نص السؤال

هناك أمثلةٌ كثيرةٌ مِن التعارُضِ بين العلمِ والدِّينِ، تدُلُّ على أن الأديانَ مجرَّدُ خُرافاتٍ وضَعَها الإنسانُ مِن تِلْقاءِ نفسِه، وأنها - في حقيقةِ أمرِها - وضعٌ أرضيٌّ، لا عَلاقةَ لها بخالقِ الكون.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

الإسلامُ يخالِفُ الحقائقَ العلميَّة.

الجواب التفصيلي


نَوَدُّ في الجوابِ عن دعوى تعارُضِ العلمِ والدِّينِ: أن نبيِّنَ أوَّلًا المقصودَ بكلٍّ مِن الدِّينِ (النقلِ)، والعلمِ:

فـ «العلمُ»: ليس المقصودُ به مطلَقَ العلمِ في مدلولِهِ اللغويِّ، أو حتى في استعمالِهِ القرآنيِّ أو العُرْفيِّ في كُتُبِ التراثِ والفلسفة؛ كقولِهم: «العلمُ: صفةٌ تُوجِبٌ لمَحَلِّها تمييزًا لا يحتمِلُ النقيضَ»، وإنما يُرادُ بـ «العلمِ»: مدلولٌ أكثرُ ضِيقًا مِن هذا بكثيرٍ، والذي يمثِّلُ الترجمةَ العربيَّةَ التي شاعت للَّفْظةِ الإنجليزيَّة: (Scienc).

فـ «العِلمُ» وَفْقَ هذا الاصطلاحِ: يدُلُّ على نَمَطٍ معيَّنٍ للمعرفةِ الإنسانيَّة، والتي يُمكِنُ تحصيلُها عبرَ منهجيَّاتٍ خاصَّةٍ، تسعى لاستكشافِ الطبيعةِ بمختلِفِ ظواهرِها وخصائصِها، والقوانينِ الحاكمةِ لها؛ كعلومِ الفيزياءِ والأحياءِ والكيمياء.

فـ «العِلمُ» وَفْقَ هذا المفهومِ: قاصرٌ على المجالِ المادِّيِّ المدرَكِ للحواسِّ، وهو قائمٌ على المنهجِ التجريبيِّ المعتمِدِ على التجرِبةِ الحسِّيَّة، وهدَفُهُ التعرُّفُ إلى الطبيعةِ وقوانينِها.

وقد مُيِّزَ هذا النمَطُ مِن العلمِ عن مطلَقِ العلمِ بإضافةِ كلمةِ «الطبيعيِّ»، أو «التجريبيِّ» إليه؛ تمييزًا له؛ لئلا يقَعَ الخَلْطُ؛ فقالوا: «العلمُ الطبيعيُّ»، أو «العلمُ التجريبيّ».

ومما يُنكَرُ على الملاحدةِ: تسميتُهم العلومَ المبنيَّةَ على التجارِبِ الحسِّيَّةِ بـ «العِلمِ المثبَتِ»؛ لأن في ذلك تعريضًا واستهانةً بسائرِ العلومِ الأخرى؛ وذلك بتنزيلِها منزلةَ العلومِ غيرِ المثبَتةِ، مع أن في تلك العلومِ ما هو أَعْلى منزلةً وأقوى دَلالةً.

ومُدَّعو التعارُضِ بين الدِّينِ والعلمِ التجريبيِّ، وقَعوا في خطأَيْنِ أساسيَّيْن:

الخطأُ الأوَّلُ: الخَلْطُ بين النماذجِ المختلِفةِ للأديانِ؛ فسوَّوْا بين الدِّينِ المحرَّفِ والدِّينِ المحفوظ:

إن مَشاهِدَ الصراعِ المَرِيرِ التي وَقَعَتْ بين العلماءِ التجريبيِّين، ورجالِ الكنيسةِ، منذُ القرنِ السابعَ عشَرَ الميلاديِّ -: لا بُدَّ أن تكونَ حاضرةً؛ فمِن ذلك الزمنِ: أثبَتتِ التطوُّراتُ العلميَّةُ أن كثيرًا مِن العقائدِ الكنَسيَّةِ وتصوُّراتِها عن الكونِ والفَلَكِ والتاريخِ وغيرِها خاطئةٌ؛ فقد أثبَتَ «كُوبِرْنِيكُوس»: أن الأرضَ تدُورُ؛ على خلافِ ما كانت الكنيسةُ تعتقِدُ مِن ثباتِ الأرض، وأثبَتَ «جالِيلْيو» أن الشمسَ أكبَرُ مِن الأرض، وأن الأرضَ ليست مركزَ الكون؛ وهذه النتائج مخالِفةٌ للعقائدِ الكنَسيَّة.

