نص السؤال
الزعم أن القراءات القرآنية ليست وحيًا من عند الله
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
الزعم أن القراءات القرآنية ليست وحيا من عند الله (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المغالطين أن تعدد القراءات ليس وحيا من عند الله نزل به الروح الأمين على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلين: إنها مجرد تخيلات توهمها علماء المسلمين، وهم بذلك يضعون المبررات لإثبات وجود التحريف في القرآن الحكيم، رامين من وراء هذا وذاك إلى الطعن في سلامة القرآن.
وجوه إبطال الشبهة:
1) القراءات القرآنية وحي من عند الله - عز وجل - ولذلك أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر على أصحابه القراءة بها؛ فهي رخصة من الله لهم.
2) لقد تم تأصيل القراءات بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفها علما لا يستهان به، والأمة أجمعت على قرآنيتها وتلقتها بالقبول.
3) هذا الاختلاف لا يمس أصلا ولا فرعا من التشريع، فالقراءات لم تحرم حلالا ولم تحل حراما، ولا تتعلق بالعقائد والعبادات والمعاملات.
التفصيل:
أولا. القراءات وحي من الله:
مما يدل على أن القراءات القرآنية وحي من الله - عز وجل - إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذا الاختلاف حال حياته، فقد حدث هذا الاختلاف في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورفع أمره إليه فأقره، وما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليقر شيئا إلا بوحي من الله تعالى.
فالمعروف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقي القرآن بحروفه السبعة وقراءاته التي رواها عنه صحابته، وسمعوها منه شفاهة قبل جمع القرآن كتابة،
فقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
«أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»
[1].
وجاء عن عمر بن الخطاب أيضا أنه قال:
«سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: "من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ"؟ قال: "أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقلت: "كذبت، فإن رسول الله أقرأنيها على غير ما قرأت"، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: "إني سمعت هذا يقرأ الفرقان على حروف لم تقرئنيها"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله، اقرأ يا هشام"، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذلك أنزلت"، ثم قال: "اقرأ يا عمر"، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه»
[2].
وهذا دليل قاطع على أن القرآن وحي من الله، واختلاف القراءات نزل هكذا من عند الله لحكمة جليلة - عرضناها فيما سبق - والقراءات هي أيضا قرآن، فلماذا الجدال؟ وفي أي شيء يجادلون؟ ومن يحاسبون؟ الله الذي خلق الكون بأسره وهو أعلم بما خلق، وما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضيق على أمته واسعا، بل هو الذي كان يطلب من الله التيسير بتلك الأحرف السبعة كما سبق.
ما مصير الأحرف السبع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
هل الأحرف السبعة رخصة للمسلمين، زالت بزوال سببها، وهو تعدد اللهجات العربية وقت نزول القرآن، أم أنها عزيمة باقية إلى يوم الدين، شأنها شأن بقية الأحكام الشرعية؟
للإجابة على ذلك نقول: إنه من المتفق عليه بين علماء الأمة أنه لا يجوز أن يقرأ القرآن الكريم إلا بالقراءة المتواترة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي تلقاها الناس خلفا عن سلف مشافهة من أفواه القراء، وتعلما من القواعد التي وضعوها لذلك، وهذه القراءات المتواترة محصورة اليوم في القراءات العشر المعروفة، المشهورة برواياتها وطرقها واصطلاحاتها وضوابطها، وغير هذه القراءات العشر قراءات شاذة يحرم القراءة بها عند جميع أهل العلم.
إذن فسواء بقيت الأحرف السبع أم نسخت، فلا مجال للقراءة بغير القراءات المذكورة المشار إليها، هذا ما اتفق عليه العلماء، أما الاختلاف فكان في: هل نسخت أم لا، ولهم في هذا الأمر مذهبان مشهوران:
الأول: أن الأحرف السبع زالت بزوال العذر المسبب لها، وذهب إلى هذا جماهير الفقهاء، واحتجوا لذلك بأن المصاحف العثمانية لم تشتمل على الأحرف السبع، واقتصرت على حرف قريش، وكان ذلك بمشورة الصحابة - رضي الله عنهم - الذين استشارهم عثمان في هذا الأمر ثم لم يخالفهم أحد بعد ذلك.
الثاني: وذهب بعضهم، ومنهم الإمام الرازي وابن قتيبة، إلى أن الأحرف السبعة عزيمة باقية ولم تنسخ، واحتجوا لذلك بأن المصاحف العثمانية نقلت من مصحف الصديق المشتملة على الأحرف السبعة، وأن الناس ما زالوا مختلفين في لهجاتهم [3].
