نص السؤال
المؤلف: مجموعة مؤلفي بيان الإسلام
المصدر: موسوعة بيان الإسلام
الجواب التفصيلي
توهم تناقض القرآن حول رؤية الله - عز وجل - بالأبصار
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تعارضا بين
قوله - سبحانه وتعالى:
(وجوه يومئذ ناضرة (22))
(القيامة)
، وبين قوله سبحانه وتعالى:
(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15))
(المطففين)
، وقوله سبحانه وتعالى:
(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103))
(الأنعام).
ويتساءلون: كيف يصرح القرآن في موضع بإمكان رؤية الله تعالى بالأبصار، بينما ينفي ذلك في موضع آخر؟ ويعتبرون هذا التعارض على حد قولهم دليلا على بشرية القرآن.
وجها إبطال الشبهة:
1) رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة حقيقة ثابتة، أما معنى
قوله عز وجل:
(لا تدركه الأبصار)
أي: لا تحيط به وبكنهه جل وعلا، أو لا تدركه في الدنيا، وعدم الإدراك بالأبصار في الدنيا لا ينافي الرؤية في الآخرة، أو أن الآية من العام المخصص.
2) اختلف العلماء حول حقيقة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - ليلة الإسراء والمعراج، فمنهم من أثبت ذلك، ومنهم من نفاه، والراجح أن رؤية النبي لله ثابتة.
التفصيل:
أولا. حقيقة رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة:
رؤية المؤمنين لربهم - عز وجل - حقيقه لا مراء فيها، بيد أن سوء الفهم وخبث الطوية[1]يؤديان بصاحبهما إلى نفي ذلك والوقوف عند ظاهر الآيات، فعن حقيقة الرؤية يقول د. أبو النور الحديدي: إن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة كما نطقت بذلك آيات، منها
قوله عز وجل:
(وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23))
(القيامة)
، وقوله عز وجل:
(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)
(يونس: ٢٦)
، والحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم،
وقوله عز وجل:
(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15))
(المطففين)،
وهي في حق الكفار، فيفهم أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم. وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -
ومنها ما جاء عن صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
«إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل»
[[2]
ولقد أخطأ من زعم أن الله - عز وجل - لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا؛ وذلك أن الرؤية - عندهم - تتوقف على اتصال الأشعة بالمرئي، وتستلزم أن يكون المرئي في جهة، وأن يكون مقابلا للرائي، وكل هذا لا يجوز على الله تعالى.
ويرد على شبههم هذه بما قاله أهل الحق من أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك، لكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط، كما لا يلزم من رؤية الله - عز وجل - إثبات جهة له تعالى عن ذلك، بل يراه المؤمنون لا في جهة، كما يعلمونه.
وقد ذهب الذين اعتمدوا على اتصال الأشعة بالمرئي، وكونه في جهة حتى يمكن رؤيته إلى قولين كلاهما خطأ:
1. فسروا
قوله سبحانه وتعالى:
(وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23))
(القيامة)
، بمعنى: منتظرة، وأن المؤمنين ينتظرون ما لهم عند الله من الثواب والنعمة. وهذا التفسير خطأ؛ لأنه لا يقال: نظر إلى كذا، بمعنى: انتظر، وأن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، وإذا أرادوا الانتظار قالوا: نظرته، لا نظرت إليه.
2. وأما تمسكهم بالآية الكريمة وهي:
(لا تدركه الأبصار)
(الأنعام: ١٠٣)
على أن الإدراك هو الرؤية، فالآية تنفي رؤية الأبصار لله - عز وجل - وهو خطأ إذا حمل على الإطلاق؛ إذ معنى
قوله:
(لا تدركه الأبصار)
يحمل على أحد الوجوه الآتية:
الوجه الأول: نفي الإحاطة بالكنه:
يرد على هؤلاء بأن الإدراك المنفي في الآية هو الرؤية مع إحاطة بالكنه، أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه، بل هو ثابت بالآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة، واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك، فمعنى: (لا تدركه الأبصار): لا تحيط به، كما أنه تعالى يعلمه الخلق ولا يحيطون به علما، كما في
قوله تعالى عن فرعون:
(حتى إذا أدركه الغرق)
(يونس: ٩٠)
أي: أحاط به من كل جانب.