والمعترِضون على الأديانِ حين وجَدوا العقائدَ الكنَسيَّةَ وغيرَها مِن العقائدِ الوثَنيَّةِ مناقِضةً للحقائقِ العِلميَّةِ -: طَفِقوا يحكُمون على كلِّ الأديانِ بالمناقَضةِ للعلم، وقضَوْا بالمساواةِ بين كلِّ نماذجِها المختلِفة، وأشكالِها المتنوِّعة؛ فتراهم في كثيرٍ مِن حواراتِهم يؤكِّدون أن الأديانَ جملةً مناقِضةٌ للعلم، ثم يستدِلُّون ببعضِ العقائدِ النصرانيَّةِ على ذلك؛ وهذا تعسُّفٌ حُكْميٌّ ظاهرٌ، وخَلْطٌ فظيعٌ بين أشكالٍ مختلِفةٍ جِدًّا.

وأما محاوَلةُ أتباعِهم مِن المعترِضين على الإسلامِ في العالَمِ العربيِّ، فإنهم لم يأتوا بشيءٍ؛ فقد ادَّعَوْا بأن الإسلامَ هو أيضًا معارِضٌ للعلم، ولكنهم لم يستطيعوا إثباتَ دَعْواهم ولا بمثالٍ واحد.

الخطأُ الثاني: الاعتمادُ على الظنونِ العلميَّة، وسوءُ الفهمِ للنصوصِ الشرعيَّة:

إن كُلًّا مِن النقلِ والعلومِ الطبيعيَّةِ يتضمَّنُ جزئيَّاتٍ ليست على درجةٍ واحدةٍ مِن الإحكامِ والقوَّة، بل هي متفاوِتةٌ في ذلك؛ فالنقلُ مِن جنسِ الأخبارِ التي يجبُ أن يُراعَى فيها التأكُّدُ مِن ثبوتِها، والاطمئنانُ إلى صحَّةِ دَلالتِها.

وبناءً عليه: فمِن النقلِ: ما هو قطعيٌّ في ثبوتِهِ أو دَلَالتِه، ومنه ما هو دون ذلك:

فـ «القرآنُ الكريمُ»: ثابتٌ كلُّه بطريقِ القطع، لكنَّ دَلالةَ آياتِهِ تتفاوَتُ؛ فمنها: ما هو قطعيٌّ لا يُتنازَعُ في فهمِه، ومنها: الظنِّيُّ الذي يُمكِنُ أن يقَعَ الاختلافُ في دَلالتِه.

أما «السُّنَّة»: فمنها: ما هو قطعيُّ الثبوتِ عن النبيِّ ^، ومنها: ما هو دون ذلك؛ كما أنها تتفاوَتُ في دَلالتِها كذلك.

ومِثلُ هذا التفاوُتِ واقعٌ في العلومِ الطبيعيَّةِ التجريبيَّةِ؛ فما يدخُلُ في إطارِها متفاوِتٌ أيضًا تفاوُتًا كبيرًا؛ فهناك فَرْضيَّاتٌ ونَظَريَّاتٌ، وحقائقُ علميَّةٌ، وهناك ما يَخضَعُ للتجرِبةِ الحسِّيَّةِ المباشِرة، وما يكونُ مِن قَبيلِ النماذجِ التفسيريَّةِ للظواهرِ الطبيعيَّةِ؛ فالقطعُ في العلومِ التجريبيَّةِ إنما يَصِحُّ فيما كان قائمًا على المُعطَى الحسِّيِّ القطعيِّ؛ ككُرَويَّةِ الأرض، وسقوطِ الأجرامِ إليها، ووجودِ الكواكبِ والنجومِ، ونحوِ ذلك.

