؛ وهذا فرقٌ إضافيٌّ باعتبارِ حالِنا في شهودِهِ الآنَ، وعدَمِ شهودِهِ؛ فإذا مِتْنا، صار الغيبُ شهادةً، وشَهِدْنا ما كانت الرسُلُ أخبَرتْ به، وكان غيبًا عنا؛ قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] ، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 30] ...». وقال في «الردِّ على المنطقيِّين» (ص 309-310): «وأما ما أخبَرتْ به الرسلُ صلَواتُ اللهِ عليهم مِن «الغيب»: فهو أمورٌ موجودةٌ ثابتةٌ أكمَلَ وأعظَمَ مما نَشهَدُهُ نحنُ في هذه الدار، وتلك أمورٌ محسوسةٌ تُشاهَدُ وتُحَسُّ، ولكنْ بعد الموتِ، وفي الدارِ الآخِرة، ويُمكِنُ أن يَشهَدَها في هذه الدارِ مَن يختصُّهُ اللهُ بذلك، ليست عقليَّةً قائمةً بالعقل؛ ولهذا كان الفرقُ بينها وبين «الحِسِّيَّاتِ» التي نَشهَدُها: أن تلك «غَيْبٌ»، وهذه «شهادةٌ»؛ قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] ، وكَوْنُ الشيءِ «غائبًا»، و«شاهدًا»: أمرٌ إضافيٌّ بالنسبةِ إلينا؛ فإذا غاب عنَّا، كان: «غَيْبًا»، وإذا شَهِدناهُ، كان: «شهادةً»؛ وليس هو فرقًا يعُودُ إلى: «أن ذاتَهُ تُعقَلُ، ولا تُشهَدُ، ولا تُحَسُّ»، بل: «كلُّ ما يُعقَلُ، ولا يُمكِنُ أن يُشهَدَ بحالٍ، فإنما يكونُ في الذهن». و«الملائكةُ»: يُمكِنُ أن يُشهَدوا ويُرَوْا، و«الربُّ تعالى»: يُمكِنُ رؤيتُهُ بالأبصارِ، والمؤمِنون يَرَوْنَهُ يومَ القيامةِ، وفي الجَنَّةِ؛ كما تواتَرَتِ النصوصُ في ذلك، عن النبيِّ ^، واتَّفَقَ على ذلك سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها. و«إمكانُ رؤيتِهِ»: يُعلَمُ بالدلائلِ العقليَّةِ القاطعة، لكنْ ليس هو «الدليلَ» الذي سلَكهُ طائفةٌ مِن أهلِ الكلامِ؛ كأبي الحسَنِ [الأشعريِّ]، وأمثالِهِ؛ حيثُ ادَّعَوْا: «أن كلَّ موجودٍ يُمكِنُ رؤيتُهُ»، بل قالوا: «ويُمكِنُ أن تتعلَّقَ به الحَوَاسُّ الخمسُ: السَّمْعُ، والبصَرُ، والشَّمُّ، والذَّوْقُ، واللَّمْسُ»؛ فإن هذا مما يُعلَمُ فسادُهُ بالضرورةِ عند جماهيرِ العقلاء». وينظر: «درءُ تعارُضِ العقلِ والنقل» (5/ 171-175). |
مختصر الجواب
إنكارُ الغيبيَّاتِ اعتمادًا على المذهبِ الحسِّيِّ، أمرٌ لا يستقيمُ بحال؛ لأن عدمَ الإدراكِ الحسِّيِّ للشيءِ لدى بعضِ مَن له إدراكٌ ليس دليلًا على عدمِ وجودِه، ولا على أنه غيرُ ممكِنٍ الإحساسُ به لدى آخَرين.
كما أن الأمورَ الغيبيَّةَ أمورٌ يقينيَّةٌ؛ لأنها قائمةٌ على أدلَّةٍ قطعيَّة؛ كالخبَرِ الصادقِ، والدَّلالةِ العقليَّةِ على وجودِ إلهٍ خالقٍ له مطلَقُ العلمِ والقدرة.