ومعلوم أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية، فالله تعالى يراه المؤمنون في الآخرة، ولا يدركون كنهه.
الوجه الثاني: لا تدركه الأبصار في الدنيا:
فلا ينافي الرؤية في الآخرة، ورؤية الباري سبحانه في الدنيا جائزة عقلا؛ لأن كل موجود يجوز أن يرى عقلا، وسؤال موسى - عليه وسلم - إياها دليل على جوازها؛ إذ لا يجهل نبي ما يجوز وما يمتنع على ربه.
الوجه الثالث: ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الآية من العام المخصص: فمعنى:
(لا تدركه الأبصار)
(الأنعام: ١٠٣)
: لا تدركه جمع الأبصار، وهذا عام مخصوص بما ثبت من رؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الدار الآخرة[3].
ثانيا. اختلاف العلماء حول حقيقة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - في ليلة الإسراء والمعراج:
أمـا وقـوع الـرؤيـة في الـدنيـا، فـقـد اخـتـلـف فـيـهـا، قـال الـقـاضـي عـيــاض - رحـمه الله -: اختلف السلف والخلف: هل رأى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء؟ فأنكرته عائشة - رضي الله عنها - كما وقع في صحيح مسلم.
فقد جاء عن مسروق أنه قال:
«كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية[4]، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئا، فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني[5] ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: (ولقد رآه بالأفق المبين (23)) (التكوير)، وقال: (ولقد رآه نزلة أخرى (13)) (النجم)، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء، سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)) (الأنعام)، أولم تسمع أن الله يقول: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)) (الشورى)؟! قالت: ومن زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئا من كتاب الله فقـد أعظـم علـى الله الفريــة، والله يقــول: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالتـه) (المائدة: ٦٧)، قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) (النمل: ٦٥)»[6]
وقد خالف عائشة ابن عباس - رضي الله عنه - من الصحابة، فعنه أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعينه[7]، وجاء عنه: «أنه رآه بفؤاده مرتين»[8].
فكيف يكون التوفيق إذن بين حديث عائشة وحديث ابن عباس؟
يرجح النووي مذهب ابن عباس، ويجيب عن الآيتين اللتين استندت إليهما عائشة فيقول: الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء؛ لحديث ابن عباس وغيره، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه.
ثم إن عائشة - رضي الله عنها - لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات، ويوضح الجواب عنها بالآتي:
o أما احتجاج عائشة ب
قول الله سبحانه وتعالى:
(لا تدركه الأبصار)
(الأنعام: ١٠٣)
فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة.
وأما احتجاجها - رضي الله عنها -
بقول الله عز وجل:
(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51))
(الشورى)؛
فالجواب عنه من أوجه:
أحدها: أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام.
الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة.
الثالث: ما قاله بعض العلماء: أن المراد بالوحي: الكلام من غير واسطة وهذا الذي قاله هذا القائل وإن كان محتملا، ولكن الجمهور على أن المراد بالوحي هنا: الإلهام والرؤية في المنام، وكلاهما يسمى وحيا.
وأما
قوله سبحانه وتعالى:
(أو من وراء حجاب)
(الشورى: ٥١)
، فقال الواحدي وغيره: معناه: غير مجاهر لهم بالكلام، بل يسمعون كلامه - سبحانه وتعالى - من حيث لا يرونه، وليس المراد: أن هناك حجابا يفصل موضعا من موضع، ويدل على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب حيث لم ير المتكلم[9]
الخلاصة:
· من الثابت شرعا وعقلا أن رؤية الله - عز وجل - في الآخرة حقيقة لا خلاف عليها بين أهل العلم، وهذا ما أكدت عليه آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع أهل العلم من السلف والخلف.
