نص السؤال
إنكار وليمة امرأة العزيز الواردة في قصة يوسف عليه السلام
عبارات مشابهة للسؤال
الإنسانُ لا يكونُ حُرًّا إلا إذا أنكَرَ وجودَ الله؛ فإنه ما دام يُثبِتُ وجودَ اللهِ، فلا بُدَّ مِن اتِّباعِ أوامرِهِ، واجتنابِ نواهيه.
الجواب التفصيلي
إنكار وليمة امرأة العزيز الواردة في قصة يوسف عليه السلام (*)
مضمون الشبهة:
يزعم بعض المتوهمين أن قصة الوليمة التي أعدتها امرأة العزيز لسيدات المدينة الواردة في قصة يوسف - عليه السلام - غير معقولة، ويعلقون على
قوله تعالى:
(فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32)
(يوسف)
قائلين: إن هذا نسج من الخيال. ويتساءلون مستنكرين: هل من المعقول أن تعد امرأة العزيز وليمة لتفضح نفسها أمام سيدات المدينة؟!
وجوه إبطال الشبهة:
1) وليمة امرأة العزيز للنسوة تمثل حلقة في تسلسل منطقي لسياق الأحداث في قصة سيدنا يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز؛ إذ إنها مكرت بهن لما أنكرت عليها فتنتها وشغفها بيوسف - عليه السلام - كما أن الخبر قد شاع في المدينة، فلم يعد هناك ما تخشاه بعد شيوعه، فاستدعى ذلك أن توقعهم في نفس الفتنة بجمال يوسف عليه السلام.
2) عدم ذكر التوراة لهذا المشهد من القصة وغيره ليس دليلا على إنكاره؛ بل دليل على أن القرآن وحي من الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يؤخذ من مصادر بشرية، وهو الكتاب الخاتم المعصوم المصون الذي ذكر الحقائق؛ ولم يترك شيئا ذا بال تؤخذ منه الحكمة إلا ذكره.
3) تزييف الحقائق شأن كتاب التوراة دائما، فقد كتبوا ما يتفق مع أهوائهم وميولهم، فلا يذكرون أية فضيلة لأنبياء الله، ولا لغيرهم؛ حتى يجدوا مسوغا لفسادهم في الأرض، وطغيانهم على العالمين.
التفصيل:
أولا. مكر النسوة بامرأة العزيز ومكرها بهن يتسق منطقيا مع بقية الأحداث في قصة سيدنا يوسف - عليه السلام - مع امرأة العزيز:
أما الزعم أن امرأة العزيز تفضح نفسها بهذا التصرف فمردود بأنها فعلت هذا بعد أن شاع الأمر في المدينة، وجرى على ألسنة النسوة؛ فهي تريد أن تثبت لهن - وهن من بنات جنسها - أن جماله لا يقاوم؛ فيعذرنها في هواها ويكففن عن لومها والتشهير بها.
إذن فأحداث هذا المشهد وقعت في إطار من التسلسل المنطقي لسياق الموقف، وهو ما أخفاه كاتب التوراة؛ لأسباب سنذكرها فيما بعد.
عرض أحداث المشهد:
إذا كان يوسف - عليه السلام - يستطيع أن يكتم هذا الأمر عن الناس جميعا، ويسره في نفسه - على مضض[1] - فهل تستطيع تلك المفتونة بحبه أن تكتم ذلك فلا تحدث به المقربات إليها من بنات جنسها على ما عرف من النساء من الثرثرة، وكثرة التناجي فيما بينهن؟! كما لا ننسى أن واقعة مراودة امرأة العزيز ليوسف - عليه السلام ـشاعت بين ساكني القصر من: خدم وحراس، ومعلوم أن الخدم والحراس يعلمون أسرار البيوت وينشرونها في الناس.
وبذلك شاع الخبر في المدينة، وتناقلته النسوة فيما بينهن حتى وصل حديثهن إلى صاحبة الشأن؛ فأرسلت إليهن ومكرت بهن كما أردن المكر بها، فكان من أمرها وأمرهن ما حكاه القرآن،
قال تعالى:
(وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين (30) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32)
(يوسف).
