نص السؤال

توهم تناقض القرآن بشأن تعذيب قاتل المؤمن عمدًا

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

توهم تناقض القرآن بشأن تعذيب قاتل المؤمن عمدا (*)


مضمون الشبهة: 


يتوهم بعض المغالطين أن هناك تناقضا بين

قوله تعالى:

(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93))

(النساء)

، وبين قوله تعالى: (

إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48))

(النساء). 


ويتساءلون: كيف تخبرنا الآية الأولى أن قاتل المؤمن متعمدا يجازى بالخلود في جهنم، وأن الله يغضب عليه ويلعنه، في حين أن الآية الثانية تقرر أن التائب من أي ذنب يغفر الله له، ولا يحرم من مغفرة الله تعالى إلا من مات على الشرك؟!! ويستدلون بذلك حسب زعمهم على وقوع التناقض في القرآن الكريم. 


وجها إبطال الشبهة: 


1) الآية الأولى حكمها فيمن يستحل قتل المؤمن؛ لأن مستحل ذلك كافر، وهذه الآية للتشديد والتخويف والتغليظ في الزجر عن قتل المؤمن. 
2) إن جزاء القاتل عمدا جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى موته، أما إن تاب فإن الله غفور رحيم، وهذا ما تؤكده الآية الثانية. 


التفصيل: 


أولا. الآية الأولى نزلت فيمن يستحل قتل المؤمن؛ لأن مستحل ذلك كافر، فهي من قبيل التشديد والتغليظ والتخويف: 


ورد في سبب نزول الآية أنها نزلت في مقيس بن صبابة الكناني، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام، فوجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه، وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديته. 
فأبلغهم الفهري ذلك، فقالوا: سمعا وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلا، ولكنا نؤدي ديته، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة، فأتى الشيطان مقيسا، فوسوس إليه فقال: تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة، اقتل الذي معك، فتكون نفس مكان نفس، وفضل الدية، فتغفل الفهري، فرماه بصخرة فقتله، ثم ركب بعيرا، وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا؛

فنزل فيه:

(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها)

(النساء: ٩٣)،

بكفره وارتداده، وهو الذي استثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة ممن أمنه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة. 
وعلى هذا، فالآية مختصة بالقاتل المستحل للقتل الخارج عن الإسلام، الذي هو كمقيس بن صبابة، فإنه مخلد في النار. أما أي مؤمن يرتكب ذنبا غير مستحل له، فإنه لا يخلد في النار. 
فهذه الآية نزلت للتشديد والتخويف والتغليظ في الزجر عن قتل المؤمن،

ولذلك نظير في قوله تعالى:

(فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97))

(آل عمران)،

على أن القول بأن معنى: (ومن كفر): ومن لم يحج. 
وما جاء عن ابن عباس من عدم قبول توبة قاتل المؤمن عمدا، فقد أراد به التشديد، فقد جاء عنه أيضا قبول توبته. 
قال الخطيب: وما جاء عن ابن عباس أنه قال: «لا تقبل توبة قاتل المؤمن عمدا» أراد به التشديد، كما قاله البيضاوي؛ إذ روي عنه خلافه [1]. 
وقال القرطبي: وذهب جماعة من العلماء - منهم عبد الله بن عمر، وهو أيضا مروي عن ابن عباس وزيد - إلى أن له توبة، فقد جاء عن يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة؟ قال: لا، إلا البار قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة، قال: إني لأحسبه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا، قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك. 