كما أنه لا يُوجَدُ إنسانٌ قادرٌ على إنكارِ الغيبِ بدليلٍ قاطعٍ، بل الإيمانُ بالغيبِ ضرورةٌ عقليَّةٌ وإنسانيَّة.
وأخيرًا: فإننا نقولُ: إننا لو سلَّمنا أن مصدرَ المعرفةِ الوحيدَ هو الحسُّ؛ كما يقولُ أصحابُ هذا المذهبِ، فإن عالَمَ الغيبِ مما يُمكِنُ الإحساسُ به، بل هو محسوسٌ بالفعلِ؛ فإنه قد أُحِسَّ به في الدنيا، وسيُعلَمُ بالحواسِّ أيضًا في الآخرةِ، والصوابُ: أنَّ ما لا يُمكِنُ الإحساسُ به، فهو معدومٌ، لا موجودٌ؛ كما ذكَرَ العلماء. ينظر: «الصفَديَّة» (2/ 284)، و«الردِّ على المنطقيِّين» (ص 309-310)، و«درءُ تعارُضِ العقلِ والنقل» (5/ 171-175)؛ جميعُها لابنِ تيميَّةَ.
مختصر الجواب
إنكارُ الغيبيَّاتِ اعتمادًا على المذهبِ الحسِّيِّ، أمرٌ لا يستقيمُ بحال؛ لأن عدمَ الإدراكِ الحسِّيِّ للشيءِ لدى بعضِ مَن له إدراكٌ ليس دليلًا على عدمِ وجودِه، ولا على أنه غيرُ ممكِنٍ الإحساسُ به لدى آخَرين.
كما أن الأمورَ الغيبيَّةَ أمورٌ يقينيَّةٌ؛ لأنها قائمةٌ على أدلَّةٍ قطعيَّة؛ كالخبَرِ الصادقِ، والدَّلالةِ العقليَّةِ على وجودِ إلهٍ خالقٍ له مطلَقُ العلمِ والقدرة.
كما أنه لا يُوجَدُ إنسانٌ قادرٌ على إنكارِ الغيبِ بدليلٍ قاطعٍ، بل الإيمانُ بالغيبِ ضرورةٌ عقليَّةٌ وإنسانيَّة.
وأخيرًا: فإننا نقولُ: إننا لو سلَّمنا أن مصدرَ المعرفةِ الوحيدَ هو الحسُّ؛ كما يقولُ أصحابُ هذا المذهبِ، فإن عالَمَ الغيبِ مما يُمكِنُ الإحساسُ به، بل هو محسوسٌ بالفعلِ؛ فإنه قد أُحِسَّ به في الدنيا، وسيُعلَمُ بالحواسِّ أيضًا في الآخرةِ، والصوابُ: أنَّ ما لا يُمكِنُ الإحساسُ به، فهو معدومٌ، لا موجودٌ؛ كما ذكَرَ العلماء. ينظر: «الصفَديَّة» (2/ 284)، و«الردِّ على المنطقيِّين» (ص 309-310)، و«درءُ تعارُضِ العقلِ والنقل» (5/ 171-175)؛ جميعُها لابنِ تيميَّةَ.