· فسر أهل العلم
قوله سبحانه وتعالى:
(لا تدركه الأبصار)
(الأنعام: ١٠٣)
، عدة تفسيرات، منها أن:
o الرؤية ثابتة حقيقة، مع عدم الإحاطة بكنه الله - عز وجل - فكل ما خطر ببال المرء عن ذات الله - عز وجل - فهو خلافه:
(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11))
(الشورى).
o لا تدرك الأبصار الله - عز وجل - في الدنيا وهذا لا ينافي رؤيته في الآخرة.
o يرى بعض العلماء أن الآية من العام المخصوص، أي: لا تدركه جميع الأبصار، وهذا عام المخصوص بما تثبت من رؤية المؤمنين له في الآخرة. · اختلف العلماء حول حقيقة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - ليلة الإسراء والمعراج، ففريق ينفي هذه الرؤية، ويستدل هؤلاء بحديث للسيدة عائشة - رضي الله عنها - تنفي ذلك، وفريق يثبت الرؤية على الحقيقة، ومن هؤلاء ابن عباس وغيره، والراجح أن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - ليلة الإسراء والمعراج ثابتة على الحقيقة، وليست من وراء حجاب كما يعتقد بعضهم.
المراجع
- () البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. البيان في درء التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. عاطف المليجي، مكتبة اقرأ، القاهرة، ط1، 2004م. [1]. الطوية: النية.
- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ريهم سبحانه وتعالى (467).
- البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص89: 94 بتصرف.
- الفرية: الكذب.
- أنظريني: أمهليني.
- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معنى قوله عز وجل:( ولقد رآه نزلة أخرى (13) ) (النجم: ١٣) (457).
- انظر: شرح صحيح مسلم، النووي، كتاب الإيمان، باب معنى قوله عز وجل: ( ولقد رآه نزلة أخرى (13) ) (النجم: ١٣) (3/ 4).
- أخرجه مسلــم في صحيحــه، كتـاب الإيمــان، بــاب معنـى قـول الله عز وجل: ( ولقد رآه نزلة أخرى (13) ) (النجم: ١٣) (455).
- البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص89 وما بعدها.
الجواب التفصيلي
توهم تناقض القرآن حول رؤية الله - عز وجل - بالأبصار
مضمون الشبهة:
يتوهم بعض المشككين أن هناك تعارضا بين
قوله - سبحانه وتعالى:
(وجوه يومئذ ناضرة (22))
(القيامة)
، وبين قوله سبحانه وتعالى:
(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15))
(المطففين)
، وقوله سبحانه وتعالى:
(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103))
(الأنعام).
ويتساءلون: كيف يصرح القرآن في موضع بإمكان رؤية الله تعالى بالأبصار، بينما ينفي ذلك في موضع آخر؟ ويعتبرون هذا التعارض على حد قولهم دليلا على بشرية القرآن.
وجها إبطال الشبهة:
1) رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة حقيقة ثابتة، أما معنى
قوله عز وجل:
(لا تدركه الأبصار)
أي: لا تحيط به وبكنهه جل وعلا، أو لا تدركه في الدنيا، وعدم الإدراك بالأبصار في الدنيا لا ينافي الرؤية في الآخرة، أو أن الآية من العام المخصص.
2) اختلف العلماء حول حقيقة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - ليلة الإسراء والمعراج، فمنهم من أثبت ذلك، ومنهم من نفاه، والراجح أن رؤية النبي لله ثابتة.
التفصيل:
أولا. حقيقة رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة:
رؤية المؤمنين لربهم - عز وجل - حقيقه لا مراء فيها، بيد أن سوء الفهم وخبث الطوية[1]يؤديان بصاحبهما إلى نفي ذلك والوقوف عند ظاهر الآيات، فعن حقيقة الرؤية يقول د. أبو النور الحديدي: إن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة كما نطقت بذلك آيات، منها
قوله عز وجل:
(وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23))
(القيامة)
، وقوله عز وجل:
(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)
(يونس: ٢٦)
، والحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم،
وقوله عز وجل:
(كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون (15))
(المطففين)،
وهي في حق الكفار، فيفهم أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم. وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -
ومنها ما جاء عن صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
«إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل»
[[2]
ولقد أخطأ من زعم أن الله - عز وجل - لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا؛ وذلك أن الرؤية - عندهم - تتوقف على اتصال الأشعة بالمرئي، وتستلزم أن يكون المرئي في جهة، وأن يكون مقابلا للرائي، وكل هذا لا يجوز على الله تعالى.