فالنسوة حين سمعن الخبر لم يطقن صبرا على عدم رؤية هذا الغلام الذي جمع أروع آيات الجمال، فوصفن امرأة العزيز، بما كان ينبغي أن يصفن به أنفسهن، فهن اللاتى قد شغفن به حبا، دون أن يرينه - والأذن تعشق قبل العين أحيانا - فأردن أن ينلن منه ما يطمع النساء فيه من الرجال فسخرن من ينقل إلى امرأة العزيز هذه المقولة؛ لعلها تسمح لهن برؤيته ليعذرنها فيه وهذا من مكرهن، فبادلتهن امرأة العزيز مكرا بمكر، فكانت أعظم كيدا، فأعتدت لهن متكأ[2]حافلا بالفواكه والأطعمة الشهية، وآتت كل واحدة منهن سكينا حادة، وأمرت يوسف أن يخرج عليهن فلما رأينه أعظمنه، وهممن بالوقوف له، وجرحن أيديهن جروحا بالغة عبر عنها القرآن بالتقطيع، وذلك حين أصابهن الذهول، وملأت شغاف قلوبهن مهابته، وروعته، وجماله، فأيقن أنهن أمام ملك كريم، وليس أمام واحد من البشر.
ونجحت امرأة العزيز في خطتها، وشفت منهن غيظ قلبها، فقالت لهن - والدماء تنزف من أيديهن -: فذلكن الذي لمتنني فيه، فأنتن من أول نظرة قد وقع لكن من أمره ما وقع، فكيف بي وهو يلازمني في بيتي، ويدنو مني وأدنو منه، وأدعوه إلى فيأبى على، ولكني سوف أنال منه ما أريد، أو يكون مصيره السجن في ذلة، وصغار.
لقد اعترفت لهن بإدانتها، واعترفت ببراءته من السوء والفحشاء، واستعصامه بربه منها ومن شرها، لكنه اعتراف لا يدينها، إذ إنهن لا يملكن من الأمر شيئا، وليس لهن سلطان عليها، ومن الهين اليسير أن تعترف المرأة للمرأة بما تخفيه عن الرجل، ولو كان من المقربين إليها.
ولعلها أرادت أن تغيظهن، وتظهر لهن عدم الاكتراث بمكرهن وتشنيعهن عليها هنا وهناك، وأنها السيدة المطاعة التي إذا قالت فعلت، وإذا أرادت شيئا فلا مرد له.
وهكذا تستبد المرأة بالأمر الذي تظن أنها قادرة عليه تبعا لشهواتها الجامحة وأهوائها المنحرفة، ولا سيما إذا كانت تحت رجل يعد من عظماء القوم وسادتهم.
ونلاحظ أن هذه المرأة لم يؤتها الله شيئا من الحكمة، ولم يكن لها من العقل ما تعرف به أقدار الرجال، وما تدرك به عواقب الأمور، ولو كان لديها شيء من الفهم لعرفت من أول نظرة من هو يوسف - عليه السلام - ولعرفت أنه الرجل الذي اجتمعت فيه كل خصال الخير، وكل أوصاف الكمال البشري، وأنه بطبعه مصون من كل رذيلة، معصوم بفطرته من كل شر.
إن النسوة اللاتي مكرت بهن كن أعقل وأقدر على فهم طبائع الرجال منها، فقد أصدرن حكمهن عليه من أول نظرة، فقلن ما قد حكى القرآن عنهن:
(ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم)
(يوسف) [3].
