نص السؤال

الزعم أن تعدد قراءات القرآن نوع من الاختلاف والتحريف

عبارات مشابهة للسؤال

الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.

الجواب التفصيلي

الزعم أن تعدد قراءات القرآن نوع من الاختلاف والتحريف (*) 


مضمون الشبهة: 


يتوهم بعض الطاعنين أن تعدد قراءات القرآن الكريم يدل على الاختلاف فيه، وأن هذا - في رأيهم - نوع من التحريف؛ قاصدين الطعن في تعدد القراءات والحكمة من هذا التعدد، ومن ثم التشكيك في عصمة القرآن.


وجوه إبطال الشبهة: 


1) إن تعدد القراءات لا يعني الاختلاف والتغاير؛ بل إن النظرة المنصفة لهذا التعدد وما نيط به من حكم من شأنها أن تبين بجلاء ووضوح ما في هذا التعدد من إعجاز وبيان.
2) تعدد القراءات لا ينتج عنه أي اختلاف في أصول الدين ولا فروعه، إنما هي طرق متنوعة في الأداء الصوتي أكثر منها في البنية الصرفية أو التركيب النحوي، وهي مضبوطة بضوابط وضعها العلماء.
3) تعدد القراءات وحي من عند الله ووقف منقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس تبعا لأهواء البشر وأذواقهم.
4) تعدد القراءات القرآنية لا يشمل إلا كلمات وألفاظا محصورة فقط في بعض الآيات.
5) قراءة الكلمة القرآنية على أكثر من وجه نحوي أو صرفي، يساعد على أداء المعاني ما دام قد أقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يعني تضاد المعاني أو تناقض المدلولات.


التفصيل: 


أولا. تعدد القراءات لا يعني اختلافها، وهو لحكم جليلة: 


لم يعرف هؤلاء الطاعنون شيئا عن المفهوم الحقيقي والمعنى الاصطلاحي لعلم القراءات، فأخذوا بظاهر اللفظ من ناحية اللغة، وحسبوا أن تعدد القراءات يعني تغايرها، كما يدل عليه ظاهر لفظ "تعدد" في العرف اللغوي العام.
بينما كلمة "تعدد" هنا - في اصطلاح هذا العلم - لا تعني الاختلاف والتغاير المؤدي إلى اختلاف المعاني وتغايرها، لأننا إذا بحثنا في جميع القراءات لن نلحظ أي اختلاف أو تغاير ذي بال في المعاني أو الألفاظ.


من هنا فإننا نوجه عناية هؤلاء المدعين إلى ضرورة مطالعة هذا العلم ومدارسته ومعرفة قواعده، ونحن على يقين من أنهم بعد ذلك سوف يهتدون إلى يقين لا شك فيه بأنه لا خلاف بين القراءات، وأن تعددها لا يغير في المعاني ولا فيما يترتب على ذلك من الأحكام.


وعن أسباب تعدد القرءات ونزول القرآن على سبعة أحرف يقول: المحقق ابن الجزري: وأما سبب وروده على سبعة أحرف، فللتخفيف عن هذه الأمة وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها شرفا لها، وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها، وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق،

حيث أتاه جبريل فقال:

«إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف"، فقال صلى الله عليه وسلم: "أسأل الله معافاته ومعونته؛ فإن أمتي لا تطيق ذلك"، ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف»

( [1])،

ثم قال: "وكما ثبت أن القرآن نزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وأن الكتاب قبله كان ينزل من باب واحد على حرف واحد، وذلك أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى جميع الخلق، أحمرهم وأسودهم، عربيهم وعجميهم، وكانت لغات العرب - الذين نزل القرآن بلغتهم - مختلفة وألسنتهم شتى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغة إلى غيرها، أو من حرف إلى أحرف، بل قد يكون أحدهم لا يقدر على ذلك، ولو بالتعليم والعلاج، لا سيما الشيخ والمرأة ومن لم يقرأ كتابا، كما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم، لكان من التكليف بما لا يستطاع، وما عسى أن يتكلف المتكلف وتأبى الطباع. ا.هـ


