نص السؤال

إن تحصيلَ المصالحِ المادِّيَّةِ والاجتماعيَّةِ والمدنيَّةِ، هو الهدَفُ الأهمُّ والوحيدُ مِن التشريعاتِ الإسلاميَّةِ؛ وهذا الأمرُ هو الذي يختلِفُ فيه الإسلامُ عن الرَّهْبانيَّة.

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

الجواب التفصيلي

هذه الشبهةُ نشأت عن نظرةِ «مركزيَّةِ الإنسانِ في الوجود»، والجوابُ عنها يحتاجُ إلى كشفِ موقعِ المصالحِ المادِّيَّةِ والاجتماعيَّةِ في الشريعة.

ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:

1- المصالحُ الأخرويَّةُ مقصودةٌ، وهي مقدَّمةٌ في الرتبةِ على المصالحِ الدنيويَّة:

جاء في الوحيِ: بيانُ الحِكْمةِ الأساسِ مِن خلقِ الإنسان؛ وهي عبادةُ اللهِ تعالى وحده، وهي مسألةٌ عائدةٌ أصالةً إلى المصالحِ الأخرويَّةِ؛ قال اللهُ تعالى:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56]

، وقال تعالى:

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}

[البينة: 5]


وجاء في الوحيِ: بيانُ المِحوَرِ الأساسِ مِن دعوةِ الأنبياء، وحِكْمةِ اللهِ تعالى مِن إرسالِ الرسُلِ؛ وهي إرشادُ الخلقِ إلى حِكْمةِ الربِّ مِن خلقِهم؛ وهي عبادةُ اللهِ وحده، واجتنابُ عبادةِ الطاغوت، والنِّذارةُ باليومِ الآخِرِ؛ كما قال تعالى:

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}

[الأنعام: 130]


وجاء ما يؤكِّدُ على أن الدنيا إنما هي موضوعةٌ لأجلِ الابتلاءِ والاختبار، والآخرةُ هي دارُ الجزاء؛ قال تعالى:

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

[الكهف: 7]

، وقال تعالى:

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

[الملك: 2]

، وقال تعالى:

{إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ}

[يونس: 4].

بل جاء في القرآنِ ما يؤكِّدُ أن التمكينَ في الشأنِ الدنيويِّ يجبُ أن يُتَّخَذَ وسيلةً للتمكينِ لأحكامِ الشريعةِ مِن السَّرَيانِ في الواقع؛ قال اللهُ تعالى:

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}

[الحج: 41].

وجاء في القرآنِ: ما يدُلُّ على الاحتفاءِ بالمنجَزاتِ الأخرويَّةِ في مقابِلِ المنجَزاتِ الدنيويَّةِ:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}

[الشورى: 20]

وقال تعالى:

{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}

[الإسراء: 19].

وجاء أيضًا ذمُّ مَن قلَبَ المعادَلةَ، فقدَّم العاجلةَ على الآخرةِ؛ فقال تعالى:

{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ}

[القيامة: 20- 21]

، وقال تعالى:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}

[الإسراء: 18- 19].

ولا يُفهَمُ مِن هذا الحطُّ مِن المصالحِ الدنيويَّةِ، بل الأمرُ كما قال اللهُ تعالى:

{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}

[القصص: 77]

، وإنما المقصودُ: التأكيدُ على وجودِ مفهومِ المصالحِ الأخرويَّةِ أوَّلًا، والتأكيدُ على تقدُّمِها في الرتبةِ والمنزلةِ ثانيًا؛ وهذا ما عبَّر عنه أبو المعالي الجُوَينيُّ بقولِهِ في كتابِهِ المهمِّ «الغِيَاثيِّ» (ص 152): «الدنيا إنما تُرعَى مِن حيثُ يُستمَدُّ استمرارُ قواعدِ الدِّينِ منها؛ فهي مَرْعيَّةٌ على سبيلِ التبَعيَّة، ولولا مسيسُ الحاجةِ إليها على هذه القضيَّةِ، لكانت الدنيا الدَّنِيَّةُ حَرِيَّةً بأن يُضرَبَ عنها بالكلِّيَّة».