ثانيا. عدم ذكر التوراة لهذا المشهد من القصة وغيره ليس دليلا على إنكاره:
إن ذكر القرآن بعض التفاصيل التي لم ترد في الكتاب المقدس يعد أكبر دليل على أن القرآن وحي من الله إلى رسوله، وأنه لم يؤخذ عن مصادر بشرية، بل هو الكتاب الخاتم الذي صوب، وأضاف، فالتوراة لم تغفل فقط قصة وليمة امرأة العزيز للنسوة، بل أغفلت أيضا مسألة استباقهما [4] إلى الباب أثناء مراودتها له (واستبقا الباب(25)( (يوسف) كما أغفلت مسألة الشاهد من أهل المرأة الذي فصل في القضية، وحكم ليوسف - عليه السلام - بالبراءة. وأغفلت أيضا البرهان الذي رآه يوسف - عليه السلام - من ربه؛ وبذلك ينفون عصمته عن الزلل، وامتناعه عن الرذيلة، وتمسكه بالفضيلة، والأمانة، وحفظ أعراض الغير.
أما ما ذكرته التوراة في هذا الشأن فهو - فقط - غواية المرأة ليوسف عليه السلام: "ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله، ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت. فأمسكته بثوبه قائلة: "اضطجع معي!". فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج". (التكوين: 39: 11، 12).
وهذا كلام يفتقد العدد من التفاصيل الدقيقة التي وردت في القرآن الكريم، والتي تعد عناصر رئيسة في صلب القصة كغلقها للأبواب، التي تعبر عن استعدادها النفسي، واتخاذ الخطوات التي تؤدي إلى إنجاح وتحقيق هدفها، وبالتالي تضييق دائرة الصراع على يوسف، ولن تجد أيضا ذكرا للبرهان الذي أتى إلى يوسف - عليه السلام - من ربه؛ ليخلصه من هذا الكيد بعد أن اكتنفه[5] ظلام الفتنة؛ (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف).
إن كل ما تحكيه التوراة قصة مراودة فقط، بل الأعجب من ذلك ما تحكيه التوراة أن يوسف - عليه السلام - ترك قميصه معها وهرب عاريا! ألا يعد ذلك انتقاصا لقدراته العقلية؟! إذ كيف يخرج عاريا ويثبت الجريمة على نفسه، وكأنه المهاجم، والمرأة هي المدافعة، إن القرآن الكريم يصف هذا المشهد من القصة وصفا دقيقا محكما حين يقرر أن يوسف - عليه السلام - امتنع عنها لما رأى برهان ربه وقام مبادرا إلى باب البيت هاربا مما أرادته فاتبعته المرأة فتعلقت بقميصه وذلك هو قول الله تعالى في كتابه: )واستبقا الباب (25)( (يوسف)، أدركته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها لتمنعه من الخروج، فهو يريد فتح مغلق الباب، وهي تريد أن تحول بينه وبين ما يريده؛ وهو الإفلات من يدها دون قضاء حاجتها وهنا شقت قميصه من الخلف؛ لأن يوسف - عليه السلام - كان الهارب والمرأة الطالبة[6].
كما حكى القرآن تتمة المشهد قائلا:
(وألفيا سيدها لدى الباب)
(يوسف:25) [7].
يمكنك الآن رؤية المشهد كاملا بكل تفاصيله وأبعاده بعد أن نقله القرآن بكل دقة فتجده كالآتي:
·امرأة العزيز تراود يوسف - عليه السلام - بعد أن غلقت الأبواب وتأكدت من عدم وجود أحد بالمكان.
·يوسف - عليه السلام - يري برهان ربه، فيأبى ويمتنع، ويعظها ويذكرها بالله.
·امرأة العزيز لا تتعظ وتصر على مراودته، فيهرب يوسف - عليه السلام - متجها إلى الباب.
·تتبعه امرأة العزيز وتجذبه من قميصه؛ لتمنعه من الفرار؛ فيتمزق قميصه من الخلف.
·يتابع يوسف - عليه السلام - فراره منها، وهي في أثره فينفتح الباب؛ ليجدا العزيز أمامها.
ومن ثم يأتي السرد القرآني المحكم؛ الذي يسلم أي مبدع وقاص وناقد ببراعته، وقوة حبكته ودقة تفاصيله، كما أن كل شيء أتى به القرآن في القصة لم يأت به عبثا؛ بل أتى به لحكمة تستطيع أن تستخرجها بوضوح بعد إتمامك للسرد القرآني للقصة الكاملة؛ التي كانت ترجمة لحدث حقيقي حدث على أرض الواقع، تشهد بذلك التوراة، التي لم تذكر أحداث القصة بهذه الدقة، كما افتقرت إلى كثير من الأحداث والتفاصيل الدقيقة التي نص عليها القرآن، وكأن الله يريد أن يقول لليهود الذين يدعون المعرفة الشاملة والدقيقة بتفاصيل حياة الأنبياء: آن لكم أن تتعلموا، وأن تعلموا أن ما تعلمونه قليل، وأن التوراة قليل في علم الله، بل كنقطة من بحر لا ساحل له لذا كان القرآن الكريم مهيمنا على ما سبقه من كتب بحول الله وقوته وعلمه وإرادته.
ولا يفوتنا أن نذكر أن التوراة - كما أهملت ذكر تغليق الأبواب، ووعظ يوسف - عليه السلام - لامرأة العزيز وتذكيرها بالله، وإصرارها على مراودته بعد ذلك، وهروبه من أمامها، واستبقاهما للباب، وقدها قميصه من الخلف، ودخول العزيز - قد أهملت قصة الشاهد الذي حكم ببراءة يوسف - عليه السلام - وهو من أهلها امرأة العزيز.
إذن فهي الطالبة، وهو المدافع، وهذا هو مبلغ الحكمة في الأسلوب القرآني.
إن مسألة البرهان: أي عصمة سيدنا يوسف - عليه السلام - وصرف السوء والفحشاء عنه - على أصح الأقوال - لم تذكرها التوراة، بل ركزت على ضغط المرأة اللعوب[8] على يوسف - عليه السلام - ولم توضح موقف يوسف - عليه السلام - من تهمة زوجة العزيز له، في حين ذكر القرآن الكريم أن الله قد عصم يوسف - عليه السلام - فصرف عنه السوء والفحشاء،
قال تعالى:
(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)
(يوسف:24).
ويفهم من سياق الآية أن السوء والفحشاء عدوان يهاجمان يوسف - عليه السلام - فصرفهما الله عنه، ولو مال يوسف للمرأة - كما توهم بعض المعلقين على القصة - لما قال الله تعالى:)كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء (24)( (يوسف)، وكانت المكافأة من الله تعالى: (إنه من عبادنا المخلصين (24)( (يوسف)، أي المجتبين المطهرين الأخيار، ودلائل براءة يوسف قد شهد الله له بها - وهي كثيرة - وفصل فيها القول.
أيضا أغفلت التوراة المحرفة دعوة يوسف - عليه السلام - لصاحبيه في السجن إلى التوحيد الخالص، وترك الشرك والوثنية، فلم يعرف اليهود يوما إلها واحدا معبودا بحق، بل تجدهم على مر العصور يحاربون الله ورسله، ويقتلون الأنبياء، ويصادرون أمن الآمنين.
إذن فهدفهم من ذلك إبعاد مسألة الدعوة عن عقيدتهم، إذ لو دعا بها نبي من أنبياء بني إسرائيل "كسيدنا يوسف عليه السلام" لوجب اتباعها ولكانت شاهدا على كفرهم وفسادهم في الأرض، وهذا ما لا يريدونه.
إضافة إلى إغفالهم أن يوسف - عليه السلام - فسر رؤيا الملك قبل خروجه من السجن، لينفوا بذلك فضيلة الإحسان إلى من أساء، فقد سجن ظلما، ورغم ذلك لم يساومهم[9] على تفسير الرؤية بخروجه من السجن فليس هذا من أخلاق الأنبياء الذين أدبهم ربهم فأحسن تأديبهم، فما يريده اليهود هو: الإساءة لمن أساء ولمن أحسن أيضا، هذا هو دينهم وديدنهم في كل العصور: العبث، والفساد في الأرض.
