نص السؤال

لماذا نتديَّنُ بالدِّينِ إذا كانت السعادةُ - وهي المطلبُ الأهمُّ - تتحقَّقُ بالمأكلِ، والمشربِ، والاستمتاعِ الجسَديّ؟

المؤلف: باحثو مركز أصول

المصدر: مركز أصول

عبارات مشابهة للسؤال

حقيقةُ اللذَّةِ الرُّوحيَّة

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

أوَّلًا: إنكارُ اللذَّةِ الرُّوحيَّةِ سببُهُ استحواذُ المزاجِ النفسيّ:

إن مِن الحُجُبِ التي تَمنَعُ العقلَ مِن الوصولِ إلى حقيقةِ ما يَبحَثُهُ: استحواذَ المِزاجِ النفسيِّ؛ فالمرءُ إذا كان لا يتخطَّى في أحكامِهِ ما تَفرِزُهُ أمزجتُهُ النفسيَّة، وتَدفَعُهُ إليه، فهو مريضٌ، موبوءٌ، مصابٌ بالإغماءِ النفسيِّ الذي يُعبَّرُ عنه بـ «الهَوَى».

ونحن لا يُمكِنُ أن نحاوِرَ محاوَرةً منطقيَّةً علميَّةً مَن لا يتجاوَزُ أمرَ النفوسِ في النِّقاش، ولا يتعالى عليه، ولم يربِّ نفسَهُ على التعقُّلِ الثقافيِّ، وهو استحضارُ القواعدِ والضوابطِ التي يجبُ استحضارُها في الموضوعِ المبحوثِ فيه، وكلُّ موضوعٍ له قواعدُهُ التي ينبغي أن يُحتكَمَ إليها في شأنِه؛ لأنها هي التي تقُودُ إلى الحكمِ الحقِّ فيه، وتخلِّصُ مِن الاعتباراتِ الفاسدةِ، المحنِّطةِ للعقل، التي لا يقي مِن شرورِها إلا التمسُّكُ بمقتضى القواعدِ التي سنَّها العقلاءُ، وتضافَرَتْ على بنائِها جهودُ أهلِ الفكرِ، وثبَتَ أنها الحقُّ، وأنها الباقيةُ حينما تنجلي الغواشي الصادَّةُ عن الرؤيةِ النظريَّةِ الأصليَّةِ التي أودَعَها اللهُ تعالى فينا؛ للحصولِ على العلمِ والمعرفة.

إن مِن عيوبِ النظَرِ المتفرِّعةِ عن التمسُّكِ بمقتضَياتِ الأمزِجةِ النفسيَّةِ: الإعراضَ عما هو ثابتٌ حقيقيٌّ واقعيٌّ، وهذا شيءٌ تجدُهُ عند كلِّ قومٍ يَدْرَؤون ما يَرَوْنَ أنه يضُرُّ بصحَّةِ نظريَّاتِهم؛ وذلك بالاعتمادِ على التجاهُل.

ونحن نَرَى أن كثيرًا مِن ذوي النزعةِ المادِّيَّةِ (ذوي التفسيرِ المادِّيِّ للتاريخ) يُنكِرون حقائقَ علميَّةً مبنيَّةً على التجرِبة، ويحاوِلون أن يفسِّروها على ما يخالِفُ قانونَ العقلِ وقواعدَهُ، ويَسْعَوْنَ إلى تأويلِها التأويلاتِ المُضحِكةَ.

فمما يُنكِرونه: تأثيرُ الدِّينِ في النفوس، وبَعْثُهُ الراحةَ والطُّمَأْنِينةَ في أعماقِها، وإحالتُهُ الحياةَ إلى حياةٍ سعيدة، وتغييرُهُ طبيعةَ نظَرِ المتمسِّكين به وإدراكِهم، وطريقةَ تفكيرِهم.

ويقولون - أي: هؤلاءِ المنكِرون -: «إن هذا الذي يشعُرُ به المتديِّنون شعورٌ غيرُ حقيقيٍّ، يدُلُّ على سَذاجتِهم وجَهلِهم».