وأما سعيُ الإنسانِ لتقديمِ نماذجَ تفسيريَّةِ لِمَا يراهُ مِن ظواهرَ، فهو دون ذلك في الرتبةِ، والعلمُ الطبيعيُّ يصحِّحُ نفسَهُ في هذه المجالاتِ باستمرارٍ، ويطوِّرُ هذه النماذجَ؛ لتكونَ أكثرَ وفاءً لهذه الظواهر.

وهذه التفسيراتُ مع صعوبةِ القطعِ فيها، إلا أنها تتفاوَتُ قوَّةً؛ فمنها: ما هو أقوى مِن غيرِه، ومنها: ما لا يُتنازَعُ فيه؛ حتى تأتيَ نظريَّةٌ أقوى منها لتحتلَّ موضعَها.

بعد اتِّضاحِ ما سبَقَ: نأتي للسؤالِ المِحْوَريِّ: هل يُمكِنُ أن يقَعَ التعارُضُ بين النقلِ والعلومِ الطبيعيَّة، أم لا؟:

والجوابُ:

 - أما التعارُضُ بين قطعيَّاتِ النقلِ وقطعيَّاتِ العلومِ الطبيعيَّةِ التجريبيَّةِ، فلا يُمكِنُ أن يقَعَ؛ فإن النقلَ وحيٌ مِن اللهِ الذي خلَقَ الكونَ بما فيه، وهو العليمُ سبحانه بتفاصيلِ أحوالِ العالَمِ وسُنَنِه؛ فلا يُمكِنُ أن يأتيَ الوحيُ بما يخالِفُ شيئًا مِن قطعيَّاتِ العلم.

وذلك لكمالِ علمِ اللهِ وحكمتِهِ؛ قال تعالى:

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}

[النساء: 82].

فمِن دلائلِ كونِ هذا القرآنِ مِن عندِهِ تعالى: تنزُّهُهُ عن الاختلافِ الداخليِّ؛ فلا يُوجَدُ في نصوصِهِ تعارُضٌ، وتنزُّهُهُ أيضًا عن الاختلافِ الخارجيِّ؛ فلا تأتي نصوصُهُ بما يخالِفُ قطعيَّاتِ الواقع.

- أما إن وُجِدَ ما يُوهِمُ التعارُضَ بينهما، فإنما هو لخلَلٍ في تصوُّرِ طبيعةِ النقلِ، أو طبيعةِ العلمِ، وهو ما يستدعي تدقيقًا فيهما؛ للتعرُّفِ إلى ما كان أقوى في الدَّلالةِ؛ فيكونُ مقدَّمًا؛ فالنقلُ قد لا يكونُ صحيحًا مِن جهةِ الثبوتِ، وقد لا يكونُ محكَمًا مِن جهةِ الدَّلالةِ، فإذا كانت المعرفةُ العلميَّةُ قطعيَّةً هنا، كانت مقدَّمةً على هذا النقلِ، ولا إشكالَ، والعكسُ بالعكسِ، فإذا كان النقلُ قطعيَّ الثبوتِ والدَّلالةِ، فلا بُدَّ مِن أن الإشكالَ فيما يُدَّعى أنه حقيقةٌ علميَّةٌ، أما إن كانت دَلالةُ هذا وهذا ظنِّيَّةً، فيُتطلَّبُ ما يرجِّحُ كِفَّةَ أحدِهما على الآخَر.

وقد وجَدْنا أن المدَّعِين بأن الإسلامَ متضمِّنٌ لما هو مناقِضٌ للعلمِ، لم يكن فهمُهم للشواهدِ الشرعيَّةِ التي ادَّعَوْا فيها مخالَفةَ العلمِ صحيحًا، وإنما بنَوْا فهومًا خاطئةً، ونسَبوها إلى الإسلامِ، وادَّعَوْا بعد ذلك مناقَضةَ العلمِ لها.