الجواب التفصيلي
يُمكِنُ إزالةُ الإشكالِ الواردِ في السؤالِ مِن خلالِ النِّقاطِ التالية: أوَّلًا: المذهبُ الحسِّيُّ التجريبيُّ، «النشأةُ والتطوُّراتُ والأساسُ الفلسفيّ»: تَمتَدُّ جذورُ «المذهبِ الحسِّيِّ» إلى عصورٍ قديمةٍ في الفكرِ الإنسانيِّ؛ فقد ظهَرَ أوَّلَ أمرِهِ في العصرِ اليونانيِّ، ومِن أقدمِ المدارسِ التي نُقِلَ عنها الأخذُ به: هي «المدرسةُ الذَّرِّيَّةُ»، التي ذهَبَتْ إلى أن الوجودَ كلَّه يَنحَلُّ إلى ذرَّاتٍ صغيرةٍ لا تَقبَلُ الانقسامَ، وقالوا: «إن الحَوَاسَّ هي المصدرُ الوحيدُ للمعرفةِ عند الإنسان، وإن كُلَّ معرفةٍ لدَيْهِ تَرجِعُ إلى الحسِّ»، وشاع هذا المذهبُ كثيرًا في العهدِ اليونانيِّ، حتى اضطُرَّ أفلاطُونُ وأَرِسْطُو إلى نقضِهِ وتقويضِ أصولِه. وما زال «المذهبُ الحسِّيُّ التجريبيُّ» يسيرُ على نسَقٍ واحدٍ عبرَ التاريخِ الفلسفيِّ الطويل، حتى بلَغَ عصرَ الفلسفةِ الحديثة، وفي هذا العصرِ: شَهِدَ المذهبُ الحسِّيُّ تطوُّرًا كبيرًا في رؤيتِهِ وأدلَّتِه، وتحوَّل إلى منظومةٍ معرفيَّةٍ واسعةِ الانتشار، وعميقةِ التأثير؛ كما هو الحالُ مع الفيلسوفِ الإنجليزيِّ: «جُون لُوك»؛ فهو يُعَدُّ المؤسِّسَ الفعليَّ للمذهبِ الحسِّيِّ في صورتِهِ الحديثة؛ ولذلك يقولُ «بِرْتْرَانْد راسِلْ» في كتابِهِ «تاريخِ الفلسفةِ الغربيَّة»: «وقد يُعتبَرُ لُوك مؤسِّسًا للتجريبيَّة، وهي النظرةُ القائلةُ بأن معرفتَنا كلَّها - مع إمكانِ استثناءِ المنطقِ والرِّياضيَّات - مستمَدَّةٌ مِن التجرِبة». ثم بعد ذلك اكتمَلَ المذهبُ الحسِّيُّ على يدِ «دِيفِيد هُيُوم»؛ فإنه أكَّد أن المعرفةَ الإنسانيَّةَ جميعَها راجعةٌ إلى المعطَياتِ الحسِّيَّةِ فقطْ، وقد أدَّى به الحالُ إلى «الشكِّ واللاأَدْرِيَّةِ المستحكِمة». وتابَعَ «لُوك» و«هُيُوم» أناسٌ كثيرون، ومذاهبُ عديدة، ومناهجُ شتَّى؛ كالمارْكِسيَّةِ، والوضعيَّةِ، والبْرَاجْماتيَّة، وكلُّها تبنَّتْ هذا المنهجَ الحسِّيَّ، ورتَّبتْ على ذلك مواقفَ دينيَّةً كثيرةً، منها ما نتناوَلُهُ في هذه الإجابةِ، وهو: «إنكارُ الغيبيَّات»؛ لأنها لا تَخضَعُ للمنهجِ «الحسِّيِّ التجريبيِّ» عندهم. ثانيًا: الإشكالاتُ المنهجيَّةُ والعلميَّةُ للمذهبِ الحسِّيّ: وسنكتفي بنقضِ المذهبِ الحسِّيِّ التجريبيِّ مِن خمسةِ أوجُهٍ: الأوَّلُ: استحالةُ إقامةِ البرهانِ على