نص السؤال
المؤلف: مجموعة مؤلفي بيان الإسلام
المصدر: موسوعة بيان الإسلام
الجواب التفصيلي
الطعن في أسلوب القرآن الكريم(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن العجز عن مجاراة أسلوب القرآن الكريم - مجرد تقليده أو الإتيان بمثله - ليس مرجعه إلى خصوصية الأسلوب القرآني، بل إلى اختلاف العقول والطرق التعبيرية، ويستدلون على ذلك بأن أي قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه فطرته وموهبته إليها، ويختلف أسلوبهم لاختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم أيضا. ويتساءلون: كيف تعدون عجزهم عن الإتيان بمثله آية على قدسية القرآن وتميز أسلوبه؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في خصوصية أسلوب القرآن الكريم.
وجها إبطال الشبهة:
1) الأسلوب هو الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، وقد امتاز الأسلوب القرآني بخصائص عديدة كجمال التعبير، و دقة التصوير، و قوة التأثير، والبراعة في تصريف القول حسب مقتضى الحال.
2) اختلاف الأسلوب بين ما نزل من القرآن بمكة، وبين ما نزل منه بالمدينة، يدفع توهم وحدة الأسلوب القرآني وثباته على سنن معين يختلف عن كلام العرب وأساليبها.
التفصيل:
أولا. خصائص الأسلوب القرآني:
لقد اتفق العلماء على أن الأسلوب هو: الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه، أو هو: المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه، أو هو: طابع الكلام، أو هو: فن الكلام الذي انفرد به المتكلم.
وعلى هذا، فأسلوب القرآن الكريم هو: طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به، فإن لكل كلام إلهي أو بشري أسلوبه الخاص به.
ونود أن نلفت النظر إلى أن "الأسلوب" شيء، و "المفردات والتراكيب" التي يتألف منها الكلام شيء آخر، فالأسلوب هو: الطريقة التي ينتهجها المؤلف في اختيار مفرداته وتراكيبه. وهذا هو السر في أن الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين من ناثرين وناظمين، مع أن المفردات التي يستخدمها الجميع واحدة والتراكيب في جملتها واحدة، وقواعد صوغ المفردات وتكوين الجمل واحدة، وذلك - أيضا - هو السر في أن القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، من حيث: المفردات والجمل وقوانينها العامة، ومع ذلك، فقد أعجزهم بأسلوبه الفذ، ومذهبه الكلامي المعجز عن أن يأتوا بمثله [1].
ثانيا. للأسلوب القرآني خصائص عديدة امتاز بها:
إن لكل مقام مقالا، ومراعاة مقتضى الحال من أخص معاني البلاغة، وخصائص الأسلوب القرآني - مكي ومدني - تعطي الدارس منهجا لطرائق الخطاب في الدعوة إلى الله بما يلائم نفسية المخاطب، ولكل مرحلة من مراحل الدعوة موضوعاتها وأساليب الخطاب فيها، كما يختلف الخطاب باختلاف أنماط الناس ومعتقداتهم، وأحوال بيئتهم، ويبدو هذا واضحا جليا بأساليب القرآن المختلفة في مخاطبة المؤمنين والمشركين والمنافقين وأهل الكتاب [2].
وقد أفاض د. محمد بكر إسماعيل في بيان خصائص الأسلوب القرآني البليغ، وكان مما ذكره من هذه الخصائص ما يلي:
الخاصية الأولى: جمال التعبير.
اصطفى الله من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان، وأسهلها على الأفهام، وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرا على القلوب، وأوفاها تأدية للمعاني، ثم ركبها تركيبا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا من بعيد؛ وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس [3]، وتقتحم شغاف القلوب، وما يكون في تركيبه من ألفة عجيبة، وانسجام وثيق بين هذه الألفاظ مهما تقاربت مخارج حروفها أو تباعدت، فقد جاء رصف المعاني وفق رصف المباني، فالتقى البحران على أمر قد قدر، فاستساغته جميع القبائل على اختلاف لهجاتها قراءة وسماعا. وإن نظام القرآن الصوتي في ائتلاف حركاته وسكناته، ومداته وغناته، واتصالاته وسكناته، أمر يبهر العقول ويسترعي الأسماع، ويستهوي النفوس بصورة تختلف كل الاختلاف عما يجده المتذوق لكلام الناس من نسق وانسجام، فإنه مهما كان كلام البشر سهلا عذبا، فإنه لا يخلو من قصور في المعنى أو ثقل في النطق أو خلل في الترتيب.
وبيان ذلك أن من ألقى سمعه إلى مجموعة القرآن الصوتية، وكان بعيدا لا يسمع إلا صدى الصوت من غير تمييز للحروف والكلمات، يشعر من نفسه ولو كان أعجميا لا يعرف العربية - بأنه أمام لحن غريب وتوقيع عجيب، يفوق في حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع الموسيقى وترنيم الشعر؛ لأن الموسيقى تتشابه أجراسها وتتقارب أنغامها، فلا يفتأ الطبع أن يمحوها والسمع أن يملها، ولأن الشعر تتحد فيه الأوزان وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبا وإن طالت على نمط يورث سامعه الملل، بينما سامع لحن القرآن لا يمل؛ لأنه ينتقل فيه دائما بين ألحان متنوعة وأنغام متجددة، على أوضاع مختلفة يهز كل وضع منها أوتار القلوب وأعصاب الأفئدة.
وهذا الجمال الصوتي أو النظام التوقيعي هو أول شيء أحسته الآذان العربية أيام نزول القرآن، ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام، سواء أكان مرسلا أم مسجوعا، حتى خيل إلى العرب أن القرآن شعر؛ لأنهم أدركوا في إيقاعه وترجيعه لذة، وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة، لم يعرفوا شيئا قريبا منها إلا في الشعر، ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا، حتى قال قائلهم - وهو الوليد بن المغيرة -: "وما هو بالشعر"، معللا ذلك بأنه ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده.
بيد أنه تورط في خطأ أفحش من هذا الخطأ، حين زعم في ظلام العناد والحيرة أنه سحر؛ لأنه أخذ من النثر جلاله وروعته، ومن النظم جماله ومتعته، ووقف منهما في نقطة وسط، خارقة لحدود العادة البشرية، بين إطلاق النثر وإرساله، وتقييد الشعر وأوزانه.
ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور، لكنه معجز ليس كمثله كلام؛ لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء، وما هو بالشعر ولا بالسحر؛ لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه، وقانونه ورسمه، والقرآن ليس منه، ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلا من نفس خبيثة، ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمدية وسموها ونبلها، إذ كانوا أعلم الناس به وأعرفهم بحسن سيرته وسلوكه، وقد نشأ فيهم وشب بينهم.
هذا إلى جانب أن القرآن كله ما هو إلا دعوة طيبة لأهداف طيبة، لا محل فيها إلى خبث ورجس، بل قد نهى عن تجارب السحر وخبثه ورجسه، وسماه كفرا،
إذ قال تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)
(البقرة: 102).