وهذا قولٌ غريبٌ، بل هو على مقتضى نظرتِهم وتفسيرِهم للحياةِ أغربُ؛ ألم يقولوا: «إن الغايةَ التي يجبُ السعيُ لها في هذه الحياةِ هي الحصولُ على التلذُّذِ والاستمتاع»؟! والتلذُّذُ بلا ريبٍ: هو كلُّ الشعورِ باللذَّةِ والحلاوة، والتمتُّعُ بذلك كلِّه على أقصى ما يُمكِنُ، بلا حَجْرٍ، ولا حَدٍّ، ما دام المتلذِّذُ لا يضُرُّ غيرَهُ ضررًا مادِّيًّا، فلماذا إذا تلذَّذ المتديِّنُ، وأحَسَّ بالراحةِ والطمأنينةِ بدِينِهِ وعبادتِهِ، يُنكَرُ عليه ما أحَسَّ به، ويُنسَبُ إلى الجهلِ والسَّذاجة؟! أليس ذا ذوقٍ يُدرِكُ به حالَ نفسِهِ مِن تلذُّذٍ، أو شعورٍ بالمرارةِ، وغيرِ ذلك مما لا شَكَّ في أن جميعَ الناسِ يُدرِكونه؟!

لماذا غيرُ اللذَّةِ الدينيَّةِ (اللذَّةِ الروحيَّةِ) معتبَرةٌ، يجبُ السعيُ لها، وبذلُ قصارى الجهدِ في تحصيلِها، واللذَّةُ الدينيَّةُ ليست بشيءٍ، مع أن المتلذِّذَ بها يؤكِّدُ أنها أحسَنُ مِن كلِّ لذَّةٍ تلذَّذ بها، واستمتَعَ بحلاوتِها؟!

ولذلك فهو يدعو الذين يَبحَثون عن ألذِّ ما في الحياةِ الدنيا إليها، أي: إلى (هذه اللذَّةِ الروحيَّة)؛ إذْ صوَّرها أحدُ المستمتِعِين بها بقولِهِ: «واللهِ، إنَّا لفي لذَّةٍ لو عَلِمَها الملوكُ وأبناءُ الملوك، لجَالَدُونا عليها بالسيوف»؛ وهي لذَّةُ محبَّةِ اللهِ تعالى، والأنسِ به.

هذه لذَّةٌ يشعُرُ بها هذا الرجُلُ، كما يشعُرُ بها أمثالُه؛ فلِمَ نُنكِرُ عليهم ما يشعُرون به، وما هم في غَمْرتِه، ونَصِفُهم بخلافِ ما يدُلُّ عليه واقعُ حالِهم؛ فحالُهم يدُلُّ قطعًا على ما يقولون، فهم في هدوءٍ وراحةٍ وطُمَأْنينةٍ نفسيَّةٍ مرتكِزةٍ على شيءٍ متينٍ؛ فهم إذا ادَّعَوْا أن غيرَهم لا يَعلَمُ حقيقةَ أمرِهم، لا يُبعِدون، ومَن رماهم بالسذاجةِ والجهلِ، هو الأجدرُ بذلك؛ وهذا لا يُنكِرهُ إلا مكابِرٌ معانِدٌ، مُنكِرٌ لحقائقِ الأشياء.

ويبدو - في واقعِ الأمر - أن إثارةَ ما بداخِلِ الإنسانِ مِن القوَّةِ الروحيَّةِ، أمرٌ أجَلُّ وأخطَرُ مما يُخيَّلُ للذين ينظُرون للأمورِ مِن ظواهرِها؛ إذْ قد تجلَّى للذين أُثِيرت فيهم هذه القوَّةُ: أنها كانت مكبوتةً مهمَلةً، يستدِلُّون على وجودِها بأمورٍ تُثِيرها داخلَ النَّفْس، فيشعُرُون بها؛ لكنها كانت رمزيَّةً، فأُبهِمَ أمرُها، فلما أُثِيرت هذه القوَّةُ فيهم، تغيَّرت أحوالُهم، وطبيعةُ نظرِهم، فأبصَروا الأشياءَ على صُوَرٍ لم تكن تخطُرُ ببالِهِم مِن قبلِ هذا، فسَعِدوا.