كما أن كثيرًا مِن الأمورِ العلميَّةِ التي يدَّعي المعترِضون أنها مناقِضةٌ للأديانِ، ليست حقائقَ علميَّةً ثابتةً، وما هي إلا ظنونٌ علميَّةٌ، لم تصلْ إلى درجةِ الحقيقة؛ فتراهم في كثيرٍ مِن حواراتِهم يكرِّرون القولَ بـ «أن العلمَ توصَّل إلى كذا، وأن العلمَ يقولُ بكذا»، وحين تسبُرُ ذلك (يعني: تَفحَصُهُ)، تكتشِفُ بأن العلمَ لم يصلْ إلى كونِها يقينيَّةً، وإنما هي نظَريَّاتٌ ظنِّيَّةٌ قابلةٌ للتغيُّرِ، ويصرِّحُ أصحابُها بأنهم يُمكِنُ أن يتخلَّوْا عنها في يومٍ مِن الأيام.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يَرَى السائلُ أن هناك أمثلةً كثيرةً مِن التعارُضِ بين العلمِ والدِّينِ، تدُلُّ على أن الأديانَ مجرَّدُ خُرافاتٍ وضَعَها الإنسانُ مِن تِلْقاءِ نفسِه، وأنها - في حقيقةِ أمرِها - وضعٌ أرضيٌّ، لا عَلاقةَ لها بخالقِ الكون.

مختصَرُ الإجابة:

إن العلمَ التجريبيَّ يتضمَّنُ أمورًا قطعيَّةً، ويتضمَّنُ أمورًا ظنِّيَّةً، والنقلُ (الوحيُ): يتضمَّنُ أمورًا قطعيَّةً، ويتضمَّنُ أمورًا ظنِّيَّةً؛ فالقطعيُّ مِن كلٍّ منهما مقدَّمٌ على الظنِّيِّ مِن الآخَرِ، والظنِّيَّانِ إذا تعارَضا، يُطلَبُ لهما مرجِّحٌ.

وهذه القاعدةُ إذا تَمَّ تطبيقُها، تتبيَّنُ ضخامةُ الأخطاءِ التي وقَعَ فيها مدَّعو التعارُضِ بين العلمِ والدِّين؛ فهم يقَعون في سوءِ الفهمِ للنصوصِ الشرعيَّة، ثم يدَّعون تعارُضَها مع العلمِ، كما أنهم يستعمِلون نظريَّاتٍ علميَّةً بشكلٍ متطرِّفٍ لمحوِ القضيَّةِ الدينيَّة.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يَرَى السائلُ أن هناك أمثلةً كثيرةً مِن التعارُضِ بين العلمِ والدِّينِ، تدُلُّ على أن الأديانَ مجرَّدُ خُرافاتٍ وضَعَها الإنسانُ مِن تِلْقاءِ نفسِه، وأنها - في حقيقةِ أمرِها - وضعٌ أرضيٌّ، لا عَلاقةَ لها بخالقِ الكون.

مختصَرُ الإجابة:

إن العلمَ التجريبيَّ يتضمَّنُ أمورًا قطعيَّةً، ويتضمَّنُ أمورًا ظنِّيَّةً، والنقلُ (الوحيُ): يتضمَّنُ أمورًا قطعيَّةً، ويتضمَّنُ أمورًا ظنِّيَّةً؛ فالقطعيُّ مِن كلٍّ منهما مقدَّمٌ على الظنِّيِّ مِن الآخَرِ، والظنِّيَّانِ إذا تعارَضا، يُطلَبُ لهما مرجِّحٌ.

وهذه القاعدةُ إذا تَمَّ تطبيقُها، تتبيَّنُ ضخامةُ الأخطاءِ التي وقَعَ فيها مدَّعو التعارُضِ بين العلمِ والدِّين؛ فهم يقَعون في سوءِ الفهمِ للنصوصِ الشرعيَّة، ثم يدَّعون تعارُضَها مع العلمِ، كما أنهم يستعمِلون نظريَّاتٍ علميَّةً بشكلٍ متطرِّفٍ لمحوِ القضيَّةِ الدينيَّة.