وبهذا البيان اتضح أن: اللفظ الذي انتقاه الله من أفصح لغات العرب يمتاز عن غيره من الألفاظ السائدة في كلامهم بثلاث سمات رئيسة مجتمعة:
1. جمال وقعه في السمع.
2. انسجامه الكامل مع المعنى.
3. اتساع دلالته لما لا تتسع له عادة دلالات الألفاظ الأخرى.
الخاصية الثانية: دقة التصوير.
ومع جمال التعبير تكون دقة التصوير، وهي نوع آخر من أنواع الجمال الفني المعجز الذي تتيه فيه عقول البلغاء في كل زمان ومكان.
فالقرآن الكريم يبرز المعاني المعقولة في صور محسة منتزعة من الواقع المشاهد، مؤتلفة ائتلافا عجيبا في قوالب كلية متحركة، تشعر فيها بالأصوات والألوان والحركات، مما يجعلك تعيش مع الواقع الذي تصوره لك هذه التشبيهات والاستعارات والكنايات المسبوكة سبكا فريدا يأخذ بمجامع القلوب، ويملك على الإنسان حسه ومشاعره، فلا يحتاج إلى مزيد تصوير للحقائق التي يذكرها القرآن في ثنايا هذه اللوحات البارعة البديعة في عناصرها، وائتلافها وانسجامها مع معانيها ومراميها.
ومن سمات الصور القرآنية: أنها تصور الغائب حتى يصبح حاضرا، وتقرب البعيد النائي حتى يصير قريبا دانيا. ومن سماتها: التلوين في التشبيهات؛ فكثيرا ما يكون المشبه واحدا، والمشبه به شيئين فأكثر؛ تثبيتا للمعاني المرادة، وتعميقا لآثارها في النفس.
ومن ذلك ما شبه الله به حال المنافقين
في قوله تعالى
(مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18) أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (20))
(البقرة).
والتشبيه الأول ناري، والثاني مائي، والمشبه فيهما المنافقون، والمشبه به أمور كثيرة مؤتلفة لا ينفك بعضها عن بعض، والصور فيهما كلية متزاحمة في نسق فريد؛ لإبراز أحوال هؤلاء المنافقين إبرازا لا تخفى معه حقيقة من حقائقهم، ولا خفية من خفاياهم، فقد أخرجت لنا ما كان يدور في خلجات نفوسهم من شر أرادوا به المسلمين، وما كانت تنطوي عليه ضمائرهم من خبث ومكر ودهاء، وكشفت لنا بجلاء عن عاقبة أمرهم في الدنيا والآخرة.
فهم في ادعائهم الإيمان كمن أوقد لنفسه نارا لينتفع بها، وفي إخفائهم الكفر يكون مثلهم كمثل من لم ينتفع بالنار التي أوقدها أو أوقدت له، فالمنافقون قد أظهروا الإيمان حماية لأنفسهم وأموالهم، ولتكون لهم مثل ما للمؤمنين من الحقوق العامة في الغنيمة والزكاة وغيرها.. لكنهم بكفرهم الذي أخفوه فأظهره الله في محكم آياته فقدوا الانتفاع والتمتع بهذه الحقوق الدنيوية، وفقدوا أيضا ثواب الآخرة، وحرموا نور الله الذي أوقدته في قلوبهم فطرة الله التي فطرهم عليها، وأوقده لهم نبيهم بما كان يتلوه عليهم من قرآن.
وهم في تخوفهم من أن يفتضح أمرهم، واحتيالهم في إخفاء كفرهم، وإفسادهم في الأرض، ومداهنتهم المؤمنين تارة، وطاعتهم لشياطينهم من الجن والإنس تارة أخرى، كمثل أهل الصيب - المطر - الذين يكونون في أمس الحاجة إليه، فينزل عليهم مصحوبا برعد وبرق وظلمات بعضها فوق بعض، فهم يطمعون في الغيث - المطر - ولكنهم يخشون ما يصحبه من رعد وبرق وظلمة، فيحاولون أن يتجاهلوه بوضع أناملهم في آذانهم توقيا من الموت فزعا وهلعا، ولكن دون جدوى، فالله محيط بهم وبأمثالهم.
ومثلهم في ترددهم في شأن الإيمان، وحيرتهم بين إرضاء إخوانهم من اليهود والمشركين؛ لنيل ما في أيدي كليهما من المنافع العاجلة، مثلهم في ذلك كمثل من يمشي في ظلمة حالكة، لا يبصر تحت قدميه شيئا، فيبرق البرق فيمشي على ضوئه هنيهة [4]، فإذا ذهب البرق - وسرعان ما يذهب - وقف كما هو لا يقدم رجلا ولا يؤخر أخرى، فقد بلغ به الأمر أقصى درجات الخطر، فأفقده القدرة على مجرد التفكير في الذهاب أو الإياب.
وفي هذين المثالين وجوه من التشبيه لا تكاد تنحصر، فهي تختلف بحسب حال الممثل له في جميع مواطنه وشتى عصوره، بحيث لو أجرى كل مثل من هذين المثالين على قوم من المنافقين في أي عصر وأي مكان لطابق المشبه المشبه به، وطابق الاسم المسمى.
ومن عجيب أمر الأمثال في القرآن الكريم: أنها تخلو من المبالغات التي تخرج الكلام عن المعاني المرادة إلى جو من الخيال المفرط، الذي يؤدي إلى تشتت الأذهان وذهاب الحقائق وخلو الأسلوب عن الإقناع العقلي، وإن صحبه شيء من الإمتاع العاطفي.
لهذا كانت تشبيهات القرآن وأمثاله صورا حية تعبر عن الواقع، لا تعدوه إلى غيره، ومع ذلك تجدها لا تخلو من الإمتاع العاطفي، والتأثير الوجداني بما اشتملت عليه من ألوان المعاني والبيان والبديع، الذي يخلو تماما من التكلف والاعتساف مع رقة في النظم والحواشي والفواصل، كانت - ولا تزال - زادا للبلغاء والأدباء، ومتعة عظيمة لكل ذواقة لفنون الكلام البليغ في أسمى صوره، وأبهى معانيه.
وإذا كان للأمثال القرآنية هذا الجمال الفني الرائع، كان للكنايات القرآنية لون آخر من هذا الجمال المتجدد على مر العصور، فإنها تأتي بالمعنى مصحوبا بدليلها المقنع، ويتلاشى في طياتها ما يستقبح ذكره من الأقوال، وتقوم بما يقوم به التشبيه والاستعارة - وهو لون من التشبيه كما هو معروف - بإبراز المعاني والأهداف في صور محسة مفردة أو مركبة، موجبة أو سالبة، فيها تأديب وتهذيب، وترغيب وترهيب، وتنويه وتعريض، وتلميح وتمثيل، وغير ذلك من المقاصد والغايات، يجد فيها السامع من الإقناع العقلي، والإمتاع العاطفي ما لم يجده في غيرها من الكنايات المنتشرة في كلام الناس، هذا مع الإيجاز البليغ، والتعبير الأخاذ.