2- أعظمُ وأهمُّ مقاصدِ الشعائرِ الظاهرةِ: تزكيةُ النفوسِ بمقاماتِ الإيمان:

وذلك كالتضرُّعِ والخضوع، والتذلُّلِ والافتقار، والمناجاةِ والتمسكُن، ومناشَدةِ الله، والانطراحِ بين يدَيْه، واللَّجَأِ إليه، وامتلاءِ القلبِ بحمدِهِ وشكرِه.

وهذه الغايةُ الجليلةُ - وهي تزكيةُ النفوسِ، وعِمارةُ القلوبِ باللهِ - تَشمَلُ الشعائرَ والشرائعَ (التشريعاتِ)؛ فإن أصولَ المأموراتِ وأصولَ المحرَّماتِ، كلُّها تُثمِرُ للقلبِ طهارةً وزكاةً وسلامةً هي مِن أعظمِ المبتغَياتِ الإلهيَّة.

 وسنذكُرُ نماذجَ لذلك مدلِّلين على كلِّ نموذجٍ بآيةٍ مِن القرآن:

- فمِن ذلك: أن اللهَ تعالى حين شرَعَ الصيامَ، لم تكن غايتُهُ الجوهريَّةُ (الحِمْيةَ الصحِّيَّةَ)، بل إن هدَفَهُ الجوهريَّ: ما يُورِثُهُ للقلبِ مِن التقوى؛ كما قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

[البقرة: 183].

- وحين ذكَرَ اللهُ تشريعَ الزكاةِ والصدَقةِ، ربَطَها بالتزكيةِ؛ فقال:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}

[التوبة: 103].

- وحين ذكَرَ اللهُ تشريعَ الجهادِ، بيَّن ما يُثمِرُهُ للقلبِ مِن تمحيصٍ وتزكيةٍ؛ فقال تعالى:

{وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}

[آل عمران: 154].

- وحين ذكَرَ التشريعاتِ المتعلِّقةَ بالأسرةِ، قال عن عَضْلِ الأولياءِ مَوْليَّاتِهم:

{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ}

[البقرة: 232].

- وحين ذكَرَ آدابَ الاستئذانِ، قال سبحانه:

{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}

[النور: 28].

- وحين ذكَرَ أصولَ الفضيلةِ؛ كغَضِّ البصَرِ، وحفظِ الفَرْجِ، ذكَرَ أثَرَها في التزكيةِ؛ فقال:

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}

[النور: 30].

- وقال عن أخلاقيَّاتِ الحِجابِ:

{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}

[الأحزاب: 53].

- وحين ذكَرَ تشريعاتِ القضاءِ والشهاداتِ، قال سبحانه:

{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

[البقرة: 283].

ومَن تدبَّر هذه النصوصَ - وأمثالُها كثيرٌ - عَلِمَ قطعًا أن أعظمَ غاياتِ ومقاصدِ التشريعِ: تزكيةُ النفوس، وعِمارةُ القلوبِ بمحبَّةِ اللهِ تعالى، والخضوعِ له، والأنسِ به، واجتماعِ القلبِ عليه.

3- مِن أعظمِ غاياتِ التشريعِ أيضًا: مَقصِدُ ابتلاءِ التسليم، والامتثالِ للتشريع:

فإن المؤمِنَ يتلقَّى التشريعَ للتنفيذ, أما مَن في قلبِهِ مرَضٌ، فتجدُهُ معرِضًا عن الأمر، أو باحثًا عن التسويغات:

- ولذلك فإن اللهَ تعالى حين ذكَرَ اختلافَ الشرائعِ بين الأممِ، بيَّن أن المقصودَ منها، إنما هو: «اختبارُ الانقياد»؛ كما قال تعالى:

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}

[المائدة: 48].

- وحين حرَّم اللهُ الصيدَ على المُحرِمِ، ابتلى أصحابَ محمَّدٍ بصيدٍ قريبٍ مِن أيديهم وقتَ الحظرِ؛ ليختبِرَ تسليمَهم وانقيادَهم؛ كما قال تعالى: {

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}

[المائدة: 94]

، وقريبٌ مِن ذلك حين ابتلى اللهُ بني اسرائيلَ بصيدٍ قريبٍ مِن أيديهم وقتَ الحظرِ؛ فقال تعالى:

{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

[الأعراف: 163].