الجواب التفصيلي


نَوَدُّ في الجوابِ عن دعوى تعارُضِ العلمِ والدِّينِ: أن نبيِّنَ أوَّلًا المقصودَ بكلٍّ مِن الدِّينِ (النقلِ)، والعلمِ:

فـ «العلمُ»: ليس المقصودُ به مطلَقَ العلمِ في مدلولِهِ اللغويِّ، أو حتى في استعمالِهِ القرآنيِّ أو العُرْفيِّ في كُتُبِ التراثِ والفلسفة؛ كقولِهم: «العلمُ: صفةٌ تُوجِبٌ لمَحَلِّها تمييزًا لا يحتمِلُ النقيضَ»، وإنما يُرادُ بـ «العلمِ»: مدلولٌ أكثرُ ضِيقًا مِن هذا بكثيرٍ، والذي يمثِّلُ الترجمةَ العربيَّةَ التي شاعت للَّفْظةِ الإنجليزيَّة: (Scienc).

فـ «العِلمُ» وَفْقَ هذا الاصطلاحِ: يدُلُّ على نَمَطٍ معيَّنٍ للمعرفةِ الإنسانيَّة، والتي يُمكِنُ تحصيلُها عبرَ منهجيَّاتٍ خاصَّةٍ، تسعى لاستكشافِ الطبيعةِ بمختلِفِ ظواهرِها وخصائصِها، والقوانينِ الحاكمةِ لها؛ كعلومِ الفيزياءِ والأحياءِ والكيمياء.

فـ «العِلمُ» وَفْقَ هذا المفهومِ: قاصرٌ على المجالِ المادِّيِّ المدرَكِ للحواسِّ، وهو قائمٌ على المنهجِ التجريبيِّ المعتمِدِ على التجرِبةِ الحسِّيَّة، وهدَفُهُ التعرُّفُ إلى الطبيعةِ وقوانينِها.

وقد مُيِّزَ هذا النمَطُ مِن العلمِ عن مطلَقِ العلمِ بإضافةِ كلمةِ «الطبيعيِّ»، أو «التجريبيِّ» إليه؛ تمييزًا له؛ لئلا يقَعَ الخَلْطُ؛ فقالوا: «العلمُ الطبيعيُّ»، أو «العلمُ التجريبيّ».

ومما يُنكَرُ على الملاحدةِ: تسميتُهم العلومَ المبنيَّةَ على التجارِبِ الحسِّيَّةِ بـ «العِلمِ المثبَتِ»؛ لأن في ذلك تعريضًا واستهانةً بسائرِ العلومِ الأخرى؛ وذلك بتنزيلِها منزلةَ العلومِ غيرِ المثبَتةِ، مع أن في تلك العلومِ ما هو أَعْلى منزلةً وأقوى دَلالةً.

ومُدَّعو التعارُضِ بين الدِّينِ والعلمِ التجريبيِّ، وقَعوا في خطأَيْنِ أساسيَّيْن:

الخطأُ الأوَّلُ: الخَلْطُ بين النماذجِ المختلِفةِ للأديانِ؛ فسوَّوْا بين الدِّينِ المحرَّفِ والدِّينِ المحفوظ:

إن مَشاهِدَ الصراعِ المَرِيرِ التي وَقَعَتْ بين العلماءِ التجريبيِّين، ورجالِ الكنيسةِ، منذُ القرنِ السابعَ عشَرَ الميلاديِّ -: لا بُدَّ أن تكونَ حاضرةً؛ فمِن ذلك الزمنِ: أثبَتتِ التطوُّراتُ العلميَّةُ أن كثيرًا مِن العقائدِ الكنَسيَّةِ وتصوُّراتِها عن الكونِ والفَلَكِ والتاريخِ وغيرِها خاطئةٌ؛ فقد أثبَتَ «كُوبِرْنِيكُوس»: أن الأرضَ تدُورُ؛ على خلافِ ما كانت الكنيسةُ تعتقِدُ مِن ثباتِ الأرض، وأثبَتَ «جالِيلْيو» أن الشمسَ أكبَرُ مِن الأرض، وأن الأرضَ ليست مركزَ الكون؛ وهذه النتائج مخالِفةٌ للعقائدِ الكنَسيَّة.