والكنايات في الأسلوب القرآني منتزعة من الواقع المشاهد، وأكثرها أمثال مرسلة مسلمة المقدمات والنتائج عند جميع العقلاء في كل زمان ومكان، مناسبة لجميع الظروف والملابسات الزمنية والإنسانية، لا تبلى جدتها، ولا تبدل بغيرها، ولا يغني غناءها سواها.
ومن كنايات القرآن الكريم
قوله تعالى:
(ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون(75))
(المائدة)،
فالمقصود من
قوله تعالى:
(كانا يأكلان الطعام)
(المائدة: 75)
: هو ما يلزم عنه من إخراج الفضلات، وهو أمر يمج [5] الطبع السليم ذكره، وتستهجن الآذان سماعه، فعدل عنه إلى ملزومه، وهو أكل الطعام.
والكناية هي: لفظ له معنيان، أحدهما قريب غير مراد، والآخر بعيد هو المراد، لعلاقة المشابهة بين المعنيين، فأكل الطعام يحتاج إليه لإقامة البنية، ويحتاج أيضا إلى إخراج فضلاته، فاكتفى سبحانه بذكر الملزوم، وأراد اللازم، أو أرادهما معا، فاكتفى بأكل الطعام عما يلزم عنه؛ لأنه دال عليه بالضرورة.
الخاصية الثالثة: قوة التأثير.
للأسلوب القرآني قوة في التاثير، وتنشأ هذه القوة من جمال التعبير ودقة التصوير، فيؤثر في العقول والقلوب معا.
فالقرآن الكريم يخاطب بأسلوبه المتفرد، العقل والعاطفة معا، ولا يخاطب العقل وحده؛ لأنه ليس كتاب فلسفة يقف عند حدود سرد المقدمات، ولا يخاطب القلب وحده؛ لأنه ليس كتاب أدب يعذب فيه الكذب، ويروق فيه الخيال المفرط، وإنما هو كتاب هداية، ومنهج حياة، يهدي الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم في الدنيا والآخرة، ويقودهم إلى ساحات الخير والفضل الإلهي، فيدعوهم إلى الإيمان بخالقهم - عز وجل - في سلاسة أسلوب، وعذوبة منطق، وقوة حجة لا تدع لهم مجالا للشك والارتياب.
والإيمان بالله يتطلب استجابة العقل والقلب معا، فالعقل والقلب من الإيمان كجناحي طائر، لا يطير بأحدهما دون الآخر.
يضاف إلى ذلك: أنه يرضي بأسلوبه العامة والخاصة، وهو ما يسمى عند الأدباء بـ "السهل الممتنع"، وأنه ذو أسلوب معجز، له جلال يقتحم القلوب في أعماقها من غير حاجز، ومعنى هذا: أنه إذا تليت آياته على العامة والخاصة، وجدوا - جميعا - في سماعه حلاوة تتذوقها القلوب قبل أن تصل إلى الأسماع.
والعامة والخاصة من الناس ليسوا سواء في تذوق حلاوة القرآن الكريم، بل إن الخاصة متفاوتون أيضا في التذوق بحسب استعدادهم الوهبي والكسبي، وبحسب تفاوتهم في درجات الإيمان والإخلاص والصفاء الروحي والذهني.
الخاصية الرابعة: براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام.
ومعنى هذا: أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ مختلفة، وطرق متعددة، بمقدرة فائقة خارقة، تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء، فهو ينتقل بك بين الأساليب الإنشائية والخبرية في المعنى المراد إبرازه، ويسلك مسالك شتى في التعبير والتصوير والترغيب والترهيب، من غير أن تشعر بفجوة بين أسلوب وأسلوب، أو تنافر بين كلمة وأخرى، ومن غير أن تشعر بتغيير يذكر في الجو العام للنص القرآني. وهذا ضرب فريد من الإعجاز البياني، وإليك بعض الأمثلة لأسلوبين فقط - من أساليبه المتنوعة - وهما: أسلوبا الأمر والنهي، ومن خلالهما تستطيع أن تنطلق باحثا بين دفتي المصحف عن غيرهما من الأساليب.
1. فخذ أولا تعبيره عن طلب الفعل من المخاطبين، فإنه قد ورد بأساليب مختلفة، كل أسلوب منها في موقعه سديد:
فقد يرد الأمر صريحا بمادته المستعملة فيه، وهو لفظ "افعل"،
مثل قوله تعالى:
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31))
(الأعراف).
وقد يرد بلفظ فيه حروف الأمر نفسها،
مثل قوله تعالى:
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)
(النساء: 58)
، وقوله تعالى:
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)
(النحل: 90)
وأحيانا يدل على الأمر بصيغة "كتب"،
مثل قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصـــاص في القتلــى)
(البقرة: 178)
،(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)
(البقرة: 183).
وقد يعبر عنه بكونه على الناس،
نحو قوله تعالى:
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97))
(آل عمران).
وقد يعبر عن الأمر بالإخبار عن المكلف بالفعل المطلوب منه، نحو
قوله تعالى:
(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
(البقرة: 228)
، أي: مطلوب منهن أن يتربصن، وقد جاء هذا الأمر بصيغة الخبر مبالغة في طلب الحرص على فعله حتى لكأنه واقع منهن بمقتضى حيائهن الذي فطرن عليه، فإن المطلقة من شأنها أن تستحي من تعريض نفسها للأزواج بعد الطلاق، حتى تظل مدة كافية تتأكد فيها من براءة رحمها، وتكون لزوجها فرصة في مراجعتها إن كان قد طلقها طلقة رجعية.
وقد يعبر عن الأمر بالإخبار عن الفعل بأنه خير،
نحو قوله تعالى:
(ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير)
(البقرة: 220).
وقــد يعبــر عن الأمـر بوصـف الفعـل بالفرضيـة،
نحـو قولـه تعالـى:
(قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم)
(الأحزاب: 50)
، أي: من بذل المهور والنفقة والمعاشرة بالمعروف.
وقد يعبر عن الأمر بترتيب الوعد والثواب على الفعل،
نحو قوله تعالى:
(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (11))
(الحديد).
وقد يعبر عن الأمر بترتيب الفعل على شرط قبله، نحو
قوله تعالى:
(فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي)
(البقرة: 196).
وقد يعبر عن الأمر بإيقاع الفعل منفيا معطوفا عقب استفهام،
نحو قوله تعالى:
(أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17))
(النحل)،
أي: تذكروا.
وقد يعبر عن الأمر بإيقاع الفعل عقب ترج،
نحو قوله تعالى:
(ولعلكم تشكرون (185))
(البقرة: 185).
وقـد يعبـر عن الأمـر بترتيـب وصـف شنيــع على تـرك الفعـل،
نحـو قولـه تعالـى:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)
(45) (المائدة).