نعود إلى حديث القرآن عن قصة النسوة مع امرأة العزيز، والسؤال الآن: لماذا أغفلت التوراة قصة الوليمة؟! والإجابة عن هذا السؤال من وجهين:
1. لقد تفرد القرآن الكريم بالحديث عن شيوع خبر المرأة مع يوسف - عليه السلام - في المدينة وتحدث النسوة به، قال تعالى: )وقال نسوة في المدينة (30)( (يوسف) فكما تحكي الآيات أن امرأة العزيز دعت النسوة اللاتي تهكمن عليها، واستنكرن فعلها؛ لأنها عشقت فتاها، فأعدت لهن مائدة، وحرصت على أن يكون السكين في أيديهن، وهي تدرك مدى تأثير يوسف - عليه السلام - عليهن، وحدث ما توقعت فقد ركزن الأبصار والعقول على جمال يوسف - عليه السلام - وفي ذهول قطعت السكاكين أيديهن دون أن يشعرن بألم نتيجة انشغالهن بتأمل محاسنه، وجماله المشهود له - فقد أوتي نصف الحسن - إلى درجة أن فقدن صوابهن؛ فقطعن أيديهن دون شعورهن بآلام القطع في أيديهن. فهذا أمر معتاد وأصبح الآن تحت الدراسة، ولا يوجد من لا يعرف تأثير المنوم المغناطيسي على المنوم، وفي معارفنا أن هناك من يغيب عن إحساسه بمن حوله لمجرد التركيز في مسألة أو موضوع ما. فماذا لو كان وجها وضيئا أخاذا كوجه يوسف - عليه السلام - الذي أعطاه الله نصف الحسن، لقد عقب النسوة في ذهول على أثر رؤيتهن له قائلات: )ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31)( (يوسف).
نقول: إن هذه القصة التي أثبتها القرآن أغفلتها التوراة، مع أن تسلسل الأحداث لا يتم إلا بها، ولكن كتاب التوراة ابتعدوا عن قصة هؤلاء النسوة؛ لأنها تثبت للمؤرخين حضارة مصر العظيمة، وتوضح أن أهلها عرفوا وسائل المدنية من قديم الزمان، ومنها آداب المائدة، وأدوات الطعام، ومنها السكين، والأثاث المريح، وهذا ما أثبته المستشرق هنري برستد حين قال: "إن التقدم السياسي والاجتماعي وتطور الحضارة البشرية على وجه عام كان ظهورها كلها في وادي النيل متقدما بعدة قرون على أمثاله في غربي آسيا، الحقيقة أن الحضارة في بابل أتت متأخرة في تطورها الديني، والاجتماعي، والسياسي عن حضارة مصر، بما لا يقل عن ألف سنة "[10].
2. أغفلت التوراة - عمدا - هذه القصة؛ لأنهم بإثبات العصمة والفضيلة ليوسف - عليه السلام - يحرمون نساء الغير عليهم، وهم يريدون أن يعثوا في الأرض فسادا، فالمعروف أن دعوة موسى - عليه السلام - كان فيها الدعوة إلى الصفات الحميدة والأخلاق النبيلة من: عدم احتقار الغير، وعدم التعدي على أمواله وحرماته، وفي زمان سبي بابل حرف اليهود التوراة، وامتنعوا عن دعوة الأمم إلى معرفة الله، وأباحوا لأنفسهم أخذ الربا من الأمميين، والزنا بنسائهم، وسفك دمائهم، وغيرها من ذميم الصفات، وكتبوا ما يدل على ذلك في التوراة، وحذفوا من التوراة - حال تحريفهم لها - ما يمنعهم عن ظلم الأمميين. ومما حذفوه قول النسوة ليوسف عليه السلام: )ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31)( (يوسف)، فشهادة النسوة ليوسف - عليه السلام - بهذا الخلق الحميد يتعارض مع أهوائهم، وما اتفقوا عليه من العبث بنسائهم ونساء غيرهم.
ثالثا. تزييف الحقائق شأن كتاب التوراة دائما، فقد كتبوا ما يتفق مع أهوائهم، فلا يذكرون أية فضيلة لأنبياء الله ولا لغيرهم؛ حتى يجدوا مبررا لفسادهم وطغيانهم في الأرض:
درج اليهود على تزييف الحقائق بما يتفق مع ميلهم للفساد كما يثبت التاريخ، وحذف ما ينسب الفضل لغيرهم، لذا فالتوراة عبثت بها أيدي البشر وحرفت الكثير من نصوصها، إن لم نقل معظمها؛ وبالتالي فنحن لا نصدق كل ما جاء بها، فما عرضناه منها على القرآن واتفق معه فهو صحيح، وإن تعارض فالقرآن هو الكتاب الخاتم الشامل الكامل الذي جاء مصوبا لأخطاء السابقين ومضيفا للكتب السابقة ما لم يرد منها، ومستدركا عليها ما وقع فيها من تحريف على أيدي البشر.
وقد رد القرآن الكريم على افتراءاتهم المتتالية على أنبياء الله، ومن ذلك قولهم: إن لوطا - عليه السلام - زنا بابنتيه. (التكوين 19: 31 - 38)، وإن سليمان الملك - عليه السلام - ابن زنا، وقد أحب نساء غريبات. (الملوك الأول 11: 1)، وأن داود - عليه السلام - ينظر إلى نساء الغير، وأنجب سليمان - عليه السلام - نتيجة علاقته المحرمة مع زوجة قائده أوريا الحثي. (صموئيل الثاني 11: 2 - 27)، كما أن نوحا عليه السلام - وهو من أولي العزم من الرسل - نجده - على حد تعبير توراتهم المحرفة - يشرب الخمر حتى يترنح[11] سكرا. (التكوين 9: 21)، وأن إبراهيم الخليل - عليه السلام - ديوث[12] لا يغار على عرضه. (التكوين 12: 12 - 15)... إلخ، أليس هذا ظلما وعدوانا على أفضل الخلق قاطبة؟!
كما لم يعصم نبيهم المفضل - صاحب التوراة وحامل ألواحها - موسى - عليه السلام - من كذبهم وافترائهم، فهو قاتل لأخيه هارون - عليه السلام - الذي عبد العجل مع قومه حسب زعمهم، ألا قاتلهم الله أنى يؤفكون. فهل يتصور ممن كان هذا ديدنهم أن يكتبوا حقا أو يقولوا صدقا؟ وإذا كان ما كتب في توراتهم بغية التعدي على نساء الأمم، فإن عقل أي عاقل لا يتصور أن يثبتوا عفة يوسف - عليه السلام - عن نساء الأمم.
الخلاصة:
· تعد قصة وليمة امرأة العزيز للنسوة تسلسلا منطقيا لسياق الأحداث إذ إنها مكرت بهن كما أردن المكر بها، حين قاموا بلومها على شغفها بيوسف - عليه السلام - فأرادت أن يرين جماله؛ حتى يعذرنها على حبها ولا يلمنها، فلما فعلت، ما كان منهن إلا أن انبهرن بجمال يوسف، فقطعن أيديهن دون أن يشعرن، وهذا أمر معروف في علم التنويم المغناطيسي، كما أرادت غيظهن بأنها بيدها أمره وسجنه إن لم يفعل ما تأمره به، فلا تبيعه مثلا حتى لا يسارعن بشرائه، وكأنها المالك الوحيد له، وقد شاع الخبر في المدينة حتى بلغها خوض النساء فيها، وكلامهم عنها، وذمهم لها؛ فلا ضير من إثبات فتنتها بسحره لهؤلاء النسوة.