والمعترِضون على الأديانِ حين وجَدوا العقائدَ الكنَسيَّةَ وغيرَها مِن العقائدِ الوثَنيَّةِ مناقِضةً للحقائقِ العِلميَّةِ -: طَفِقوا يحكُمون على كلِّ الأديانِ بالمناقَضةِ للعلم، وقضَوْا بالمساواةِ بين كلِّ نماذجِها المختلِفة، وأشكالِها المتنوِّعة؛ فتراهم في كثيرٍ مِن حواراتِهم يؤكِّدون أن الأديانَ جملةً مناقِضةٌ للعلم، ثم يستدِلُّون ببعضِ العقائدِ النصرانيَّةِ على ذلك؛ وهذا تعسُّفٌ حُكْميٌّ ظاهرٌ، وخَلْطٌ فظيعٌ بين أشكالٍ مختلِفةٍ جِدًّا.

وأما محاوَلةُ أتباعِهم مِن المعترِضين على الإسلامِ في العالَمِ العربيِّ، فإنهم لم يأتوا بشيءٍ؛ فقد ادَّعَوْا بأن الإسلامَ هو أيضًا معارِضٌ للعلم، ولكنهم لم يستطيعوا إثباتَ دَعْواهم ولا بمثالٍ واحد.

الخطأُ الثاني: الاعتمادُ على الظنونِ العلميَّة، وسوءُ الفهمِ للنصوصِ الشرعيَّة:

إن كُلًّا مِن النقلِ والعلومِ الطبيعيَّةِ يتضمَّنُ جزئيَّاتٍ ليست على درجةٍ واحدةٍ مِن الإحكامِ والقوَّة، بل هي متفاوِتةٌ في ذلك؛ فالنقلُ مِن جنسِ الأخبارِ التي يجبُ أن يُراعَى فيها التأكُّدُ مِن ثبوتِها، والاطمئنانُ إلى صحَّةِ دَلالتِها.

وبناءً عليه: فمِن النقلِ: ما هو قطعيٌّ في ثبوتِهِ أو دَلَالتِه، ومنه ما هو دون ذلك:

فـ «القرآنُ الكريمُ»: ثابتٌ كلُّه بطريقِ القطع، لكنَّ دَلالةَ آياتِهِ تتفاوَتُ؛ فمنها: ما هو قطعيٌّ لا يُتنازَعُ في فهمِه، ومنها: الظنِّيُّ الذي يُمكِنُ أن يقَعَ الاختلافُ في دَلالتِه.

أما «السُّنَّة»: فمنها: ما هو قطعيُّ الثبوتِ عن النبيِّ ^، ومنها: ما هو دون ذلك؛ كما أنها تتفاوَتُ في دَلالتِها كذلك.

ومِثلُ هذا التفاوُتِ واقعٌ في العلومِ الطبيعيَّةِ التجريبيَّةِ؛ فما يدخُلُ في إطارِها متفاوِتٌ أيضًا تفاوُتًا كبيرًا؛ فهناك فَرْضيَّاتٌ ونَظَريَّاتٌ، وحقائقُ علميَّةٌ، وهناك ما يَخضَعُ للتجرِبةِ الحسِّيَّةِ المباشِرة، وما يكونُ مِن قَبيلِ النماذجِ التفسيريَّةِ للظواهرِ الطبيعيَّةِ؛ فالقطعُ في العلومِ التجريبيَّةِ إنما يَصِحُّ فيما كان قائمًا على المُعطَى الحسِّيِّ القطعيِّ؛ ككُرَويَّةِ الأرض، وسقوطِ الأجرامِ إليها، ووجودِ الكواكبِ والنجومِ، ونحوِ ذلك.

وأما سعيُ الإنسانِ لتقديمِ نماذجَ تفسيريَّةِ لِمَا يراهُ مِن ظواهرَ، فهو دون ذلك في الرتبةِ، والعلمُ الطبيعيُّ يصحِّحُ نفسَهُ في هذه المجالاتِ باستمرارٍ، ويطوِّرُ هذه النماذجَ؛ لتكونَ أكثرَ وفاءً لهذه الظواهر.

وهذه التفسيراتُ مع صعوبةِ القطعِ فيها، إلا أنها تتفاوَتُ قوَّةً؛ فمنها: ما هو أقوى مِن غيرِه، ومنها: ما لا يُتنازَعُ فيه؛ حتى تأتيَ نظريَّةٌ أقوى منها لتحتلَّ موضعَها.