ويرد على شبههم هذه بما قاله أهل الحق من أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك، لكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط، كما لا يلزم من رؤية الله - عز وجل - إثبات جهة له تعالى عن ذلك، بل يراه المؤمنون لا في جهة، كما يعلمونه.
وقد ذهب الذين اعتمدوا على اتصال الأشعة بالمرئي، وكونه في جهة حتى يمكن رؤيته إلى قولين كلاهما خطأ:
1. فسروا
قوله سبحانه وتعالى:
(وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23))
(القيامة)
، بمعنى: منتظرة، وأن المؤمنين ينتظرون ما لهم عند الله من الثواب والنعمة. وهذا التفسير خطأ؛ لأنه لا يقال: نظر إلى كذا، بمعنى: انتظر، وأن قول القائل: نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين، وإذا أرادوا الانتظار قالوا: نظرته، لا نظرت إليه.
2. وأما تمسكهم بالآية الكريمة وهي:
(لا تدركه الأبصار)
(الأنعام: ١٠٣)
على أن الإدراك هو الرؤية، فالآية تنفي رؤية الأبصار لله - عز وجل - وهو خطأ إذا حمل على الإطلاق؛ إذ معنى
قوله:
(لا تدركه الأبصار)
يحمل على أحد الوجوه الآتية:
الوجه الأول: نفي الإحاطة بالكنه:
يرد على هؤلاء بأن الإدراك المنفي في الآية هو الرؤية مع إحاطة بالكنه، أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه، بل هو ثابت بالآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة، واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك، فمعنى: (لا تدركه الأبصار): لا تحيط به، كما أنه تعالى يعلمه الخلق ولا يحيطون به علما، كما في
قوله تعالى عن فرعون:
(حتى إذا أدركه الغرق)
(يونس: ٩٠)
أي: أحاط به من كل جانب.
ومعلوم أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية، فالله تعالى يراه المؤمنون في الآخرة، ولا يدركون كنهه.
الوجه الثاني: لا تدركه الأبصار في الدنيا:
فلا ينافي الرؤية في الآخرة، ورؤية الباري سبحانه في الدنيا جائزة عقلا؛ لأن كل موجود يجوز أن يرى عقلا، وسؤال موسى - عليه وسلم - إياها دليل على جوازها؛ إذ لا يجهل نبي ما يجوز وما يمتنع على ربه.
الوجه الثالث: ما ذهب إليه بعض العلماء من أن الآية من العام المخصص: فمعنى:
(لا تدركه الأبصار)
(الأنعام: ١٠٣)
: لا تدركه جمع الأبصار، وهذا عام مخصوص بما ثبت من رؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الدار الآخرة[3].
ثانيا. اختلاف العلماء حول حقيقة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - في ليلة الإسراء والمعراج:
أمـا وقـوع الـرؤيـة في الـدنيـا، فـقـد اخـتـلـف فـيـهـا، قـال الـقـاضـي عـيــاض - رحـمه الله -: اختلف السلف والخلف: هل رأى نبينا - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة الإسراء؟ فأنكرته عائشة - رضي الله عنها - كما وقع في صحيح مسلم.
فقد جاء عن مسروق أنه قال:
«كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية[4]، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئا، فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني[5] ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: (ولقد رآه بالأفق المبين (23)) (التكوير)، وقال: (ولقد رآه نزلة أخرى (13)) (النجم)، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء، سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103)) (الأنعام)، أولم تسمع أن الله يقول: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51)) (الشورى)؟! قالت: ومن زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئا من كتاب الله فقـد أعظـم علـى الله الفريــة، والله يقــول: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالتـه) (المائدة: ٦٧)، قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) (النمل: ٦٥)»[6]
وقد خالف عائشة ابن عباس - رضي الله عنه - من الصحابة، فعنه أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعينه[7]، وجاء عنه: «أنه رآه بفؤاده مرتين»[8].