صِدْقِ الدعوى: ومعناه: أن دعوى حصرِ مصادرِ المعرفةِ في الحسِّ، مجرَّدُ دعوى مِن الدعاوى، لا بُدَّ مِن إقامةِ الدليلِ على صدقِها، ولا يخلو حالُ الحسِّيِّين مِن أمرَيْن: - إما أن يكونَ مستنَدُ علمِهم بهذه الدعوى كونَها قضيَّةً بَدَهيَّةً ضروريَّةً، وإن كان كذلك، فقد ناقَضوا أنفُسَهم؛ لأن البَدَهيَّاتِ ليست مِن الحسِّيَّات، وإن كانت تجريدًا للحسِّيَّات. - وإن كان مستنَدُهم الاستدلالَ والنظَرَ، فلا يَخْلو استدلالُهم مِن أمرَيْن: إما أن يكونَ استدلالُهم على حصرِ المعرفةِ في المنهجِ الحسِّيِّ راجعًا إلى دَلالةِ العقل؛ فقد ناقَضوا أنفُسَهم أيضًا. وإما أن يكونَ راجعًا إلى دليلِ الحسِّ ذاتِه؛ وهذا مَعِيبٌ جِدًّا، ومتضمِّنٌ لخَلَلٍ منهجيٍّ كبيرٍ، وهو: «الاستدلالُ على الشيءِ بنفسِه». ومع ذلك: فإن استدلالَهم بالحسِّ على دَعْواهم بأن الحسَّ نفسَهُ هو المصدرُ الوحيدُ للمعرِفة: - إما أن يكونَ عن طريقِ الاستقراءِ التامِّ لكلِّ الأحوالِ المعرِفيَّةِ عند الإنسان؛ وهذا أمرٌ مستحيلٌ ومتعذِّرٌ، ولا يُمكِنُ إثباتُهُ واقعًا ولا حالًا. - وإما أن يكونَ عن طريقِ الاستقراءِ الناقصِ، ولكنَّ هذا النوعَ لا يَنفَعُ في تصحيحِ مذهبِهم؛ لأن التجرِبةَ الحسِّيَّةَ تجربةٌ جزئيَّةٌ، ولا تَملِكُ القدرةَ على التعميم. وبهذا يتبيَّنُ أوَّلُ مواطنِ الفسادِ والخَلَلِ في المذهبِ الحسِّيِّ التجريبيِّ؛ وهو استحالةُ البرهنةِ على حصرِ المعرفةِ فيه. الثاني: اختزالُ المعرفةِ الإنسانيَّةِ الرَّحْبة: ومعناه: أن المذهبَ الحسِّيَّ يحصُرُ مصادرَ المعرفةِ الإنسانيَّةِ على مصدرٍ واحدٍ، وهو الحسُّ فقطْ، والحقيقةُ: أن طبيعةَ المعرفةِ الإنسانيَّةِ يستحيلُ فيها أن تقتصِرَ على مصدرٍ واحدٍ؛ وذلك أن ما يَعلَمُهُ الإنسانُ مختلِفٌ في طبيعتِهِ؛ فمنه: ما هو متعلِّقٌ بالأمورِ الوجوديَّةِ الواقعيَّة، ومنه: ما هو متعلِّقٌ بالقِيَمِ والأخلاق، ومنه: ما هو متعلِّقٌ بالأمورِ الغائبةِ عنه؛ إما في المستقبل، أو الماضي. وهذا يُثبِتُ أن المعرفةَ الإنسانيَّةَ معرفةٌ تركيبيَّةٌ تداخُليَّةٌ، تتضافَرُ في تكوينِها مصادرُ متعدِّدةٌ؛ فيشترِكُ «الحسُّ»، و«العقلُ»، و«الأخبارُ الصادقةُ»؛ في تأسيسِها وإنشائِها. فالكليَّاتُ العقليَّةُ اليقينيَّةُ ليست حسِّيَّةً، وإن كانت مجرَّدةً مِن الحسِّيَّات، ومنتزَعةً منها. وإلا فما هو