ونحيطك علما هنا بأن لهذا الاختلاف والتعدد فوائد أخرى، منها: 
1. جمع الأمة الإسلامية الجديدة على لسان واحد يوحد بينها، وهو لسان قريش الذي نزل به القرآن الكريم، والذي انتظم كثيرا من مختارات ألسنة القبائل العربية، التي كانت تختلف إلى مكة في موسم الحج وأسواق العرب المشهورة.
فكان القرشيون يستملحون ما شاءوا، ويصطفون ما راق لهم من ألفاظ الوفود العربية القادمة إليهم من كل صوب وحدب، ثم يصقلونه ويهذبونه ويدخلونه في دائرة لغتهم المرنة، التي أذعن جميع العرب لها بالزعامة وعقدوا لها راية الإمامة، وعلى هذه السياسة الرشيدة نزل القرآن على سبعة أحرف، يصطفي ما شاء من لغات القبائل العربية على نمط سياسة القرشيين، بل أوفق، ومن هنا صح أن يقال: إنه نزل بلغة قريش؛ لأن لغات العرب جمعاء تمثلت في لسان القرشيين بهذا المعنى، وكانت هذه حكمة إلهية سامية، فإن وحدة اللسان العام من أهم العوامل في وحدة الأمة، خصوصا أول عهدها بالتوثب والنهوض.


2. الجمع بين حكمين مختلفين بمجموع القراءتين،

كقوله سبحانه وتعالى:

(فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن)

(البقرة: ٢٢٢)

، قرئ بالتخفيف والتشديد في حرف الطاء من كلمة "يطهرن" ولا ريب أن صيغة التشديد تفيد وجوب المبالغة في طهر النساء من الحيض؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أما قراءة التخفيف فلا تفيد هذه المبالغة، ومجموع القراءتين يحكم بأمرين هما: 
•       أن الحائض لا يقربها زوجها حتى يحصل أصل الطهر، وذلك بانقطاع الحيض.
•   أنها لا يقربها زوجها أيضا إلا إذا بالغت في الطهر، وذلك بالاغتسال، فلا بد من الطهرين كليهما في جواز قربان النساء، وهو مذهب الشافعي ومن وافقه. 


3. الدلالة على حكمين شرعيين، ولكن في حالين مختلفين، كقوله - عز وجل - في بيان الوضوء:

(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)

(المائدة: 6)،

قرئ بنصب لفظ (أرجلكم) وبجره، فالنصب يفيد طلب غسلها؛ لأن العطف حينئذ يكون على لفظ المنصوب، وهو مغسول، والجر يفيد طلب مسحها؛ لأن العطف حينئذ يكون على لفظ (رؤوسكم) المجرور وهو ممسوح، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن المسح يكون للابس الخف، وأن الغسل يجب على من لم يلبس الخف.


4. دفع توهم ما ليس مرادا

كقوله سبحانه وتعالى:

(يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله)

(الجمعة: 9)

وقرئ (فامضوا إلى ذكر الله)، القراءة الأولى يتوهم منها وجوب السرعة في المشي إلى صلاة الجمعة، ولكن القراءة الثانية رفعت هذا التوهم؛ لأن المضي ليس من مدلوله السرعة.
5. بيان لفظ مبهم نحو

قوله سبحانه وتعالى:

(وتكون الجبال كالعهن المنفوش (5))

(القارعة)

، وقرئ: " كالصوف المنقوش "، فبينت القراءة الثانية أن العهن هو الصوف.
تجلية عقيدة ضل فيها بعض الناس، نحو قوله - عز وجل - في وصف الجنة وأهلها:

(وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا (20))

(الإنسان).

جاءت القراءة بضم الميم وسكون اللام في لفظ "وملكا كبيرا"، وجاءت قراءة أخرى بفتح الميم وكسر اللام في هذا اللفظ نفسه، فرفعت هذه القراءة الثانية نقاب الخفاء عن وجه الحق في عقيدة رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة؛ لأنه - سبحانه وتعالى - هو الملك وحده في تلك الدار:

(لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16))

(غافر).


6. تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات، وذلك ضرب من ضروب البلاغة، يبتدئ من جمال هذا الإيجاز، وينتهي إلى كمال الإنجاز أضف إلى ذلك: ما في تنوع القراءات من البراهين الساطعة، والأدلة القاطعة على أن القرآن كلام الله، وعلى صدق من جاء به، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن هذه الاختلافات في القراءة - على كثرتها - لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاده، ولا إلى تهافت وتخاذل، بل القرآن كله - على تنوع قراءاته - يصدق بعضه بعضا، ويبين بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض، على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير، وهدف واحد من سمو الهداية والتعليم، وذلك - من غير شك - يفيد تعدد الإعجاز لتعدد القراءات والحروف.