كما جاء عن سفيان بن عيينة أنه قال: إن لم يقتل، يقال له: لا توبة لك. وإن قتل ثم جاء يقال: لك توبة، ويروى قتله عن ابن عباس [2]. 
وهكذا يبشع الله لنا جريمة القتل العمد؛ لأن التعمد يعني أن القاتل قد عاش في فكره أن يقتل. وكان المفروض في الفترة التي يرتب فيها للقتل أن يراجعه وازعه الديني، وهذا يعني أن الله قد غاب عن باله مدة التحضير للجريمة، وما دام قد عاش ذلك فهو قد غاب عن الله، فلو جاء الله في باله لتراجع، وما دام الإنسان قد غاب عن الله، فالله يغيبه عن رحمته. 
ثانيا. جزاء القاتل عمدا جهنم إن أصر على الذنب حتى موته، أما إن تاب فإن الله غفور رحيم: 


قال القرطبي: إن الجمع بين الآيتين ممكن، فلا نسخ ولا تعارض بينهما، وذلك أن يحمل مطلق الآية الأولى على مقيد الآية الثانية، فيكون معناه: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد الموجب وهو القتل، والموجب وهو التوعد بالعقاب. 


وأما الأخبار فكثيرة، كحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي قال فيه: «تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفي منكم، فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك، فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه» [3]. 

وكحديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

في الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما: هل لي من توبة؟ فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة [4]


، ثم يقول ابن كثير: وإذا كان هذا في بني إسرائيل، فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى؛ لأن الله وضع عنا الآصار [5] والأغلال [6] التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة؛ ولأن الكفر أعظم من القتل، وتوبة الكافر مقبولة

بدليل قوله تعالى:

(قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)

(الأنفال: ٣٨)

، وإذا كانت التوبة من الكفر مقبولة، فلأن تقبل من القاتل أولى. 
والمراد بالخلود في جهنم على هذا، والذي قبله المكث الطويل؛ إذ الخلود في حق الكفار بمعنى: الدوام الذي لا ينقطع، وبالنسبة للمؤمنين: المكث الطويل، فالله يعذب عصاة المؤمنين في النار ثم يخرجهم منها برحمته وكرمه، فقد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحيحة، إخراج جميع الموحدين من النار، وهذا الوجه الأخير هو الأرجح [7]. 


الخلاصة: 


•   الآية الأولى نزلت في مستحل قتل المؤمن؛ لأن مستحل ذلك كافر، وعلى هذا، فإن الآية مختصة بالقاتل المستحل للقتل الخارج عن الإسلام، فإنه مخلد في النار، أما أي مؤمن يرتكب ذنبا غير مستحل له، فإنه لا يخلد في النار. 
•   ثم إن الآية للتشديد والتخويف والتغليظ في الزجر عن قتل المؤمن، وهكذا يبشع الله لنا جريمة القتل العمد؛ لأن القاتل قد غاب الله تبارك وتعالى عن باله مدة التحضير للجريمة، وما دام قد عاش ذلك، فهو قد غاب عن الله، فلو جاء الله في باله لتراجع، وما دام الإنسان قد غاب عن الله، فالله يغيبه عن رحمته. 
•   إن جزاء القاتل عمدا جهنم إن لم يتب وأصر على الذنب حتى موته، وذلك أن يحمل مطلق آية الفرقان على مقيد آية النساء، فيكون معناه: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، أما إن تاب عن ذنبه فإن الله - عز وجل - يقبل توبته. 
•   وعليه، فإن المراد بالخلود في جهنم على هذا هو: المكث الطويل؛ إذ الخلود حق الكفار، بمعنى: الدوام الذي لا ينقطع، وبالنسبة للمؤمنين: المكث الطويل. 

المراجع

  1. (*) البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. . [1] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة الفرقان (4484)، ومسلم في صحيحه، أوائل كتاب التفسير (7730).
  2.  البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص257: 259.
  3.  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب بيعة النساء (6787)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الحدود، بــاب الحــدود كفــارات لأهلهــا (4558).
  4. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ) (الكهف: ٩) (3283)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (7185).
  5. الآصار: جمع الإصر، وهو الذنب أو العقوبة.
  6. الأغلال: جمع الغل، وهو طوق من حديد أو جلد يجعل في عنق الأسير أو المجرم أو في أيديهما.
  7. البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص259، 260.