أما أساليب القرآن الكريم في التعبير عن النهي فله صور منها:
الصيغة المألوفة الصريحة بأداة النهي المعروفة،
مثل قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29))
(النساء).
الصيغة الصريحة التي تفيد التحريم بلفظه،
مثل قوله تعالى:
(قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (33))
(الأعراف)،
وقوله تعالى:
(حرمت عليكم)
(النساء: 23)
، وقوله تعالى
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)
(المائدة: 3).
نفي الحل عنه،
كقوله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها)
(النساء: 19).
قد ينهى عن الفعل بوصفه بأنه ليس برا،
كقوله تعالى:
(ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها)
(البقرة: 189).
قد ينهى عن الفعل بوصفه بأنه شر،
كقوله تعالى:
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم)
(آل عمران: 180).
قد ينهى عن الفعل بذكره مقرونا بالوعيد،
كقوله تعالى:
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34))
(التوبة).
قد ينهى عن الفعل بذكره منسوبا إليه الإثم،
كقوله تعالى:
(فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه)
(البقرة: 181).
قد ينهى عن الفعل بالإتيان به في جانب مادة النهي،
كما في قوله تعالى:
(إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم)
(الممتحنة: 9).
قد ينهى عن الفعل بالإخبار عنه بأنه رجس، ووصفه بأنه من عمل الشيطان، والأمر باجتنابه ورجاء الفلاح في تركه، وترتيب مضار مؤذية على فعله، والأمر بالانتهاء منه في صورة الاستفهام، ومثال هذه الطرق كلها تحريم الخمر في
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91))
(المائدة).
فهذه نماذج من الأوامر والنواهي جاءت على أساليب متعددة، وفق المقام الذي سيقت له والجو الذي سيقت فيه.
إن تصريف القول في القرآن على هذا النحو فن من فنون إعجازه الأسلوبي، وفي الوقت نفسه منة يمنها الله على الناس؛ ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن والإقبال عليه قراءة وسماعا وتدبرا وعملا،
قال تعالى:
(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (89))
(الإسراء) [6].
ها هو الأستاذ محمد الصادق قمحاوي يذكر في كتابه "البرهان في تجويد القرآن" شهادات الخصوم المشيدة بالقرآن وأسلوبه، منها قول المستشرق الفرنسي د. "موريس" في وصف القرآن الكريم: "إنه ندوة علمية للعلماء، ومعجم لغة للغويين، ومعلم نحو لمن يريد تقويم لسانه، ودائرة معارف للشرائع والقوانين، وكل كتاب سماوي جاء قبله لا يساوي أدنى سورة من سوره في حسن المعاني وانسجام الألفاظ، ومن أجل ذلك ترى رجال الطبقة الراقية في الأمة الإسلامية يزدادون تمسكا بهذا الكتاب، واقتباسا منه كلما ازدادوا رفعة في القدر ونباهة في الفكر".
ثانيا. اختلاف خصائص الأسلوب المكي عن الأسلوب المدني:
تختلف خصائص الأسلوب للسور المكية عن السور المدنية، وذلك تبعا للموضوعات التي تتناولها، ولقد استنبط العلماء ضوابط لخصائص الأسلوب القرآني في السور المكية تبعا للموضوعات التي تتطرق إليها، ويمكن إجمالها فيما يلي:
1. الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء، وذكر القيامة وهولها، والنار وعذابها، والجنة ونعيمها، ومجادلة المشركين بالبراهين العقلية والأدلة الكونية.
2. وضع الأسس العامة للتشريع، والفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وفضح جرائم المشركين في سفك الدماء، وأكل أموال اليتامى ظلما، ووأد البنات، وما كانوا عليه من سوء العادات.
3. ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة؛ زجرا للمشركين حتى يعتبروا بمصير المكذبين قبلهم، وتسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يصبر على أذاهم ويطمئن إلى الانتصار عليهم.
4. قصر الفواصل مع قوة الألفاظ، وإيجاز العبارة، بما يصخ الآذان، ويشتد قرعه على المسامع، ويصعق القلوب أو يؤكد المعنى بكثرة القسم.
أما ضوابط السور التي نزلت بالمدينة، فيمكن إجمال خصائص أسلوبها والمواضيع التي تطرقت إليها فيما يلي:
1. بيان العبادات والمعاملات والحدود، ونظام الأسرة والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع.
2. مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.
3. الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسيتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين.
4. طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر أحكام الشريعة، ويوضح أهدافها ومراميها.
وقد أتى هذا الاختلاف بين الأسلوبين تبعا لاختلاف الموضوعات، وأيضا لاختلاف نوعيات الناس الذين يخاطبهم، ذلك إلى يوم القيامة [7].
الخلاصة:
• إن معنى الأسلوب هو: الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه. وأسلوب القرآن هو: طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه.
• إن الأسلوب يختلف عن المفردات والتراكيب التي يتألف منها الكلام، فالأسلوب هو: الطريقة التي ينتهجها المؤلف في اختيار المفردات والتراكيب لكلامه.
• إن الخصائص التي امتاز بها أسلوب القرآن، والمزايا التي توافرت فيه جعلت له طابعا معجزا في لغته وبلاغته، ومن هذه الخصائص: جمال التعبير، ودقة التصوير، وقوة التأثير، و براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام.
• الخصائص الأسلوبية للغة القرآن جعلت لغته جديدة، فالجديد في لغة القرآن، أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحما بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق به؛ بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين وقراره المكين... وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان.
• تمتاز السور المكية بخصائص تختلف عن خصائص السور المدنية، حيث تتفق مع سمات المرحلة ووقتها، ومن أهم هذه الخصائص: موضوع العقيدة ومعالجته، والأخلاق الفاضلة، وقصر الآيات مع قوة العبارة، وكثرة الردع والزجر، والبداية بالأحرف المقطعة - غالبا -، وذكر القصص السابقة، والجنة والنار، وكثرة القسم. أما القرآن المدني فمعني بآيات الجهاد، وذكر المنافقين والنفاق، والتشريع والنظم العامة، ومجادلة أهل الكتاب، وامتاز بطول آياته، وهدوء أسلوبه.
• وتلك الميزات هي التي أعطت القداسة والإعجاز للنص القرآني وعجز العرب أن يأتوا بمثله أو حتى بمثل آية واحدة.
المراجع
- (*) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط4، 1977م. [1]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417/ 1996م، ج2، ص241.
- مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص46، 47 بتصرف.
- خلجات النفس: بواطنها.
- هنيهة: الوقت القليل.
- يمج: يرفض.
- دراسات في علوم القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1411هـ/1991م، ص374 وما بعدها.
- مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417/1996م، ص171، 172. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 13، 1425هـ/2004م، ص59، 60. دراسات في علوم القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1411هـ/1991م، ص53: 56.