معنى هذا أن القرآن يعجز إذا قرئ بهذه القراءة، ويعجز أيضا إذا قرئ بقراءة ثانية، ويعجز أيضا إذا قرئ بقراءة ثالثة، وهلم جرا، ومن هنا تتعدد المعجزات، بتعدد تلك الوجوه والحروف، ولا ريب أن ذلك أدل على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه أعظم في اشتمال القرآن على مناح جمة في الإعجاز وفي البيان، على كل حرف ووجه، وبكل لهجة وبيان:

(ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم (42))

(الأنفال)( [2]).


بالإضافة إلى ما سبق، يؤكد د. محمد محمد أبو شهبة على مزيد من المعاني والحكم في هذا الشأن، قائلا: "إن هذه التوسعة والإباحة في القراءة بأي حرف من الحروف السبع، إنما كانت في حدود ما نزل به جبريل - عليه السلام - وما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بدليل أن كلا من المختلفين كان يقول: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعقب على قراءة كل من المختلفين بقوله: "هكذا أنزلت"، ولا يتوهمن متوهم أن التوسعة إنما كانت باتباع الهوى والتشهي، فذلك ما لا يليق أن يفهمه عاقل، فضلا عن مسلم؛ إذ الروايات الواردة ترده وتبطله، إن هذه التوسعة مظهر من مظاهر الرحمة والنعمة، فلا ينبغي أن تكون مصدر اختلاف ونقمة، أو أن تكون مثيرة للشك أو مضعفة لليقين، فقد حذرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الاختلاف.. ومن الشك في القرآن كما في حديث عمرو بن العاص: «نزل القرآن على سبعة أحرف، على أي حرف قرأتم فقد أصبتم، فلا تتماروا فيه؛ فإن المراء فيه كفر» "( [3]).
هكذا بانت الحكم البليغة، والعلل المبينة من تعدد القراءات، فهي نعمة كما أرادها منزل الكتاب، وليست نقمة كما صور الزاعمون أنها دليل على التحريف وشاهد على التبديل.


ثانيا. تعدد القراءات لا ينتج عنه أي اختلاف في أصول الدين أو فروعه، إنما هي طرق أداء صوتية أكثر منها اختلافات صرفية ونحوية: 


إننا إذا نظرنا إلى الأمور التي تتمايز فيها كل قراءة عن أخرى سوف يتضح لنا أن ذلك على ضربين هما: 
1. الأصول: وهي المبادئ العامة في طريقة الأداء الصوتية فقط عند كل قارئ ومن يروي عنه من الرواة والنقلة الآخذين منه، فمنهم من يمد بعض الحروف - حروف العلة إذا تلاها همز أو سكون - ومنهم من يقصرها، ومنهم من يرقق بعض الحروف ومنهم من يفخمها، كذا الحال في إدغام بعض الحروف في بعض، والإمالة، والفتح، والسكت على كل ساكن صحيح بعده همزة أو نقلة... إلخ. 
وعلى هذا الأساس يسير القارئ في القرآن كله لا يتعدى القواعد التي يقرأ بها ولا يحيد عنها، فأي اختلاف وأي تحريف في المعاني والأحكام، ينتج عن مجرد نطق حرف مفخما عند بعض ومرققا عند آخرين؟! وأي اختلاف وأي تحريف يترتب على إمالة حرف، أو فتحه، أو السكت عليه، أو عدم السكت عليه، أو إدغامه فيما بعده أو إظهاره؟!


2. الفرش (المفردات): وهذا هو التمايز الثاني في طريقة أداء كل قراءة عن الأخرى، وإن كان الأصل في هذا النوع هو تغير في بنية الكلمة، أو في حركتها الأخيرة إلا أنه دائما راجع إلى أساليب العرب في كلامها وطرق بيانها، وإذا دققنا النظر فيه من الناحية الصوتية وجدناه أيضا تغايرا في الأداء الصوتي أو النبرة العرفية عند كل قوم خصوصا إذا كان التصريف في بنية الكلمة، كمن ينطق كلمة "بئيس" "بيئس" أو "بيس" أو يشدد النبر الصوتي في أدائه على بعض الكلمات كمن ينطق كلمة " يطهرن" بسكون دون تشديد أو " يطهرن" بالتشديد مع الفتح.
أما إذا كان الاختلاف في حركات أواخر الكلمات أي في الإعراب، فهذا لا يترتب عليه، أي اختلاف في المعاني، إلا كونه تنوعا في الأساليب المؤدية كلها إلى معنى واحد وحكم واحد، ومثال ذلك

قوله سبحانه وتعالى:

(ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (47))

(الكهف)

، ببناء الفعل "نسير" للمعلوم وعليه تكون لفظة "الجبال" مفعول به منصوب، فمنهم من قرأها: "ويوم تسير الجبال" ببناء الفعل "تسير" للمجهول، وعليه تكون لفظة "الجبال" نائب فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة، وعلى هذا يقاس كل تمايز في المفردات بين القراء، فنحن نلاحظ أن المعنى واحد بين "نسير الجبال" و "تسير الجبال".
حتى إن بعض الأحكام الفقهية اليسيرة التي استنبطها بعض الفقهاء في أحيان قليلة جدا، معتمدين على بعض القراءات في جانبها الإعرابي، لم يكن دليلها الوحيد هو هذا الوجه من القراءة فقط، كما لم يكن هذا الدليل هو الحاسم في توجيه ذلك الحكم واستنباطه، ومثال ذلك من قال بعدم جواز وطء المرأة بعد الحيض حتى تغتسل، اعتمادا على قراءة: "يطهرن" بتشديد الطاء، حيث دلت شواهد ونصوص أخرى من السنة على هذا الحكم أيضا، فهو بمثابة معضد ومظاهر للأدلة الواردة في إثبات هذا الحكم.


إذا توصلنا بعد هذا البيان إلى نتيجة مفادها أن تعدد القراءات لا يترتب عليه أي اختلاف في المعاني والأحكام، لا في أصول الدين ولا في فروعه، فإنه يجدر بنا أن نشير إلى أمر هام جدا، وهو أن العلماء لم يتركوا الأمر هملا والباب مفتوحا لقبول كل ما يسمع من القراءات، بل وضعوا شروطا استنبطوها بعد النظر الدقيق والفحص العميق، فيما يصح وما لا يصح من هذ القراءات، ومن ثم فإنهم قبلوا بعضها، وحكموا على بعضها بالشذوذ وعدم القبول، هذه الشروط هي: 
•موافقة العربية ولو بوجه.
•صحة سندها بحيث لا يجوز ردها.
•موافقة أحد المصاحف العثمانية.


ثالثا. تعدد القراءات وحي من عند الله عز وجل، ووقف منقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس تبعا لأذواق البشر أو قواعد لغتهم: 


فقد تواترت الأدلة على نزول القرآن على سبعة أحرف،

ومن ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»

( [4]).

وعن أبى بن كعب - رضي الله عنه -

«أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أضاة ( [5]) بني غفار، قال: فأتاه جبريل فقال: "إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف"، فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم أتاه الثانية فقال: "إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرفين"، قال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"،ثم جاءه الثالثة فقال: "إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على ثلاثة أحرف"، فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك"، ثم جاءه الرابعة فقال: "إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا»

( [6]).

وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال:

«سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، ثم لببته بردائه فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت له: كذبت، فوالله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول الله: "أرسله يا عمر - رضي الله عنه - اقرأ يا هشام"، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا عمرـ رضي الله عنه"، فقرأت القراءة التي أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منها»

( [7]) ( [8]).


رابعا. مواطن اختلاف القراءات محصورة: 


يجدر بنا أن نذكر أن تعدد القراءات لا يشمل آيات القرآن الكريم كاملا، ولا حتى كلمات كل آية، بل يختص ببعض الكلمات في بعض الآيات، وهناك كثير من الآيات خلت من تعدد القراءات خلوا تاما. وهذا مثال يتضح منه الكلام في القراءات القرآنية،

قوله سبحانه وتعالى:

(مالك يوم الدين (4))

(الفاتحة)

، والشاهد في الآية كلمة (مالك)، وفيها قراءتان: 
•      "مالك" اسم فاعل من "ملك" وهي قراءة حفص وآخرين.
•  "ملك" صفة لاسم فاعل، وهي قراءة نافع وآخرين، ومعنى الأولى "مالك" القاضي المتصرف في شئون يوم الدين وهو يوم القيامة، أما معنى الثانية: "ملك" من بيده الأمر والنهي ومقاليد كل شيء، ما ظهر منها وما خفي، وهو أعم من معنى "مالك".
وكلا المعنيين لائق بالله - عز وجل - وهما مدح لله - عز وجل - ولما كانت هذه الكلمة تحتمل القراءتين كتب في الرسم هكذا: (مالك)بحذف الألف بعد حرف الميم، مع وضع شرطة صغيرة رأسية بين الميم واللام، ليصلح رسمها للنطق بالقراءتين( [9]). 