بعد اتِّضاحِ ما سبَقَ: نأتي للسؤالِ المِحْوَريِّ: هل يُمكِنُ أن يقَعَ التعارُضُ بين النقلِ والعلومِ الطبيعيَّة، أم لا؟:

والجوابُ:

 - أما التعارُضُ بين قطعيَّاتِ النقلِ وقطعيَّاتِ العلومِ الطبيعيَّةِ التجريبيَّةِ، فلا يُمكِنُ أن يقَعَ؛ فإن النقلَ وحيٌ مِن اللهِ الذي خلَقَ الكونَ بما فيه، وهو العليمُ سبحانه بتفاصيلِ أحوالِ العالَمِ وسُنَنِه؛ فلا يُمكِنُ أن يأتيَ الوحيُ بما يخالِفُ شيئًا مِن قطعيَّاتِ العلم.

وذلك لكمالِ علمِ اللهِ وحكمتِهِ؛ قال تعالى:

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}

[النساء: 82].

فمِن دلائلِ كونِ هذا القرآنِ مِن عندِهِ تعالى: تنزُّهُهُ عن الاختلافِ الداخليِّ؛ فلا يُوجَدُ في نصوصِهِ تعارُضٌ، وتنزُّهُهُ أيضًا عن الاختلافِ الخارجيِّ؛ فلا تأتي نصوصُهُ بما يخالِفُ قطعيَّاتِ الواقع.

- أما إن وُجِدَ ما يُوهِمُ التعارُضَ بينهما، فإنما هو لخلَلٍ في تصوُّرِ طبيعةِ النقلِ، أو طبيعةِ العلمِ، وهو ما يستدعي تدقيقًا فيهما؛ للتعرُّفِ إلى ما كان أقوى في الدَّلالةِ؛ فيكونُ مقدَّمًا؛ فالنقلُ قد لا يكونُ صحيحًا مِن جهةِ الثبوتِ، وقد لا يكونُ محكَمًا مِن جهةِ الدَّلالةِ، فإذا كانت المعرفةُ العلميَّةُ قطعيَّةً هنا، كانت مقدَّمةً على هذا النقلِ، ولا إشكالَ، والعكسُ بالعكسِ، فإذا كان النقلُ قطعيَّ الثبوتِ والدَّلالةِ، فلا بُدَّ مِن أن الإشكالَ فيما يُدَّعى أنه حقيقةٌ علميَّةٌ، أما إن كانت دَلالةُ هذا وهذا ظنِّيَّةً، فيُتطلَّبُ ما يرجِّحُ كِفَّةَ أحدِهما على الآخَر.

وقد وجَدْنا أن المدَّعِين بأن الإسلامَ متضمِّنٌ لما هو مناقِضٌ للعلمِ، لم يكن فهمُهم للشواهدِ الشرعيَّةِ التي ادَّعَوْا فيها مخالَفةَ العلمِ صحيحًا، وإنما بنَوْا فهومًا خاطئةً، ونسَبوها إلى الإسلامِ، وادَّعَوْا بعد ذلك مناقَضةَ العلمِ لها.

كما أن كثيرًا مِن الأمورِ العلميَّةِ التي يدَّعي المعترِضون أنها مناقِضةٌ للأديانِ، ليست حقائقَ علميَّةً ثابتةً، وما هي إلا ظنونٌ علميَّةٌ، لم تصلْ إلى درجةِ الحقيقة؛ فتراهم في كثيرٍ مِن حواراتِهم يكرِّرون القولَ بـ «أن العلمَ توصَّل إلى كذا، وأن العلمَ يقولُ بكذا»، وحين تسبُرُ ذلك (يعني: تَفحَصُهُ)، تكتشِفُ بأن العلمَ لم يصلْ إلى كونِها يقينيَّةً، وإنما هي نظَريَّاتٌ ظنِّيَّةٌ قابلةٌ للتغيُّرِ، ويصرِّحُ أصحابُها بأنهم يُمكِنُ أن يتخلَّوْا عنها في يومٍ مِن الأيام.