نص السؤال
إن التشريعاتِ الإسلاميَّةَ - مِثلَ الجِزْيةِ - تدُلُّ على عدمِ احترامِ الإسلامِ لمبدأِ المواطَنةِ الذي يتساوى فيه الجميعُ أمام القانون، بل على مخالَفةِ الإسلامِ للمواثيقِ الدوليَّةِ؛ مثلُ الإعلانِ العالَميِّ لحقوقِ الإنسان.
المؤلف: باحثو مركز أصول
المصدر: مركز أصول
عبارات مشابهة للسؤال
الإسلامُ يخالِفُ المواطَنةَ.
الجواب التفصيلي
إن الناظرَ في تاريخِنا الإسلاميِّ يجدُ أن المسلِمين الذين يحارِبون لنشرِ الهدايةِ الإسلاميَّةِ، يَذهَبون إلى البلادِ التي فتَحوها بكلِّ خيرٍ ونعمة؛ فيتَّخِذون الداخِلين في دينِهم إخوانًا متساوِين في المرتبةِ والشرَف، لا مَزِيَّةَ لأحدٍ على الآخَرِ مِن المسلِمين القدماءِ الغالِبين أو الجُدُدِ المغلوبِين إلا بالتُّقى، ويقولون عن غيرِ الداخِلين إلى دينِهم: «إن لهم ذمَّةً وعهدًا، وحرمةً وحقوقًا؛ في أنفُسِهم، وأموالِهم، وأعراضِهم؛ ما داموا يؤدُّون الجِزْيةَ»، وهي ضريبةٌ غيرُ ثقيلةٍ تَرْمي إلى الاستمرارِ في حثِّ أهلِ الذمَّةِ على الإسلام. ولينظُرْ مَن يحتجُّ بالحضارةِ الغربيَّةِ ومواثيقِها على الشريعةِ الإسلاميَّةِ فيما فعَلتِ الدُّوَلُ العصريَّةُ الغالبةُ بالمغلوبين؛ سواءٌ كانت في الحربِ العالميَّةِ الأُولى أو الثانية، أو فيما قبلَهما مِن الحروب، وما لا تزالُ تَفعَلُهُ تلك الدُّوَلُ مجتهِدةً في امتصاصِ ما عندهم مِن المنافع، ولا يُمكِنُ أحدًا مِن أفرادِ الأممِ المغلوبةِ بأيِّ وسيلةٍ مِن الوسائلِ أن يرتقِيَ إلى درَجةٍ تُساوي درَجةَ الغالبين؛ فينظُروا إليه نظَرَهم إلى واحدٍ منهم، ويحبُّوهُ كما يحبُّون واحدًا منهم. فهذه المقارَنةُ أورَدها الشيخُ مصطفى صبري التُّوقاديُّ، آخِرُ شيوخِ الإسلامِ في الدولةِ العثمانيَّة، أحبَبْنا نَقْلَها ابتداءً؛ ليُعلَمَ أن تلك الدُّوَلَ التي تدَّعي التسامُحَ وحقوقَ الإنسانِ لا يصلُحُ أن تكونَ قدوةً لنا في شيءٍ يعارِضُ شريعتَنا. والجوابُ التفصيليُّ عن هذه الشبهةِ مِن وجهَيْن: 1- للذمِّيِّ المعاهَدِ الذي يدخُلُ في ذمَّةِ وعهدِ وأمانِ المسلِمين أن يُوفَّى له بعهدِهِ وأمانِه، وألا يُساءَ إليه في شيءٍ مِن حُرُماتِهِ وحقوقِه؛ لا في نفسِه، ولا مالِه، ولا عِرضِه: عن سليمانَ بنِ بُرَيدةَ، عن أبيهِ، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا»؛ رواه مسلم (1731). وعن صَفْوانَ بنِ سُلَيمٍ، عن عِدَّةٍ - وقال البَيهَقيُّ: «ثلاثينَ مِن أبناءِ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ» - عن آبائِهم، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: « أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ رواه أبو داود (3052). وانظر: «صحيحَ الجامعِ الصغير» (2655). وعن العِرْباضِ بنِ سَارِيَةَ رضيَ اللهُ عنه: أَنَّ صَاحِبَ خَيْبَرَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ^، فَشَكَا