هذه حقيقةٌ تُدرَكُ بمراقَبةِ أحوالِ النفوس، ومكامِنِ الأشياءِ في داخلِها.

وإذا تقرَّر هذا، وأصبَحَ مسلَّمًا به، فإن إنكارَهُ مبنيٌّ على مزاجٍ نفسيٍّ مَرَضيٍّ.

ثانيًا: اللذَّاتُ الدنيويَّةُ ليست لذَّاتٍ حقيقيَّة:

فإنك إذا فكَّرْتَ في الأكلِ والشربِ واللِّباسِ والجِماعِ والراحةِ، وسائرِ ما يُستلَذُّ به، رأيتَهُ يَدفَعُ بها ما قابَلهُ مِن الآلامِ والبليَّات؛ أفلا تَرَاكَ تَدفَعُ بالأكلِ ألمَ الجُوع، وبالشربِ ألمَ العطَش، وباللباسِ ألمَ الحرِّ والبَرْد، وكذا سائرُها؟!

ومِن هنا قال بعضُ العقلاءِ: «إن لذَّاتِ الدنيا إنما هي دفعُ آلامٍ، لا غيرُ، فأمَّا اللذَّاتُ الحقيقيَّةُ، فلها دارٌ أخرى، ومحلٌّ آخَرُ غيرُ هذه».

ولو سلَّمْنا أنها لذَّاتٌ حقيقيَّةٌ، فهي لذَّاتٌ خَسِيسةٌ، ونحن لا نَوَدُّ أن نُطِيلَ الحديثَ في بيانِ أوجُهِ خِسَّةِ اللذَّاتِ الحيوانيَّةِ الدنيويَّة؛ فإن لذلك موضعَهُ، لكننا نكتفي بذكرِ مثالٍ، وهو لذَّةُ الأكلِ؛ فإن العاقلَ لو نظَرَ إلى طعامِهِ حال مخالَطتِهِ رِيقَهُ، وعَجْنِهِ به، لنفَرَتْ نفسُهُ منه، ولو سقَطَتْ تلك اللُّقْمةُ مِن فِيهِ، لنفَرَ طبعُهُ مِن إعادتِها إليه.

ثمَّ إن لذَّتَهُ به إنما تحصُلُ في مَجْرى المَرِيء، فإذا فُصِلَ عن ذلك المَجْرى، زال تلذُّذُهُ به، فإذا استقَرَّ في مَعِدتِهِ، وخالَطهُ الشرابُ، وما في المَعِدةِ مِن الأجزاءِ الفضليَّة، فإنه حينئذٍ يصيرُ في غايةِ الخِسَّة، فإن زاد على مقدارِ الحاجةِ، أورَثَ الأدواءَ المختلِفةَ على تنوُّعِها، ولولا أن بقاءَهُ موقوفٌ على تناوُلِ الغذاءِ، لكان تَرْكُهُ - والحالةُ هذه - أليَقَ به.

فينبغي عدمُ الاغترارِ باللذَّاتِ الجسَديَّةِ، بل جعلُها زادًا ومُعينًا على اللذَّةِ الرُّوحيَّةِ فحَسْبُ.

ولو سلَّمْنا أن اللذَّاتِ الدنيويَّةَ لذَّاتٌ حقيقيَّة، وأنها لذَّاتٌ غيرُ خَسِيسةٍ، فإننا عند التأمُّلِ فيها نجدُ ما يَدفَعُنا لعدمِ الاغترارِ بها؛ وذلك لما يأتي:

1- أنها لذَّاتٌ منقضِيةٌ فانية.

2- أن طيِّباتِها ممزوجةٌ بالآلام، وراحاتِها مخلوطةٌ بالجِراحات.