الجواب التفصيلي
الطعن في أسلوب القرآن الكريم(*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المتوهمين أن العجز عن مجاراة أسلوب القرآن الكريم - مجرد تقليده أو الإتيان بمثله - ليس مرجعه إلى خصوصية الأسلوب القرآني، بل إلى اختلاف العقول والطرق التعبيرية، ويستدلون على ذلك بأن أي قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه فطرته وموهبته إليها، ويختلف أسلوبهم لاختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم أيضا. ويتساءلون: كيف تعدون عجزهم عن الإتيان بمثله آية على قدسية القرآن وتميز أسلوبه؟! ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في خصوصية أسلوب القرآن الكريم.
وجها إبطال الشبهة:
1) الأسلوب هو الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، وقد امتاز الأسلوب القرآني بخصائص عديدة كجمال التعبير، و دقة التصوير، و قوة التأثير، والبراعة في تصريف القول حسب مقتضى الحال.
2) اختلاف الأسلوب بين ما نزل من القرآن بمكة، وبين ما نزل منه بالمدينة، يدفع توهم وحدة الأسلوب القرآني وثباته على سنن معين يختلف عن كلام العرب وأساليبها.
التفصيل:
أولا. خصائص الأسلوب القرآني:
لقد اتفق العلماء على أن الأسلوب هو: الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه، أو هو: المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه، أو هو: طابع الكلام، أو هو: فن الكلام الذي انفرد به المتكلم.
وعلى هذا، فأسلوب القرآن الكريم هو: طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه، ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به، فإن لكل كلام إلهي أو بشري أسلوبه الخاص به.
ونود أن نلفت النظر إلى أن "الأسلوب" شيء، و "المفردات والتراكيب" التي يتألف منها الكلام شيء آخر، فالأسلوب هو: الطريقة التي ينتهجها المؤلف في اختيار مفرداته وتراكيبه. وهذا هو السر في أن الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين من ناثرين وناظمين، مع أن المفردات التي يستخدمها الجميع واحدة والتراكيب في جملتها واحدة، وقواعد صوغ المفردات وتكوين الجمل واحدة، وذلك - أيضا - هو السر في أن القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، من حيث: المفردات والجمل وقوانينها العامة، ومع ذلك، فقد أعجزهم بأسلوبه الفذ، ومذهبه الكلامي المعجز عن أن يأتوا بمثله [1].
ثانيا. للأسلوب القرآني خصائص عديدة امتاز بها:
إن لكل مقام مقالا، ومراعاة مقتضى الحال من أخص معاني البلاغة، وخصائص الأسلوب القرآني - مكي ومدني - تعطي الدارس منهجا لطرائق الخطاب في الدعوة إلى الله بما يلائم نفسية المخاطب، ولكل مرحلة من مراحل الدعوة موضوعاتها وأساليب الخطاب فيها، كما يختلف الخطاب باختلاف أنماط الناس ومعتقداتهم، وأحوال بيئتهم، ويبدو هذا واضحا جليا بأساليب القرآن المختلفة في مخاطبة المؤمنين والمشركين والمنافقين وأهل الكتاب [2].
وقد أفاض د. محمد بكر إسماعيل في بيان خصائص الأسلوب القرآني البليغ، وكان مما ذكره من هذه الخصائص ما يلي:
الخاصية الأولى: جمال التعبير.
اصطفى الله من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان، وأسهلها على الأفهام، وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرا على القلوب، وأوفاها تأدية للمعاني، ثم ركبها تركيبا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا من بعيد؛ وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس [3]، وتقتحم شغاف القلوب، وما يكون في تركيبه من ألفة عجيبة، وانسجام وثيق بين هذه الألفاظ مهما تقاربت مخارج حروفها أو تباعدت، فقد جاء رصف المعاني وفق رصف المباني، فالتقى البحران على أمر قد قدر، فاستساغته جميع القبائل على اختلاف لهجاتها قراءة وسماعا. وإن نظام القرآن الصوتي في ائتلاف حركاته وسكناته، ومداته وغناته، واتصالاته وسكناته، أمر يبهر العقول ويسترعي الأسماع، ويستهوي النفوس بصورة تختلف كل الاختلاف عما يجده المتذوق لكلام الناس من نسق وانسجام، فإنه مهما كان كلام البشر سهلا عذبا، فإنه لا يخلو من قصور في المعنى أو ثقل في النطق أو خلل في الترتيب.
وبيان ذلك أن من ألقى سمعه إلى مجموعة القرآن الصوتية، وكان بعيدا لا يسمع إلا صدى الصوت من غير تمييز للحروف والكلمات، يشعر من نفسه ولو كان أعجميا لا يعرف العربية - بأنه أمام لحن غريب وتوقيع عجيب، يفوق في حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع الموسيقى وترنيم الشعر؛ لأن الموسيقى تتشابه أجراسها وتتقارب أنغامها، فلا يفتأ الطبع أن يمحوها والسمع أن يملها، ولأن الشعر تتحد فيه الأوزان وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبا وإن طالت على نمط يورث سامعه الملل، بينما سامع لحن القرآن لا يمل؛ لأنه ينتقل فيه دائما بين ألحان متنوعة وأنغام متجددة، على أوضاع مختلفة يهز كل وضع منها أوتار القلوب وأعصاب الأفئدة.
وهذا الجمال الصوتي أو النظام التوقيعي هو أول شيء أحسته الآذان العربية أيام نزول القرآن، ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام، سواء أكان مرسلا أم مسجوعا، حتى خيل إلى العرب أن القرآن شعر؛ لأنهم أدركوا في إيقاعه وترجيعه لذة، وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة، لم يعرفوا شيئا قريبا منها إلا في الشعر، ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا، حتى قال قائلهم - وهو الوليد بن المغيرة -: "وما هو بالشعر"، معللا ذلك بأنه ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده.
بيد أنه تورط في خطأ أفحش من هذا الخطأ، حين زعم في ظلام العناد والحيرة أنه سحر؛ لأنه أخذ من النثر جلاله وروعته، ومن النظم جماله ومتعته، ووقف منهما في نقطة وسط، خارقة لحدود العادة البشرية، بين إطلاق النثر وإرساله، وتقييد الشعر وأوزانه.
ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور، لكنه معجز ليس كمثله كلام؛ لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء، وما هو بالشعر ولا بالسحر؛ لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه، وقانونه ورسمه، والقرآن ليس منه، ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلا من نفس خبيثة، ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمدية وسموها ونبلها، إذ كانوا أعلم الناس به وأعرفهم بحسن سيرته وسلوكه، وقد نشأ فيهم وشب بينهم.
هذا إلى جانب أن القرآن كله ما هو إلا دعوة طيبة لأهداف طيبة، لا محل فيها إلى خبث ورجس، بل قد نهى عن تجارب السحر وخبثه ورجسه، وسماه كفرا،
إذ قال تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)
(البقرة: 102).
وبهذا البيان اتضح أن: اللفظ الذي انتقاه الله من أفصح لغات العرب يمتاز عن غيره من الألفاظ السائدة في كلامهم بثلاث سمات رئيسة مجتمعة:
1. جمال وقعه في السمع.