إِلَيْهِ بَعْضَ مَا يَلْقَوْنَ، فَأَمَرَ النَّاسَ فَاجْتَمَعُوا وَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ^: «... وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ، وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ؛ إِذَا أَعْطَوْكُمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ»؛ رواه أبو داود (3050). وانظر: «صحيحَ سننِ أبي داود» (2686). وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَصَدَّقُوا إِلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ»، فأنزَلَ اللهُ تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] ، إلى قولِهِ: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272] ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ»؛ رواه ابنُ أبي شَيْبةَ (3/ 177 رقم 10499). وانظر: «السلسلة الصحيحة» (2766). وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضيَ اللهُ عنهما؛ أنه ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»؛ رواه أبو داودَ (5152)، والتِّرمِذيُّ (1943)، وأصلُهُ عند البخاري (6015)، ومسلم (2625)؛ مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ. وعن أنسٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: «كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ ﷺ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ»؛ رواه البخاري (1356). وعن أبي عثمانَ النَّهْديِّ، قال: «كَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى دِهْقَانٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَافِرٌ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَتَبَ إِلَيَّ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، فَرَدَدتُّ عَلَيْهِ»؛ رواه البخاري في «الأدَب المفرَد» (1101). وانظر: «صحيح الأدب المفرد» (837). وعن ابنِ عبَّاسٍ، قال: رُدُّوا السَّلَامَ عَلَى مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا؛ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] ؛ أخرجه البخاري في «الأدَب المفرَد» (1107). وانظر: «صحيحَ الأدَبِ المفرَد» (843). وعنه، قال: «لَوْ قَالَ لِي فِرْعَوْنُ: بَارَكَ اللهُ فِيكَ، قُلْتُ: وَفِيكَ، وَفِرْعَوْنُ قَدْ مَاتَ»؛ أخرجه البخاري في «الأدَب المفرَد» (1113). وانظر: «صحيحَ الأدَبِ المفرَد» (848). وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» ؛ أخرجه النَّسائيُّ (4750). وانظر: «صحيحَ سننِ النَّسائيِّ» (4425). وعنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»؛ رواه البخاري (3166). وفي روايةٍ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا، لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»؛ رواه البخاري (6914). وعن أبي بَكْرةَ، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»؛ أخرجه أبو داود (2760). وانظر: «صحيحَ سننِ أبي داود» (2398). فهذه النصوصُ الكثيرةُ تدُلُّ على مبلغِ سماحةِ الإسلامِ في التعامُلِ مع أهلِ الذمَّة. 2- الحكمةُ مِن بعضِ التشريعاتِ المميِّزةِ بين المسلِمِ والذمِّيّ: إن التعاقُدَ والتحالُفَ أساسُ كلِّ مجتمَعٍ مِن المجتمَعات؛ إذْ لا يُمكِنُ لبني آدمَ أن يَعيشوا بدونِ اتِّفاقٍ على ما يشترِكون فيه مِن جلبِ المنافعِ والمحبوبات، ودفعِ المضارِّ والمكروهات، ولازِمُ ذلك: وجودُ المُوالي والمُعادي لكلِّ طائفةٍ تعاقَدَتْ على مشترَكٍ مِن المشترَكات؛ فـ «المُوالي»: هو مَن يشارِكُهم فيما تعاقَدوا عليه واتَّفَقوا، و«المُعادي»: هو مَن يخالِفُهم في ذلك. والتعاقُدُ الذي يتأسَّسُ عليه المجتمَعُ الإسلاميُّ: هو التعاقُدُ على جلبِ المنافعِ والمحبوباتِ التي يحبُّها اللهُ تعالى ويَرْضاها، ودفعِ المضارِّ والمكروهاتِ التي يَكرَهُها اللهُ تعالى ويُبغِضُها؛ فهو تعاقُدٌ متَّجِهٌ نحوَ الغايةِ التي أرادها اللهُ تعالى مِن خلقِهِ الخلقَ، وهي إفرادُهُ بالعبادةِ التي هي كمالُ المحبَّةِ مع كمالِ الخضوع، وإذا كان هذا التعاقُدُ متَّجِهًا نحوَ هذه الغاية، فإن الوَلَايةَ والعَدَاوةَ لدى المجتمَعِ الإسلاميِّ متَّجِهةٌ نحوَ هذه الغايةِ تبَعًا؛ فأولياءُ اللهِ تعالى: هم أولياءُ المؤمِنين، وأعداؤُهُ: هم أعداؤُهم. ولذا وجَدْنا مبنى شريعةِ محمَّدٍ ﷺ - التي تبيِّنُ ما يحبُّهُ اللهُ تعالى، وما يَكرَهُهُ مِن الأفعالِ والأقوالِ أتمَّ البيان - على التفريقِ بين أولياءِ اللهِ تعالى وأعدائِهِ في الأحكام؛ وعلى هذا تجدُ كتُبَ الفقهِ التي دوَّنها علماءُ المسلِمين لحفظِ الشريعةِ وفهمِها. وإذْ ضَعُفتِ المعرفةُ باللهِ تعالى، وسَيْطَرتِ المفاهيمُ الغربيَّةُ اللِّيبْرَاليَّةُ الإلحاديَّةُ التي لا تُقِرُّ بخالقٍ آمرٍ ناهٍ حكيمٍ -: انحرَفَتْ تبعًا لذلك المعرفةُ بالغايةِ التي يتَّجِهُ نحوَها المجتمَعُ الإسلاميُّ في تعاقُدِهِ الذي به يكونُ مجتمَعًا، وهي تحقيقُ عبوديَّةِ اللهِ تعالى، واتَّجَهتْ نحوَ الغاياتِ واللذائذِ المادِّيَّةِ الدنيويَّةِ التي يوجِّهُ الفكرُ اللِّيبْرَاليُّ الناسَ إليها. ومِن هنا: فإن فَهْمَ الحكمةِ مِن بعضِ التشريعاتِ التي تفرِّقُ بين أهلِ الذمَّةِ وبين المسلِمين؛ مثلُ الجِزْيةِ، وعدمِ قتلِ المسلِمِ بالذمِّيِّ -: مؤسَّسٌ على التصوُّرِ الصحيحِ للنظامِ السياسيِّ في الإسلام. فحرمةُ دمِ الذمِّيِّ التي تقدَّم تقريرُها آنفًا، لا تقتضي استواءَ دمِهِ مع دمِ المسلِمِ عقلًا، ولا شرعًا، ولا مصلحةً؛ بحيثُ يقالُ: إن المسلِمَ إذا قتَلَ ذمِّيًّا، فإنه يُقتَلُ به. ولا ريبَ أن الدَّمَيْنِ قبل القهرِ والإذلالِ لم يكونا بمستوِيَيْنِ؛ لأجلِ الكفر؛ فأيُّ موجِبٍ لاستوائِهما بعد الاستذلال، والكفرُ قائمٌ بعَيْنِه؟! فهل في الحكمةِ، وقواعدِ الشريعةِ، وموجِباتِ العقولِ: أن يكونَ الإذلالُ والقهرُ للكافرِ موجِبًا لمساواةِ دمِهِ لدمِ المسلِم؟! هذا مما تأباهُ الحكمةُ والمصلحةُ والعقولُ؛ كما يقولُ ابنُ القيِّمِ في «مفتاحِ دارِ السعادة» (2/ 1110). وقد أشار النبيُّ ﷺ إلى هذا المعنى، وكشَفَ الغطاءَ، وأوضَحَ المشكِلَ، بقولِهِ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ»؛ رواه أبو داودَ (2751)، وابنُ ماجهْ (2685)، أو قال: «الْمُؤْمِنُونَ ...»؛ فعلَّق المكافأةَ بوصفٍ لا يجوزُ إلغاؤُهُ وإهدارُهُ، ولا تعليقُ المكافأةِ بغيرِه؛ إذْ يكونُ إبطالًا لما اعتبَرهُ الشارعُ، واعتبارًا لما أبطَله، فإذا علَّق المكافأةَ بوصفِ الإيمانِ، كان كتعليقِهِ سائرَ الأحكامِ بالأوصافِ المناسِبةِ لها؛ كتعليقِ القطعِ بوصفِ السرقة، والرجمِ بوصفِ الزِّنى، والجلدِ بوصفِ القذفِ والشربِ؛ ولا فرقَ بينهما أصلًا. فقد أدَّى نظرُ العقلِ: إلى أن دمَ عدُوِّ اللهِ الكافرِ لا يساوي دمَ وليِّه، ولا يكافِئُهُ أبدًا، وجاء الشرعُ بموجَبِهِ؛ فأيُّ معارَضةٍ هاهنا؟! وأيُّ حَيْرةٍ؟! إنْ هو إلا بصيرةٌ على بصيرة، ونُورٌ على نُور! وأما الإلزامُ بالجِزْيةِ، فإنا لو لم نُبْقِهم في بلادِ الإسلامِ، لم يَسمَعوا محاسِنَهُ، فلم يُسلِموا، ولو أبقَيْناهم بلا جِزْيةٍ، اغتَرُّوا وأَنِفوا، فأبقَيْناهم بالجِزْيةِ؛ لا طمعًا فيها، بل رغبةً في إسلامِهم. ولهذا إذا نزَلَ عيسى عليه السلامُ، لا يَقبَلُ الجِزْيةَ منهم؛ لأن مدَّةَ الدنيا التي يُرْجى إسلامُهم فيها فرَغَت، والحُكمُ يزولُ بزوالِ عِلَّتِه؛ فزال حكمُ قَبولِ الجِزْيةِ بزوالِ عِلَّتِه، وهو انتظارُ إسلامِهم؛ وذلك حكمٌ مِن أحكامِ شريعةِ النبيِّ ^، وليس حكمًا جديدًا؛ فإن عيسى عليه السلامُ إنما يَنزِلُ حاكمًا بشريعةِ النبيِّ ﷺ؛ كما يقولُ السُّبْكيُّ في «فتاويه» (2/ 388). فهذا شيءٌ مما قرَّره أهلُ العلمِ في بعضِ التشريعاتِ المميِّزةِ بين أهلِ الذمَّةِ وبين المسلِمين، وهي - كما ترى - متَّسِقةٌ مع التصوُّرِ الصحيحِ للنظامِ السياسيِّ في الإسلام. |
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
يرى السائلُ أن هناك تشريعاتٍ مردودةً في الإسلامِ في التعامُلِ مع أهلِ الذمَّة؛ ويستدِلُّ لذلك بمخالَفتِها لمبدأِ المواطَنةِ الذي يتساوى فيه الجميعُ أمام القانون، وكذلك بمخالَفةِ الإسلامِ للمواثيقِ الدوليَّة؛ مثلُ الإعلانِ العالَميِّ لحقوقِ الإنسان.
مختصَرُ الإجابة:
إن الإسلامَ صان حقوقَ أهلِ الذمَّة؛ فإن الغدرَ حرامٌ في جميعِ المِلَلِ والشرائعِ والسياسات، والتفريقُ في بعضِ التشريعاتِ له حكمةٌ وغايةٌ بيَّنها أهلُ العلم، ولا حجَّةَ في شيءٍ مِن القوانينِ أو المواثيقِ إذا عارَضتِ الشريعةَ الإسلاميَّة.
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
يرى السائلُ أن هناك تشريعاتٍ مردودةً في الإسلامِ في التعامُلِ مع أهلِ الذمَّة؛ ويستدِلُّ لذلك بمخالَفتِها لمبدأِ المواطَنةِ الذي يتساوى فيه الجميعُ أمام القانون، وكذلك بمخالَفةِ الإسلامِ للمواثيقِ الدوليَّة؛ مثلُ الإعلانِ العالَميِّ لحقوقِ الإنسان.
مختصَرُ الإجابة:
إن الإسلامَ صان حقوقَ أهلِ الذمَّة؛ فإن الغدرَ حرامٌ في جميعِ المِلَلِ والشرائعِ والسياسات، والتفريقُ في بعضِ التشريعاتِ له حكمةٌ وغايةٌ بيَّنها أهلُ العلم، ولا حجَّةَ في شيءٍ مِن القوانينِ أو المواثيقِ إذا عارَضتِ الشريعةَ الإسلاميَّة.
الجواب التفصيلي
إن الناظرَ في تاريخِنا الإسلاميِّ يجدُ أن المسلِمين الذين يحارِبون لنشرِ الهدايةِ الإسلاميَّةِ، يَذهَبون إلى البلادِ التي فتَحوها بكلِّ خيرٍ ونعمة؛ فيتَّخِذون الداخِلين في دينِهم إخوانًا متساوِين في المرتبةِ والشرَف، لا مَزِيَّةَ لأحدٍ على الآخَرِ مِن المسلِمين القدماءِ الغالِبين أو الجُدُدِ المغلوبِين إلا بالتُّقى، ويقولون عن غيرِ الداخِلين إلى دينِهم: «إن لهم ذمَّةً وعهدًا، وحرمةً وحقوقًا؛ في أنفُسِهم، وأموالِهم، وأعراضِهم؛ ما داموا يؤدُّون الجِزْيةَ»، وهي ضريبةٌ غيرُ ثقيلةٍ تَرْمي إلى الاستمرارِ في حثِّ أهلِ الذمَّةِ على الإسلام. ولينظُرْ مَن يحتجُّ بالحضارةِ الغربيَّةِ ومواثيقِها على الشريعةِ الإسلاميَّةِ فيما فعَلتِ الدُّوَلُ العصريَّةُ الغالبةُ بالمغلوبين؛ سواءٌ كانت في الحربِ العالميَّةِ الأُولى أو الثانية، أو فيما قبلَهما مِن الحروب، وما لا تزالُ تَفعَلُهُ تلك الدُّوَلُ مجتهِدةً في امتصاصِ ما عندهم مِن المنافع، ولا يُمكِنُ أحدًا مِن أفرادِ الأممِ المغلوبةِ بأيِّ وسيلةٍ مِن الوسائلِ أن يرتقِيَ إلى درَجةٍ تُساوي درَجةَ الغالبين؛ فينظُروا إليه نظَرَهم إلى واحدٍ منهم، ويحبُّوهُ كما يحبُّون واحدًا منهم. فهذه المقارَنةُ أورَدها الشيخُ مصطفى صبري التُّوقاديُّ، آخِرُ شيوخِ الإسلامِ في الدولةِ العثمانيَّة، أحبَبْنا نَقْلَها ابتداءً؛ ليُعلَمَ أن تلك الدُّوَلَ التي تدَّعي التسامُحَ وحقوقَ الإنسانِ لا يصلُحُ أن تكونَ قدوةً لنا في شيءٍ يعارِضُ شريعتَنا. والجوابُ التفصيليُّ عن هذه الشبهةِ مِن وجهَيْن: 1- للذمِّيِّ المعاهَدِ الذي يدخُلُ في ذمَّةِ وعهدِ وأمانِ المسلِمين أن يُوفَّى له بعهدِهِ وأمانِه، وألا يُساءَ إليه في شيءٍ مِن حُرُماتِهِ وحقوقِه؛ لا في نفسِه، ولا مالِه، ولا عِرضِه: عن سليمانَ بنِ بُرَيدةَ، عن أبيهِ، قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ، فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا»؛ رواه مسلم (1731). وعن صَفْوانَ بنِ سُلَيمٍ، عن عِدَّةٍ - وقال البَيهَقيُّ: «ثلاثينَ مِن أبناءِ أصحابِ رسولِ اللهِ ﷺ» - عن آبائِهم، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: « أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ رواه أبو داود (3052). وانظر: «صحيحَ الجامعِ الصغير» (2655). وعن العِرْباضِ بنِ سَارِيَةَ رضيَ اللهُ عنه: أَنَّ صَاحِبَ خَيْبَرَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ^، فَشَكَا إِلَيْهِ بَعْضَ مَا يَلْقَوْنَ، فَأَمَرَ النَّاسَ فَاجْتَمَعُوا وَخَطَبَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ^: «... وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحِلَّ لَكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَلَا ضَرْبَ نِسَائِهِمْ، وَلَا أَكْلَ ثِمَارِهِمْ؛ إِذَا أَعْطَوْكُمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ»؛ رواه أبو داود (3050). وانظر: «صحيحَ سننِ أبي داود» (2686). وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَصَدَّقُوا إِلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ»، فأنزَلَ اللهُ تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] ، إلى قولِهِ: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272] ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ»؛ رواه ابنُ أبي شَيْبةَ (3/ 177 رقم 10499). وانظر: «السلسلة الصحيحة» (2766). وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضيَ اللهُ عنهما؛ أنه ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا اليَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»؛ رواه أبو داودَ (5152)، والتِّرمِذيُّ (1943)، وأصلُهُ عند البخاري (6015)، ومسلم (2625)؛ مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ. وعن أنسٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: «كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ﷺ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ»، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا القَاسِمِ ﷺ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: «الحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ»؛ رواه البخاري (1356). وعن أبي عثمانَ النَّهْديِّ، قال: «كَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى دِهْقَانٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ كَافِرٌ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَتَبَ إِلَيَّ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، فَرَدَدتُّ عَلَيْهِ»؛ رواه البخاري في «الأدَب المفرَد» (1101). وانظر: «صحيح الأدب المفرد» (837). وعن ابنِ عبَّاسٍ، قال: رُدُّوا السَّلَامَ عَلَى مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا؛ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] ؛ أخرجه البخاري في «الأدَب المفرَد» (1107). وانظر: «صحيحَ الأدَبِ المفرَد» (843). وعنه، قال: «لَوْ قَالَ لِي فِرْعَوْنُ: بَارَكَ اللهُ فِيكَ، قُلْتُ: وَفِيكَ، وَفِرْعَوْنُ قَدْ مَاتَ»؛ أخرجه البخاري في «الأدَب المفرَد» (1113). وانظر: «صحيحَ الأدَبِ المفرَد» (848). وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» ؛ أخرجه النَّسائيُّ (4750). وانظر: «صحيحَ سننِ النَّسائيِّ» (4425). وعنه، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا، لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»؛ رواه البخاري (3166). وفي روايةٍ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا، لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»؛ رواه البخاري (6914). وعن أبي بَكْرةَ، قال: قال رسول الله ﷺ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ، حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»؛ أخرجه أبو داود (2760). وانظر: «صحيحَ سننِ أبي داود» (2398). فهذه النصوصُ الكثيرةُ تدُلُّ على مبلغِ سماحةِ الإسلامِ في التعامُلِ مع أهلِ الذمَّة. 2- الحكمةُ مِن بعضِ التشريعاتِ المميِّزةِ بين المسلِمِ والذمِّيّ: إن التعاقُدَ والتحالُفَ أساسُ كلِّ مجتمَعٍ مِن المجتمَعات؛ إذْ لا يُمكِنُ لبني آدمَ أن يَعيشوا بدونِ اتِّفاقٍ على ما يشترِكون فيه مِن جلبِ المنافعِ والمحبوبات، ودفعِ المضارِّ والمكروهات، ولازِمُ ذلك: وجودُ المُوالي والمُعادي لكلِّ طائفةٍ تعاقَدَتْ على مشترَكٍ مِن المشترَكات؛ فـ «المُوالي»: هو مَن يشارِكُهم فيما تعاقَدوا عليه واتَّفَقوا، و«المُعادي»: هو مَن يخالِفُهم في ذلك. والتعاقُدُ الذي يتأسَّسُ عليه المجتمَعُ الإسلاميُّ: هو التعاقُدُ على جلبِ المنافعِ والمحبوباتِ التي يحبُّها اللهُ تعالى ويَرْضاها، ودفعِ المضارِّ والمكروهاتِ التي يَكرَهُها اللهُ تعالى ويُبغِضُها؛ فهو تعاقُدٌ متَّجِهٌ نحوَ الغايةِ التي أرادها اللهُ تعالى مِن خلقِهِ الخلقَ، وهي إفرادُهُ بالعبادةِ التي هي كمالُ المحبَّةِ مع كمالِ الخضوع، وإذا كان هذا التعاقُدُ متَّجِهًا نحوَ هذه الغاية، فإن الوَلَايةَ والعَدَاوةَ لدى المجتمَعِ الإسلاميِّ متَّجِهةٌ نحوَ هذه الغايةِ تبَعًا؛ فأولياءُ اللهِ تعالى: هم أولياءُ المؤمِنين، وأعداؤُهُ: هم أعداؤُهم. ولذا وجَدْنا مبنى شريعةِ محمَّدٍ ﷺ - التي تبيِّنُ ما يحبُّهُ اللهُ تعالى، وما يَكرَهُهُ مِن الأفعالِ والأقوالِ أتمَّ البيان - على التفريقِ بين أولياءِ اللهِ تعالى وأعدائِهِ في الأحكام؛ وعلى هذا تجدُ كتُبَ الفقهِ التي دوَّنها علماءُ المسلِمين لحفظِ الشريعةِ وفهمِها. وإذْ ضَعُفتِ المعرفةُ باللهِ تعالى، وسَيْطَرتِ المفاهيمُ الغربيَّةُ اللِّيبْرَاليَّةُ الإلحاديَّةُ التي لا تُقِرُّ بخالقٍ آمرٍ ناهٍ حكيمٍ -: انحرَفَتْ تبعًا لذلك المعرفةُ بالغايةِ التي يتَّجِهُ نحوَها المجتمَعُ الإسلاميُّ في تعاقُدِهِ الذي به يكونُ مجتمَعًا، وهي تحقيقُ عبوديَّةِ اللهِ تعالى، واتَّجَهتْ نحوَ الغاياتِ واللذائذِ المادِّيَّةِ الدنيويَّةِ التي يوجِّهُ الفكرُ اللِّيبْرَاليُّ الناسَ إليها. ومِن هنا: فإن فَهْمَ الحكمةِ مِن بعضِ التشريعاتِ التي تفرِّقُ بين أهلِ الذمَّةِ وبين المسلِمين؛ مثلُ الجِزْيةِ، وعدمِ قتلِ المسلِمِ بالذمِّيِّ -: مؤسَّسٌ على التصوُّرِ الصحيحِ للنظامِ السياسيِّ في الإسلام. فحرمةُ دمِ الذمِّيِّ التي تقدَّم تقريرُها آنفًا، لا تقتضي استواءَ دمِهِ مع دمِ المسلِمِ عقلًا، ولا شرعًا، ولا مصلحةً؛ بحيثُ يقالُ: إن المسلِمَ إذا قتَلَ ذمِّيًّا، فإنه يُقتَلُ به. ولا ريبَ أن الدَّمَيْنِ قبل القهرِ والإذلالِ لم يكونا بمستوِيَيْنِ؛ لأجلِ الكفر؛ فأيُّ موجِبٍ لاستوائِهما بعد الاستذلال، والكفرُ قائمٌ بعَيْنِه؟! فهل في الحكمةِ، وقواعدِ الشريعةِ، وموجِباتِ العقولِ: أن يكونَ الإذلالُ والقهرُ للكافرِ موجِبًا لمساواةِ دمِهِ لدمِ المسلِم؟! هذا مما تأباهُ الحكمةُ والمصلحةُ والعقولُ؛ كما يقولُ ابنُ القيِّمِ في «مفتاحِ دارِ السعادة» (2/ 1110). وقد أشار النبيُّ ﷺ إلى هذا المعنى، وكشَفَ الغطاءَ، وأوضَحَ المشكِلَ، بقولِهِ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ»؛ رواه أبو داودَ (2751)، وابنُ ماجهْ (2685)، أو قال: «الْمُؤْمِنُونَ ...»؛ فعلَّق المكافأةَ بوصفٍ لا يجوزُ إلغاؤُهُ وإهدارُهُ، ولا تعليقُ المكافأةِ بغيرِه؛ إذْ يكونُ إبطالًا لما اعتبَرهُ الشارعُ، واعتبارًا لما أبطَله، فإذا علَّق المكافأةَ بوصفِ الإيمانِ، كان كتعليقِهِ سائرَ الأحكامِ بالأوصافِ المناسِبةِ لها؛ كتعليقِ القطعِ بوصفِ السرقة، والرجمِ بوصفِ الزِّنى، والجلدِ بوصفِ القذفِ والشربِ؛ ولا فرقَ بينهما أصلًا. فقد أدَّى نظرُ العقلِ: إلى أن دمَ عدُوِّ اللهِ الكافرِ لا يساوي دمَ وليِّه، ولا يكافِئُهُ أبدًا، وجاء الشرعُ بموجَبِهِ؛ فأيُّ معارَضةٍ هاهنا؟! وأيُّ حَيْرةٍ؟! إنْ هو إلا بصيرةٌ على بصيرة، ونُورٌ على نُور! وأما الإلزامُ بالجِزْيةِ، فإنا لو لم نُبْقِهم في بلادِ الإسلامِ، لم يَسمَعوا محاسِنَهُ، فلم يُسلِموا، ولو أبقَيْناهم بلا جِزْيةٍ، اغتَرُّوا وأَنِفوا، فأبقَيْناهم بالجِزْيةِ؛ لا طمعًا فيها، بل رغبةً في إسلامِهم. ولهذا إذا نزَلَ عيسى عليه السلامُ، لا يَقبَلُ الجِزْيةَ منهم؛ لأن مدَّةَ الدنيا التي يُرْجى إسلامُهم فيها فرَغَت، والحُكمُ يزولُ بزوالِ عِلَّتِه؛ فزال حكمُ قَبولِ الجِزْيةِ بزوالِ عِلَّتِه، وهو انتظارُ إسلامِهم؛ وذلك حكمٌ مِن أحكامِ شريعةِ النبيِّ ^، وليس حكمًا جديدًا؛ فإن عيسى عليه السلامُ إنما يَنزِلُ حاكمًا بشريعةِ النبيِّ ﷺ؛ كما يقولُ السُّبْكيُّ في «فتاويه» (2/ 388). فهذا شيءٌ مما قرَّره أهلُ العلمِ في بعضِ التشريعاتِ المميِّزةِ بين أهلِ الذمَّةِ وبين المسلِمين، وهي - كما ترى - متَّسِقةٌ مع التصوُّرِ الصحيحِ للنظامِ السياسيِّ في الإسلام. |