3- أن الأراذلَ مِن الناسِ قد يشارِكون الأفاضلَ في تلك اللذَّاتِ والراحات؛ بل الغالبُ أن الأراذلَ تَزيدُ أحوالُهم على أحوالِ الأفاضلِ في هذه الخيراتِ الحسِّيَّة، واللذَّاتِ الجسَديَّة.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال: صاحبُ هذا السؤالِ يَرَى أنه لا يُوجَدُ شيءٌ يحقِّقُ السعادةَ، خارجًا عن إطارِ اللذَّاتِ المادِّيَّةِ الحيوانيَّةِ؛ مِن المأكلِ، والمشربِ، والاستمتاعِ الجسَديِّ؛ فهو يريدُ أن يقولَ: «إنه لا تأثيرَ للدِّينِ في النفوس، وإنه لا يحصِّلُ السعادةَ، والمتديِّنون أناسٌ سُذَّجٌ».

مختصَرُ الإجابة:

إن اللذَّةَ الرُّوحيَّةَ الدينيَّةَ هي لذَّةُ محبَّةِ اللهِ تعالى والأُنْسِ به، وهي لذَّةُ العلمِ والإيمان، لذَّةٌ ثابتةٌ حقيقيَّةٌ، يُدرِكُها أصحابُها، ويُخبِرون عنها، ولا يُمكِنُ إنكارُها، إلا بالهَوَى والمزاجِ النَّفْسيِّ، لا بالدليلِ العلميّ.

أما اللذَّاتُ الحيوانيَّةُ الدنيويَّةُ، فهي لذَّاتٌ غيرُ حقيقيَّة، وإنما هي دفعُ آلامٍ؛ فلذَّةُ المأكلِ: دفعٌ لألمِ الجوع، ولذَّةُ المشربِ: دفعٌ لألمِ العطش، وهي لذَّاتٌ خسيسةٌ إذا قُورِنَتْ باللذَّةِ الرُّوحيَّة، وإنما تُمدَحُ وتُطلَبُ إذا كانت مُعِينةً على اللذَّةِ الرُّوحيَّة.

وإنما يقَعُ غلَطُ أكثرِ الناسِ: أنه قد أحَسَّ بظاهرٍ مِن لذَّاتِ أهلِ الفجورِ وذاقَها، ولم يذُقْ لذاتِ أهلِ البِرِّ، ولم يخبُرْها؛ وهذا الجهلُ لعدمِ شهودِ حقيقةِ الإيمانِ، ووجودِ حلاوتِهِ، وذَوْقِ طعمِه.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال: صاحبُ هذا السؤالِ يَرَى أنه لا يُوجَدُ شيءٌ يحقِّقُ السعادةَ، خارجًا عن إطارِ اللذَّاتِ المادِّيَّةِ الحيوانيَّةِ؛ مِن المأكلِ، والمشربِ، والاستمتاعِ الجسَديِّ؛ فهو يريدُ أن يقولَ: «إنه لا تأثيرَ للدِّينِ في النفوس، وإنه لا يحصِّلُ السعادةَ، والمتديِّنون أناسٌ سُذَّجٌ».

مختصَرُ الإجابة:

إن اللذَّةَ الرُّوحيَّةَ الدينيَّةَ هي لذَّةُ محبَّةِ اللهِ تعالى والأُنْسِ به، وهي لذَّةُ العلمِ والإيمان، لذَّةٌ ثابتةٌ حقيقيَّةٌ، يُدرِكُها أصحابُها، ويُخبِرون عنها، ولا يُمكِنُ إنكارُها، إلا بالهَوَى والمزاجِ النَّفْسيِّ، لا بالدليلِ العلميّ.

أما اللذَّاتُ الحيوانيَّةُ الدنيويَّةُ، فهي لذَّاتٌ غيرُ حقيقيَّة، وإنما هي دفعُ آلامٍ؛ فلذَّةُ المأكلِ: دفعٌ لألمِ الجوع، ولذَّةُ المشربِ: دفعٌ لألمِ العطش، وهي لذَّاتٌ خسيسةٌ إذا قُورِنَتْ باللذَّةِ الرُّوحيَّة، وإنما تُمدَحُ وتُطلَبُ إذا كانت مُعِينةً على اللذَّةِ الرُّوحيَّة.