خامسا. تعدد القراءات يثري المعنى: 


إن الكلمة التي تقرأ على وجهين أو أكثر يكون لكل قراءة معنى مقبول يزيد المعنى ويثريه، فالقراءات القرآنية لا تؤدي إلى خلل في آيات الكتاب العزيز، ويجب أن نعرف أن القراءات الصحيحة مسموعة من سيدنا جبريل - عليه السلام - من محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن كتبة الوحي لعموم المسلمين في صدر الإسلام الأول، ثم شيوخ القرآن في تعاقب الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها.


وليست كتابة القرآن في مصاحف هي الأصل، ولن تكون، لقد سمع المسلمون من محمد - صلى الله عليه وسلم - "فتبينوا" و "فتثبتوا" في

قوله سبحانه وتعالى:

(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا)

(الحجرات: 6)

بالباء والياء والنون، وسمعوها "فتثبتوا" بالتاء والثاء والباء والتاء، وكلا القراءتين موحى به من عند الله.
وبين معنيي اللفظين في القراءتين علاقة وثيقة، لأن التبين - وهو مصدر "فتبينوا" - هو التفحص والتعقب في الخبر الذي يذيعه الفاسق بين الناس، وهذا التبين هو الطريق الموصل للتثبت؛ فالتثبت هو ثمرة التبين، ومن تبين فقد تثبت، ومن تثبت فقد تبين. فقراءات القرآن وجه شديد الإشراق من وجوه الإعجاز ولو كره الحاقدون.
ونختم كلامنا بذكر شهادتين من المستشرقين المنصفين، أولهما المستشرق "لوبلوا " الذي قال: "إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر"، والثاني المستشرق " د. موير " الذي قال: "إن المصحف الذي جمعه عثمان - رضي الله عنه - قد تواتر انتقاله من يد ليد، حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا، والذي يرجع إلى عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه"( [10]).


الخلاصة: 


•  تعدد القراءات لا يعني اختلاف القرآن ولا تحريفه، ولكن مكمن الوهم لدى هؤلاء المدعين أنهم لا يعرفون شيئا عن علم القراءات، فظنوا أن التعدد يعني الاختلاف، وليس الأمر كذلك، إنما هو نطق ألفاظ القرآن، كما نطقها النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجوه من التصريف والإعراب والكيفية الصوتية من تشديد وتخفيض، وفتح وإمالة، ونحوها.
•  كما أن للتعدد حكما، منها: التيسير على الأمة ذات اللهجات المتعددة والألسنة المتباينة؛ حتى لا يشق عليها التزام وجه واحد في القراءة.
•  تعدد القراءات لم يترتب عليه أي اختلاف لا في أصول الدين ولا في فروعه، وإنما هي طرق أداء صوتية، أكثر منها نحوية وصرفية، لم ينتج عنها أي اختلاف في المعاني ولا الألفاظ.
•  تعدد القراءات وحي من عند الله - عز وجل - ما كان للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا لأمته من بعده أن يخترعوه من تلقاء أنفسهم، بل هو تيسير ورحمة من الله لعباده، وهي كلها مسموعة من جبريل - عليه السلام - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنه لعامة المؤمنين، ثم شيوخ القرآن في الأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
•  إن تعدد القراءات لا يشمل إلا كلمات محصورة في بعض الآيات التي يعلمها أهل هذا الفن، كما أن الكلمات التي تقرأ على وجهين أو أكثر يكون لكل قراءة معنى مقبول يزيد المعنى ويثريه.

المراجع

  1. (*) حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م. الإسلام في تصورات الغرب، محمود حمدي زقزوق، مكتبة وهبة، القاهرة، 1987م. مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م. [1]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ (21215)، وأبو داود في سننه، كتاب الوتر، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (1480)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود (1478). 
  2.   مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1996م، ج1، ص 120: 130 بتصرف. 
  3.  صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الشاميين، بقية حديث عمرو بن العاص عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (17853)، والبيهقي في شعب الإيمان، باب في تعظيم القرآن، فصل في ترك الممارات في القرآن (2266)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1522).
  4.   أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (4705)، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1939).
  5. . الأضاة: مستنقع الماء.
  6. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1943). 
  7.  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب ما جاء في المتأولين (6537)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1936). 
  8.  مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/2004م، ص 149. 
  9.  حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص43،42. 
  10.  حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص53: 48 بتصرف.