2. انسجامه الكامل مع المعنى.
3. اتساع دلالته لما لا تتسع له عادة دلالات الألفاظ الأخرى.
الخاصية الثانية: دقة التصوير.
ومع جمال التعبير تكون دقة التصوير، وهي نوع آخر من أنواع الجمال الفني المعجز الذي تتيه فيه عقول البلغاء في كل زمان ومكان.
فالقرآن الكريم يبرز المعاني المعقولة في صور محسة منتزعة من الواقع المشاهد، مؤتلفة ائتلافا عجيبا في قوالب كلية متحركة، تشعر فيها بالأصوات والألوان والحركات، مما يجعلك تعيش مع الواقع الذي تصوره لك هذه التشبيهات والاستعارات والكنايات المسبوكة سبكا فريدا يأخذ بمجامع القلوب، ويملك على الإنسان حسه ومشاعره، فلا يحتاج إلى مزيد تصوير للحقائق التي يذكرها القرآن في ثنايا هذه اللوحات البارعة البديعة في عناصرها، وائتلافها وانسجامها مع معانيها ومراميها.
ومن سمات الصور القرآنية: أنها تصور الغائب حتى يصبح حاضرا، وتقرب البعيد النائي حتى يصير قريبا دانيا. ومن سماتها: التلوين في التشبيهات؛ فكثيرا ما يكون المشبه واحدا، والمشبه به شيئين فأكثر؛ تثبيتا للمعاني المرادة، وتعميقا لآثارها في النفس.
ومن ذلك ما شبه الله به حال المنافقين
في قوله تعالى
(مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18) أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير (20))
(البقرة).
والتشبيه الأول ناري، والثاني مائي، والمشبه فيهما المنافقون، والمشبه به أمور كثيرة مؤتلفة لا ينفك بعضها عن بعض، والصور فيهما كلية متزاحمة في نسق فريد؛ لإبراز أحوال هؤلاء المنافقين إبرازا لا تخفى معه حقيقة من حقائقهم، ولا خفية من خفاياهم، فقد أخرجت لنا ما كان يدور في خلجات نفوسهم من شر أرادوا به المسلمين، وما كانت تنطوي عليه ضمائرهم من خبث ومكر ودهاء، وكشفت لنا بجلاء عن عاقبة أمرهم في الدنيا والآخرة.
فهم في ادعائهم الإيمان كمن أوقد لنفسه نارا لينتفع بها، وفي إخفائهم الكفر يكون مثلهم كمثل من لم ينتفع بالنار التي أوقدها أو أوقدت له، فالمنافقون قد أظهروا الإيمان حماية لأنفسهم وأموالهم، ولتكون لهم مثل ما للمؤمنين من الحقوق العامة في الغنيمة والزكاة وغيرها.. لكنهم بكفرهم الذي أخفوه فأظهره الله في محكم آياته فقدوا الانتفاع والتمتع بهذه الحقوق الدنيوية، وفقدوا أيضا ثواب الآخرة، وحرموا نور الله الذي أوقدته في قلوبهم فطرة الله التي فطرهم عليها، وأوقده لهم نبيهم بما كان يتلوه عليهم من قرآن.
وهم في تخوفهم من أن يفتضح أمرهم، واحتيالهم في إخفاء كفرهم، وإفسادهم في الأرض، ومداهنتهم المؤمنين تارة، وطاعتهم لشياطينهم من الجن والإنس تارة أخرى، كمثل أهل الصيب - المطر - الذين يكونون في أمس الحاجة إليه، فينزل عليهم مصحوبا برعد وبرق وظلمات بعضها فوق بعض، فهم يطمعون في الغيث - المطر - ولكنهم يخشون ما يصحبه من رعد وبرق وظلمة، فيحاولون أن يتجاهلوه بوضع أناملهم في آذانهم توقيا من الموت فزعا وهلعا، ولكن دون جدوى، فالله محيط بهم وبأمثالهم.
ومثلهم في ترددهم في شأن الإيمان، وحيرتهم بين إرضاء إخوانهم من اليهود والمشركين؛ لنيل ما في أيدي كليهما من المنافع العاجلة، مثلهم في ذلك كمثل من يمشي في ظلمة حالكة، لا يبصر تحت قدميه شيئا، فيبرق البرق فيمشي على ضوئه هنيهة [4]، فإذا ذهب البرق - وسرعان ما يذهب - وقف كما هو لا يقدم رجلا ولا يؤخر أخرى، فقد بلغ به الأمر أقصى درجات الخطر، فأفقده القدرة على مجرد التفكير في الذهاب أو الإياب.
وفي هذين المثالين وجوه من التشبيه لا تكاد تنحصر، فهي تختلف بحسب حال الممثل له في جميع مواطنه وشتى عصوره، بحيث لو أجرى كل مثل من هذين المثالين على قوم من المنافقين في أي عصر وأي مكان لطابق المشبه المشبه به، وطابق الاسم المسمى.
ومن عجيب أمر الأمثال في القرآن الكريم: أنها تخلو من المبالغات التي تخرج الكلام عن المعاني المرادة إلى جو من الخيال المفرط، الذي يؤدي إلى تشتت الأذهان وذهاب الحقائق وخلو الأسلوب عن الإقناع العقلي، وإن صحبه شيء من الإمتاع العاطفي.
لهذا كانت تشبيهات القرآن وأمثاله صورا حية تعبر عن الواقع، لا تعدوه إلى غيره، ومع ذلك تجدها لا تخلو من الإمتاع العاطفي، والتأثير الوجداني بما اشتملت عليه من ألوان المعاني والبيان والبديع، الذي يخلو تماما من التكلف والاعتساف مع رقة في النظم والحواشي والفواصل، كانت - ولا تزال - زادا للبلغاء والأدباء، ومتعة عظيمة لكل ذواقة لفنون الكلام البليغ في أسمى صوره، وأبهى معانيه.
وإذا كان للأمثال القرآنية هذا الجمال الفني الرائع، كان للكنايات القرآنية لون آخر من هذا الجمال المتجدد على مر العصور، فإنها تأتي بالمعنى مصحوبا بدليلها المقنع، ويتلاشى في طياتها ما يستقبح ذكره من الأقوال، وتقوم بما يقوم به التشبيه والاستعارة - وهو لون من التشبيه كما هو معروف - بإبراز المعاني والأهداف في صور محسة مفردة أو مركبة، موجبة أو سالبة، فيها تأديب وتهذيب، وترغيب وترهيب، وتنويه وتعريض، وتلميح وتمثيل، وغير ذلك من المقاصد والغايات، يجد فيها السامع من الإقناع العقلي، والإمتاع العاطفي ما لم يجده في غيرها من الكنايات المنتشرة في كلام الناس، هذا مع الإيجاز البليغ، والتعبير الأخاذ.
والكنايات في الأسلوب القرآني منتزعة من الواقع المشاهد، وأكثرها أمثال مرسلة مسلمة المقدمات والنتائج عند جميع العقلاء في كل زمان ومكان، مناسبة لجميع الظروف والملابسات الزمنية والإنسانية، لا تبلى جدتها، ولا تبدل بغيرها، ولا يغني غناءها سواها.