وهنا يجب أن نذكر أمرا مهما، وهو أن القراءات السبعة ليست هي الأحرف السبع - وإن أوهم التوافق العددي الوحدة بينهما - التي نزل بها القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي كان يقرأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، بل هي بعض من الأحرف السبع، وإلا فالقراءات السبعة إنما اشتهرت على رأس المائتين بسبب إقبال الناس على بعض الأئمة دون غيرهم لشهرتهم في العلم والفقه والورع، ولتفرغهم للإقراء والتعليم، وأيضا لتوافر التلاميذ الذين اعتنوا بها ونشروها دون غيرها.
ثانيا. القراءات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد عني الصحابة - رضي الله عنهم - بالقراءات وحرصوا على ألا يدخل فيها ما ليس منها؛ لأنها كلام الله - عز وجل - وذلك في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، ففي حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واحتكامه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد سماعه سورة الفرقان بقراءة أخرى من "هشام بن حكيم" ما يدل على حرصهم على أن يحفظوا القرآن كما أنزل دون تحريف، وانتشر الصحابة في الأمصار بعد ذلك يعلمون الناس، ومن هنا جاء الاختلاف تبعا لاختلاف اللهجات، فتصدى العلماء لهذه القضية؛ حتى لا تتسع الدائرة ويصبح من الصعب إغلاقها، فرأيناهم قسموا هذه القراءات إلى: متواترة، وقراءة آحاد، وقراءات شاذة، وجعلوا المتواترات السبعة، وقراءات الآحاد الثلاثة المتممة لعشرها، ثم ما يكون من قراءات الصحابة، وما بقي فهو شاذ.
والقراء السبعة المشهورون هم: أبو عمرو بن العلاء، وابن كثير، ونافع المدني، وابن عامر الشامي، وعاصم الكوفي، وحمزة الكوفي، والكسائي، أما الثلاثة الباقون فهم: أبو جعفر المدني، ويعقوب البصري، وخلف بن هشام.
والسبب في الاقتصار على السبعة - مع أنه في أئمة القراء من هو أجل منهم قدرا أو مثلهم، عدد أكثر من السبعة - هو أن الرواة عن الأئمة كانوا من الكثيرة بمكان، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة، وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إماما واحدا.
ثالثا. الاختلاف في القراءات لا يمس أصلا من أصول الدين ولا فرعا من فروعه:
هذه الاختلافات في القراءة لم تحل حراما ولا تحرم حلالا، ولا تتعلق بالعقائد ولا العبادات ولا المعاملات، ولم تثر بين المسلمين حربا، ولا اعتبرها أحد شبهة على الكتاب الإلهي، فكل كلام في هذا الموضوع من قبيل العبث أو الفهم الخاطئ لطبيعة هذه القراءات والحكمة من تعددها، فلا يقام له وزن عند المسلمين أو عند سواهم.
الخلاصة:
• القراءات القرآنية وحي من عند الله تعالى تيسيرا على الأمة، ولم يترتب عليها أي اختلاف في فهم المسلمين، ولم تحدث بسببها أية فرقة بين الأمة، وإلا فما النزاع الذي حدث بين الأمة بسبب القراءات، ومتى حدث؟ وكيف حدث؟ إنها ادعاءات كاذبة لا تصمد أمام الحقيقة والبرهان.
• الأحرف السبع رخصة زالت بزوال سببها - على أرجح الأقوال - والقراءات العشرة إنما تواتر بعض منها، مما يدل على أنها لم تؤد إلى أي اختلاف في معاني القرآن ولا في أحكامه، ولا حدث بسببها أي نزاع بين المسلمين.
• هذا الاختلاف لا يمس أصلا من أصول الدين ولا حتى فرعا من فروعه، فالقراءات لم تحرم حلالا ولا أحلت حراما، ولا تتعلق بالعقائد والعبادات والمعاملات، وإلا فما العقائد التي اختلف المسلمون فيها، وكان مرد النزاع فيها اختلاف القراءات؟
• لقد اهتم المسلمون بتأصيل القراءات بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبلوا منها إلا ما أجمعت الأمة على أنها قرآن وتلقتها بالقبول.
المراجع
- [1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (4705)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1939).
- [2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (4706) وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1936).
- [3]. بحوث منهجية في علوم القرآن الكريم، موسى إبراهيم الإبراهيمي، دار عمار، عمان، ط2، 1996م، ص70،69.