· عدم ذكر التوراة المحرفة لهذا المشهد من القصة وغيره ليس دليلا على إنكاره، بل دليل على أن القرآن وحي من الله إلى رسوله، وأنه لم يؤخذ من مصادر بشرية، بل هو الكتاب الخاتم الذي صوب وأضاف، فقد تفرد القرآن بذكر مشهد استباق الباب، ومسألة الشاهد من أهلها الذي برأ يوسف - عليه السلام - ومسألة البرهان وكونه عصمة من الله لرسوله، ودعوة يوسف لصاحبي السجن إلى التوحيد الخالص وترك الشرك والوثنية، وتفسير سيدنا يوسف - عليه السلام - رؤيا الملك قبل خروجه من السجن، أي أنه لم يساوم ولم يسيء إلى من أساء إليه، حين سجنه ظلما.
· كما أغفلت التوراة المحرفة قصة النسوة مع امرأة العزيز وهي مناط الشاهد؛ وذلك لنفي معرفة مصر بطائفة من وسائل التمدن الحضاري آنذاك من مقاعد مريحة، وأدوات طعام وآداب مائدة وغيرها، ودرءا للفضيلة؛ إذ لو شهد النسوة ببراءة يوسف وعفته لما أحلوا لأنفسهم العبث بنساء الغير، والفساد في الأرض.
· إن تصويبات القرآن لأخطاء التوراة كثيرة منها: أن القرآن ذكر أن يوسف - عليه السلام - قد قميصه من دبر فهو المدافع والمرأة المهاجمة، أما التوراة فقد ذكرت أن يوسف - عليه السلام - ترك قميصه مع المرأة وفر هاربا، فهل يعقل من نبي من أنبياء الله آتاه الله العقل والحكمة أن يخرج هكذا أمام العزيز - زوج المرأة - ويثبت على نفسه الجريمة؟! ألا يعد هذا انتقاصا لقدراته العقلية؟!
· تزييف التوراة للحقائق أمر معهود، فقد كتبوا ما يتفق مع أهوائهم وميولهم، فلا يذكرون أية فضيلة لأنبياء الله ولا لغيرهم؛ حتى يجدوا مبررا لفسادهم في الأرض، وطغيانهم على العالمين. فالتوراة التي أغفلت المشاهد السابقة في قصة يوسف - عليه السلام - والتي تفيض عبرا وعظات، هي التي أثبتت السفه وفعل الفواحش لأنبياء الله عليهم السلام.
· أليست التوراة المحرفة هي التي قالت: إن لوطا - عليه السلام - زنا بابنتيه، وإن نوحا - عليه السلام - شرب الخمر حتى ترنح سكرا، وإن إبراهيم ديوث لا يغار على عرضه، وإن سليمان - عليه السلام - ثمرة زنا أبيه داود - عليه السلام - مع زوجة قائده أوريا الحثي، وإن سليمان - عليه السلام - يستبيح نساء الغير؟ كما ادعوا - قاتلهم الله - أن موسى - عليه السلام - قاتل قتل أخاه هارون - عليه السلام - الذي عبد بدوره العجل فهو كافر في نظرهم... إلى آخر هذه الترهات اليهودية.
المراجع
- (*) هل القرآن معصوم؟ موقع إسلاميات. www.islameyat.com [1]. المضض: الكراهة والتألم.
- أعتدت لهن متكئا: أعدت مجلسا مريحا فيه كراسي للاتكاء عليها.
- قصص القرآن، د. محمد بكر إسماعيل، دار المنار، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص112، 113.
- استباقهما: كل منهما سابق الآخر.
- اكتنفه: أحاط به.
- حياة وأخلاق الأنبياء، د. أحمد الصباحي عوض الله، مكتبة مدبولي، القاهرة، دار اقرأ، بيروت، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص135 بتصرف.
- ألفيا: وجدا.
- المرأة اللعوب: الحسنة كثيرة اللعب.
- يساومهم: يطلب ثمنا منهم.
- فجر الضمير، جيمس برستيد، ترجمة: سليم حسن، د. م، د. ن، د. ت، ص138.
- يترنح: يتمايل من السكر.
- الديوث: الذي لا يغار على أهله.