ومن كنايات القرآن الكريم
قوله تعالى:
(ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون(75))
(المائدة)،
فالمقصود من
قوله تعالى:
(كانا يأكلان الطعام)
(المائدة: 75)
: هو ما يلزم عنه من إخراج الفضلات، وهو أمر يمج [5] الطبع السليم ذكره، وتستهجن الآذان سماعه، فعدل عنه إلى ملزومه، وهو أكل الطعام.
والكناية هي: لفظ له معنيان، أحدهما قريب غير مراد، والآخر بعيد هو المراد، لعلاقة المشابهة بين المعنيين، فأكل الطعام يحتاج إليه لإقامة البنية، ويحتاج أيضا إلى إخراج فضلاته، فاكتفى سبحانه بذكر الملزوم، وأراد اللازم، أو أرادهما معا، فاكتفى بأكل الطعام عما يلزم عنه؛ لأنه دال عليه بالضرورة.
الخاصية الثالثة: قوة التأثير.
للأسلوب القرآني قوة في التاثير، وتنشأ هذه القوة من جمال التعبير ودقة التصوير، فيؤثر في العقول والقلوب معا.
فالقرآن الكريم يخاطب بأسلوبه المتفرد، العقل والعاطفة معا، ولا يخاطب العقل وحده؛ لأنه ليس كتاب فلسفة يقف عند حدود سرد المقدمات، ولا يخاطب القلب وحده؛ لأنه ليس كتاب أدب يعذب فيه الكذب، ويروق فيه الخيال المفرط، وإنما هو كتاب هداية، ومنهج حياة، يهدي الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم في الدنيا والآخرة، ويقودهم إلى ساحات الخير والفضل الإلهي، فيدعوهم إلى الإيمان بخالقهم - عز وجل - في سلاسة أسلوب، وعذوبة منطق، وقوة حجة لا تدع لهم مجالا للشك والارتياب.
والإيمان بالله يتطلب استجابة العقل والقلب معا، فالعقل والقلب من الإيمان كجناحي طائر، لا يطير بأحدهما دون الآخر.
يضاف إلى ذلك: أنه يرضي بأسلوبه العامة والخاصة، وهو ما يسمى عند الأدباء بـ "السهل الممتنع"، وأنه ذو أسلوب معجز، له جلال يقتحم القلوب في أعماقها من غير حاجز، ومعنى هذا: أنه إذا تليت آياته على العامة والخاصة، وجدوا - جميعا - في سماعه حلاوة تتذوقها القلوب قبل أن تصل إلى الأسماع.
والعامة والخاصة من الناس ليسوا سواء في تذوق حلاوة القرآن الكريم، بل إن الخاصة متفاوتون أيضا في التذوق بحسب استعدادهم الوهبي والكسبي، وبحسب تفاوتهم في درجات الإيمان والإخلاص والصفاء الروحي والذهني.
الخاصية الرابعة: براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام.
ومعنى هذا: أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ مختلفة، وطرق متعددة، بمقدرة فائقة خارقة، تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء، فهو ينتقل بك بين الأساليب الإنشائية والخبرية في المعنى المراد إبرازه، ويسلك مسالك شتى في التعبير والتصوير والترغيب والترهيب، من غير أن تشعر بفجوة بين أسلوب وأسلوب، أو تنافر بين كلمة وأخرى، ومن غير أن تشعر بتغيير يذكر في الجو العام للنص القرآني. وهذا ضرب فريد من الإعجاز البياني، وإليك بعض الأمثلة لأسلوبين فقط - من أساليبه المتنوعة - وهما: أسلوبا الأمر والنهي، ومن خلالهما تستطيع أن تنطلق باحثا بين دفتي المصحف عن غيرهما من الأساليب.
1. فخذ أولا تعبيره عن طلب الفعل من المخاطبين، فإنه قد ورد بأساليب مختلفة، كل أسلوب منها في موقعه سديد:
فقد يرد الأمر صريحا بمادته المستعملة فيه، وهو لفظ "افعل"،
مثل قوله تعالى:
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31))
(الأعراف).
وقد يرد بلفظ فيه حروف الأمر نفسها،
مثل قوله تعالى:
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)
(النساء: 58)
، وقوله تعالى:
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)
(النحل: 90)
وأحيانا يدل على الأمر بصيغة "كتب"،
مثل قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصـــاص في القتلــى)
(البقرة: 178)
،(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)
(البقرة: 183).
وقد يعبر عنه بكونه على الناس،
نحو قوله تعالى:
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97))
(آل عمران).
وقد يعبر عن الأمر بالإخبار عن المكلف بالفعل المطلوب منه، نحو
قوله تعالى:
(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
(البقرة: 228)
، أي: مطلوب منهن أن يتربصن، وقد جاء هذا الأمر بصيغة الخبر مبالغة في طلب الحرص على فعله حتى لكأنه واقع منهن بمقتضى حيائهن الذي فطرن عليه، فإن المطلقة من شأنها أن تستحي من تعريض نفسها للأزواج بعد الطلاق، حتى تظل مدة كافية تتأكد فيها من براءة رحمها، وتكون لزوجها فرصة في مراجعتها إن كان قد طلقها طلقة رجعية.
وقد يعبر عن الأمر بالإخبار عن الفعل بأنه خير،
نحو قوله تعالى:
(ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير)
(البقرة: 220).
وقــد يعبــر عن الأمـر بوصـف الفعـل بالفرضيـة،
نحـو قولـه تعالـى:
(قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم)
(الأحزاب: 50)
، أي: من بذل المهور والنفقة والمعاشرة بالمعروف.
وقد يعبر عن الأمر بترتيب الوعد والثواب على الفعل،
نحو قوله تعالى:
(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (11))
(الحديد).
وقد يعبر عن الأمر بترتيب الفعل على شرط قبله، نحو
قوله تعالى:
(فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي)
(البقرة: 196).
وقد يعبر عن الأمر بإيقاع الفعل منفيا معطوفا عقب استفهام،
نحو قوله تعالى:
(أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17))
(النحل)،
أي: تذكروا.
وقد يعبر عن الأمر بإيقاع الفعل عقب ترج،
نحو قوله تعالى:
(ولعلكم تشكرون (185))
(البقرة: 185).
وقـد يعبـر عن الأمـر بترتيـب وصـف شنيــع على تـرك الفعـل،
نحـو قولـه تعالـى:
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)
(45) (المائدة).
أما أساليب القرآن الكريم في التعبير عن النهي فله صور منها:
الصيغة المألوفة الصريحة بأداة النهي المعروفة،
مثل قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29))
(النساء).
الصيغة الصريحة التي تفيد التحريم بلفظه،
مثل قوله تعالى:
(قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (33))
(الأعراف)،
وقوله تعالى:
(حرمت عليكم)
(النساء: 23)
، وقوله تعالى
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)
(المائدة: 3).