وإنما يقَعُ غلَطُ أكثرِ الناسِ: أنه قد أحَسَّ بظاهرٍ مِن لذَّاتِ أهلِ الفجورِ وذاقَها، ولم يذُقْ لذاتِ أهلِ البِرِّ، ولم يخبُرْها؛ وهذا الجهلُ لعدمِ شهودِ حقيقةِ الإيمانِ، ووجودِ حلاوتِهِ، وذَوْقِ طعمِه.

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

أوَّلًا: إنكارُ اللذَّةِ الرُّوحيَّةِ سببُهُ استحواذُ المزاجِ النفسيّ:

إن مِن الحُجُبِ التي تَمنَعُ العقلَ مِن الوصولِ إلى حقيقةِ ما يَبحَثُهُ: استحواذَ المِزاجِ النفسيِّ؛ فالمرءُ إذا كان لا يتخطَّى في أحكامِهِ ما تَفرِزُهُ أمزجتُهُ النفسيَّة، وتَدفَعُهُ إليه، فهو مريضٌ، موبوءٌ، مصابٌ بالإغماءِ النفسيِّ الذي يُعبَّرُ عنه بـ «الهَوَى».

ونحن لا يُمكِنُ أن نحاوِرَ محاوَرةً منطقيَّةً علميَّةً مَن لا يتجاوَزُ أمرَ النفوسِ في النِّقاش، ولا يتعالى عليه، ولم يربِّ نفسَهُ على التعقُّلِ الثقافيِّ، وهو استحضارُ القواعدِ والضوابطِ التي يجبُ استحضارُها في الموضوعِ المبحوثِ فيه، وكلُّ موضوعٍ له قواعدُهُ التي ينبغي أن يُحتكَمَ إليها في شأنِه؛ لأنها هي التي تقُودُ إلى الحكمِ الحقِّ فيه، وتخلِّصُ مِن الاعتباراتِ الفاسدةِ، المحنِّطةِ للعقل، التي لا يقي مِن شرورِها إلا التمسُّكُ بمقتضى القواعدِ التي سنَّها العقلاءُ، وتضافَرَتْ على بنائِها جهودُ أهلِ الفكرِ، وثبَتَ أنها الحقُّ، وأنها الباقيةُ حينما تنجلي الغواشي الصادَّةُ عن الرؤيةِ النظريَّةِ الأصليَّةِ التي أودَعَها اللهُ تعالى فينا؛ للحصولِ على العلمِ والمعرفة.

إن مِن عيوبِ النظَرِ المتفرِّعةِ عن التمسُّكِ بمقتضَياتِ الأمزِجةِ النفسيَّةِ: الإعراضَ عما هو ثابتٌ حقيقيٌّ واقعيٌّ، وهذا شيءٌ تجدُهُ عند كلِّ قومٍ يَدْرَؤون ما يَرَوْنَ أنه يضُرُّ بصحَّةِ نظريَّاتِهم؛ وذلك بالاعتمادِ على التجاهُل.

ونحن نَرَى أن كثيرًا مِن ذوي النزعةِ المادِّيَّةِ (ذوي التفسيرِ المادِّيِّ للتاريخ) يُنكِرون حقائقَ علميَّةً مبنيَّةً على التجرِبة، ويحاوِلون أن يفسِّروها على ما يخالِفُ قانونَ العقلِ وقواعدَهُ، ويَسْعَوْنَ إلى تأويلِها التأويلاتِ المُضحِكةَ.

فمما يُنكِرونه: تأثيرُ الدِّينِ في النفوس، وبَعْثُهُ الراحةَ والطُّمَأْنِينةَ في أعماقِها، وإحالتُهُ الحياةَ إلى حياةٍ سعيدة، وتغييرُهُ طبيعةَ نظَرِ المتمسِّكين به وإدراكِهم، وطريقةَ تفكيرِهم.

ويقولون - أي: هؤلاءِ المنكِرون -: «إن هذا الذي يشعُرُ به المتديِّنون شعورٌ غيرُ حقيقيٍّ، يدُلُّ على سَذاجتِهم وجَهلِهم».