وعبَّر تعالى عن مَقصِدِ اختبارِ التسليمِ والانقيادِ تعبيرًا عامًّا شاملًا؛ فقال سبحانه:

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

[يونس: 14].

4- تهذيبُ الأخلاقِ الاجتماعيَّة، وإقامةُ المصالحِ العامَّةِ، هي مِن جملةِ غاياتِ الشريعةِ ومقاصدِها التي يحبُّها اللهُ: لكنْ لا يجوزُ اختزالُها فيها، وقَصْرُها عليها, فضلًا عن تقديمِها على أصلِ الإيمانِ والفرائض.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يريدُ السائلُ أن يقولَ: إن تحصيلَ المصالحِ المادِّيَّةِ والاجتماعيَّةِ والمدنيَّةِ هو أهمُّ أهدافِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ العليا، وهو يَرَى أن هذا التفسيرَ للإسلامِ يُبعِدُهُ مِن حيِّزِ الدياناتِ المغرِقةِ في الرهبانيَّةِ، والانسحابِ مِن الواقع.

مختصَرُ الإجابة:

الإسلامُ لم يُهمِلِ الغاياتِ الاجتماعيَّةَ والمدنيَّةَ، لكنَّ اختزالَ غاياتِ الإسلامِ في ذلك يَنْطوي على خَلَلٍ كبيرٍ في فهمِه؛ إذِ النصوصُ استفاضت في بيانِ أولويَّةِ غاياتٍ أخرى؛ كتزكيةِ النفوسِ بحبِّ اللهِ تعالى وخشيتِه، والإنابةِ إليه والالتجاءِ إليه والتسليمِ له، كما استفاضت ببيانِ تقديمِ الآخرةِ على الدنيا.

خاتمة الجواب

علينا جميعًا: أن نَسْعى لفهمِ الإسلامِ فهمًا صحيحًا؛ وذلك بفهمِ غاياتِهِ كما دَلَّ عليها الوحيُ، ولا نقدِّمَ على ذلك التفسيراتِ الباطلةَ لدِينِ الإسلام، التي تختزِلُ غاياتِهِ ومقاصدَهُ في الغاياتِ والمقاصدِ التي تتَّجِهُ إليها منظوماتٌ فكريَّةٌ لا تقومُ على أساسِ توحيدِ اللهِ تعالى، وإثباتِ صفاتِه.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

يريدُ السائلُ أن يقولَ: إن تحصيلَ المصالحِ المادِّيَّةِ والاجتماعيَّةِ والمدنيَّةِ هو أهمُّ أهدافِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ العليا، وهو يَرَى أن هذا التفسيرَ للإسلامِ يُبعِدُهُ مِن حيِّزِ الدياناتِ المغرِقةِ في الرهبانيَّةِ، والانسحابِ مِن الواقع.

مختصَرُ الإجابة:

الإسلامُ لم يُهمِلِ الغاياتِ الاجتماعيَّةَ والمدنيَّةَ، لكنَّ اختزالَ غاياتِ الإسلامِ في ذلك يَنْطوي على خَلَلٍ كبيرٍ في فهمِه؛ إذِ النصوصُ استفاضت في بيانِ أولويَّةِ غاياتٍ أخرى؛ كتزكيةِ النفوسِ بحبِّ اللهِ تعالى وخشيتِه، والإنابةِ إليه والالتجاءِ إليه والتسليمِ له، كما استفاضت ببيانِ تقديمِ الآخرةِ على الدنيا.

الجواب التفصيلي

هذه الشبهةُ نشأت عن نظرةِ «مركزيَّةِ الإنسانِ في الوجود»، والجوابُ عنها يحتاجُ إلى كشفِ موقعِ المصالحِ المادِّيَّةِ والاجتماعيَّةِ في الشريعة.

ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:

1- المصالحُ الأخرويَّةُ مقصودةٌ، وهي مقدَّمةٌ في الرتبةِ على المصالحِ الدنيويَّة:

جاء في الوحيِ: بيانُ الحِكْمةِ الأساسِ مِن خلقِ الإنسان؛ وهي عبادةُ اللهِ تعالى وحده، وهي مسألةٌ عائدةٌ أصالةً إلى المصالحِ الأخرويَّةِ؛ قال اللهُ تعالى:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56]

، وقال تعالى:

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}

[البينة: 5]


وجاء في الوحيِ: بيانُ المِحوَرِ الأساسِ مِن دعوةِ الأنبياء، وحِكْمةِ اللهِ تعالى مِن إرسالِ الرسُلِ؛ وهي إرشادُ الخلقِ إلى حِكْمةِ الربِّ مِن خلقِهم؛ وهي عبادةُ اللهِ وحده، واجتنابُ عبادةِ الطاغوت، والنِّذارةُ باليومِ الآخِرِ؛ كما قال تعالى:

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}

[الأنعام: 130]


وجاء ما يؤكِّدُ على أن الدنيا إنما هي موضوعةٌ لأجلِ الابتلاءِ والاختبار، والآخرةُ هي دارُ الجزاء؛ قال تعالى:

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

[الكهف: 7]

، وقال تعالى:

{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

[الملك: 2]

، وقال تعالى:

{إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ}

[يونس: 4].

بل جاء في القرآنِ ما يؤكِّدُ أن التمكينَ في الشأنِ الدنيويِّ يجبُ أن يُتَّخَذَ وسيلةً للتمكينِ لأحكامِ الشريعةِ مِن السَّرَيانِ في الواقع؛ قال اللهُ تعالى:

{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}

[الحج: 41].

وجاء في القرآنِ: ما يدُلُّ على الاحتفاءِ بالمنجَزاتِ الأخرويَّةِ في مقابِلِ المنجَزاتِ الدنيويَّةِ:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}

[الشورى: 20]

وقال تعالى:

{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}

[الإسراء: 19].

وجاء أيضًا ذمُّ مَن قلَبَ المعادَلةَ، فقدَّم العاجلةَ على الآخرةِ؛ فقال تعالى:

{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ}

[القيامة: 20- 21]

، وقال تعالى:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}

[الإسراء: 18- 19].

ولا يُفهَمُ مِن هذا الحطُّ مِن المصالحِ الدنيويَّةِ، بل الأمرُ كما قال اللهُ تعالى:

{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}

[القصص: 77]

، وإنما المقصودُ: التأكيدُ على وجودِ مفهومِ المصالحِ الأخرويَّةِ أوَّلًا، والتأكيدُ على تقدُّمِها في الرتبةِ والمنزلةِ ثانيًا؛ وهذا ما عبَّر عنه أبو المعالي الجُوَينيُّ بقولِهِ في كتابِهِ المهمِّ «الغِيَاثيِّ» (ص 152): «الدنيا إنما تُرعَى مِن حيثُ يُستمَدُّ استمرارُ قواعدِ الدِّينِ منها؛ فهي مَرْعيَّةٌ على سبيلِ التبَعيَّة، ولولا مسيسُ الحاجةِ إليها على هذه القضيَّةِ، لكانت الدنيا الدَّنِيَّةُ حَرِيَّةً بأن يُضرَبَ عنها بالكلِّيَّة».

2- أعظمُ وأهمُّ مقاصدِ الشعائرِ الظاهرةِ: تزكيةُ النفوسِ بمقاماتِ الإيمان:

وذلك كالتضرُّعِ والخضوع، والتذلُّلِ والافتقار، والمناجاةِ والتمسكُن، ومناشَدةِ الله، والانطراحِ بين يدَيْه، واللَّجَأِ إليه، وامتلاءِ القلبِ بحمدِهِ وشكرِه.

وهذه الغايةُ الجليلةُ - وهي تزكيةُ النفوسِ، وعِمارةُ القلوبِ باللهِ - تَشمَلُ الشعائرَ والشرائعَ (التشريعاتِ)؛ فإن أصولَ المأموراتِ وأصولَ المحرَّماتِ، كلُّها تُثمِرُ للقلبِ طهارةً وزكاةً وسلامةً هي مِن أعظمِ المبتغَياتِ الإلهيَّة.

 وسنذكُرُ نماذجَ لذلك مدلِّلين على كلِّ نموذجٍ بآيةٍ مِن القرآن:

- فمِن ذلك: أن اللهَ تعالى حين شرَعَ الصيامَ، لم تكن غايتُهُ الجوهريَّةُ (الحِمْيةَ الصحِّيَّةَ)، بل إن هدَفَهُ الجوهريَّ: ما يُورِثُهُ للقلبِ مِن التقوى؛ كما قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

[البقرة: 183].