مصدرُ معرفتِنا اليقينيَّةِ: بأن الشيءَ لا يكونُ قديمًا ومحدَثًا، وأن الشخصَ لا يكونُ حيًّا وميِّتًا في حالٍ واحدٍ، وأنَّ كلَّ فعلٍ لا بُدَّ له مِن فاعلٍ، وغيرِ ذلك مِن المبادئِ العقليَّةِ الضروريَّةِ التي يَعلَمُها الطِّفلُ في نفسِهِ بَدَاهةً وإن كانت اعتمادًا وقياسًا على تجريبٍ سابقٍ، مُدرَكٍ بالحِسّ؟! الثالثُ: إرباكُ المعرفةِ الإنسانيَّة: وذلك أن المعرفةَ الإنسانيَّةَ تستنِدُ بشكلٍ كبيرٍ إلى فكرةِ الاستحالة؛ ولكنَّ «المذهبَ الحسِّيَّ» يؤدِّي بالضرورةِ إلى إنكارِ هذه الفكرة، ووجهُ ذلك: أن حقيقةَ الاستحالةِ تَرجِعُ إلى «الحُكْمِ بعدمِ إمكانِ وجودِ الشيء»، وإثباتُ ذلك ليس مما يدخُلُ في قدرةِ الحسِّ؛ لأن قُصارَى ما يُمكِنُ أن يدُلَّ عليه الحسُّ: إدراكُ عدمِ وجودِ أشياءَ معيَّنةٍ ومحدَّدةٍ، ولكنَّ الحُكْمَ بعدمِ وجودِ الشيءِ المعيَّنِ المحدَّدِ لا يستلزِمُ الحكمَ باستحالةِ وجودِهِ بالضرورة؛ لأن الحكمَ بالاستحالةِ أمرٌ عقليٌّ كلِّيٌّ، وهو قَدْرٌ زائدٌ على الحكمِ بعدمِ الوجود؛ فالأشياءُ التي لم يتحقَّقْ وجودُها في الخارجِ نوعان: منها: ما لم يتحقَّقْ وجودُهُ؛ لكونِهِ مستحيلَ التحقُّق؛ مِثلُ وجودِ مثلَّثٍ له أربعةُ أضلاع. ومنها: ما لم يتحقَّقْ وجودُهُ، مع كونِهِ ممكِنَ الوجودِ والتحقُّقِ؛ لكونِهِ مما لم يُوجَدْ ما يُوجِبُ وجودَهُ؛ كوجودِ بحرٍ مِن زِئبَقٍ. والمذهبُ الحسِّيُّ عاجزٌ عن التفريقِ بين النوعَيْنِ؛ لأن غايةَ ما يصلُ إليه إدراكُ الحسِّ: عدمُ الوجود، وليس لدَيْهِ القدرةُ على إدراكِ ما وراء ذلك مِن المعاني الموجِبةِ لعدمِ تحقُّقِ الوجودِ الخارجيّ. وبناءً على ما سبَقَ: فإن لأتباعِ المنهجِ الحسِّيِّ مِن هذه القضيَّةِ أحدَ خيارَيْنِ لا ثالثَ لهما: - إما أن يُقِرُّوا باستحالةِ بعضِ الأمورِ المعدومة؛ كاستحالةِ مثلَّثٍ له أربعةُ أضلاعٍ، واستحالةِ وجودِ الشيءِ في مكانَيْنِ في آنٍ واحد، فإنْ فعَلوا ذلك، وهذا أمرٌ غيرُ مدرَكٍ بالحسِّ والتجريب؛ فقد ناقَضوا أصلَ فكرةِ مذهبِهم، وحكَموا عليها بالبطلان؛ وهو أن الحسَّ هو مصدرُ المعرفةِ الوحيد. - وإما أن يُنكِروا مفهومَ الاستحالة، ويَذهَبوا إلى أنه لا يُوجَدُ أيُّ شيءٍ مستحيلِ الوجودِ في الواقع؛ استنادًا إلى هذه المعرفةِ الحسِّيَّةِ الجزئيَّةِ، وهي هنا معرفةٌ سلبيَّةٌ؛ فهذا إرباكٌ للمعرفةِ الإنسانيَّة، وإدخالٌ لها في مَتَاهاتٍ مِن الشكِّ والاضطراب؛ لأن إسقاطَ «مفهومِ الاستحالةِ»، يستلزِمُ بالضرورةِ إسقاطَ «مفهومِ التناقُض»، ومعنى هذا الإسقاطِ: تجويزُ وقوعِ كلِّ شيءٍ في الوجود، ومثلُ هذه النتيجةِ تؤدِّي حتمًا إلى انهيارِ المعرفةِ الإنسانيَّةِ، وتهشُّمِ بُنْيانِها. بل إنها تؤدِّي إلى انهيارِ المذهبِ الحسِّيِّ ذاتِه؛ لأنه - مع تجويزِ التناقُضِ - لم يَعُدْ في قدرةِ الحسِّيِّين إثباتُ صحَّةِ مذهبِهم، والدفاعُ عنه، أي: إزاحةُ الشكِّ والتردُّدِ حوله، ولم يَعُدْ للإنسانِ خيارٌ إلى الارتماءِ في مَتَاهاتِ الشكوكِ والأوهام. الرابعُ: إبطالُ الاستدلالِ المعرفيّ: وذلك أن النظامَ المعرفيَّ قائمٌ على الاستدلال؛ لأن إدراكَ الإنسانِ بنفسِهِ لكلِّ التفاصيلِ الحياتيَّةِ متعذِّرٌ ومستحيل؛ فليس هناك مِن سبيلٍ إلى نقلِ الحكمِ مِن الأشياءِ المدرَكةِ إلى الأشياءِ غيرِ المدرَكةِ إلا بالاستدلالِ - الذي هو الاعتبارُ، أو القياسُ - فقطْ، والاستدلالُ عمليَّةٌ قائمةٌ على التلازُمِ والترابُطِ بين الأمور، والتلازُمُ معنًى عقليٌّ ليس مما يُدرَكُ بالحسِّ، أو مما يقَعُ تحت الحسِّ - وإن كان معتمِدًا على الحسِّ، ومقيسًا عليه - لأن غايةَ ما يُدرِكُهُ الحسُّ أمورٌ جزئيَّةٌ مفرَدةٌ، فلو اقتصَرْنا على ما يُدرِكُهُ الحسُّ، لبَطَلَ الاستدلالُ حينئذٍ، ولأَصبَحتِ المعرفةُ الإنسانيَّةُ عبارةً عن أجزاءٍ منفصِلةٍ، لا عَلاقةَ بينها في شيء، ولا تركيبَ فيما بينها، وفي كلِّ ذلك إفسادٌ لجوهرِ المعرفةِ ورُوحِها. وبطلانُ الاستدلالِ يؤدِّي - بالضرورةِ - إلى بطلانِ المذهبِ الحسِّيِّ نفسِه؛ لأن أتباعَهُ سيكونون عاجِزين - بالضرورةِ - عن إقامةِ الدليلِ على صحَّةِ مبدئِهم. الخامسُ: إبطالُ التنبُّؤِ العلميّ: وهذا الأمرُ - في الحقيقةِ - مندرِجٌ ضِمنَ الأمرِ السابق، ولكنَّنا فَصَلْناهُ؛ لأنه بإظهارِهِ ينجلي الإشكالُ المنهجيُّ المترتِّبُ على المذهبِ الحسِّيِّ بصورتِهِ الحقيقيَّة. فالأساسُ الفلسفيُّ للمذهبِ الحسِّيِّ يستلزِمُ بالضرورةِ إبطالَ الاستدلالِ على الأمورِ المستقبليَّةِ، والتنبُّؤِ بمجرَياتِها؛ لأن الاستدلالَ على الأمورِ المستقبليَّةِ مبنيٌّ على التسليمِ بثباتِ خصائصِ الأشياء، والتسليمِ بقانونِ اطِّرادِ الأحداثِ واتِّساقِ مَسيرتِها، ولكنَّ الحسَّ لا يُدرِكُ هذا القانونَ؛ لكونِهِ معنًى عقليًّا