وهذا قولٌ غريبٌ، بل هو على مقتضى نظرتِهم وتفسيرِهم للحياةِ أغربُ؛ ألم يقولوا: «إن الغايةَ التي يجبُ السعيُ لها في هذه الحياةِ هي الحصولُ على التلذُّذِ والاستمتاع»؟! والتلذُّذُ بلا ريبٍ: هو كلُّ الشعورِ باللذَّةِ والحلاوة، والتمتُّعُ بذلك كلِّه على أقصى ما يُمكِنُ، بلا حَجْرٍ، ولا حَدٍّ، ما دام المتلذِّذُ لا يضُرُّ غيرَهُ ضررًا مادِّيًّا، فلماذا إذا تلذَّذ المتديِّنُ، وأحَسَّ بالراحةِ والطمأنينةِ بدِينِهِ وعبادتِهِ، يُنكَرُ عليه ما أحَسَّ به، ويُنسَبُ إلى الجهلِ والسَّذاجة؟! أليس ذا ذوقٍ يُدرِكُ به حالَ نفسِهِ مِن تلذُّذٍ، أو شعورٍ بالمرارةِ، وغيرِ ذلك مما لا شَكَّ في أن جميعَ الناسِ يُدرِكونه؟!

لماذا غيرُ اللذَّةِ الدينيَّةِ (اللذَّةِ الروحيَّةِ) معتبَرةٌ، يجبُ السعيُ لها، وبذلُ قصارى الجهدِ في تحصيلِها، واللذَّةُ الدينيَّةُ ليست بشيءٍ، مع أن المتلذِّذَ بها يؤكِّدُ أنها أحسَنُ مِن كلِّ لذَّةٍ تلذَّذ بها، واستمتَعَ بحلاوتِها؟!

ولذلك فهو يدعو الذين يَبحَثون عن ألذِّ ما في الحياةِ الدنيا إليها، أي: إلى (هذه اللذَّةِ الروحيَّة)؛ إذْ صوَّرها أحدُ المستمتِعِين بها بقولِهِ: «واللهِ، إنَّا لفي لذَّةٍ لو عَلِمَها الملوكُ وأبناءُ الملوك، لجَالَدُونا عليها بالسيوف»؛ وهي لذَّةُ محبَّةِ اللهِ تعالى، والأنسِ به.

هذه لذَّةٌ يشعُرُ بها هذا الرجُلُ، كما يشعُرُ بها أمثالُه؛ فلِمَ نُنكِرُ عليهم ما يشعُرون به، وما هم في غَمْرتِه، ونَصِفُهم بخلافِ ما يدُلُّ عليه واقعُ حالِهم؛ فحالُهم يدُلُّ قطعًا على ما يقولون، فهم في هدوءٍ وراحةٍ وطُمَأْنينةٍ نفسيَّةٍ مرتكِزةٍ على شيءٍ متينٍ؛ فهم إذا ادَّعَوْا أن غيرَهم لا يَعلَمُ حقيقةَ أمرِهم، لا يُبعِدون، ومَن رماهم بالسذاجةِ والجهلِ، هو الأجدرُ بذلك؛ وهذا لا يُنكِرهُ إلا مكابِرٌ معانِدٌ، مُنكِرٌ لحقائقِ الأشياء.

ويبدو - في واقعِ الأمر - أن إثارةَ ما بداخِلِ الإنسانِ مِن القوَّةِ الروحيَّةِ، أمرٌ أجَلُّ وأخطَرُ مما يُخيَّلُ للذين ينظُرون للأمورِ مِن ظواهرِها؛ إذْ قد تجلَّى للذين أُثِيرت فيهم هذه القوَّةُ: أنها كانت مكبوتةً مهمَلةً، يستدِلُّون على وجودِها بأمورٍ تُثِيرها داخلَ النَّفْس، فيشعُرُون بها؛ لكنها كانت رمزيَّةً، فأُبهِمَ أمرُها، فلما أُثِيرت هذه القوَّةُ فيهم، تغيَّرت أحوالُهم، وطبيعةُ نظرِهم، فأبصَروا الأشياءَ على صُوَرٍ لم تكن تخطُرُ ببالِهِم مِن قبلِ هذا، فسَعِدوا.