- وحين ذكَرَ اللهُ تشريعَ الزكاةِ والصدَقةِ، ربَطَها بالتزكيةِ؛ فقال:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}

[التوبة: 103].

- وحين ذكَرَ اللهُ تشريعَ الجهادِ، بيَّن ما يُثمِرُهُ للقلبِ مِن تمحيصٍ وتزكيةٍ؛ فقال تعالى:

{وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}

[آل عمران: 154].

- وحين ذكَرَ التشريعاتِ المتعلِّقةَ بالأسرةِ، قال عن عَضْلِ الأولياءِ مَوْليَّاتِهم:

{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ}

[البقرة: 232].

- وحين ذكَرَ آدابَ الاستئذانِ، قال سبحانه:

{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}

[النور: 28].

- وحين ذكَرَ أصولَ الفضيلةِ؛ كغَضِّ البصَرِ، وحفظِ الفَرْجِ، ذكَرَ أثَرَها في التزكيةِ؛ فقال:

{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}

[النور: 30].

- وقال عن أخلاقيَّاتِ الحِجابِ:

{ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}

[الأحزاب: 53].

- وحين ذكَرَ تشريعاتِ القضاءِ والشهاداتِ، قال سبحانه:

{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}

[البقرة: 283].

ومَن تدبَّر هذه النصوصَ - وأمثالُها كثيرٌ - عَلِمَ قطعًا أن أعظمَ غاياتِ ومقاصدِ التشريعِ: تزكيةُ النفوس، وعِمارةُ القلوبِ بمحبَّةِ اللهِ تعالى، والخضوعِ له، والأنسِ به، واجتماعِ القلبِ عليه.

3- مِن أعظمِ غاياتِ التشريعِ أيضًا: مَقصِدُ ابتلاءِ التسليم، والامتثالِ للتشريع:

فإن المؤمِنَ يتلقَّى التشريعَ للتنفيذ, أما مَن في قلبِهِ مرَضٌ، فتجدُهُ معرِضًا عن الأمر، أو باحثًا عن التسويغات:

- ولذلك فإن اللهَ تعالى حين ذكَرَ اختلافَ الشرائعِ بين الأممِ، بيَّن أن المقصودَ منها، إنما هو: «اختبارُ الانقياد»؛ كما قال تعالى:

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}

[المائدة: 48].

- وحين حرَّم اللهُ الصيدَ على المُحرِمِ، ابتلى أصحابَ محمَّدٍ بصيدٍ قريبٍ مِن أيديهم وقتَ الحظرِ؛ ليختبِرَ تسليمَهم وانقيادَهم؛ كما قال تعالى: {

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ}

[المائدة: 94]

، وقريبٌ مِن ذلك حين ابتلى اللهُ بني اسرائيلَ بصيدٍ قريبٍ مِن أيديهم وقتَ الحظرِ؛ فقال تعالى:

{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}

[الأعراف: 163].

وعبَّر تعالى عن مَقصِدِ اختبارِ التسليمِ والانقيادِ تعبيرًا عامًّا شاملًا؛ فقال سبحانه:

{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}

[يونس: 14].

4- تهذيبُ الأخلاقِ الاجتماعيَّة، وإقامةُ المصالحِ العامَّةِ، هي مِن جملةِ غاياتِ الشريعةِ ومقاصدِها التي يحبُّها اللهُ: لكنْ لا يجوزُ اختزالُها فيها، وقَصْرُها عليها, فضلًا عن تقديمِها على أصلِ الإيمانِ والفرائض.

خاتمة الجواب

علينا جميعًا: أن نَسْعى لفهمِ الإسلامِ فهمًا صحيحًا؛ وذلك بفهمِ غاياتِهِ كما دَلَّ عليها الوحيُ، ولا نقدِّمَ على ذلك التفسيراتِ الباطلةَ لدِينِ الإسلام، التي تختزِلُ غاياتِهِ ومقاصدَهُ في الغاياتِ والمقاصدِ التي تتَّجِهُ إليها منظوماتٌ فكريَّةٌ لا تقومُ على أساسِ توحيدِ اللهِ تعالى، وإثباتِ صفاتِه.