نفي الحل عنه،
كقوله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها)
(النساء: 19).
قد ينهى عن الفعل بوصفه بأنه ليس برا،
كقوله تعالى:
(ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها)
(البقرة: 189).
قد ينهى عن الفعل بوصفه بأنه شر،
كقوله تعالى:
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم)
(آل عمران: 180).
قد ينهى عن الفعل بذكره مقرونا بالوعيد،
كقوله تعالى:
(والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34))
(التوبة).
قد ينهى عن الفعل بذكره منسوبا إليه الإثم،
كقوله تعالى:
(فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه)
(البقرة: 181).
قد ينهى عن الفعل بالإتيان به في جانب مادة النهي،
كما في قوله تعالى:
(إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم)
(الممتحنة: 9).
قد ينهى عن الفعل بالإخبار عنه بأنه رجس، ووصفه بأنه من عمل الشيطان، والأمر باجتنابه ورجاء الفلاح في تركه، وترتيب مضار مؤذية على فعله، والأمر بالانتهاء منه في صورة الاستفهام، ومثال هذه الطرق كلها تحريم الخمر في
قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91))
(المائدة).
فهذه نماذج من الأوامر والنواهي جاءت على أساليب متعددة، وفق المقام الذي سيقت له والجو الذي سيقت فيه.
إن تصريف القول في القرآن على هذا النحو فن من فنون إعجازه الأسلوبي، وفي الوقت نفسه منة يمنها الله على الناس؛ ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن والإقبال عليه قراءة وسماعا وتدبرا وعملا،
قال تعالى:
(ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (89))
(الإسراء) [6].
ها هو الأستاذ محمد الصادق قمحاوي يذكر في كتابه "البرهان في تجويد القرآن" شهادات الخصوم المشيدة بالقرآن وأسلوبه، منها قول المستشرق الفرنسي د. "موريس" في وصف القرآن الكريم: "إنه ندوة علمية للعلماء، ومعجم لغة للغويين، ومعلم نحو لمن يريد تقويم لسانه، ودائرة معارف للشرائع والقوانين، وكل كتاب سماوي جاء قبله لا يساوي أدنى سورة من سوره في حسن المعاني وانسجام الألفاظ، ومن أجل ذلك ترى رجال الطبقة الراقية في الأمة الإسلامية يزدادون تمسكا بهذا الكتاب، واقتباسا منه كلما ازدادوا رفعة في القدر ونباهة في الفكر".
ثانيا. اختلاف خصائص الأسلوب المكي عن الأسلوب المدني:
تختلف خصائص الأسلوب للسور المكية عن السور المدنية، وذلك تبعا للموضوعات التي تتناولها، ولقد استنبط العلماء ضوابط لخصائص الأسلوب القرآني في السور المكية تبعا للموضوعات التي تتطرق إليها، ويمكن إجمالها فيما يلي:
1. الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده، وإثبات الرسالة، وإثبات البعث والجزاء، وذكر القيامة وهولها، والنار وعذابها، والجنة ونعيمها، ومجادلة المشركين بالبراهين العقلية والأدلة الكونية.
2. وضع الأسس العامة للتشريع، والفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع، وفضح جرائم المشركين في سفك الدماء، وأكل أموال اليتامى ظلما، ووأد البنات، وما كانوا عليه من سوء العادات.
3. ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة؛ زجرا للمشركين حتى يعتبروا بمصير المكذبين قبلهم، وتسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يصبر على أذاهم ويطمئن إلى الانتصار عليهم.
4. قصر الفواصل مع قوة الألفاظ، وإيجاز العبارة، بما يصخ الآذان، ويشتد قرعه على المسامع، ويصعق القلوب أو يؤكد المعنى بكثرة القسم.
أما ضوابط السور التي نزلت بالمدينة، فيمكن إجمال خصائص أسلوبها والمواضيع التي تطرقت إليها فيما يلي:
1. بيان العبادات والمعاملات والحدود، ونظام الأسرة والمواريث، وفضيلة الجهاد، والصلات الاجتماعية، والعلاقات الدولية في السلم والحرب، وقواعد الحكم، ومسائل التشريع.
2. مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وبيان تحريفهم لكتب الله، وتجنيهم على الحق، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.
3. الكشف عن سلوك المنافقين، وتحليل نفسيتهم، وإزاحة الستار عن خباياهم، وبيان خطرهم على الدين.
4. طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر أحكام الشريعة، ويوضح أهدافها ومراميها.
وقد أتى هذا الاختلاف بين الأسلوبين تبعا لاختلاف الموضوعات، وأيضا لاختلاف نوعيات الناس الذين يخاطبهم، ذلك إلى يوم القيامة [7].
الخلاصة:
• إن معنى الأسلوب هو: الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه. وأسلوب القرآن هو: طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه، واختيار ألفاظه.
• إن الأسلوب يختلف عن المفردات والتراكيب التي يتألف منها الكلام، فالأسلوب هو: الطريقة التي ينتهجها المؤلف في اختيار المفردات والتراكيب لكلامه.
• إن الخصائص التي امتاز بها أسلوب القرآن، والمزايا التي توافرت فيه جعلت له طابعا معجزا في لغته وبلاغته، ومن هذه الخصائص: جمال التعبير، ودقة التصوير، وقوة التأثير، و براعته في تصريف القول، وثروته في أفانين الكلام.
• الخصائص الأسلوبية للغة القرآن جعلت لغته جديدة، فالجديد في لغة القرآن، أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحما بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق به؛ بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة، ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين وقراره المكين... وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان.
• تمتاز السور المكية بخصائص تختلف عن خصائص السور المدنية، حيث تتفق مع سمات المرحلة ووقتها، ومن أهم هذه الخصائص: موضوع العقيدة ومعالجته، والأخلاق الفاضلة، وقصر الآيات مع قوة العبارة، وكثرة الردع والزجر، والبداية بالأحرف المقطعة - غالبا -، وذكر القصص السابقة، والجنة والنار، وكثرة القسم. أما القرآن المدني فمعني بآيات الجهاد، وذكر المنافقين والنفاق، والتشريع والنظم العامة، ومجادلة أهل الكتاب، وامتاز بطول آياته، وهدوء أسلوبه.
• وتلك الميزات هي التي أعطت القداسة والإعجاز للنص القرآني وعجز العرب أن يأتوا بمثله أو حتى بمثل آية واحدة.
المراجع
- (*) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن، د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط4، 1977م. [1]. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417/ 1996م، ج2، ص241.
- مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص46، 47 بتصرف.
- خلجات النفس: بواطنها.
- هنيهة: الوقت القليل.
- يمج: يرفض.
- دراسات في علوم القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1411هـ/1991م، ص374 وما بعدها.
- مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، ط1، 1417/1996م، ص171، 172. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 13، 1425هـ/2004م، ص59، 60. دراسات في علوم القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1411هـ/1991م، ص53: 56.