هذه حقيقةٌ تُدرَكُ بمراقَبةِ أحوالِ النفوس، ومكامِنِ الأشياءِ في داخلِها.

وإذا تقرَّر هذا، وأصبَحَ مسلَّمًا به، فإن إنكارَهُ مبنيٌّ على مزاجٍ نفسيٍّ مَرَضيٍّ.

ثانيًا: اللذَّاتُ الدنيويَّةُ ليست لذَّاتٍ حقيقيَّة:

فإنك إذا فكَّرْتَ في الأكلِ والشربِ واللِّباسِ والجِماعِ والراحةِ، وسائرِ ما يُستلَذُّ به، رأيتَهُ يَدفَعُ بها ما قابَلهُ مِن الآلامِ والبليَّات؛ أفلا تَرَاكَ تَدفَعُ بالأكلِ ألمَ الجُوع، وبالشربِ ألمَ العطَش، وباللباسِ ألمَ الحرِّ والبَرْد، وكذا سائرُها؟!

ومِن هنا قال بعضُ العقلاءِ: «إن لذَّاتِ الدنيا إنما هي دفعُ آلامٍ، لا غيرُ، فأمَّا اللذَّاتُ الحقيقيَّةُ، فلها دارٌ أخرى، ومحلٌّ آخَرُ غيرُ هذه».

ولو سلَّمْنا أنها لذَّاتٌ حقيقيَّةٌ، فهي لذَّاتٌ خَسِيسةٌ، ونحن لا نَوَدُّ أن نُطِيلَ الحديثَ في بيانِ أوجُهِ خِسَّةِ اللذَّاتِ الحيوانيَّةِ الدنيويَّة؛ فإن لذلك موضعَهُ، لكننا نكتفي بذكرِ مثالٍ، وهو لذَّةُ الأكلِ؛ فإن العاقلَ لو نظَرَ إلى طعامِهِ حال مخالَطتِهِ رِيقَهُ، وعَجْنِهِ به، لنفَرَتْ نفسُهُ منه، ولو سقَطَتْ تلك اللُّقْمةُ مِن فِيهِ، لنفَرَ طبعُهُ مِن إعادتِها إليه.

ثمَّ إن لذَّتَهُ به إنما تحصُلُ في مَجْرى المَرِيء، فإذا فُصِلَ عن ذلك المَجْرى، زال تلذُّذُهُ به، فإذا استقَرَّ في مَعِدتِهِ، وخالَطهُ الشرابُ، وما في المَعِدةِ مِن الأجزاءِ الفضليَّة، فإنه حينئذٍ يصيرُ في غايةِ الخِسَّة، فإن زاد على مقدارِ الحاجةِ، أورَثَ الأدواءَ المختلِفةَ على تنوُّعِها، ولولا أن بقاءَهُ موقوفٌ على تناوُلِ الغذاءِ، لكان تَرْكُهُ - والحالةُ هذه - أليَقَ به.

فينبغي عدمُ الاغترارِ باللذَّاتِ الجسَديَّةِ، بل جعلُها زادًا ومُعينًا على اللذَّةِ الرُّوحيَّةِ فحَسْبُ.

ولو سلَّمْنا أن اللذَّاتِ الدنيويَّةَ لذَّاتٌ حقيقيَّة، وأنها لذَّاتٌ غيرُ خَسِيسةٍ، فإننا عند التأمُّلِ فيها نجدُ ما يَدفَعُنا لعدمِ الاغترارِ بها؛ وذلك لما يأتي:

1- أنها لذَّاتٌ منقضِيةٌ فانية.

2- أن طيِّباتِها ممزوجةٌ بالآلام، وراحاتِها مخلوطةٌ بالجِراحات.

3- أن الأراذلَ مِن الناسِ قد يشارِكون الأفاضلَ في تلك اللذَّاتِ والراحات؛ بل الغالبُ أن الأراذلَ تَزيدُ أحوالُهم على أحوالِ الأفاضلِ في هذه الخيراتِ الحسِّيَّة، واللذَّاتِ الجسَديَّة.