يُدرَكُ بالعقل، ولا وجودَ له في المدرَكاتِ الحسِّيَّة - وإن كانت كلُّ القوانينِ منتزَعةً بواسطةِ العقلِ مِن المدرَكاتِ الحسِّيَّةِ الجزئيَّة، انتزاعَ الكلِّيَّاتِ مِن الجزئيَّات - ولأجلِ هذا توارَدَ أتباعُ المذهبِ الحسِّيِّ على إنكارِ «مبدأِ السببيَّةِ»، و«مبدأِ الاطِّراد». فوقَعَ الحسِّيُّون بسببِ ذلك في مأزِقٍ معرفيٍّ شديدِ التعقيد؛ وذلك أنهم مِن أكثرِ مَن نادى بالاعتمادِ على المنهجِ الاستقرائيِّ، وعوَّلوا عليه وحده في بناءِ المعرفة، وادَّعَوْا أنه المنهجُ العلميُّ الوحيدُ، ولكنَّهم - في الوقتِ نفسِهِ - يؤمِنون بأصولٍ فلسفيَّةٍ تَقْضي على مبرِّراتِ ذلك المنهج، وتَنسِفُ قواعدَهُ التي يقومُ عليها مِن أساسِها. وعليه: فإن إنكارَ الغيبيَّاتِ اعتمادًا على مذهبٍ باطلٍ في أساسِه، وباطلٍ في بنائِه - وهو أنه لا مصدرَ للمعرفةِ إلا الحسُّ -: أمرٌ باطلٌ؛ لأن ما بُنِيَ على باطلٍ، فهو باطلٌ مِثْلُه. والحاصلُ: أنه لا بُدَّ أن يُقِرَّ الإنسانُ: أن عَقْلَهُ وقُدُراتِهِ قاصرةٌ عن الإحاطةِ بالموجودات، وأن تفاصيلَ أمورِ الغيبِ فوق مدارِكِه، وأنه أُمِرَ بالإيمانِ بها؛ وهذا أحدُ أركانِ الإيمانِ الذي لا يَصِحُّ إيمانُ العبدِ إلا به؛ لأنه نابعٌ مِن الإيمانِ بقدرةِ اللهِ المطلَقة. وأخيرًا: فإننا نقولُ: إننا لو سلَّمنا أن مصدرَ المعرفةِ الوحيدَ هو الحسُّ؛ كما يقولُ أصحابُ هذا المذهبِ، فإن عالَمَ الغيبِ مما يُمكِنُ الإحساسُ به، بل هو محسوسٌ بالفعلِ؛ فإنه قد أُحِسَّ به في الدنيا، وسيُعلَمُ بالحواسِّ أيضًا في الآخرةِ، فإن الصوابَ: أنَّ ما لا يُمكِنُ الإحساسُ به، فهو معدومٌ، لا موجودٌ: قال ابنُ تيميَّةَ في «الصفَديَّة» (2/ 284): «وأما ما أخبَرتْ به الرسُلُ مِن الغَيْبِ، فليس هو معقولًا مجرَّدًا في النَّفْسِ [أي: كما يقولُ الفلاسفة]، ولا هو موجودٌ في الخارجِ لا يُحَسُّ به بحالٍ [أي: كما يقولُ المتكلِّمون]، بل هو مما يُحَسُّ به كما أخبَرتْ بالملائكةِ والجنِّ وغيرِ ذلك، وكلُّ ذلك مما يجُوزُ رؤيتُهُ والإحساسُ به، وكذلك: ما أخبَرتْ به [الرسُلُ] مِن الجَنَّةِ والنارِ: هو مما يُحَسُّ به، وكذلك: الربُّ تبارَكَ وتعالى وتقدَّس وتعظَّم، تجُوزُ رؤيتُه، بل يُرَى بالأبصارِ في الآخرةِ؛ في عَرَصاتِ القيامةِ، وفي الجَنَّةِ؛ كما تواتَرتْ بذلك النصوصُ عن النبيِّ ^، واتفَقَ عليه سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها - مِن الصحابةِ والتابِعين لهم بإحسانٍ - وأئمَّةُ المسلِمين. ولهذا فرَّقتِ الرسُلُ بين هذا وذاك؛ بأن هذا شهادةٌ، أي: مشهودٌ لنا محسوسٌ الآنَ، وذاك غيبٌ، أي: غائبٌ عنا الآنَ لا نَشهَدُهُ؛ وهذا فرقٌ إضافيٌّ باعتبارِ حالِنا في شهودِهِ الآنَ، وعدَمِ شهودِهِ؛ فإذا مِتْنا، صار الغيبُ شهادةً، وشَهِدْنا ما كانت الرسُلُ أخبَرتْ به، وكان غيبًا عنا؛ قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] ، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 30] ...». وقال في «الردِّ على المنطقيِّين» (ص 309-310): «وأما ما أخبَرتْ به الرسلُ صلَواتُ اللهِ عليهم مِن «الغيب»: فهو أمورٌ موجودةٌ ثابتةٌ أكمَلَ وأعظَمَ مما نَشهَدُهُ نحنُ في هذه الدار، وتلك أمورٌ محسوسةٌ تُشاهَدُ وتُحَسُّ، ولكنْ بعد الموتِ، وفي الدارِ الآخِرة، ويُمكِنُ أن يَشهَدَها في هذه الدارِ مَن يختصُّهُ اللهُ بذلك، ليست عقليَّةً قائمةً بالعقل؛ ولهذا كان الفرقُ بينها وبين «الحِسِّيَّاتِ» التي نَشهَدُها: أن تلك «غَيْبٌ»، وهذه «شهادةٌ»؛ قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] ، وكَوْنُ الشيءِ «غائبًا»، و«شاهدًا»: أمرٌ إضافيٌّ بالنسبةِ إلينا؛ فإذا غاب عنَّا، كان: «غَيْبًا»، وإذا شَهِدناهُ، كان: «شهادةً»؛ وليس هو فرقًا يعُودُ إلى: «أن ذاتَهُ تُعقَلُ، ولا تُشهَدُ، ولا تُحَسُّ»، بل: «كلُّ ما يُعقَلُ، ولا يُمكِنُ أن يُشهَدَ بحالٍ، فإنما يكونُ في الذهن». و«الملائكةُ»: يُمكِنُ أن يُشهَدوا ويُرَوْا، و«الربُّ تعالى»: يُمكِنُ رؤيتُهُ بالأبصارِ، والمؤمِنون يَرَوْنَهُ يومَ القيامةِ، وفي الجَنَّةِ؛ كما تواتَرَتِ النصوصُ في ذلك، عن النبيِّ ^، واتَّفَقَ على ذلك سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها. و«إمكانُ رؤيتِهِ»: يُعلَمُ بالدلائلِ العقليَّةِ القاطعة، لكنْ ليس هو «الدليلَ» الذي سلَكهُ طائفةٌ مِن أهلِ الكلامِ؛ كأبي الحسَنِ [الأشعريِّ]، وأمثالِهِ؛ حيثُ ادَّعَوْا: «أن كلَّ موجودٍ يُمكِنُ رؤيتُهُ»، بل قالوا: «ويُمكِنُ أن تتعلَّقَ به الحَوَاسُّ الخمسُ: السَّمْعُ، والبصَرُ، والشَّمُّ، والذَّوْقُ، واللَّمْسُ»؛ فإن هذا مما يُعلَمُ فسادُهُ بالضرورةِ عند جماهيرِ العقلاء». وينظر: «درءُ تعارُضِ العقلِ والنقل» (5/ 171-175). |