فكيف يكون التوفيق إذن بين حديث عائشة وحديث ابن عباس؟
يرجح النووي مذهب ابن عباس، ويجيب عن الآيتين اللتين استندت إليهما عائشة فيقول: الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء؛ لحديث ابن عباس وغيره، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه.
ثم إن عائشة - رضي الله عنها - لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات، ويوضح الجواب عنها بالآتي:
o أما احتجاج عائشة ب
قول الله سبحانه وتعالى:
(لا تدركه الأبصار)
(الأنعام: ١٠٣)
فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة.
وأما احتجاجها - رضي الله عنها -
بقول الله عز وجل:
(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم (51))
(الشورى)؛
فالجواب عنه من أوجه:
أحدها: أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام.
الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة.
الثالث: ما قاله بعض العلماء: أن المراد بالوحي: الكلام من غير واسطة وهذا الذي قاله هذا القائل وإن كان محتملا، ولكن الجمهور على أن المراد بالوحي هنا: الإلهام والرؤية في المنام، وكلاهما يسمى وحيا.
وأما
قوله سبحانه وتعالى:
(أو من وراء حجاب)
(الشورى: ٥١)
، فقال الواحدي وغيره: معناه: غير مجاهر لهم بالكلام، بل يسمعون كلامه - سبحانه وتعالى - من حيث لا يرونه، وليس المراد: أن هناك حجابا يفصل موضعا من موضع، ويدل على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب حيث لم ير المتكلم[9]
الخلاصة:
· من الثابت شرعا وعقلا أن رؤية الله - عز وجل - في الآخرة حقيقة لا خلاف عليها بين أهل العلم، وهذا ما أكدت عليه آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع أهل العلم من السلف والخلف.
· فسر أهل العلم
قوله سبحانه وتعالى:
(لا تدركه الأبصار)
(الأنعام: ١٠٣)
، عدة تفسيرات، منها أن:
o الرؤية ثابتة حقيقة، مع عدم الإحاطة بكنه الله - عز وجل - فكل ما خطر ببال المرء عن ذات الله - عز وجل - فهو خلافه:
(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11))
(الشورى).
o لا تدرك الأبصار الله - عز وجل - في الدنيا وهذا لا ينافي رؤيته في الآخرة.
o يرى بعض العلماء أن الآية من العام المخصوص، أي: لا تدركه جميع الأبصار، وهذا عام المخصوص بما تثبت من رؤية المؤمنين له في الآخرة. · اختلف العلماء حول حقيقة رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - ليلة الإسراء والمعراج، ففريق ينفي هذه الرؤية، ويستدل هؤلاء بحديث للسيدة عائشة - رضي الله عنها - تنفي ذلك، وفريق يثبت الرؤية على الحقيقة، ومن هؤلاء ابن عباس وغيره، والراجح أن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - ليلة الإسراء والمعراج ثابتة على الحقيقة، وليست من وراء حجاب كما يعتقد بعضهم.
المراجع
- () البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م. البيان في درء التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. عاطف المليجي، مكتبة اقرأ، القاهرة، ط1، 2004م. [1]. الطوية: النية.
- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ريهم سبحانه وتعالى (467).
- البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص89: 94 بتصرف.
- الفرية: الكذب.
- أنظريني: أمهليني.
- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب معنى قوله عز وجل:( ولقد رآه نزلة أخرى (13) ) (النجم: ١٣) (457).
- انظر: شرح صحيح مسلم، النووي، كتاب الإيمان، باب معنى قوله عز وجل: ( ولقد رآه نزلة أخرى (13) ) (النجم: ١٣) (3/ 4).
- أخرجه مسلــم في صحيحــه، كتـاب الإيمــان، بــاب معنـى قـول الله عز وجل: ( ولقد رآه نزلة أخرى (13) ) (النجم: ١٣) (455).
- البيان في دفع التعارض المتوهم بين آيات القرآن، د. محمد أبو النور الحديدي، مكتبة الأمانة، القاهرة، 1401هـ/ 1981م، ص89 وما بعدها.